فرضية الانفصال:آثارها على العلاقات مع دول المحيط …. بقلم: محمد المكي إبراهيم
محمد المكي إبراهيم
مدير سابق لإدارة أفريقيا بوزارة الخارجية
وفقا لأحكام اتفاقية نيفاشا للسلام تعهد السودان (على لسان حكومته القائمة وبشهادة الشهود)بإقامة استفتاء عام لاستطلاع رأي السودانيين الجنوبيين في مستقبل العلاقة بين شمال السودان وجنوبه وذلك على ضوء ست سنوات من تجربة الوحدة تحت ظلال السلام ليروا إذا كان الشماليون قد تغيروا وأصبحوا أفضل استعدادا للتعايش مع الجنوبيين على أساس المساواة والتكافؤ في الحقوق والواجبات.وتشير ظواهر الأحوال أن الجنوبيين لا يرون أن هنالك تغييرا يعتد به في السلوك السياسي للشماليين وان قسما كبيرا من الجنوبيين يرى انه من الأفضل اجتثاث علاقتهم بالشمال من أصولها والعيش وحدهم كدولة مستقلة ذات سيادة.وإذا قدر لذلك السيناريو أن يتحقق فسوف تظهر للوجود دولتان تحتلان الحيز الجغرافي الذي كان يحتله السودان القديم هما دولة الجنوب وإقليمها السيادي هو الولايات الجنوبية التي كانت تعرف في أوائل عصر الاستقلال باسم المديريات الجنوبية وهي الاستوائية وبحر الغزال وأعالي النيل .والى الشمال من ذلك ستكون هنالك دولة اسمها السودان تتكون نظريا من متبقيات السودان القديم ناقصا الأقاليم الجنوبية.
كان السودان الموحد يحتل مساحة تقدر بمليونين ونصف مليون كيلو متر مربع أي ما يقارب المليون ميل مربع مما جعله الدولة الأكبر مساحة في أفريقيا والعالم العربي ووضعه في الترتيب العاشر عالميا من حيث المساحة.بينما تبلغ مساحة الدولة الجنوبية الجديدة ما يقدر ب 640000 كيلو متر مربع وإذا خصمنا تلك المساحة من مساحة السودان الموحد فان دولة الشمال ستحتل مساحة 1865813 كيلو مترا مربعا (740390 ميلا مربعا)أي أنها ستكون الدولة السادسة عشر بين دول العالم من حيث المساحة بينما تأتي دولة الجنوب في المرتبة الثانية والأربعين. ومن الناحية السكانية يقدر سكان السودان الموحد ب 42 مليون نسمة تقول التقديرات الجنوبية إن بينهم 13 مليون جنوبي بينما تقول التقديرات الحكومية إنهم لا يتجاوزون الثمانية ملايين. وبحسابات الانفصال سيهبط سكان السودان الشمالي إلى 34 مليون أو إلى 29 مليون حسب التقدير المستخدم وعلى مستوى الحدود السياسية سيحافظ السودان الشمالي على حدوده مع مصر وليبيا وتشاد وارتريا وجزء من حدوده القديمة مع إثيوبيا وإفريقيا الوسطى ولكنه سيفقد صلة الجوار التي كانت تربطه بكل من كينيا ويوغندا والكونغو الديمقراطية .وبالمقابل سيكون لدولة الجنوب حدود سياسية مع ثلاث دول ناطقة بالانجليزية هي كينيا ويوغندا وأثيوبيا ودولتين ناطقتين بالفرنسية هما الكونغو وأفريقيا الوسطى.
يلاحظ على هذه المعطيات أنها معطيات الجغرافيا والديموغرافيا ولا تدخل فيها مسائل, الاقتصاد والثقافة والقوى العسكرية وكافة ما ادخل البشر على الجغرافيا من تطويع وتعديلات(مدن وطرق وجسور ووسائل اتصال) أي تلك الاعتبارات التي يتكون منها الجيوبولتيك باعتبار أن البحث الحالي يقوم على الجغرافيا السياسية أو المعطيات الخام المتعلقة بالحيز المكاني وهي الثوابت الحقيقية المتوافرة حاليا والتي يمكن أن نبني عليها تحليلا مستقبليا للعلاقات الدولية في المحيط السوداني بعد الانفصال أما المعطيات الأخرى ذات الشأن فإن بعضها غير متوافر أساسا وبعضها يعاني من التذبذب أو عدم القابلية للإحصاء بحيث يمكن استبعاد معظمها من هذا البحث مثال ذلك النواحي العسكرية التي تدخل في نطاق الأسرار والنواحي الاقتصادية كتقديرات الدخل القومي والميزان التجاري والطاقات الإنتاجية للشقين فقد كانت دائما خاضعة للتقدير وليس للإحصاء الدقيق وكانت تتم باعتبار البلاد وحدة اقتصادية واحدة أما الآن وبفرضية التجزئة فانه ينبغي إعادة النظر في تلك التقديرات وقسمتها بنسب متوازنة بين الشقين والى أن يحدث ذلك لا يكون بين أيدينا مادة إحصائية يمكن الركون إليها بثقة كاملة سوى معطيات الجغرافيا والديموغرافيا الناشئة عنها. والمثال الآخر هو الوزن الثقافي والتأثير الفكري على دول المحيط وكل ما يدخل في مكونات القوة اللينة فانه يمكن استبعاد معظمها من نطاق البحث الحالي لذات الأسباب المتعلقة بغياب الإحصاء الدقيق. وبهذا المنظور ينتمي هذا البحث إلى عالم الجغرافيا السياسية وليس إلى عالم الإستراتيجية أو الجيوبولتيك وذلك أن الجغرافيا السياسية تختص بالمكان بتضاريسه وطبوغرافياه ومجموعات البشر التي تقطنه وتأثير ذلك على الوضع السياسي للمكان وما يفرضه على قدراته من حدود أو ما يفسحه أمامها من فضاءات.في حين يشمل الجيوبولتيك المكان والبشر وما قام به أولئك البشر من أشكال التطور من إنتاج مادي وغير مادي يضيف إلى قوة الدولة التي تشغل ذلك المكان ويعطيها مكانة دولية قد تفوق معطيات موقعها الجغرافي أو تقل عنه.
العلاقات السودانية الإفريقية في ظل الانفصال
رأينا في معطيات الجغرافيا أن السودان الشمالي سيفقد جيرته مع ثلاث دول افريقية هي كينيا ويوغندا والكونغو الديمقراطي وهنا ينبغي أن نبادر إلى القول أن علاقة الجوار- خاصة في أفريقيا- ليست علاقة استاتيكية تتمثل فقط بالتجاور المكاني فالحدود الإفريقية هي في الواقع حدود مسامية كثيرا ما تفصل الوحدات القبلية أو الاثنية القائمة ولكنها تحتوي على منافذ يتم عبرها تبادل السلع والمنافع والأفكار إلى جانب الزيارات و الاجتماعيات والمصاهرات كما أن للحدود الأفريقية أبعادا عاطفية عند الساسة الأفارقة تجعلهم ينحازون إلى دول الجوار أو –على أسوأ الفروض - يهتمون بما يجري فيها من أحداث ويقيمون فيها سفاراتهم المهمة وملحقياتهم وربما أقاموا قنصلياتهم في حواضر الدولة الجارة وكبريات مدنها.وفقدان السودان الشمالي لحدوده الإفريقية من شأنه أن يمثل عزلا له عن إفريقيا جنوب الصحراء وتكتلاتها الاقتصادية المتمحورة حول دولة جنوب إفريقيا ذات الاقتصاد المتقدم .وإذا كان فقدان الجيرة الإفريقية يدخل جانب الخسارة بالنسبة للسودان الشمالي فانه يدخل خانة الربح الصافي للدولة الجنوبية الوليدة التي ستجد ترحيبا وعطفا من كل دول إفريقيا وستجد اهتماما خاصا من دولة جنوب إفريقيا وهي الدولة الإفريقية الوحيدة التي تستطيع أن تمدها بمستلزمات البناء والتشييد للبنية التحتية التي تكاد تكون معدومة في الجنوب السوداني.
من الناحية التنظيمية تتجمع دول الجنوب الإفريقي منذ العام 2008 في تجمع اقتصادي يعرف باسم سادك وهو تجميع للأحرف الأولى من اسمها بالانجليزية وفد بدأ هذا التجمع الاقتصادي بجنوب إفريقيا والدول المجاورة لها وهي بتسوانا وليسوتو وناميبيا وسوازيلاند وزامبيا وملاوي وموزامبيق ثم تقرر أن يضم إليه دول مجموعة شرق أفريقيا الاقتصادية وهي كينيا ويوغندا وتنزانيا وتوسع مؤخرا ليضم إليه مدغشقر وجزيرة موريشص والكونغو الديمقراطية ويبلغ تعداد أعضائه خمسة عشر دولة من أهم دول القارة وأغناها. ويعتبر جنوب السودان المستقل مرشحا قويا للانضمام إلى مجموعة سادك الاقتصادية لاعتبارات عديدة أهمها:
1-إن الدولة الجنوبية تمثل امتدادا رأسيا للشرق الإفريقي وسيتزايد اعتمادها عليه كمنفذ إلى البحر بعد انفصالها عن السودان ومن المؤكد أن تتولى كلا من كينيا ويوغندا وآخرين ترشيحها كعضو جديد وستكون كلمتهما مسموعة تماما كمتحدثين باسم مجموعة شرق أفريقيا
2- ستكون الدولة الجنوبية محط اهتمام حكومة جنوب إفريقيا بحكم أنها دولة صناعية مشغولة بتأمين مصادر الطاقة لصناعاتها المتطورة وإذا ثبت لها أن النفط متوافر بكميات تجارية في السودان الجنوبي فإنها لن تتوانى في الدخول في علاقة نفطية مع الدولة الجديدة وهي علاقة ربما اقتضت تحويل مسار نفط الجنوب من بورسودان إلى ممباسا القريبة إلى موانئ الساحل الشرقي لجنوب إفريقيا في ديربان وإيست لندن .
ربما استطاع البعض أن يقول إن دولة الجنوب يمكن أن تكون بالنسبة للسودان الشمالي معبرا إلى أفريقيا جنوب الصحراء وليس عازلا يحول دون تواصل المنطقتين وبطبيعة الحال يتوقف ذلك على نوعية العلاقات الثنائية بين الشطرين .إذ ليس مستحيلا قيام علاقات طيبة بينهما في وقت من الأوقات ولكن ليس في السنوات الأولى من عمر الانفصال إذ لابد للطرف الجنوبي من اجترار المرارات وذكريات الفظاعات التي جرت حلال نصف قرن من الاقتتال ويمثل ذلك الاجترار تنفيسا عن الذات المقهورة المضطهدة وبذات الوقت تبريرا عاطفيا لقيام الدولة نفسها وتأمينا لاستمرارها في الوجود وهي ظاهرة متكررة في تاريخ الاستقلالات الإفريقية خلال عقد الستينات والسبعينات حيث راح الوطنيون والمتظاهرون بالوطنية ينشرون تاريخ الكولونيالية وغسيلها القذر ويجدون في ذلك مبررا لوجود دولهم الجديدة المستقلة.وإذا تكررت تلك الظاهرة في علاقات الشمال بالجنوب بعد الانفصال فان دولة الشمال ستجد أن ستارا "من العشب" قد نشأ بينها وبين إفريقيا والإشارة هنا إلى كتيب السياسي الجنوبي دي قرنق وزير الإعلام في عصر الحكم الذاتي الذي قصد بتلك التسمية أن الشماليين فرضوا ستارا من العشب على حربهم في الجنوب فلم يتسامع بها العالم .ويبدو الآن أن الجنوب سيفرض ستارا من نفس الفصيلة بين السودان وجنوب القارة.
على عكس الحال مع إفريقيا الجنوبية يبدو أن علاقة الشمال بالحزام السوداني ستظل على سابق عهدها عبر الجارة التشادية وربما أيضا عبر الحزام الحدودي الضيق الذي سيظل قائما بين السودان ودولة أفريقيا الوسطى إلا أن تلك العلاقة لا تمثل مدخلا حقيقيا لإفريقيا الجنوبية ودولها الغنية التي غدت مركز الثقل في العلاقات الإفريقية/الإفريقية كما أن هنالك عائقا لغويا يقف أمام علاقات السودان بالغرب الأفريقي الذي يعتمد اللغة الفرنسية وينظر إلى أفريقيا الانجلوفونية كجسد متنائي إن لم يكن كجسد غريب.ومعلوم أن السودان قد بذل جهدا واسعا في بناء كادر دبلوماسي وأكاديمي يتحدث الفرنسية إلا انه محدود ولا يكفي لإدارة علاقة واسعة بغرب إفريقيا فضلا عن أن المنطقة نفسها فقيرة واقتصادها مماثل للاقتصاد السوداني ولا يفتح أبوابا كبيرة للتبادل السلعي .
ولابد من بعض التحفظات حيال علاقات الجنوب الإفريقية المرشحة بقوة للازدهار إذ أنها يمكن أن تدخل الجنوب في متاهة اقتصادية شبيهة بما يحدث لدول شرق القارة من خضوع مواردها للاستغلال الفظيع من قبل الأجانب مع حرمان شعوبها من عائد تلك الاستثمارات كما هو مشاهد في قطاعات السياحة والصناعة في كينيا بوجه خاص وبطريقة تسمح لنا بتسميته "نمط الإنتاج الكيني". وتفيد التقارير المتواترة أن أوساطا في شرق إفريقيا تنظر إلى جنوب السودان كتفاحة ناضجة توشك أن تسقط في أحضانهم ومن ثم تتوافد أعداد كبيرة من مواطني دول الجوار على جوبا ويحتكرون لأنفسهم أعمال التاكسي وخدمة المقاهي والمطاعم والفندقة ولكن ذلك ليس المهم فكل أولئك الوافدين أناس بسطاء يسعون لكسب أرزاقهم بالطرق المشروعة ولكن الأهم حقيقة هو الشركات الأوروبية والآسيوية التي أفسدت المناخ الاقتصادي في شرق إفريقيا وبتسللها إلى الجنوب المستقل ستفسد الحياة الاقتصادية والسياسية فيه ومن المؤكد أن تتسبب في تذمر شعبي وسط سكانه المحليين الذين شرعوا يجأرون بالشكوى في السنوات الأخيرة من احتكار الوظائف على قلتها لصالح اليوغنديين والكينيين والإثيوبيين. على أنه لابد أن يتذكر أهل الجنوب أن المذكورين ينتمون إلى شعوب افريقية شقيقة استضافت الجنوبيين طوال سنوات حربهم الطويلة كما أنهم يوفرون خدمة متخصصة لا يتقنها أهل الجنوب تصب في مصلحة دولتهم الجديدة أما الخطر الحقيقي فيتمثل بالمغامرين الأوربيين والآسيويين والوسطاء الأفارقة الكبار الذين سيأتون ليزينوا لدولة الجنوب المستقلة فكرة التعاون مع أولئك المغامرين تحت مسميات الاستثمار والتصنيع المحلي وغير ذلك من الترهات.
علاقات دولتي السودان بالدول العربية
أما علاقات الجوار بالدول العربية المجاورة: مصر وليبيا(عبر الصحراء) والسعودية (عبر البحر الأحمر) فإنها مرشحة لمزيد من الاستقرار والنمو تعويضا عن فقد الجنوب.والواقع أن الدور المصري سيغدو بالنسبة للسودان أكثر أهمية من أي وقت مضى وبصورة ربما صاحبتها دعوات للتوحد والاندغام في الجسم السياسي لمصر وليس مستبعدا أن تظهر من جديد الدعوة إلى وحدة وادي النيل استقواء بمصر في وجه المصاعب والتحديات الكثيرة التي سيفرزها الانفصال.وربما نتج عن ذلك سقوط المطالب السودانية القديمة حول حلايب ونتوء وادي حلفا أو –على أحسن الفروض-السكوت عنها وتفادي إثارتها.إلا أن الدور المصري في جنوب السودان سيكون دعامة من دعامات السلام بين دولتي السودان الجديدتين ويأمل الكثيرون أن تتمكن مصر عن طريق علاقتها بدولة الجنوب أن تحقق استمرارا للصداقة بين العرب ودولة الجنوب بحيث لا تنحاز الدولة الجنوبية إلى جانب دول حوض النيل التي تسعى-عمليا – لحرمان مصر من حقوقها التاريخية في مياه النيل و كسر الاحتكار الذي مارسته مصر على تلك المياه طيلة قرون وقرون. كما يهم مصر والعرب الآخرين أن لا تنحاز دولة الجنوب إلى جانب إسرائيل وتقيم معها علاقات تجعلها مسيطرة –ولو اسميا- على منابع النيل. وفي هذا المنحى ستجد المساعي المصرية تعاطفا ومعاضدة من طرف الدول العربية وخاصة السعودية ودول الخليج وذلك عن طريق الاستثمار والمساعدات والهبات والقروض للدولة الجنوبية الناشئة. وتحسن الدول العربية صنعا لو أنها وجهت مساعداتها واستثماراتها في الجنوب لما يخدم توثيق عرى الترابط بين دولتي السودان الجديدتين خاصة نحو إنشاء الطرق البرية بين الشمال والجنوب وتطوير النقل النهري بما يضمن سهولة الانتقال بين الشطرين وإنشاء المعاهد والجامعات المشتركة بين الشطرين.ومع ذلك لابد من احترام أولويات دولة الجنوب ومساعدتها في المجالات التي تعتبرها في مقدمة أولوياتها الوطنية كالزراعة والصحة والتعليم وكلها مشاريع قد تتقدم في جدول الأسبقيات على إنشاءات البنية التحتية. ولا شك أن العلاقة بين العرب والدولة الجنوبية تدخل في خانة الربح للدولة الناشئة ويستطيع الكرم العربي أن يشيد معظم البنية التحتية للجنوب ويقيم فيها استثمارات تعود بالربح على الطرفين خاصة في المجال الزراعي والمجال السياحي ولكن هل يعني ذلك خسارة صافية للسودان الشمالي؟وهل ستخصم تلك المساعدات والاستثمارات من رصيد السودان الشمالي؟
يمكننا الإجابة بلا وبنعم دون أن نناقض أنفسنا ففي مجالات الاستثمار السياحي والزراعي يتمتع الجنوب بميزة نسبية نظرا لما يتمتع به من إمكانات للسياحة البيئية وما يوفره مناخه من ري طبيعي يتكفل بإنجاح أي مشروع زراعي مدروس. وفي مجال البناء والتشييد هنالك مجال مفتوح على مصراعيه لأي شركة مقاولات عربية تريد أن تعمل وتكسب في جنوب السودان.وبدافع الربح وحده يمكن أن ينصرف ذلك النوع من الاستثمارات عن الشمال إلى الجنوب بما يمثل خسارة للشمال إلا أن دولة الشمال ربما تمتعت بميزة نسبية إذا استمر تدفق النفط الجنوبي عبر أنابيبها وموانئها فيمثل ذلك جذبا للاستثمارات في المخلفات النفطية وما يقوم عليها من صناعات
( ابستريم وداون-استريم) إلا أن ذلك يرتبط باستمرار تدفق نفط الجنوب عبر الشمال وهو وضع لابد أن يقوم قادة الجنوب بتغييره بأسرع ما يمكنهم وقد لا يدوم ذلك الوضع لأكثر من حمس إلى عشر سنوات هي المدة اللازمة لإنشاء حط أنابيب من ولاية الوحدة إلى ميناء ممباسا الكيني.
علاقة الشطرين بإثيوبيا
تستحق إثيوبيا أن نفرد لها هذه الفقرة اعترافا بأهميتها الكبرى لجيرتها الأفارقة وعلى رأسهم دولتي السودان الجديدتين وذلك باعتبارها كتلة بشرية تضم ما بين 70 إلى 80 مليونا من البشر وتعاني من انفجار سكاني يجعلها مصدرا دائما للعمالة والمهاجرين لمختلف الأسباب. وفي الناحية الإستراتيجية تمثل الهضبة الإثيوبية معقلا غير قابل للاقتحام حتى في حالة الدفاع عن النفس وفي التعامل معها ينبغي عدم اللجوء إلى القوة العسكرية أو التلويح بها وعلى العكس ينبغي استغلال نقاط ضعفها وحساسياتها للحصول على ما يراد منها.
من شأن انفصال الجنوب تغيير موازين القوى لصالح الإثيوبيين إذ يقود بشكل مباشر إلى عملقة إثيوبيا بحيث تصبح الدولة الأكبر في منطقة القرن الأفريقي محاطة بعدد من الدول الصغرى التي لا تقوى على مناطحتها وللمرة الأولى يصبح السودان أمامها دولة صغرى محدودة الموارد يمكن –على المدى الطويل- تجاهل مطالبها واحتجاجاتها حول ما تراه تعديا على إقليمها السيادي من جانب الإثيوبيين. ويزداد اختلال ميزان القوى بالنسبة لدولة الجنوب فهي دولة اصغر جغرافيا وسكانيا من دولة الشمال إلا انه ليس لها قضايا عالقة مع الإثيوبيين.
وهنا لا نريد أن نقول أن عملقة إثيوبيا أمر سيء أو غير مرغوب فيه بل على العكس ربما كان سلام المنطقة وسيادة الديمقراطية فيها رهينان بمستقبل الجارة الإثيوبية التي أقعدها عن النهوض بتلك الأعباء ضعفها الاقتصادي المزمن إلى جانب حربها مع ارتريا التي يمكن اعتبارها قائمة ومستمرة منذ الخمسينات والى يومنا هذا تحت حالة الهدنة المحروسة من قبل الأمم المتحدة بالقبعات الزرقاء.وإذا استطاعت إثيوبيا تنظيم وضعها السياسي واتخاذ بعض الخطوات لتأمين اقتصادها فإنها ستغدو القطب الأكبر في القرن الأفريقي ولن يحدث فيه شيء إلا بمشورتها وموافقتها. وبالنسبة للسودان هو ذات الدور الذي ظلت تلعبه مصر في العلاقات السودانية مع الغرب.
علاقات الشمال بالجنوب
نأتي في ختام هذا الرصد إلى شكل ومحتوى العلاقة بين الشطرين المتباعدين وانطلاقا من منهجنا في الاكتفاء بمعطيات الجغرافيا السياسية نلاحظ أن الحدود بين الدوليتين هي الأطول والأكثر تعقيدا وأكثر حيوية من كل ما لهما من حدود مع الدول المجاورة . وبمقتضى اتفاقية السلام يحق لولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان الحدوديتين تقرير مصيرهما عن طريق ما يسمى بالمشورة الشعبية ومع غموض التعبير إلا أن الانفصال سينفخ في تلك المشورة من روحه ويحولها إلى إحدى اثنتين :إما استفتاء سلمي لتقرير المصير أو ثورات مسلحة مدعومة من دولة الجنوب المستقلة تنتهي طال الأمد أو قصر بانسلاخ تلك المناطق من دولة الشمال وانضمامها إلى دولة الجنوب.وإذا أضفنا القلاقل المرتقبة على تلك الحدود إلى وقائع الثورة القائمة في دارفور وعلاماتها البينة في كردفان فان دولة السودان الشمالي مبشرة بأيام سوداء ربما حققت نبوءة التمزق والصوملة التي نبه إليها الكثيرون.
سوف تواجه الدولتان معضلة التبادل الدبلوماسي بينهما في حالة الانفصال فهنالك من يرى عدم تبادل السفارات بدعاوى انفعالية إما للتعبير عن العداء والمقاطعة الكاملة أو - من الجانب المقابل- تحديا لواقع الانفصال وطمعا باستعادة الوحدة في يوم من الأيام وهنالك من يرى أن تبادل السفراء لا يعني الرضوخ للأمر الواقع بل هو مسعى يرمي إلى استعادة الصفاء بين الشطرين عن طريق التفاهمات اليومية التي تشرف عليها السفارات وتسهم عن طريقها في تنقية الأجواء وحل المشاكل واستنقاذ الأخوة وحسن الجوار من براثن الضياع. وفي كل الأحوال يحتاج المسئولون في الدولتين الجديدتين للتفكير العميق في نوعية الصلات التي يريدون قيامها بينهم :هل هي التعلق بأهداب وحدة ضاعت أم الانسياق وراء روح المعاندة والسعي لخلق العراقيل أمام بعضهما البعض أم هو من الأفضل التسليم بالأمر الواقع والعمل على إنشاء علاقة سوية وربما حميمة مع الوضع الجديد.
تجزئة السودان من منظور الوحدة الإفريقية
مع فرضية الانفصال في السودان ستمثل تجربة الجنوب السوداني أول نجاح لنعرة الانفصال في إفريقيا فقد رأينا محاولات سابقة تم قمعها بجدية تامة وبمساعدة من القوى الدولية الكبرى كما هو الحال مع محاولة انفصال كاتنقا من الكونغو ومشروع دولة بيافرا في نيجريا والذي تم إخماده عبر قتال عنيف وخسائر مادية باهظة. وكذلك كان الحال مع انفصال كابيندا الغنية بالنفط عن دولتها الأم في انجولا .ورغم أن كابيندا مفصولة جغرافيا عن وطنها الأم بدولة الكونغو كينشاسا وممرها إلى البحر ورغم أن هوى النظام الانجولي كان مع السوفيت إلا إن الدول الغربية وقفت بضراوة ضد نعرة الانفصال وأمنت بقاء الإقليم تحت السيادة الانغولية.ومعروف أن اكتشاف النفط كان وراء تلك التمردات إذ مضت الحركات الانفصالية في تلك الأقاليم تحلم بقيام دولة نفطية صغيرة على غرار دولة الكويت تعيش وحدها في الرفاهية تاركة بقية البلاد لمصيرها البئيس. وليس واضحا إذا كان الانفصال السوداني يصلح نموذجا لحركات الانفصال في إفريقيا أم هو حالة شاذة غذتها عوامل ذاتية تختص بالحالة السودانية وغير قابلة للتكرار في عيرها من الحالات.ولكن ذلك لن يمنع الآخرين من المحاولة.
ويلاحظ على الدبلوماسية الإفريقية(باستثناء يوغندا) ما أبدت من الحصافة في التعامل مع تجربة التجزئة في السودان فقد ظلت تؤكد حرصها على وحدة السودان وسلامته الإقليمية وظلت تردد تلك المعاني وهي ترى العوامل الداخلية تفعل فعل السوس في الجسد السياسي السوداني إلى أن بلغت به حافة الانفجار والبلقنة. وبذلك يكون قادة أفريقيا قد تحوطوا للمستقبل ولم يتورطوا في تأييد التجزئة والانفصال وربما يكونوا قد قطعوا بذلك الطريق على نعرات الانفصال الكامنة في كل بلدان القارة ومع ذلك فان تجزئة السودان( أعرق وأكبر دول إفريقيا) ستظل قائمة في الأذهان وستكون مصدر إلهام للجهود الانفصالية أينما وجدت وليس مستبعدا أن تشرب بعض الدول الشامتة بالسودان من نفس الكأس في يوم من الأيام.وفي كل الأحوال لابد أن يلاحظ المرء أن الدعوة إلى وحدة أفريقيا قد أخذت تتحول رويدا رويدا من معنى الوحدة القارية الشاملة إلى وحدة إفريقيا الجنوبية دون سواها.والى وقت قريب كان منظرو الوحدة يتحدثون عن هياكل بناء الوحدة القارية من المنظمات الاقتصادية القائمة(سادك ومجموعة شرق إفريقيا والايكواس والمجموعة المغاربية) ليجري اختصارها في سادك دون غيرها من وحدات البناء فاندغمت فيها مجموعة شرق إفريقيا وعمليا ذابت داخلها منظمة الكوميسا وذهبت الايكواس إلى لقاء ربها مع المصاعب الاقتصادية والسياسية التي تعيشها نيجريا القطب الذي تدور في فلكه عضوية المجموعة بينما جرى تهميش الأقطار العربية أعضاء الاتحاد الإفريقي وعلى رأسهم مصر. وفي ذلك الإطار لم يعد مهما أن تبقى بقية دول القارة أو تخترق فقد تمت الخطوة الأولى في بلقنة السودان دون أن يهتم لذلك أحد ووسط ابتسامات سعيدة يحاول أصحابها أن يخفوها عن الأنظار.
Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]