في أمر العودة من إجازة العقول السودانية المفتوحة
د. عبد الوهاب الأفندي
27 March, 2022
27 March, 2022
نقلا عن العربي الجديد
في كل فترة في الأيام الحالكة التي ظل السودان يعيشها منذ عام 1969، كنّا نحسب أن الأحوال لا يمكن أن تتدهور إلى أسوأ مما نراه. وفي كل مرّة، يبلغ بنا الأمر أن نتمنّى العودة إلى ما كنا تصوّرناه الأسوأ. ربما كان الاستثناء هو الفترة القصيرة بين اتفاق مشاكوس عام 2002 وانفصال الجنوب عام 2011، ولكن لا ننسى أن تلك الفترة شهدت كذلك مصائب دارفور الفاجعة. وعليه، لا استثناء في الحقيقة. ومن الصعب المجادلة في أن أيامنا هذه هي الأسوأ. ولكن التاريخ يعلّمنا وجوب سرعة التحرّك الفاعل والجادّ حتى لا نتحسر عليها في قابل أيامنا. ونأمل أن تؤخذ هذه التحذيرات بجدّية، ولا يحدُث ما حدث في المؤتمر الذي عقدناه في الدوحة في فبراير/ شباط 2009، حين استخفّ كل من أنصار النظام والمعارضة بالمخاطر المحدقة، واستكبروا على دعوات التفاهم، ما أدى إلى فقدان أرواح عزيزة، وتدمير ما كان يحتاج إلى البناء، ونحسبهم اليوم من النادمين، أو يجب أن يكونوا.
في عام 1999، دُعيت للحديث عن الشأن السياسي السوداني (أو بالأحرى الأزمة السودانية المزمنة) في مركز الدراسات الاستراتيجية في الخرطوم في أثناء زيارة قصيرة لي إلى البلاد، كانت تتعلق بجهود السلام القائمة وقتها. عبّرت في مداخلتي عن رأي مفاده بأن استراتيجيات نظام الإنقاذ قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن فشلها يبدو بالنسبة لي محتوماً، ما لم تحدُث تغييراتٌ كبيرة كنا قد نادينا بها مراراً وتكراراً. (سبقت هذه المداخلة "المفاصلة" المشهورة مع الشيخ حسن الترابي بعدة أشهر). عندها تصدّى أحد الإخوة الكرام لما قلت بالجزم إن ما أدّعيه يدخل في الرجم بالغيب، ولا أحد يعلم ماذا سيحدث في نهاية المطاف.
علقت في ردي بأن هناك أموراً مستقبلية تكون بعض مكوّناتها وإرهاصاتها ظاهرة للعيان، ما يجعلها عملياً جزءاً من الواقع. وضربت مثلاً بحالتين، أولاهما إنه لو كانت هناك عاصفة ترابية تمر بمدينة الكاملين التي تقع حوالي خمسين كيلومتراً جنوب الخرطوم، وكانت سرعتها خمسين كيلومتراً في الساعة، فمن المؤكد أنها ستبلغ الخرطوم خلال ساعة. في الثانية، قلت لصاحبنا إنه لو أن مباراةً عقدت بين الفريق القومي البرازيلي وفريق الجلاء (فريق حينا في مدينة بربر) فإن النتيجة تكون معروفة ما لم تقع معجزة (وأضيف هنا، حتى لو كان خالي محمد حسن حاج علي الشهير بـ "الديزل" هو ظهير الفريق).
أذكّر بهذه المساجلة لأستعيد مناسبة أخرى، عندما كتبت مقالة في "العربي الجديد" في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2020، حذّرت فيها من الإشكالية الجوهرية في نظام الانتقال في السودان، والمتمثلة في تغوّل الجانب العسكري على سلطات الحكومة المدنية، كما يظهر في فضيحة التقرّب إلى إسرائيل، والتي كان المدنيون فيها آخر من يعلم، فقد زار وفد من "الموساد" الخرطوم (للمفارقة في تاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الأول، ذكرى أول وأهم ثورة شعبية ديمقراطية في السودان!) لتطبيع العلاقات مع السودان (مع أنه لا يوجد شيء طبيعي حول إقامة علاقة ودّية من حكومة يفترض أنها ديمقراطية مع جهة تقتل وتنهب وتدمّر). وقد ظل رئيس الوزراء ووزير خارجيته يتصدّيان لدعاوى التطبيع بالتكذيب حتى منتصف الليل. ولمّا جاء الصباح، وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح، إذا بهما وحكومتهما وأتباعهما مؤيدين لصفقة التطبيع التي علما بها، كما علمنا، من الإعلام.
لم يكن هذا المظهر الوحيد للتغوّل، فقد تولى المجلس العسكري القيادة في مجال الاقتصاد، كما تصدّى لاتفاقيات السلام. وعموماً كان يتولى كل أمر عظيم، مذكّراً بنكتة الزوج الذي قال إنه ينفرد في بيته بالقول الفصل في كل الأمور الكبرى، تاركاً صغائر الأمور لقرار زوجته، وعندما سئل عن "صغائر" الأمور عدّد كل أمور البيت من الصرف وتعليم الأولاد والإجازات. فقيل له وما هي عظائم الأمور إذن؟ أجاب: قضية فلسطين، فيتنام، الإمبريالية، وهكذا. سوى أن أعزّاءنا في الحكومة المسمّاة مدنية لا ينفردون حتى بأمر فلسطين والقواعد الروسية وأمثالها، بل لا يعلمون عنها إلا بعد البعداء من أمثالنا.
كانت خلاصة القول عندها إن أحداث يوم واحد صادف الحادي والعشرين من أكتوبر، متمثلة في وصول وفد "الموساد" ونظيره من بلد عربي، وقمع المتظاهرين (وقتل أحدهم)، وجهل السلطة المدنية التام بما يطبّق من سياسات في مجالات حيوية، كشفت عن أزمةٍ عميقةٍ تواجهها الدولة التي أصبح كيانها مهدّداً. وقد أظهر هذا كله أن الديمقراطية أصبحت بعيدة المنال، لأنها لم تكن أصلاً من أولويات الحكم في حكومة "مدنية" لكنها "معسكرة"، ليس فقط لأنها تأتمر بأمر العسكر (يأتمرون بأمر جهات خارجية)، ولكن لأنها أيضاً تتبع سياسات قمع "عسكرية" ضد غرمائها السياسيين. وفي الحقيقة، فإن خضوعها للعسكر هو بسبب رفضها الحوار مع بقية الشركاء في الوطن. والنتيجة الحتمية لتلك الصفقة ستكون تعزيز سلطان العسكر، وتأجيل الديمقراطية إلى أجلٍ غير مسمّى. وقتها هاجت هائجة من تلقوا الإنذار، وكابروا كسابقيهم، وزادوا عليهم القدح فيمن أعذر إذ أنذر.
ولم يكن هذا بدوره رجماً بالغيب، لأن الشواهد كانت تشير إلى سيارةٍ تنطلق بسرعة جنونية تجاه حائط بناه سائقها وعجز عن إبصاره، فها قد وقع ما حذّرنا منه، فلم يتعزّز فقط وضع العسكر، بل آلت إليهم السلطة كلها. وبقي الآخرون يجتهدون في تخريب الشوارع والبلد شأن وصية "البصيرة أم حمد" بذبح الثور لإخراج رأسه من الجرّة، ثم كسر الجرّة، بل شأن من ينشّ الذبابة عن وجهه بطلقة مدفع.
وكنا نتمنّى أن يكون السودانيون قد تعلموا بعد قرابة سبعين عاماً من الاحتراب أن العنف، بكل أنواعه، ليس الطريق إلى الأمام، وأن ما نحتاجه ليس المليشيات، سواءً المسلحة بالبنادق أو بالطوب والعصي، بل ما نحتاجه هو العقول التي تفكّر، والضمائر التي تذكر بالواجبات تجاه الوطن مقابل حظ النفس في الأمد القصير. وقد نعيت من قبل على ثلّة من الأصدقاء الأعزاء إصدارهم بياناً يفوّضون فيه ما تسمّى لجان المقاومة بتمثيلهم، بل وقيادتهم كما جاء في البيان، مذكّراً الأحبة بأن مكان المثقف هو في القيادة، وليس التبعية لأي جهة، فالخروج إلى الشارع والمشي فيه وإغلاقه بالطوب، بل حتى حمل السلاح وخوض الحروب، لا معنى له بدون خطة وفهم، وسرديات توحد الناس، وخريطة طريق تهدي إلى السراط المستقيم. وهذه مهمة أهل الفكر ومجالس التشاور وتبادل الرأي، وخلوات التدبّر والتفكّر، والتأمل في تجارب الشعوب وعوامل نجاحها وفشلها، فلا بد أولاً من تشخيص الداء ووصف العلاج. ولا يمكن أن يكون ضرب الرأس بالحائط صباح مساء علاجاً لأي داء، بل هو أحد عوارض داءٍ عضالٍ يعزّ الشفاء منه.
ما ينقص السودان اليوم ليس حملة البنادق والطوب، بل من يستخدمون العقول التي وهب الله لكل فرد منا، وعليها يُحاسب يوم ينفح في الصور، بينما يبدو أن الكلّ قد أرسلها في إجازة مفتوحة، غير مدفوعة الأجر (رغم أن الشعب كله يدفع الثمن يومياً بسبب هذا الغياب والتعطيل). نحتاج لأن يتداعى من بقي من عقلاء البلد للتوافق على كلمة سواء، هي أن ينبذ الجميع الاقتتال والتقامع (من القمع) والتنافس في العنف والتخريب، مستبدلين ذلك بالتسابق في الخيرات، كما أوصى خالق الناس، جل وعلا، حين ندب أهل الكتاب من مسلمين وأتباع الكتب السماوية السابقة لاستباق الخيرات بدلاً من التسابق في الإثم والعدوان، والتباغض والتغابن. وأول الخيرات في وضعنا هذا هو تقديم التنازلات، والتحرّك نحو المنافسين والمخاصمين بمبادراتٍ تؤكد ما يتوافق عليه الناس، وهو البناء والتطوير ودعم الحريات والعدالة للجميع.
عندما تدلهمّ الخطوب وتُحدق الأخطار بالأمم، فإنها تعلن التجنيد الإجباري، وتعبئة كل الموارد لمواجهة الخطر المحدق. وفي هذه الحالة، لا يقال لمن يتطوع لتحمل العبء لا مكان لك بيننا، فهذا من خطل الرأي. يذكرني هذا بنصيحة كنت تطوعت بها (في صحيفة الحياة) بعد أسابيع قليلة من انقلاب 30 يونيو (1989) أحذّر فيها أهل الانقلاب من مصير الحكومات العسكرية العربية التي جاءت بشعاراتٍ برّاقة، وانتهى بها الأمر إلى نفقٍ مظلم من الفشل، إلا في القمع والقهر. قلت حينها إن أي نظام هو بين خيارين: التذلل للخارج، ويسمّى عمالة، أو التذلل للشعب واسمه الديمقراطية. وأريد أن أعيد صياغة هذه النصيحة كما يلي: القوى المدنية في السودان هي بين خيارين: التفاهم مع بقية الشركاء في الوطن، أو الاحتماء بهذه المليشيا أو تلك، والتذلل والخنوع لحملة السلاح غير المشروع في الداخل، وطالبي النفوذ غير المشروع من الخارج.
ولعلها مفارقة المفارقات في السودان أن العسكر هم من يندبون المدنيين إلى التفاهم والتوافق، على الرغم من أنهم المستفيدون من الخلاف، بينما المدنيون يرفضون ذلك. يقول العسكر إنهم لن يسلموا السلطة إلا إلى جهة منتخبة أو جهة تمثل كل القوى السياسية، بينما من يسمّون أنفسهم مدنيين (وبينهم قادة مليشيات "مدنية" كما في المشهد شبه الكوميدي الذي يظهر فيه أحد قادة المليشيات أمام كاميرات الإعلام، ليؤكّد أنه يمثل قوى مدنية، فيزاحمه بعض أعضاء مليشياته للظهور بجانبه، شاهرين رشاشاتهم، فيدفعهم بعيداً ليذكّر الناس بمدنيته!) فلماذا لا يفحم المجلس العسكري بتقديم مقترح بحكومة وحدة وطنية تسلم له خلال شهر أو شهرين بتوافق من كل القوى المستشعرة لمسؤوليتها تجاه الوطن.
يجب أن نستدعي العقول من عطلتها، ونرسل أصحاب البنادق والقنابل المسيلة للدموع ومغلقي الشوارع في إجازة مفتوحة، فأي عصر تغلق فيه الجامعات وتنشط فيه المليشيات هو عصر ظلام بامتياز.
نقلا عن العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A5%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%A9
////////////////////////////////
في كل فترة في الأيام الحالكة التي ظل السودان يعيشها منذ عام 1969، كنّا نحسب أن الأحوال لا يمكن أن تتدهور إلى أسوأ مما نراه. وفي كل مرّة، يبلغ بنا الأمر أن نتمنّى العودة إلى ما كنا تصوّرناه الأسوأ. ربما كان الاستثناء هو الفترة القصيرة بين اتفاق مشاكوس عام 2002 وانفصال الجنوب عام 2011، ولكن لا ننسى أن تلك الفترة شهدت كذلك مصائب دارفور الفاجعة. وعليه، لا استثناء في الحقيقة. ومن الصعب المجادلة في أن أيامنا هذه هي الأسوأ. ولكن التاريخ يعلّمنا وجوب سرعة التحرّك الفاعل والجادّ حتى لا نتحسر عليها في قابل أيامنا. ونأمل أن تؤخذ هذه التحذيرات بجدّية، ولا يحدُث ما حدث في المؤتمر الذي عقدناه في الدوحة في فبراير/ شباط 2009، حين استخفّ كل من أنصار النظام والمعارضة بالمخاطر المحدقة، واستكبروا على دعوات التفاهم، ما أدى إلى فقدان أرواح عزيزة، وتدمير ما كان يحتاج إلى البناء، ونحسبهم اليوم من النادمين، أو يجب أن يكونوا.
في عام 1999، دُعيت للحديث عن الشأن السياسي السوداني (أو بالأحرى الأزمة السودانية المزمنة) في مركز الدراسات الاستراتيجية في الخرطوم في أثناء زيارة قصيرة لي إلى البلاد، كانت تتعلق بجهود السلام القائمة وقتها. عبّرت في مداخلتي عن رأي مفاده بأن استراتيجيات نظام الإنقاذ قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن فشلها يبدو بالنسبة لي محتوماً، ما لم تحدُث تغييراتٌ كبيرة كنا قد نادينا بها مراراً وتكراراً. (سبقت هذه المداخلة "المفاصلة" المشهورة مع الشيخ حسن الترابي بعدة أشهر). عندها تصدّى أحد الإخوة الكرام لما قلت بالجزم إن ما أدّعيه يدخل في الرجم بالغيب، ولا أحد يعلم ماذا سيحدث في نهاية المطاف.
علقت في ردي بأن هناك أموراً مستقبلية تكون بعض مكوّناتها وإرهاصاتها ظاهرة للعيان، ما يجعلها عملياً جزءاً من الواقع. وضربت مثلاً بحالتين، أولاهما إنه لو كانت هناك عاصفة ترابية تمر بمدينة الكاملين التي تقع حوالي خمسين كيلومتراً جنوب الخرطوم، وكانت سرعتها خمسين كيلومتراً في الساعة، فمن المؤكد أنها ستبلغ الخرطوم خلال ساعة. في الثانية، قلت لصاحبنا إنه لو أن مباراةً عقدت بين الفريق القومي البرازيلي وفريق الجلاء (فريق حينا في مدينة بربر) فإن النتيجة تكون معروفة ما لم تقع معجزة (وأضيف هنا، حتى لو كان خالي محمد حسن حاج علي الشهير بـ "الديزل" هو ظهير الفريق).
أذكّر بهذه المساجلة لأستعيد مناسبة أخرى، عندما كتبت مقالة في "العربي الجديد" في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2020، حذّرت فيها من الإشكالية الجوهرية في نظام الانتقال في السودان، والمتمثلة في تغوّل الجانب العسكري على سلطات الحكومة المدنية، كما يظهر في فضيحة التقرّب إلى إسرائيل، والتي كان المدنيون فيها آخر من يعلم، فقد زار وفد من "الموساد" الخرطوم (للمفارقة في تاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الأول، ذكرى أول وأهم ثورة شعبية ديمقراطية في السودان!) لتطبيع العلاقات مع السودان (مع أنه لا يوجد شيء طبيعي حول إقامة علاقة ودّية من حكومة يفترض أنها ديمقراطية مع جهة تقتل وتنهب وتدمّر). وقد ظل رئيس الوزراء ووزير خارجيته يتصدّيان لدعاوى التطبيع بالتكذيب حتى منتصف الليل. ولمّا جاء الصباح، وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح، إذا بهما وحكومتهما وأتباعهما مؤيدين لصفقة التطبيع التي علما بها، كما علمنا، من الإعلام.
لم يكن هذا المظهر الوحيد للتغوّل، فقد تولى المجلس العسكري القيادة في مجال الاقتصاد، كما تصدّى لاتفاقيات السلام. وعموماً كان يتولى كل أمر عظيم، مذكّراً بنكتة الزوج الذي قال إنه ينفرد في بيته بالقول الفصل في كل الأمور الكبرى، تاركاً صغائر الأمور لقرار زوجته، وعندما سئل عن "صغائر" الأمور عدّد كل أمور البيت من الصرف وتعليم الأولاد والإجازات. فقيل له وما هي عظائم الأمور إذن؟ أجاب: قضية فلسطين، فيتنام، الإمبريالية، وهكذا. سوى أن أعزّاءنا في الحكومة المسمّاة مدنية لا ينفردون حتى بأمر فلسطين والقواعد الروسية وأمثالها، بل لا يعلمون عنها إلا بعد البعداء من أمثالنا.
كانت خلاصة القول عندها إن أحداث يوم واحد صادف الحادي والعشرين من أكتوبر، متمثلة في وصول وفد "الموساد" ونظيره من بلد عربي، وقمع المتظاهرين (وقتل أحدهم)، وجهل السلطة المدنية التام بما يطبّق من سياسات في مجالات حيوية، كشفت عن أزمةٍ عميقةٍ تواجهها الدولة التي أصبح كيانها مهدّداً. وقد أظهر هذا كله أن الديمقراطية أصبحت بعيدة المنال، لأنها لم تكن أصلاً من أولويات الحكم في حكومة "مدنية" لكنها "معسكرة"، ليس فقط لأنها تأتمر بأمر العسكر (يأتمرون بأمر جهات خارجية)، ولكن لأنها أيضاً تتبع سياسات قمع "عسكرية" ضد غرمائها السياسيين. وفي الحقيقة، فإن خضوعها للعسكر هو بسبب رفضها الحوار مع بقية الشركاء في الوطن. والنتيجة الحتمية لتلك الصفقة ستكون تعزيز سلطان العسكر، وتأجيل الديمقراطية إلى أجلٍ غير مسمّى. وقتها هاجت هائجة من تلقوا الإنذار، وكابروا كسابقيهم، وزادوا عليهم القدح فيمن أعذر إذ أنذر.
ولم يكن هذا بدوره رجماً بالغيب، لأن الشواهد كانت تشير إلى سيارةٍ تنطلق بسرعة جنونية تجاه حائط بناه سائقها وعجز عن إبصاره، فها قد وقع ما حذّرنا منه، فلم يتعزّز فقط وضع العسكر، بل آلت إليهم السلطة كلها. وبقي الآخرون يجتهدون في تخريب الشوارع والبلد شأن وصية "البصيرة أم حمد" بذبح الثور لإخراج رأسه من الجرّة، ثم كسر الجرّة، بل شأن من ينشّ الذبابة عن وجهه بطلقة مدفع.
وكنا نتمنّى أن يكون السودانيون قد تعلموا بعد قرابة سبعين عاماً من الاحتراب أن العنف، بكل أنواعه، ليس الطريق إلى الأمام، وأن ما نحتاجه ليس المليشيات، سواءً المسلحة بالبنادق أو بالطوب والعصي، بل ما نحتاجه هو العقول التي تفكّر، والضمائر التي تذكر بالواجبات تجاه الوطن مقابل حظ النفس في الأمد القصير. وقد نعيت من قبل على ثلّة من الأصدقاء الأعزاء إصدارهم بياناً يفوّضون فيه ما تسمّى لجان المقاومة بتمثيلهم، بل وقيادتهم كما جاء في البيان، مذكّراً الأحبة بأن مكان المثقف هو في القيادة، وليس التبعية لأي جهة، فالخروج إلى الشارع والمشي فيه وإغلاقه بالطوب، بل حتى حمل السلاح وخوض الحروب، لا معنى له بدون خطة وفهم، وسرديات توحد الناس، وخريطة طريق تهدي إلى السراط المستقيم. وهذه مهمة أهل الفكر ومجالس التشاور وتبادل الرأي، وخلوات التدبّر والتفكّر، والتأمل في تجارب الشعوب وعوامل نجاحها وفشلها، فلا بد أولاً من تشخيص الداء ووصف العلاج. ولا يمكن أن يكون ضرب الرأس بالحائط صباح مساء علاجاً لأي داء، بل هو أحد عوارض داءٍ عضالٍ يعزّ الشفاء منه.
ما ينقص السودان اليوم ليس حملة البنادق والطوب، بل من يستخدمون العقول التي وهب الله لكل فرد منا، وعليها يُحاسب يوم ينفح في الصور، بينما يبدو أن الكلّ قد أرسلها في إجازة مفتوحة، غير مدفوعة الأجر (رغم أن الشعب كله يدفع الثمن يومياً بسبب هذا الغياب والتعطيل). نحتاج لأن يتداعى من بقي من عقلاء البلد للتوافق على كلمة سواء، هي أن ينبذ الجميع الاقتتال والتقامع (من القمع) والتنافس في العنف والتخريب، مستبدلين ذلك بالتسابق في الخيرات، كما أوصى خالق الناس، جل وعلا، حين ندب أهل الكتاب من مسلمين وأتباع الكتب السماوية السابقة لاستباق الخيرات بدلاً من التسابق في الإثم والعدوان، والتباغض والتغابن. وأول الخيرات في وضعنا هذا هو تقديم التنازلات، والتحرّك نحو المنافسين والمخاصمين بمبادراتٍ تؤكد ما يتوافق عليه الناس، وهو البناء والتطوير ودعم الحريات والعدالة للجميع.
عندما تدلهمّ الخطوب وتُحدق الأخطار بالأمم، فإنها تعلن التجنيد الإجباري، وتعبئة كل الموارد لمواجهة الخطر المحدق. وفي هذه الحالة، لا يقال لمن يتطوع لتحمل العبء لا مكان لك بيننا، فهذا من خطل الرأي. يذكرني هذا بنصيحة كنت تطوعت بها (في صحيفة الحياة) بعد أسابيع قليلة من انقلاب 30 يونيو (1989) أحذّر فيها أهل الانقلاب من مصير الحكومات العسكرية العربية التي جاءت بشعاراتٍ برّاقة، وانتهى بها الأمر إلى نفقٍ مظلم من الفشل، إلا في القمع والقهر. قلت حينها إن أي نظام هو بين خيارين: التذلل للخارج، ويسمّى عمالة، أو التذلل للشعب واسمه الديمقراطية. وأريد أن أعيد صياغة هذه النصيحة كما يلي: القوى المدنية في السودان هي بين خيارين: التفاهم مع بقية الشركاء في الوطن، أو الاحتماء بهذه المليشيا أو تلك، والتذلل والخنوع لحملة السلاح غير المشروع في الداخل، وطالبي النفوذ غير المشروع من الخارج.
ولعلها مفارقة المفارقات في السودان أن العسكر هم من يندبون المدنيين إلى التفاهم والتوافق، على الرغم من أنهم المستفيدون من الخلاف، بينما المدنيون يرفضون ذلك. يقول العسكر إنهم لن يسلموا السلطة إلا إلى جهة منتخبة أو جهة تمثل كل القوى السياسية، بينما من يسمّون أنفسهم مدنيين (وبينهم قادة مليشيات "مدنية" كما في المشهد شبه الكوميدي الذي يظهر فيه أحد قادة المليشيات أمام كاميرات الإعلام، ليؤكّد أنه يمثل قوى مدنية، فيزاحمه بعض أعضاء مليشياته للظهور بجانبه، شاهرين رشاشاتهم، فيدفعهم بعيداً ليذكّر الناس بمدنيته!) فلماذا لا يفحم المجلس العسكري بتقديم مقترح بحكومة وحدة وطنية تسلم له خلال شهر أو شهرين بتوافق من كل القوى المستشعرة لمسؤوليتها تجاه الوطن.
يجب أن نستدعي العقول من عطلتها، ونرسل أصحاب البنادق والقنابل المسيلة للدموع ومغلقي الشوارع في إجازة مفتوحة، فأي عصر تغلق فيه الجامعات وتنشط فيه المليشيات هو عصر ظلام بامتياز.
نقلا عن العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A5%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%A9
////////////////////////////////