في الذكرى الخمسين لكتاب متميّز: ثورة على الفكر العربي المعاصر لمحيى الدين محمد
(هذه المقالة مهداة للأستاذ كمال الجزولي)
(1)
في عام 1964 صدر كتاب الأستاذ محيى الدين محمد ثورة على الفكر العربي المعاصر عن المكتبة العصرية بصيدا وبيروت، وهو كتاب على تميّزه وأهميته لم تصدر منه إلا طبعته الأولى فقط . ولا شك أن الذين قرأوا هذا الكتاب وقتها وبعدها لمسوا خطورته وجذريته، إلا أنه أحيط بصمت كثيف ولم يُحدثْ ما كان مرجوا له أن يُحدثَ من تحريك جارف لمياه الواقع العربي الآسنة والمسكونة بالسكون. ولقد أطلق الأستاذ كمال الجزولي قبل فترة صرخة داوية عن محيى الدين محمد يسأل عنه وعما إن كان حيا أم ميتا. وهزتني صرخة كمال الجزولي بعمق لأنني مثله ظللت أبحث عن محيى الدين محمد لسنوات طويلة، وخاصة أن كتابه ثورة على الفكر العربي المعاصر كان من كتب فترة التكوين في حياتي الفكرية والبحث عن أفق جديد وراء يباب التسليم والعقيدة الموروثة.
وشعور كمال الجزولي بالإحباط وما يشبه اليأس شعور طبيعي ومشروع --- فكيف يختفي كاتب يحمل هموم محيى الدين محمد الفكرية والسياسية من سماء فكرنا هكذا وببساطة ويصبح أثرا بعد عين. إن كتابه لم يكن تعبيرا عميقا عن رؤية جذرية تعصف بثوابت المجتمع العربي فحسب وإنما كان أيضا تعزيزا قويا لتلك الحساسية الجديدة التي تجمع همّ الاستنارة الفكرية وهمّ النقد الأدبي الساعي لنقلنا لعوالم جديدة غير مألوفة --- كيف يختفي فجأة ويتلاشى ذلك الوعد الذي مثّله محيى الدين محمد؟
ولقد فعل كمال الجزولي أفضل وقصارى ما يستطيع الشخص في أيامنا هذه أن يفعله وهو أن يكتب ويستفيد من إمكانيات التواصل المدهشة التي توفّرها شبكة الإنترنيت ويتوجه بصرخته-النداء لكل "من هو هناك"، علّ شخصا ما يستطيع أن يشفي غليله. أما في حالتي فقد لجأت لأفضل ما أستطيع اللجوء له عبر السنوات وهو أن أسأل كل من آنست فيه بريق أمل عن محيى الدين محمد --- فأنا من الذين يؤمنون بأن البشرية شبكة علاقات كبيرة، وأن كل إنسان يقف على بعد (س) درجة من كل إنسان آخر على ظهر الأرض. وما أدهشني وملأني ألما طيلة هذه السنوات هو كيف أن محيى الدين محمد مجهول وسط المثقفين العرب وكيف أن الغالبية الساحقة من المثقفين السودانيين لا يعرفونه. ولعل أكثر إجابة أعطتني بارقة أمل كانت إجابة الصديق الناقد المصري صبري حافظ، ذي المعرفة الموسوعية للناس وأعمالهم، والذي قال لي إن محيى الدين محمد على قيد الحياة ويعيش في مكان ما في القاهرة. أنعشتني إحابته، ولكن ما لبثت أن خذلتني إجابات أخرى. وبإلحاح مني أضاف الصديق حيدر إبراهيم علي، وهو المقيم في القاهرة وذو الصلات الوثيقة بالكثير من المثقفين المصريين، لهمومه ومشاغله الكثيرة همّ البحث عن محيى الدين محمد. لم أفاجأ بأن الذين سألهم لا يعرفون أين هو، ولكن ما فاجأني وملأ قلبي أسىً هو تضارب أقوالهم عما إن كان حيا أو ميتا.
(2)
وكما يحدث عادة في مثل هذه الحالات فإن الاختراق يأتي فجأة وبصدفة موفقة. وبعد أن فشلت محاولاتي في مختلف الدوائر ومنها دائرة من أعرفهم من النوبيين السودانيين، استعنت بالصديق صلاح إدريس المقيم في القاهرة. ومن غير أن أعلم، كانت هذه هي صدفتي الموفقة. وصلاح إدريس مجبول على المساعدة ومن أكثر الناس همة واهتماما وصبرا ومثابرة. وبدخول صلاح إدريس في رحلة البحث أحسست براحة عميقة وبدأت أشمّ شميم الوصول. ولم يخيّب صلاح إدريس ظني، حصل على نسخة من الكتاب من عرينه، من لبنان، وصَدَق حَدْسه بأن تلك الأسرة النوبية التي يعرفها في الخرطوم ستضع في يده مفتاح الاتصال بأسرة محيى الدين محمد. وهكذا اكتشفت بعد سنوات بحثي الطويلة أنني كنت، كل الوقت، على بعد درجتين فقط من محيى الدين محمد.
لا أستطيع أن أصف شعوري بالسعادة والاغتباط عندما أوشكت مواعيد لقاء صلاح إدريس بالأستاذة مشيرة شورة، ابنة أخت محيى الدين محمد، يوم الأحد 19 أكتوبر 2014. أخيرا أقبلت الرحلة على لحظة الوصول لمقصودها --- ولكن القلب كان متوجّسا والأعصاب ظلت متوترة وأنا أنتظر أن أسمع عن محيى الدين محمد: هل سيتاح لي أن أقابله وأتعرّف عليه أم هل انقفل الباب تلك الانقفالة الأبدية؟ وبكل أسف، صدق توقّعي الأسوأ --- أخبرني صلاح إدريس بقلب مثقل أننا قد وصلنا بعد فوات الأوان. يا لفداحة الفاجعة ويا لعمق الشعور بالذنب --- رحل من غير أن يسمع منا نحن الذين لعب كتابه دورا لا يستهان به في تعميق وعينا وشحذ حواسنا ومن قبل أن نلهج له بشكرنا ونعبّر له عن عميق تقديرنا لما حرّك في عقولنا وصدورنا قبل خمسين عاما وبعدها.
(3)
ولد محيى الدين محمد بقرية أرقين في شمال السودان في 11 يوليو 1928، وما لبث أن انتقل مع أسرته إلى القاهرة وهو صبي صغير. التحق بالمدرسة السعيدية وكان متفوقا تفوقا مكّنه من تصدّر القائمة الأولى في مصر. كان ذا وعي سياسي منذ فترة مبكّرة في حياته وانخرط في حركة النضال ضد البريطانيين وعمل في المقاومة السرية، وكان ذلك سببا للقبض عليه. رغم تفوقه الأكاديمي، لم تمكّنه ظروفه الأسرية من الالتحاق بالجامعة. عمل في شركة من شركات القطاع الخاص، وأصبح مراسلا لمجلة الآداب اللبنانية. انتقل للعمل في وزارة المواصلات اللاسلكية، وواصل نشاطه في الكتابة. اهتم اهتماما خاصا بالترجمة فترجم مثلا كتاب أستاذ العلوم السياسية الأمريكي مورو بيرجر (Morroe Berger) العالم العربي اليوم، كما ترجم عمل الروائي الأمريكي هيرمان ميلفل (Herman Melville) الجزر الوحشية. انتقل لقطر للعمل مراسلا ثم محررا في الإذاعة القطرية، وترقّى إلى أن أصبح رئيس تحرير قسم الأخبار في التلفزيون القطري.
توفي يوم 20 يونيو 2014 في القاهرة إثر جلطة لم تمهله طويلا.
(اعتمدت في هذه الفقرة اعتمادا كاملا على النبذة التعريفية التي أعدتها الأستاذة مشيرة شورة، ولها مني جزيل الشكر).
(4)
ما العمل الآن؟ لا شك أن هناك مهمة لابد من العمل على إنجازها، وهي مهمة إعادة التعريف بمحيى الدين محمد. لابد في تقديري من الإسراع لإنجاز مهمتين أوليتين وهما إعادة طبع كتاب ثورة على الفكر العربي المعاصر ثم تجميع كل ما كتبه ونشره متفرقا وإعادة نشره. وبعد ذلك تأتي مهمة الدرس والتقييم، ماذا قال محيى الدين محمد وما الذي يعنيه ما قاله لنا؟
هاتان مهمتان لن نعجز في تقديري عن القيام بهما إكراما وإنصافا لإنجاز محيى الدين محمد الفكري والنقدي الذي فشلنا في تقديره وهو لا يزال بيننا.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
kassalawi99@hotmail.com