في تذكار الموسيقار محمد وردي (2 من 6)

 


 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

في الأغنيَّة العاطفيَّة

وها هو وردي، الذي أشرقت عليه شمس اليتم المبكِّر، قد غادر الطفولة إلى سن الشباب، وبات ينتقل من عالم إلى آخر، ومن مدرسة إلى أخرى، ثمَّ أعلن مواهبه الفنيَّة عن نفسها في صوت عالٍ رائع بديع، وبدأ كغيره من الشباب الطموح العالي الهمة عبر عصر جديد ناتج من رحم المعاناة، وروح العصر المتقلِّب. وما أن وصل وردي إلى الخرطوم حتى غنَّى للشاعر الملحِّن الرَّاحل خليل أحمد أغنيات "يا طير يا طاير" و"الليلة يا سمرا" و"أول غرام" و"الحب والورود". وحين دخل وردي الإذاعة السُّودانيَّة بأم درمان في 19 تموز (يوليو) 1957م لأوَّل مرة وفي مطلع الصِّبا رفع عقيرته، أي صوته، وتغنَّى بأغنية "هل تدري يا نعسان".
ومثلما تعملق الفنان عثمان حسين والشاعر حسين بازرعة حدث الشيء نفسه بين وردي والشاعر إسماعيل حسن. كان التقاء وردي بالشاعر إسماعيل حسن العام 1958م، وذلك في حفل زواج بالسجانة في الخرطوم. فقد اصطبغ إسماعيل حسن قصائده بالنَّكهة الرِّيفيِّة من ديار الشايقيَّة، واللهجة السُّودانيَّة البسيطة، التي بالكاد يفهمها كل من كان له قليل إلمام باللغة العربيَّة العاميَّة، أو له الإدراك كل الإدراك بالموصوفات التي كانت شائعة ومتداولة وسط الناس في تلك الحقب من الزمان، متخيِّراً جزالة الأسلوب لإشباع رغبات الإنسان السُّوداني الطروب. وفي الجانب الآخر من المتوالية الثنائيَّة وظَّف وردي مواهبه الإبداعيَّة في أعماله الفنيَّة وفي تناغم موسيقي في "تلك الآلات الموسيقيَّة بمهارة وحزق وحرفيَّة متناهية جعلها تئن وتقطر حزناً قديماً وجديداً ونبيلاً (...)،" والحديث إيَّاه بين المعقوفتين للأستاذ الأمين إبراهيم العاقب. هكذا التقى وردي بالشاعر الرَّاحل إسماعيل حسن فيما أخذ نجمه يبزغ قليلاً قليلاً، وظلَّ هذا اللقاء معلماً بارزاً في مسيرته الفنيَّة. فإذا بوردي يمسي موسيقاراً وهو على ما كان عليه من الإبداعات والإيقاعات؛ وإذا بنجم إسماعيل حسن يطلع ويلمع ثمَّ يتلألأ الاثنان معاً بفضل موهبة الأول الصوتيَّة واللحنيَّة معاً وموهبة الثاني الشعريَّة التي تميَّزت بالعذوبة والقدرة على التعبير بأسلوب ريفي سهل ممتنع؛ ثمَّ إذا الاثنان يتعملقان شعراً ولحناً وغناءً وأداءً موسيقيَّاً.
والآن حقَّ علينا إيراد نماذج شعريَّة تعزِّز ما ذهبنا إليه قولاً في أعمال الشاعر إسماعيل حسن. فمن تلك الأغنيات العظيمة التي ذاع صيتها على نطاق أوسع في السُّودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال هي تلك الأغنية المعروفة باسم "القمر بوبا". إذ يقول الأستاذ صلاح الباشا، الذي نستطيع أن نطلق عليه لقب كاتب السيرة الورديَّة، إنَّ الشاعر إسماعيل حسن ارتضى أن تحتوي هذه القصيدة "على أوصاف من البيئة الشايقيَّة البحتة، واصفاً فتاته بكل أنواع ثمار النخيل في مراحل نموِّه المختلفة مستخدماً ذلك في عدة مواقع من تلك الأغنية النابعة من وحي الطبيعة." ويذهب الأستاذ الباشا شارحاً بأنَّ القمر بوبا هو نوع من الذهب الخفيف جداً (حلق)، ويوضع على الأذن في شكل فدوة في مهوى القُرط. وها هو الشاعر إسماعيل حسن يستخدمه برغم من خفَّة وزنه، إلا أنَّه قد اعتبره ثقيلاً في الوزن على تلك الفتاة من فرط إشفاقه عليها.
والحق يقال، ففي هذه الأغنية تظهر أيضاً تأثيرات البيئة والتراث والمفردات اللغويَّة التي كان يستخدمها أهل الشاعر في الشايقيَّة وما يزالون. ومن هنا يتبدَّى تفاعل ذوات الشاعر مع مفردات الطبيعة الناطقة والصامتة، والحيَّة والجامدة. ففي القصيدة إيَّاها لعلك واجدٌ كلمات "مثل التميري، وهي تصغير للتمرة وهي ما تزال في السبيطة، ولم يتم قطعها بعد." بيد أنَّ البنت حين تتم تربيتها عند حبَّوبتها (جدَّتها) في ذلك الرَّدح من الزمان فهذا إن دلَّت علي شيء فإنَّما لتدلُّ على أنَّها نشأت وسط نوع من أنواع الرعاية الفائقة والحنيَّة الفائضة والتدليل، وهي ما كانت تطلق عليها العرب نؤوم الضحى. وكذلك من مفردات التصغير التي وردت في القصيدة نجد كلمات الدفيفيق والبسيمتو وقصيبة. وفي الأغنية إيَّاها تتناغم العبارات مع وشاحات وعواطف أهل الرِّيف الشمالي في فن هو أشبه بزهرة في أوج تفتحها في نسيم الصَّباح، وقد صدق ذاك الذي عرَّف الفن بأنَّه "نشاط خلاق لدنيا موازية لعالم الواقع يجد فيه المرء المتعة والسلوى والترويح والرَّاحة، التي تشح في عالم الواقع المحسوس." وفي الحق، هذا ما نراه في هذه القصيدة المؤثِّرة. وليس أمامنا الآن سوى أن نسبح في هذا الخضم من الجمال الشعري عبر هذه القصيدة الفاتنة التي تتراشق فيها المشاعر العاطفيَّة بالمشاهد الطبيعيَّة مع حزن جارف لا يتوقف نزفه.
والغناوات القديمة، التي صدح بها وردي وأخذ يغنيها لاحقاً من أشعار شاعرنا إسماعيل حسن، كانت تحظى بإقبال كبير من جمهور غفير. وإذا هذه الأغنيات، بإيقاعاتها الجذَّابة وموسيقاها العذبة وترديدها الميسَّر، يثير في الشباب شيئاً من الإثارة عظيماً، ويوقد نار وجد الشيب بشيء من الإيقاد مستعظم؛ ثمَّ إذا هي تظل محفورة في الخيال الشعبي والوجدان السُّوداني كلَّما ذُكر شعراء وفنَّانون في السلك الغنائي. وما أحلى لحظات الكهول غير تلك اللحظات التي تذكِّرهم بالأمس الذي بلى وانجلى. ومن تلك الأغنيات الخوالد أغنية "خاف من الله"، التي فيها تتجسَّد شكوى وآلام المحب، كما يفعله الحب ويعتمله في الحشا المحروق.
لا شك في أنَّ الشاعر إسماعيل حسن كان شاعراً مكثاراً أنتج كثراً من الأشعار الغنائيَّة. فمن الأغنيات التي غنَّاها وردي للشاعر إسماعيل حسن "عودة" و"لو بكاي همَّاك" و"يا سلام منَّك" و"الحنين يا فؤادي" و"لو بهمسة" و"يا حلو" و"بعد إيه" و"حنيَّة" و"غلطة" و"المستحيل" و"نور العين" و"سؤال" و"الوصيَّة" وأخريات. وفي هذه الأعمال المشتركة تجلَّت عبقريَّة إسماعيل حسن الشعريَّة، وأصالة محمد وردي الفنيَّة في التغريد بقصائد إسماعيل حسن إيَّاها، والتي بوَّأته مكان الزعامة بين الفنانين الآخرين في عصره وعصرٍ أتٍ. وقد خلَّد الأثنان أغنيات ما تزال قادرة على دغدغة الأحاسيس بعد عقود على تقديمها لأول مرة. ففي أغنية "بعد أيه" نتحسَّس همسات الحنين والأشواق، والعواطف المشبوبة، التي ألهبت قلبه بالصبابة والهوى. وكذلك ما يسترعي الانتباه في هذه القصيدة الغنائيَّة طابع الحزن واللَّوعة، التي بثَّ فيها الشاعر ألمه وعتابه، ووجده وشكواه، وهو دامي القلب، دامع العينين، وذلك في مناجيات وجدانيَّة أبدع فيها الشاعر أيما إبداع. أما في أغنية "يا سلام منَّك" ففيها يتناول الشاعر إسماعيل حسن أسلوب الحوار العاطفي والعتاب الوجدي مع الطرف الآخر، حيث يعود إلى أسلوب وصف محاسن محبوبته في عيونها وكلامها وابتسامتها، التي كلها تشكِّل لوحة من الزينة الغراميَّة الحلوة، ثمَّ ينتقل الشاعر مشيراً إلى لونها وطبعها الهادئ الخالي من الشوائب مشبِّهاً إيَّاها بشجرة الفل وسط الحدائق وعطرها بعطر زهور أشجار الياسمين، وذلك في صورة تدلُّ دلالة واضحة على أنَّ محبوبته تراءت له في المنام في مناظر الطبيعة المختلفة.
أما في أغنية "الحنين يا فؤادي" ففيها يخاطب الشاعر إسماعيل حسن فؤاده المعذَّب، ويحاول أن يخفِّف عنه وطأة نيران العذاب، التي يكتوى بها ممن يهوى، بهذه الكلمات والعبارات وبمفردة معلومة في وا الاستغاثة، كما أتى بها في "وا هلاكي" في أغنية "القمر بوبا"، وها هو يرِّددها هنا في أغنية "الحنين يا فؤادي" في كلمات "وا سهادي" و"وا شقاي" و"وا عذابي"، وكما سنرى لاحقاً في أغنية "وا أسفاي". و"وا" هنا للاستغاثة – كما قلنا آنفاً – ومن سمعها كان عليه واجب إغاثة الملهوف، كما صاحت المرأة الأنصاريَّة في سوق بني قينقاع: وا محمداه، وجاءها الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: لبيك؛ أو كما صرخت إحدى السبايا المسلمات في الأندلس – وا غوثاه يك يا حكم – من إغارة مملكتي استوريا وجليقة على ديار المسلمين الأندلسيَّة، وقُتِل الكثير من الرِّجال، وأُسِرت الكثيرات من النِّساء. مهما كان من شأنهم، ألم تر كيف يفعل الهيام أو الغرام بالعاشق المعشوق، وبخاصة حين يطول الخصام ويقل النوم ويعز المنام! على أيَّة حال، ففي قصيدة "الحنين يا فؤادي"، ذلك القلب الرَّائع الذي يبتغي حظاً سعيداً إلى ما بعد الأبد، يتذكَّر الملذَّات الماضية، ويأمل في انتهاب اللذَّات الحاضرة، إذ يقول الشاعر في بعض أبياتها:
أنا عارفك يا فؤادي
طال عذابك وا سهادي
وا شقاي أنا وا عذابي

هكذا بات الفنان محمد وردي يتعاون مع الشاعر إسماعيل حسن في الفترة التي امتدَّت ما بين (1958-1963م)، وبعدئذِ نشب خلاف بينهما امتدَّ زهاء عشرة أعوام منذ العام 1963م. على أيَّة حال، فقد لعب الإعلام ووسائل الصحافة أيامئذٍ دوراً سيئاً في استعار نيران هذه الجفوة والبغضاء. ولا نكاد نرتاب في أنَّ الهُمزة اللُّمزة قد وجدوا ضالتهم في هذا الأمر، لأنَّهم في كل وادٍ يهيمون. والهمز – ها هنا – فعل مشين، يوصف به المشَّاء بنميم، والكانز للمال، واللئيم الانتهازي، وهو أيضاً النكش والنبش والنقر وسواه من الأفعال النكراء، و"ويل لكلِّ هُمزة لُّمزة" (الهمزة: 104/1). هذا، فإن كان قد وقع شجار بين محمد وردي وإسماعيل حسن، فلا سبيل إلى الشك في أنَّ خلافاً يقع دوماً بين النجوم في الأفلاك، وقد يصل إلى حد التَّصادم بينهما ويؤدِّى هذا الحراك الفلكي إلى سقوط الشُّهب والنيازك. كان يعتقد إسماعيل حسن أنَّ الشاعر ينبغي أن يتكسَّب ماديَّاً مثلما يفعل الفنان نفسه، كما أنَّه ادَّعى من جانبه أنَّه هو الذي أسهم في صعود وردي كفنان أعظم وأجل، وبالتَّالي يمكن أن يحطِّمه. غير أنَّ الشاعر مرسي صالح سراج هو الذي كان يتكبَّد المشاق في الرَّد على مزاعم إسماعيل حسن قائلاً: "لولا صوت محمد وردي لما عرف شعر إسماعيل حسن طريقه في الانتشار بالكيفيَّة التي بها ساد وعمَّ الوسط الفنِّي في السُّودان."
بيد أنَّ التعاون الفني كان قد عاد بين وردي وإسماعيل حسن بعد خروج الأول من سجون نظام مايو العام 1972م. وفي العام 1973م صدح له وردي بأغنية "وا أسفاي" بتنغيم فاتن مؤثِّر. وفي هذه الأغنية، والتي تضج حقاً بالألم والشكوى والاعتداد بالنَّفس، نجد مآثراً في مجال الاستعطاف ورثاء النَّفس والآمال العظيمة. ثمَّ إذ إنَّنا نلمح ونلمس في هذا النَّص الغنائي المؤثِّر الجودة الفنيَّة والموضوعيَّة، كما نجد فيه العاطفة المركَّزة وعلى أعلى المستويات، وهذا النَّص بحق إحدى إبداعات الشاعر، والتي حلَّق به إلى أعلى سماوات الفن الأدبي والإبداع الشعري. ومع ذلك، تعتبر هذه الأغنية آخر عنقود التعاون الفني بين وردي وإسماعيل حسن.
فبرغم من الاعتقال الذي تعرَّض له وردي العام 1971م ولمدة عام، إلا أنَّه استطاع أن ينجز أعمالاً هامة في داخل جدران المعتقل، وحين أُفرِج عنه غنَّى للناس أغاني رمزيَّة مثل "بناديها" و"الحزن القديم" و"قلت أرحل". إذ كان هناك ثمة هامش للحريَّة لم تطله يد السلطة المايويَّة بعد برغم من الملاحقات والاعتقالات وغيرها، لكن كان هناك الجو الذي يمكن الإصلاح فيه، وكانت المسارح معدَّة، والإذاعة تقيم السهرات الغنائيَّة، والتلفزيون كان فعَّالاً، ثمَّ كان الفن يفرض نفسه، وذلك كله قبل أن تصاب السلطة بالهوس الدِّيني العام 1983م.
ثم نقفز إلى أحد الشعراء العظام في مسيرة وردي الفنيَّة، ألا هو الشاعر الجيلي عبد المنعم عبَّاس. كان وردي، ذلكم الشاب الذي غيَّب الأجل عن ناظريه والديه إلى الأبد، قد تعرَّف على الشاعر الجيلي عبد المنعم عبَّاس باكراً، وحينه كان الأخير طالباً بمدرسة حنتوب الثانويَّة في ود مدني. إذ كتب الشاعر الجيلي عبد المنعم أغنية "أيَّامك" العام 1958م وهو ما يزال في الصف الثاني بالمرحلة الثانوية، و"الهوى الأول" بألمانيا وتغنَّى بها وردي في مستهل العام 1964م، ثمَّ جاء برائعته "مرحباً يا شوق" العام 1964م ليغنِّيها وردي العام 1965م.
أما قصيدة "مرحباً يا شوق"، والتي قصَّدها الشاعر الجيلي عبد المنعم بعد انتقاله إلى جامعة الخرطوم، فإنَّنا لا نكاد نعرف لها مناسبة، أو العلة التي في سبيلها نظَّم الشاعر هذه القصيدة الساحرة الماتعة، ولئن عرفنا تأريخ كتابتها والتغني بها. بيد أنَّ في القصيدة يصف الشاعر اللِّقاء السعيد الوجيز مرحِّباً بالشوق، وذلك في تصاوير دقيقة تجمع بين الفراشات وألوانها الزاهية في الطبيعة الخلَّابة، ونار الهوى الوقَّادة؛ ذلكم اللِّقاء الذي كان أشبه – من شدَّة قصره – بالطَّيف والخيال والرؤى. ثمَّ ينتقل بنا الشاعر في هذه القصيدة، التي هي بمثابة مناجاة شعريَّة تفيض إلهاماً وسحراً وإشراقاً، كما أنَّها تعجُّ بالتوسُّلات والابتهالات، إلى من يهواها وييثُّها شكواه وحرقة وجده، ويتحسَّر على غيابها، ويتمنَّى لو عادت لأنَّ القلب رهين بين يديها، وعيونه ظامئات للهوى.
وكذلك غنَّى وردي قصيدة "الحبيب العائد" للشاعر صدِّيق مدثِّر، وأغنية "عصفورة" للشاعر المبدع هاشم صديق. وتمثِّل هذه الأشعار الغنائيَّة آية في الجمال الإبداعي. فهناك من قال: "ربُّ كتاب جديد أصبح غذاءً لعقلك طول العام، وربُّ وجبة شهيَّة صارت غذاءً لجسمك طول العام، وربُّ لحظة جميلة شاعريَّة مع الصِّدق والإبداع صارت غذاءً لروحك وخيالك طول العمر."
أيَّاً كان من الأمر، ففي بكور شبابه أقام الشاعر علي حامد إيلا آدم – المعروف في الأوساط الأدبيَّة بأبي آمنة حامد – في منزل رئيس الوزراء السُّوداني عبد الله خليل في الخرطوم تحت إلحاح أبناء عبد الله خليل الذين تعلَّقوا بصداقتهم معه، وكان ذلك بعد أن قدم من شرق السُّودان إلى الخرطوم مع جدِّه حمد الأمين أحمد من قبيل الهدندوة البجاوي لحضور مؤتمر حزب الأمة، ونزلوا ضيوفاً في بيت أمين عام الحزب ورئيس الوزراء عبد الله خليل. وفي تلك الأثناء كان أبو آمنة حامد يقول شعراً متَّخذاً مواقفاً ضد سياسات حكومة عبد الله خليل، برغم من الضيافة والإقامة والانتماء إلى طائفة الأنصار عماد حزب الأمة. كان الزمان آنذاك يصافح القلوب بهناءته، ويداعب النفوس بمسراته، وكانت النفوس تنضح بالطِّيبة، وتعبق بالمودَّة، وتسيل بالإلفة والمحبة، وكان التعاون شعاراً، والترابط دثاراً. هكذا كان السُّودان أيَّام زمان بما توفَّر فيه من الحريَّات التي سخَّرها أبو آمنة حامد ولسان حاله يقول:
إذا كنت ذو رأي فكن ذو عزيمة فإنَّ فساد الرأي أن تتردَّدا

وإنَّ مساحة الحريَّة هذه لهي التي جعلت شاعرنا أبا آمنة حامد أن يبدع في قصائده بشيء من الإبداع عظيم، حتى أمست من أحسن فن علق في الهيام. وفي شروط المحبة والكلام باتت أشعاره كأنَّها روضة صمخت في صوب السحاب الهتَّان، فريدة في فنِّها، فائقة في حسنها، يطرب لسماعها الثكلان، وينشط لقراءتها الكسلان، ويعجب الأديب لانطباعها. إزاء هذا يعتبر أبو آمنة حامد من كبار كتَّاب الشعر الغنائي في السُّودان، حيث تغنَّى بأعماله الشعريَّة كبار المطربين السُّودانيين بينهم الفنان صلاح بن البادية في قصيدتي "الحرير" و"سال من شعرها الذهب"، والمطرب عبد الكريم الكابلي في قصيدة "جمال العربي". والجدير بالذكر أنَّ أبا آمنة حامد كان يعالج موضوعاته من خلال نماذج اجتماعيَّة وأخرى سياسيَّة؛ فقال متعاطياً مع ظاهرة الزواج بأجنبيَّات التي انتشرت في السُّودان في الستينيَّات من القرن المنصرم:
بنحب من بلدنا ما بره البلد
سودانيَّة تهوى عاشق ود بلد
بعيون المفاتن شي ما ليهو حد

وتعتبر هذه القصيدة الغنائيَّة من أروع أغاني الخواطر والوجدان والاعتزاز ببنت البلد، وتعكس الانتماء إلى هذه الرقعة الجغرافيَّة، والقصيدة في حد ذاتها عبارة عن بانوراما جغرافيَّة وتأريخيَّة واجتماعيَّة عن السُّودان، والتي فيها ذكر الشاعر نماذجاً من أضراب التنوُّع العرقي والقبلي الذي يمتاز به السُّودان. كان لزاماً عليه أن يذكر النُّوبة والأنقسنا والفور والزغاوة والمساليت وغيرهم لكي تكتمل الصورة، حتى لا يكون الخيال قاصراً على أعراق بعينها، أو يكتفي بالسكوت عند ذكر الغرب دون تخصيص للبقارة والنقارة؛ ثمَّ يا تُرى أين الكمبلا والوازا والكنوق (رقصة الداجو مثلاً)؟ مهما يكن من شيء، فأبو آمنة حامد هو ذلكم الشاعر الفذ الذي تغنَّى له أيضاً الفنان العملاق محمد الأمين في أبيات له تقول في مطلعها:
جانا الخبر شايلو النَّسيم
والليل يوشوش في الخمائل
هشَّ الزَّهر بكت الورود
سالت مشاعر النَّاس خمايل

هذا ما كان من أمر الشاعر أبي آمنة حامد، الذي أنجبه قبيل الهدندوة في ديار البجة؛ وإنَّ البجة لهي تلك القبيلة التي خرج من صلبها شعراء جهابذة أفذاذ وعلى ذكرهم إبراهيم العبادي (من قبيل العبابدة وهو بطن من بطون البجة)، وإسحق الحلنقي (من قبيل الحلنقة وهو الآخر بطن من بطون البجة)، ومحمد عثمان محمد صالح كجراي (وكجراي يعني المحارب بلغة السبدرات البجاويَّة التي ينتمي إليها الشاعر)، والأديب أبو علي أكلاب. وأهل البجة أهل شجاعة وكرامة ونبل كسالف عهدهم بتأريخهم، ويتسمُّون بهذه الصفات، مثل أحمد باركوين أحد ملوك البجة، وباركوين تعني الشخص الذي لا يعرف الخوف باللغة التبداويَّة، أي البجاويَّة.
وفي العام 1962م التقى وردي بالأستاذ المرحوم محمد عثمان محمد صالح كجراي في مدينة واو، والذي كان يعمل في حينه في مدرسة واو الأوليَّة، وكتب له أغنية "ما في داعي تقولي ما في داعي." ويتَّصف النَّص الكجراوي بمدى تعلُّق العاشق بعشيقته مالكة فؤاده التي أصبحت مع الأيَّام جرحاً غائراً في خاصرته وقلبه ومشاعره، ويقول مطلعها:
ما في داعي تقولي ما في داعي
يا ربيعاً عطره دافئ
لهفة الشوق في سلامك
وسحر غرامك ما هو خافي
...
عشنا في دنيا الصبابة
والسعادة فتحنا بابها

وكذلك لكجراي ذاته صدح وردي بأغنية "تاجوج"، والتي تقول كلماتها:
حروف اسمك بشارة خير حبابا
حروف اسمك نغم يسقي الغلابة
مع الأيَّام يزيد حسنك نضارة
عشان عينيك تخضر الصحارى
تردِّد ليك ألحان العذارى
نعيش باقي العمر في الرَّيد سكارى

وفي ذلكم العام، أي العام 1962م، كان وردي عائداً من رحلة فنيَّة قضاها في مدينة كوستي إلى الخرطوم. وعندما رست الباخرة، التي كان على متنها في مدينة الدويم، اشترى وردي مجلة "هنا أم درمان"، والتي وجد فيها قصيدة "الطير المهاجر" للشاعر المرحوم صلاح أحمد إبراهيم. فإذا بوردي يقوم بتلحينها قبل الاستئذان من شاعرها وفيما كانت الباخرة تمخر عباب النِّيل الأبيض، ثمَّ إذا هو يفرغ من تلحينها حين وصل إلى الخرطوم. وفي هذه الأغنيَّة تتجلَّى الفروق بين القديم عندهم والجديد عندنا، أي بين الحياة التي كان يحياها أهل القدمة وبين تلكم الحياة التي نعتاشها نحن أهل الجدة اليوم. وها هي الآن بالطبع قد تبدَّل كل شيء. فطريقة التعبير عن الود وكيف كانوا يحملونه ويهبونه تختلف كثيراً عمَّا جبل عليه جيل اليوم. فلا المنديل المطرَّز برسم قلب يخترقه سهم هو آية الحب اليوم، ولا الخطابات الطويلة في أوراق الفولسكاب، وبكلمات باتت مألوفة ومنقولة من كتب أفرغ مؤلِّفوها أنفسهم لكتابة هذا النمط من الكتب، هي أحاديث العصر.
بيد أنَّ جيل اليوم هو جيل الرسائل عبر البريد الإلكتروني أو الهواتف النقالة أو وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى. ومن هنا نستطيع أن نحكم أي أصحاب الحياتين استطاعوا أن ينقلوا عواطفهم ومشاعرهم من غير تزيُّد ولا تزوير. وهذه الأحاسيس الناشئة عن سمو في الأذواق تمثِّل قطعة من القلب الخافق بالحب، والنَّفس العامر بالجمال، وقد تكون دوماً أثبت على الزمن من الزمن نفسه ما دامت مفصحة عن حقيقة الإحساس الدائم، مفسِّرة لعاطفة صادقة، وأحاسيس قد تبدو غامضة عند المحبِّين. وفي هذا العمل الفني الرَّائع الرائق في "الطير المهاجر" تمتزج شخصيتا الرَّاوي والمروي عنه بنعومة كما تمتزج الأرواح العاشقة، فلا تستشعر نفوراً لتغيُّر المكان، ولا تحسُّ توجُّساً أو توحُّشاً من الارتحال بين الأزمان. فقد نسج الشاعر صلاح أحمد إبراهيم هذه القصيدة في دقة وبراعة شعريَّة كما يُنسج بساط فارسي من الصوف أو الحرير الطبيعي، دقيق الصنع، بارع الألوان، وبخاصة حينما جاء ذكر "الحبيبة البتشتغل في منديل حرير لحبيب بعيد"، وذلك للتَّعبير عن حرقة الشوق ولواعج الحب، وخلص إلى تأكيد حبِّه والإفصاح عن شوقه وتوقه إلى اللِّقاء بعد طول الحنين والشجن قائلاً: "وأنقل إليها وفاي ليها وحبِّي الأكيد".
على أي، فنحن لا ندري لثقافة المنديل أصلاً، ولا نكاد نهتدي له أمراً، ثمَّ لا نعرف من ذا الذي أتى بهذه الثقافة أولاً. غير أنَّه كان في العهد الفيكتوري أو ما قبل ذلك في بريطانيا إذا مرت فتاة ولمحت شاباً خلسة، وأُعجِبت به، واجتذب قلبها له بفعل الجاذبيَّة العشقيَّة، فإنَّها لتلقي بمنديلها ذي التطريز الأنيق، ومن أجمل ما أنتجه بنانها المنمق، في قارعة الطريق بعد بضع خطوات وهي في سيرها مدَّعية بأنَّه سقط منها سهواً. وفي هذه الحال يقطف الشاب المنديل المسقوط ويناديها مخبراً إيَّاها بأنَّ منديلها قد سقط منها. ومن هنا تلتفت إليه الفتاة ويتجاذبان أطراف الحديث؛ فربما دعا الشاب الشابة إلى مرقص، وربما نما هذا الحديث وتطوَّر وبات وداً وحبَّاً، ثمَّ أدَّى إلى الخطوبة ثمَّ الاقتران الزوجي. وفي ذلك الحين من الزمان كانت العلاقات الجنسيَّة خارج الزواج أمراً غير مقبول أبداً، وكانت الفتاة التي تحمل سفاهة، أو المرأة المتزوِّجة التي تتورَّط في علاقات عاطفيَّة مع رجل آخر ويُكتشف أمرها كانوا يلقونها في ملجأ المجانين، وتبقى فيه حتى تُهلك وسط المجانين. وكان السلوك كله نابعاً من اعتقاد شائع وسط البريطانيين بأنَّ الشخص السليم عقليَّاً لا يمكن أن يقدم على فعلة كهذه؛ إذ لا بد أن يكون هذا السلوك صادراً من امرأة ملتاثة ومخبولة، أي جنَّت واختلط أمرها.
ومثلما أخفى الأستاذ الموسيقار محمد الأمين أغنية "زاد الشجون" للشاعر فضل الله محمد لمدة عشرين عاماً ليظهرها على الناس في حفل لندن الضخم العام 1981م وتطغي على الساحة الفنيَّة، كذلك أخفى وردي أغنية "الود" للشاعر المسرحي عمر الطيِّب الدوش، الذي فارق الحياة إلى مثواه الأخير العام 1998م. فقد مكثت القصيدة مع الأستاذ وردي خمس سنوات منذ العام 1965م، حتى غنَّاها للناس وأذاعها فيهم، وذلك بعد أن قام بتوزيعها في القاهرة. وما علينا الآن، إذاً، غير مباشرة الوجدان الشعري والشعوري الراقي والحزن الشفيف والوفاء المؤصل والعتاب الممضَّ والدراما الإبداعيَّة الإنسانيَّة المؤثِّرة عبر باقة ابن الدوش في أغنية "الحزن القديم".
ومن بعد، ننطلق إلى الشاعر التيجاني سعيد محمود حسنين، والمحامي الذائع الصيت والمعارض الشرس علي محمود حسنين هو عم شاعرنا إيَّاه. إذ يقول الشاعر التيجاني سعيد: "إنَّ الفتاة التي كانت مصدر إلهامي في (قصيدة) "من غير ميعاد" أحبَّها في ذات الوقت رجل آخر تبيَّن لي فيما بعد أنَّه كان أصدق عاطفة مني وأشدَّ تألُّقاً؛ فقد لفت انتباهها إليه أكثر مني، وفاز بها عن رضاها، وهذا مؤشِّر لنجاحه وإخفاقي." ويمضي التيجاني مستطرداً: "كانت هذه الفتاة جارتنا، وكانت تكبرني بسنين قليلة، وقد أحببتها جملة وتفصيلاً؛ أما هي فلم تكن تعبأ بي جملة وتفصيلاً. وقد تودَّدت إليها ببعض الأشعار.. فكأنَّما كنت أقدِّم إليها معادلات رياضيَّة أو عبارات هيروغليفيَّة، وبذلت كل الجهد لتلتفت إليَّ فلم تفعل. لقد كانت هزيمة لي بكل المقاييس، وكانت هي القصة العاطفيَّة الثانية التي احتسي فيها مرارة الحرمان. وفي اليوم الذي قدَّم فيه الرَّاحل الأستاذ محمد وردي هذه الأغنية على الهواء مباشرة.. كانت هذه الفتاة تشاهد التلفاز في بيتنا مع أسرتي.. فلما ذكر وردي اسمي قبل تقديم الأغنية التفتت إليَّ بدهشة شديدة وقالت لي: هل أنت المقصود؟ قلت لها: طبعاً، فقالت لي: وفيمن كتبت هذه الأغنية؟ فقلت لها: في واحدة من جاراتنا! فتبسَّمت ولم تزد على ذلك، وكانت هذه الابتسامة هي كل ما نلته من قصة حب أرَّختها هذه الأغنية. شاع الخبر بعد ذلك أنَّ التيجاني كتب هذه الأغنية في فلانة فكنت أحسُّ أنَّها راضية بهذا الأمر، ولكنها في الوقت ذاته لم تبد أيَّة مشاعر إيجابيَّة نحوي."
ومن هنا أيقن التيجاني سعيد بأنَّ الشاعر ولو كان النابغة الذبياني أو ابن الرُّومي أو المتنبي أو البحتري لا يمكن أن يستحوز على قلب فتاة بشعره، ولو حدث ذلك فسيكون لإنسانيَّته فقط. وكان التيجاني سعيد قد كتب هذه القصيدة في زمن يسير، وكان وقتها في السنة النهائيَّة بالمدرسة الثانويَّة، وقد وصلت هذه الأغنية للأستاذ وردي عن طريق الصحف. إذ قام بنشرها والتقديم لها صديقه الشاعر الأستاذ الشاعر محمد يوسف موسى، وإذ لم يصدِّق التيجاني وصول خبر قبول الأستاذ وردي لهذه الأغنية. وفي أول لقاء بين التيجاني سعيد ووردي قال له وردي مداعباً: "لو كنت عارفك شافع ما كنت غنيت ليك!" كان ذلكم اللِّقاء العام 1969م.
مهما يكن من شأن، فسيظل الشاعر التيجاني سعيد أحد الأعلام الشاعريَّة في مسيرة وردي الغنائيَّة. فقد كانت أغنية "من غير ميعاد" سبباً في قصة حب فاشلة خاضها الشاعر التيجاني سعيد مع فتاة أخرى تمخَّضت عنها أغنيته الثانية "قلت أرحل"، وذلك بعد مرور أربع سنوات من تجربة الأغنية الأولى. أما حكاية أغنية "قلت أرحل" فيقول الشاعر التيجاني سعيد إنَّها لسوف تُروى للأجيال وتذاع في الناس بعد وفاته إن شاء الله. هكذا لحَّن ووزَّع وغنَّى وردي قصيدة "قلت أرحل".
مهما يكن من شيء، فمن منا لم يسعد بالاستماع إلى وردي والاستمتاع إليه وهو يغني بأغنية "شوفوني أنا مخطوبة" للشاعر السِّر دوليب، والذي يقول في مخرجات كلماتها:
حبيبي فكِّر وقدِّر
أيه الجيبتو ليك.. هديَّة
أزاهر.. لا، جواهر .. لا
هديَّة فيها حرفي وحرفِكِ
وذكرى حبَّنا مكتوب
مكان يدينِكِ الحلوة
تزين لبنانك المخضوبة
تخليك تفرحي وتقولي
شوفوني أنا مخطوبة

والفتاة – حسب علمنا – تبلغ قمة سعادتها وتصل أوج الاغتباط والمسرَّة حين تتم خطوبتها، وتوضع الدِّبلة أو الخاتم المجوهر أو المعسجد على أصبعها، وتنطلق إلى أهلها تتمطَّى، وإلى صواحبها وأترابها تشاورهن، وتفصح لهن قائلة: "شوفوني أنا مخطوبة"، وبخاصة إذا عشقت الفتاة، والتي في عيونها المفاتن أو ذات الخدود الشاربة من شفق المغارب، ود بلد، وهامت به، ثمَّ تعلَّق به قلبها. ولكن كيف استطاعت هذه القطعة الصغيرة من الخاتم المصنوع من الفضة أو الذهب أو الماس المجوهر، والتي تتختَّم بها النِّساء في أرجاء العالم، أن تلعب دوراً بارزاً في العلاقات العاطفيَّة بين الزوجين الذكر والأنثى على مر الدُّهور؟
ففي هذا الشأن يتنافس المتنافسون والمؤرِّخون في تحديد الزمان والمكان اللذين ظهرت فيهما عادة التختُّم بخواتم معدنيَّة، لأنَّ المواد الطبيعيَّة – حزمة أعشاب أو جلد حيوان على سبيل المثال – التي كان يستخدمها المحبُّون والعشَّاق كخواتم في الماضي لم تُكتب لها الديمومة. إذ أنَّ أصول الخواتم كرمز للحب والود تعود إلى قدماء المصريين، وذلك منذ العام 3.000 ق.م.، وكانت هذه الحلقة الدائريَّة تُنظر إليها بأنَّها رمز الاستدامة، ثمَّ كان الخاتم يُصنع من الدغل أو حزمة من قصب أو خيوط القنَّب، وأخيراً من العظام أو الجلود أو العاج، وذلك في سبيل التَّعبير عن الحب الذي لا نهاية له. هكذا كان قدماء المصريين يلبسون خواتمهم على الأصبع الرَّابعة من اليد اليسرى، لأنَّهم كانوا يعتقدون في أعظم ما يكون الاعتقاد أنَّ بداخل هذه الأصبع عرقاً، الذي سمَّوه الرومان عرق الحب، يتَّصل مباشرة بالقلب. وفي تلك الأثناء في رومة القديمة كان يتزيَّن الرِّجال بحلقات خواتم للتَّعبير عن ملكيَّة الأعمال والممتلكات. وبعد بضع سنوات امتدَّت هذه الممارسة لتشمل تودُّد ومغازلة الرَّجل للفتاة التي يهدي لها حلقة حديديَّة لترمز بأنَّها تابعة له.
ولعلَّ أول تسجيل لاستخدام الماس كخاتم خطوبة كان ذلك العام 1477م، وذلك حين اشترى الأرشيدوق ماكسيميليان (أمير من أمراء الإمبراطوريَّة سابقاً) في النمسا خاتماً مزيَّناً بالماس في شكل الحرف الأفرنجي "أم" من أجل خطوبة ماري آل بورغندي. بيد أنَّ عادة استخدام خاتمين مختلفين – واحد للخطوبة والآخر للزواج – جديدة كل الجدة. هكذا ظلَّت الخواتم عنصراً هاماً في مراسيم الاقتران الزوجي منذ أمدٍ بعيد، برغم من أنَّ أغلب الأزواج كانوا قد اكتفوا بخاتم واحد، وذلك للاستخدام في الخطوبة والزواج معاً.
وقبيل نهاية الحرب العالميَّة الثانية العام 1945م احتوت 10% من خواتم الخطوبة – التي تمَّ بيعها – على الماس، ولكن بعد نهاية القرن العشرين من الميلاد ارتفعت النسبة إلى 80%. وفي خلال القرن العشرين حتى اليوم تصدَّرت خواتم الماس العناوين الرئيسة في الصحف والإعلانات، من 33% قيراط من الخاتم المرصَّع بجوهرة كروب، الذي اشتراه ريتشارد بيرتون لإليزابيث تايلور العام 1968م، وكذلك العينة الضخمة البالغة 69 قيراط، والتي اشتراها لها بعد العام، ثمَّ ذلكم خاتم الخطوبة الذي اشتراه كينيي ويست لكيمبرلي كاردشيان بمبلغ مقداره 5.2 مليون جنيهاً إسترلينيَّاً. بيد أنَّ هذه الجواهر الثمينة قد لا تضمن الحب الأبدي للزوجين. ففي العام 2014م خلص أساتذة اقتصاديُّون بجامعة إيموري إلى أنَّ أولئك الذين ينفقون أموالاً ضخمة في سبيل خواتم الخطوبة هم أكثر الناس عرضة للطلاق بنسبة 1.3 مرات. برغم من هذا كله يبدو أنَّ مستقبل خواتم الخطوبة مشرق. هذا ما كان من أمر خواتم الخطوبة.
برغم من الإنتاج الفني الوردي الغزير في الأغاني العاطفيَّة والوطنيَّة والحماسة، فلا مريَّة في أنَّه قد غلب على أعماله الموسيقيَّة الغناء العاطفي. ولا ندري كيف كان وردي يتخيَّر القصائد والأناشيد التي أدَّاها لحناً وعزفاً وتغنياً. بيد أنَّه كان يعثر على هذه القصائد تارة في مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح – كما أبنا أنفاً؛ أو كان يقدِّمها له شاعر القصيدة نفسه مباشرة تارة أخرى؛ أو عن طريق شاعر أو شخص آخر لصيق الصلة بالشاعر وله سابق معرفة بوردي تارة ثالثة. أما كيفيَّة ابتكاره للألحان فقد تكلَّم فيها وردي ما وسعه الكلام في اللقاءات الصحافيَّة، أو حينما كان يتسامر مع أقرانه وصحبه، أو في لحظات أداء الأغنيات على خشبة المسرح أو الإذاعة أو التلفاز، أو في المحاضرات العامة التي كان يقدِّمها وردي بين الحين والآخر. فالمتأمِّل في نغمات الأغنيات التي تغنَّى بها وردي لا يرتابه شك في أنَّها مستعارة من تغريد البلابل، أو صرخات الأطفال في لحظات الحبور، أو ضحكات العذارى الحسناوات في الرِّياض الخضراوات. هكذا انسابت هذه الألحان في أشعار عمالقة الشعر الغنائي في السُّودان.
وكذلك غنَّى وردي للشاعر إسحق الحلنقي أشعاراً كثراً وهي "أعزَّ الناس"، و"الحنين السكرة"، و"عصافير الخريف"، و"قطر النَّدى"، و"الصُّورة"، و"دوري يا أيام"، و"وسط الدائرة"، و"يللا وتعال يللا"، و"يا راجياني"، و"أقابلك". وأغنية "وسط الدائرة" هي تلك الأغنية التي صدح بها الفنان النُّوبي المصري محمد منير، وأدخلته في مشكل مع الفنان محمد وردي الذي اتَّهمه بأنَّه سرق إنتاجه. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ الفنان محمد منير تربطه علائق وثيقة بالمجتمع السُّوداني وبالمثقَّفين السُّودانيين، وهو من الذين تحدَّثوا عن الإبداع السُّوداني بقدر كبير من الإعجاب، وقد زار السُّودان عامي 1986 و1987م وأقام عدة حفلات تجاوب معه الشَّعب السُّوداني بشكل كبير، وتغنَّى بكثرٍ من الأغنيات السُّودانيَّة.
ولعلَّ أول أغنية سمعناها لوردي، وتلذَّذنا بكلماتها، وأحسسنا بمعانيها، كانت أغنية "قطر النَّدى". فقد سمعناها حينما كان يتغنَّى بها أحد أقاربنا، ومنذئذٍ تولى سماعنا لها في المذياع الذي كان يُسمع جيِّداً في تلك الأصقاع النائية من بلاد السُّودان. فكم كانت كلمات الأغنية معبِّرة ومعروفة لدينا، لأنَّنا كنا نشاهد قطرات النَّدى على الحشائش وأوراق الشجيرات حين نصحو في الصباح الباكر في موسم الخريف المطير؛ وكنا نسلو أنفسنا بمنظر هذه القطرات التي كانت تبدو كالدرر اللامعة في الضياء الباهر. فتتدلَّى هذه الأوراق المثقلة بقطرات النَّدى، لكنها لا تنسكب إلا حين تهب عليها رياحٌ خفيفة، أو يهشها أحدٌ منا بعصاه التي يستخدمها لهش غنمه، أو للتوكأ عليها، أو كانت له فيها مآرب أخرى. هذه القطرات المائيَّة كانت تسقط في جوف الأرض وتمنحها الحياة كما تفعل الأرواح في الأجساد الميِّتة، وكانت تتثاقل على الأفنان فتتثنَّى مائلة هي الأخرى كأنَّها سكارى بالنَّدى ويصدح كل من سمع الطائر المغرِّد؛ أو كما قصَّد في ذلك الشاعر الأندلسي الكبير حمديس الصقلي العاشق للطبيعة في إحدى قصائده المثيرة المورقة، والتي يقول في بعض أبياتها:
ذَاتَ قَطْر واصل جوف الثَّرى
كحياة الرُّوح في موت الجِسَدْ
فتثنَّى الغُصْنُ سُكر بالنَّدى
وتَغَنَّى سامع الطَّيرْ غردْ

وهل يمكننا أن نمضي في هذه الصفحات دون أن نذكر الشاعر محمد علي أبو قطاطي! كان أبو قطاطي – رحمه الله رحمة واسعة – شاعراً بات متيَّماً بالحب في لحظة ما من حياته برغم من أنَّه كان متزوِّجاً. غير أنَّه هام بفتاة أخرى وسعى ما وسعه السَّعي في سبيل الحصول على يدها وامتلاك حبَّها، والفوز برضاها، إلا أنَّ سعيه كان خسراناً مبيناً، وجاءت مساعيه هذه في قصيدة "المرسال". وفي القصيدة إيَّاها وقصائد أخرى شدا بها وردي يضيق أبو قطاطي بأنواع الصبابة، ويشغل بها نفسه انشغال المشوق المصبَّأ، الذي رمته الليالي بأقسى النوائب، وأمسى يقضي نهاره بالأماني الكواذب. فلم يكن أبو قطاطي كمن كان له معاهد مع فتاة وبات يبكيها لعهد تصرَّم، أو بعد الظعينة. وبما أنَّه بالكاد لم يفلح في اقتنائها شرع يسلو نفسه بالأسى حين يحزن، ويقرُّ على اليأس فؤاده الموطَّن، ويرسل أبكار المنى ويُهنَّأ بها. وللشاعر محمد علي أبو قطاطي قصائدة أخرى تغنَّى بها وردي وهي "المسكين" و"سوات العاصفة" و"شن بتقولوا" و"الناس القيافة". إزاء هذه الأغنيات المشبَّعة بالقصص والعواطف النبيلة يمكننا أن نطلق على الشاعر محمد علي أبو قطاطي مموِّل الأغنيات الوجديَّة. ومن منا لا يعشق الناس القيافة في دروب المحبَّة؛ ومن منا لا يرنو إلى الخدود النديَّة فهي هنيَّة، وفيها رقة وجاذبيَّة. وإذا كانت الوجنات تشبه أزهاراً موسميَّة، ولم تتعجَّل إلى قطفها في حينها، فإنَّها لتذبل وتُبتذل.
وفي مرحلة لاحقة اقترن اسم الفنان محمد وردي بالشاعر محجوب محمد شريف، والذي غنَّى له وردي عدداً من الروائع الخالدات. وعندما يغني قصيدة "جميلة ومستحيلة" للشاعر محجوب محمد شريف: "في لحا الأشجار كتبت/ نحت في صُمِّ الحجارة"، يعاود إلى ذكرانا حديث الشاعر المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير (1564-1616م)، الذي جاء على لسان روزالند، وذلك في مسرحيَّة "كما تشاء": "هناك شخص يتردَّد على الغابة ويسيء إلى أشجارها الفتيَّة بحفرة يحتفرها على قشورها اسم روزالند. إنَّه يعلِّق أناشيده على أشجار الزعرور ومراثيه على العوسج؛ وكلها تتنافس على تأليه اسم روزالند. لو كان لي أن التقي بهذا الواهم لأصف له دواءً ناجعاً، لأنَّه مصاب بحمى الحب اليوميَّة."
وفي تلاقي وردي مع محجوب محمد شريف أكثر من تلاقي فنِّي، بل هناك تفاعلات أخرى في السياسة وما كان الاثنان يحملان من مسلك سياسي اشتراكي. فقد غنَّى له وردي من الأغنيات العاطفيَّة "جميلة ومستحيلة" و"وردة صبيَّة" و"مجنونك" (1985م) و"السنبلاية"؛ وفي الأخيرة يقول الشاعر حينما "تزعلي مني مرة/ وانفعل مرَّات؛ تقبِّلي مني غادي/ وأتوسَّد ضراعي سكات".
هكذ غنى وردي لكثرٍ من الشعراء الميامين نذكر منهم على سبيل المثال – لا حصريَّاً – الشاعر الطَّاهر عبد الوهاب في أغنية "ما تخجلي"، والشاعر والملحن الطَّاهر إبراهيم في أغنية "حرَّمت الحب والرَّيدة"، والشاعر الصَّاوي عبد الكافي في أغنيتي "حبيب القلب" و"أمير الحسن"، والشاعر كمال محيسي في قصيدة "جمال الدنيا"، والشاعر عبد الرحمن الريَّح في "أسعد الأيَّام"، والشاعر محمد يوسف موسى في أغنية "عذِّبني وزيد عذابك"، وحسن عبد الوهاب في "يا ناسينا"، وعلي عبد القيوم في "عويناتك تخلي الدُّنيا شمسيَّة"، ومبارك بشير في "يا نسمة"، والجيلي محمد صالح في "الحبيب"، وصابر عبد الله في "الريلة" ولئن كان قد حسَّنها إسماعيل حسن وأدخل عليها بعض التعديلات، ومحمد الحسن دكتور في "أماسي الغربة" وآخرين وهم كانوا كثراً. وهل ننسى الشاعر إبراهيم الرَّشيد في "سليم الذوق"، والتي تقول فواتح أبياتها:
سليم الذوق لو تعرف الشوق
أبقى أنزل من علاك الفوق
شوف عمايل الحب في الحشا المحروق

وقد أمدَّ هؤلاء الشعراء المرهفون وردي بروائع شعريَّة مدَّت ظلالها العميقة على الوجدان السُّوداني في عصره إلى أن أمسوا كواكباً شعريَّة مضيئة ضخمة في سماء الفن السُّوداني الرحب. فمن كان له حظ وافر في الفن في أن يستمع إلى ويستمتع بالموسيقار وردي بإعجاب وعجب فسيجول في خاطره صوت الرَّعد في موسم الخريف، وصفير الرِّياح وسط أوراق الشجر في الرِّياض البهيَّة، وخرير المياه المترقرقة في الجداول، وشقشقة العصافير على الأفنان، وهديل الحمائم في الحدائق الغنَّاء، ورحلة عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو، ورحيق الأزاهر وسط النسايم العليلة. هذا، ففي الموقع الإسفيري للموسيقار محمد وردي نجده كان قد تغنَّى بأكثر من 300 أغنية لكثرٍ من الشعراء فاق عددهم العشرين، وأوعب وأوعى – أي استوعب وحفظ – وسجَّل هذه المباذل الفنيَّة. وفي إصداح وردي بهذا الكم الهائل من الأغنيات والأناشيد، وإنذار عمره كله في صناعة الموسيقى، قد أخلد في سيرته الموسيقيَّة شيئاً من العظمة شديداً، وحفظ هذه الأغاني لحناً وتوزيعاً موسيقيَّاً وتجديداً هو أكثر ما تميَّز به وردي في الذاكرة الذاتيَّة، أو ذاتيَّة الذاكرة (Autobiographical memory).

 

آراء