في ذكرى شعلة النِّضال ومنارة الحريَّة: يوسف كوَّة مكِّي
shurkiano@yahoo.co.uk
بادئ ذي بدء، كان يوسف كوَّة مكِّي متزمِّتاً في قضيَّة النُّوبة وهُويَّتهم، وكانت له عاطفة جيَّاشة، وأسلوب فريد في الحوار والإقناع، وبصيرة نافذة، وحكمة راجحة. وفي القول المأثور: "الحكمة تتبرَّر بأعمالها"، أي تتبرَّر أو تتبرهن فاعليتها حين تبرز أفضل ما في شخصيتنا، حتى يمسي الحكم على الأفعال بنتائجها لا بصورتها ومراميها. فلم يعتل يوسف ما اعتلاه من القيادة الرَّائدة من قيمة الدَّم والنَّسب، أو ما يجنيه البعض من توارث المكانة الاجتماعيَّة بعيداً عن المعايير الموضوعيَّة من كفاءة شخصيَّة أو قيمة أخلاقيَّة، بل كان أهلاً لذلك. هكذا نجد أنَّ الميزات إيَّاها هي التي أهَّلته أن ينال إعجاب النُّوبة على وجه الخصوص، وأهل السُّودان بشكل عام. ولعلَّ الخصال، التي ذكرناها لكم آنفاً، لا تتَّسع أن تتوفَّر إلا في شخصيَّة ذات فضيلة، وهي ثمرة من الأثمار المرغوبة في الرِّجال العظام. ولا ريب في أنَّ الحديث المقنع يعتبر أعظم إنجاز من التفكير المجرَّد الحاد، لأنَّ التفكير ينتهي بصاحبه في نفسه لنفسه؛ أما الكلام المسموع فإنَّه ليصل بعيداً، ويفيد أولئك وهؤلاء الذين يتشاركون في نفس المجتمع. والناس يُعرَفون – إلى حدٍ بعيد – بالطريقة التي بها يتحدَّثون. ومن مميّزات القائد الناجح هو الاستفادة من الناس الأفاضل والجديرين، وأن ينشرح صدره للآراء المتباينة، وينشد العدالة والمساواة والسَّلام، وأن يعطي الشَّعب ما يريد. إذاً، من هو يوسف كوَّة مكِّي؟
ولد يوسف كوَّة مكِّي العام 1945م بعد أن عاد والده، الذي كان يعمل يومذاك جنديَّاً في قوة دفاع السُّودان (نواة القوات السُّودانيَّة المسلَّحة حاليَّاً)، إبَّان الاستعمار البريطاني-المصري في السُّودان (1898-1956م)، من حرب النُّوبة في تُليشي. وكان ذلك في منتصف الموسم المطير، وربما كان ذلك في شهر آب (أغسطس) كما حدَّثته والدته لاحقاً. فقد ولد في قرية الأخوال بمنطقة ميري، حيث يقف جبل الأخوال شامخاً، ولكن من يدري هل أخذ الجبل الاسم من أهل ميري، أم أهل ميري هم الذين أخذوا اسمهم من هذا الجبل الشامخ كالطود، وكذلك الحال لقبيل لمون، حيث يمثِّل اسم جبل وأهله الذين يسكنون حوله.
أيَّاً كان الأمر، فبعد تمرُّده ضد معاملة بعض الأساتيذ العنصريين في المدرسة الأوليَّة، وتحسُّسه ببعض ملامح المجتمع العنصريَّة في السُّودان ضد النُّوبة وغيرهم من الشعوب السُّودانيَّة الأصلاء، وانخراطه باكراً في اتِّحاد عام جبال النُّوبة والنشاطات الاجتماعيَّة والثقافيَّة الأخرى في سبيل إبراز قضيَّة النُّوبة وهُويَّتهم، والاعتداد بأنفسهم، والاعتزاز بمجدهم، فكَّر يوسف مليَّاً وقدَّر، ومن ثمَّ اهتدى إلى رؤية مفادها أنَّ هناك ثمة شيئاً خطأً ما في دولة السُّودان، أو باللغة "الشكسبيريَّة" في مسرحيَّة هاملت: "إنَّ ثمة شيئاً نتناً في دولة الدينمارك"، وينبغي تصويبه. وهنا تبرز حكمة التفريق الإغريقي القديم بين الركون إلى الحياة المأمول من جهة، وركوب المخاطر العمليَّة في سبيل التغيير إلى ما هو أفضل من جهة أخرى. وفي المبتدأ أقرَّ يوسف بأنَّ مسألة السُّودان كقطر عربي هو خطأ أساس ابتنت عليه السُّودانويَّة. ومن ثمَّ رأى بأنَّ واجبه أن يعمل شيئاً ما.
ففي العام 1977م، ومع بعض طلاب النُّوبة، عقد يوسف مع هؤلاء الطلبة سمناراً في الخرطوم لكل عموم أبناء النُّوبة، الذين رغبوا في ألحَّ ما تكون الرَّغبة في تغيير الأوضاع آنذاك. وإذا النقاش يستمر لمدة أربعة أيام حسوماً؛ وإذا الحاضرون يخلصون إلى أنَّ شيئين يفرِّقان النُّوبة: الدِّين والقبليَّة؛ ثمَّ إذا هم يقرُّون بأنَّهم إن أرادوا تغيير الأشياء فينبغي عليهم أن يعملوا من داخل النِّظام. وبما أنَّ النُّوبة لا يحبذون السياسة – والقول هنا للناشط يوسف حينذاك – فإنَّهم اعتزموا على تجنيد الشباب في مقتبل العمر لأنَّهم في هذه السن الباكرة لا ينتمون إلى أي حزب سياسي، ونظَّموا أسبوع النُّوبة برقصات النُّوبة الشعبيَّة المختلفة؛ فالأغاني القبليَّة هي في حقيقة الأمر مستودعات للتأريخ السياسي والاجتماعي والإرث الثقافي لكل أمة. وكذلك اعتمدوا أسلوب الطبخ النُّوبوي بصنوفه المتعدِّدة. إذ طبخوا البليلة والعصيدة، وجادلوا في أحداث تأريخ النُّوبة الهامة، وقارنوا وقاربوا بين لغات النُّوبة في جبال النُّوبة من جانب، والنُّوبا في أقصى شمال السُّودان من جانب آخر. كان ذلك الأسبوع أسبوعاً نوبويَّاً ناجحاً بكل ما تحمله كلمة نجاح، ومن هنا بدأ كل شيء. هؤلاء الطلاب كانوا طلائع العمل الثوري، الذي ما تزال جذوته مشتعلة الآن في جبال النُّوبة، ويحمل رايته القائد عبد العزيز آدم الحلو. فما لم تتطاوع المعرفة لخدمة المجتمع تصبح هذه المعرفة إنجازاً قاحلاً أجرد غير ذي ثمرة. أفلم يكتب الخطيب الروماني الذائع الصيت سيسيرو قائلاً: "دع الآخرين يستحوا إذا دفنوا أنفسهم في الكتب دون أن ينتجوا منها شيئاً للفائدة المشتركة."
ولعلَّ سلوك هؤلاء المؤتمرين هذا كان قد جاء من دواعي العلاقة التأثيريَّة بين الثقافة والطبيعة. فإنَّ الجغرافيا والتأريخ والحكايات الشعبيَّة والعادات والمعتقدات والأساطير والصروح الجبليَّة كلها لعوامل مشتركة وسط النُّوبة. فإذا خُيِّر أحداً – كائناً ما كان – وأُعطِي فرصة أن يختار من بين كل أمم العالم حزمة المعتقدات التي يحسبها أنَّها الأفضل، فإنَّه حتماً سيختار تلك التي هي أصيلة في وطنه. فعلى سبيل المثال كان الهنود يشمئزُّون من الأغاريق الذين اعتادوا – فيما اعتادوا – على حرق جثث الوالدين؛ وكان الأغاريق – من جانب آخر – يرتعبون من الهنود الذين كانوا يأكلون جثمان الوالدين بعد قضاء نحبهما. ومع ذلك، كان كل قوم بما يعتقد فيه فرحاً. وبعد تغيُّر الزمان بات الهنود البوذيُّون يحرقون جثث موتاهم، بينما أمسى اليونانيُّون (الأغاريق) يدفنون أمواتهم.
مهما يكن من شأن، ففي ذلك الحين من الزمان رأى كثرٌ من السُّودانيين أن لا يعيروا الشؤون السياسيَّة أمرأ، واختاروا أن لا يتكلَّموا في كثرٍ من القضايا الجوهريَّة كحقوق أهل الهامش المسحوقة، ومن ثمَّ ارتأوا أن يحتفظوا بأفكارهم في أنفسهم لأنفسهم. إذ كان اختيارهم أن لا يقولوا الحق ولا شيئاً غير الحق هو السبيل الأساس من أجل البقاء على قيد الحياة سليماً معافاً. بيد أنَّ يوسفاً ارتأى في أنَّ النأي بالنفس عن هذه المبادئ الأخلاقيَّة، والمسؤوليَّة الوطنيَّة، وهجرها هجراً مليَّاً، قد يجعل الناس لا يدركون من أمر حقوقهم شيئاً. إذ أنَّه عندما يرزح المواطنون تحت نير حكومات ظالمة فاجرة تصبح المساواة المفترى عليها وهماً كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. ولئلا تتبدَّد المعايير التقليديَّة عند النُّوبة، وتتهدَّم القيم الأخلاقيَّة والبناء الاجتماعي، والصرح الثقافي، سعى يوسف والذين اشتركوا معه في تنظيم هذا السمنار سمنار النُّوبة في الخرطوم سعياً حثيثاً في إعلاء هذه المثل. وبجرأته الفكريَّة ونبله الإنساني مزج يوسف مِزاجاً مقتدراً بين ما كان عند النُّوبة وما هو كائن وما ينبغي أن يكون. هكذا لم يكن يوسف هيَّاباً أبداً برغم من رعونة السلطة وقسوة أجهزتها الأمنيَّة؛ إذ هو اقتحم أفكاراً إشكاليَّة كبرى بطمأنينة قلب سليم وعقل مقتدر.
على أيَّة حال، فقد كان المناضل الأرجنتيني تشي غيفارا يصر على أنَّ الثورة الناجحة تحتاج فقط إلى مجموعة صغيرة من المحاربين المخلصين لتأسيس قاعدة ريفيَّة في منطقة نائية لبدء حرب العصابات. ومن هناك، وبالمساعدة المتزايدة من قبل السكان المحليين، يمكن تأسيس قواعد أخرى ريثما ينتفخ كل البلد بالتمرُّد. إذ أنَّ تشي غيفارا كان قد استخلص نظريته الثوريَّة هذه من التجربة الكوبيَّة في سيرا مايسترا بقيادة فيديل كاسترو، وكان هذا ما طبَّقه القائد يوسف كوَّة مكِّي بنجاح في جبال النُّوبة في جنوب كردفان، حتى ولئن فشلت هذه التجربة في بعض أرجاء العالم.
وبعد التحاقه بالحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بات يوسف من القادة الجريئين المقتدرين. إذ كان يوسف أول قائد في الجيش الشعبي لتحرير السُّودان يقبل بنشر مراقبين مستقلين في مجال حقوق الإنسان في مناطق إدارته في جبال النُّوبة، وطوَّر القضاء وجعل له أسناناً حداداً. إذ قال المحامي يوهانيس أجاوين: "كان يوسف عيِّنة نادرة في جميع حركات التحرير الإفريقيَّة. كان دوماً يعالج أي تجاوز لحقوق الإنسان ضد المدنيين، سواء جاء هذا التعدِّي من جندي أو ضابط، فالأمر لديه سيَّان."
وبنظرة قوميَّة ثاقبة، كان يوسف يحتاج إلى حلفاء. إذ كان الأمر سيكون عنده بمثابة انتحار لا انتصار إذا كان قد نظَّم حركة نضال النُّوبة مفكوكة من الجيش الشعبي لتحرير السُّودان. فأرض جبال النُّوبة حبيسة للجغرافيا، مما يصعب تحقيق بعضاً من المزايا القوميَّة دون سند خلفي. هكذا كان يوسف يلعب دور مركز الاتِّزان: ففي جانب أبدى إخلاصاً في أعظم ما يكون الإخلاص للدكتور جون قرنق والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بشكل عام، ولكن عمليَّاً لم يفرِّط قيد أنملة في خصوصيَّة النُّوبة وطموحاتهم. إذ ناضل النُّوبة طوعاً وولاءً لقائدهم يوسف وأهدافهم السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة بشيء من التضحية بأنفسهم وممتلكاتهم وأهليهم عظيم، ولقوا ما لقوا من المشقة الشاقة والعنت الشديد من الأنظمة الحاكمة في الخرطوم. ففي سنوات الحصار باتوا يتضاغون من شدَّة الجوع آناء الليل وأطراف النهار، ويمشون عراة وحفاة الأقدام، ومع ذلك لم تنهار عزيتمهم، ولم يلن معدنهم، ولم ينكسرعودهم. وفوق ذلك كله نجدهم كانوا قد رفضوا إغراءات وافتراءات رسل النِّظام "الإنقاذي" حين أخذوا يتوافدون إليهم تحت كل المسمَّيات، بما فيها فرية "السَّلام من الدَّاخل"، وذلك لأنَّ الحريَّة أغلى من الذهب المجوهر، وهي شيء لا يُشترى بأي ثمن، وكأنَّ لسان حالهم كان يقول كما ردَّد الشاعر المصري أمل دنقل (1940-1983م):
لا تصالح!
ولو منحوك الذَّهب..
أترى حين أفقأ عينيك..
ثمَّ أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى..؟
.. هي أشياء لا تُشترى
كان الجيش الشعبي لتحرير السُّودان – وما يزال – يعتمد كليَّاً على الأسلحة التي أمسى يغتنمها من جنود الحكومة السُّودانيَّة وميليشياتها المسلَّحة. ففي إحدى المعارك هزم الجيش الشعبي قوات النِّظام الخرطومي، واستولى على طوف عسكري كان مكوَّناً من أربع سيَّارات "تويوتا بيك أب"، وهي كانت محمَّلة بقطع مدافع صغيرة مثبَّتة في الخلف. إذ ذهب القائد يوسف مع بعض ضباطه ليتفقدون هذه الغنائم، فإذا هم يكتشفون أنَّ أفراد الجيش الشعبي قد قطَّعوا إطارات هذه المركبات إلى قطع ليصنعوا منها أحذية "تموت تخلي"، ومن ثمَّ أمست هذه العربات عديمة الجدوى، وبعدئذٍ تمَّ حرقها حتى لا تستطيع جنود النِّظام إعادة امتلاكها واستخدامها. كان يوسف يحكي هذه الحكاية بشيء من اليأس والتسلية معاً. وقد ظل – وما يزال – الهدف من الحرب من جانب الجيش الشعبي لتحرير السُّودان هو تدمير ماكينة الدولة الغشوم؛ أما من جانب الحكومة فإنَّها كانت - وما تزال – ترى بأنَّ لها الحق كل الحق في قتل المدافعين عن أنفسهم في مناطقهم التي فيها تدور دائرة الحرب. لذلك كان إذا وضع جند النِّظام سلاحهم واستسلموا، لا يصبحون أعداءً بعدئذٍ، بل مجرَّد مواطنين سودانيين ينبغي حفظ أرواحهم، لذلك كان هناك أسرى من قوات النِّظام وميليشياته لدي الجيش الشعبي لتحرير والسُّودان، بينما بالكاد لا تستطيع أن تجد أسيراً واحداً من الجيش الشعبي في سجون حكومات السُّودان. وحينما طلبت الحركة الشعبيَّة بتبادل الأسرى لم تستجب الحكومة السُّودانيَّة لذلك الطلب لعدم وجود أسرى عندها. أفلم يصرِّح الوالي السابق لولاية جنوب كردفان أحمد محمد هارون لوسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمنظورة وهو يخاطب جنده بأنَّه لا يريد أسرى، ولا يريد أعباءً إداريَّة، بمعنى تصفية الأسارى. وإذا كانت الحكومة لا تدِّخر حياة المتعاطفين مع الحركة الشعبية لتحرير السُّودان، ولا حتى المشتبه فيهم، فما يدريك بأولئك وهولاء الذين يأسرون في الحروب، برغم من أنَّ معادة جنيف تحث على صيانة أرواح الأسرى والاعتناء بهم.
وفي العام 1997م علت روح النُّوبة المعنويَّة بعد أن عقدوا مؤتمراً تشاوريَّاً في اتخاذ قرار جماعي في أمر الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة، وكان ذلك المؤتمر نواة للمجلس الاستشاري لجبال النُّوبة. وبعد نقاش مستفيض أصرَّ المؤتمرون على مواصلة النِّضال، وبخاصة النِّساء اللائي رجَّحن كفة مواصلة المقاومة، وذلك برغم من القصف الجوي اليومي من سلاح الطيران الحكومي بواسطة طائرات الأنتينوف التي كانت تقلع من مطار الأبيض. وقد أمست هذه القنابل لا تفرِّق بين الطفل الرَّضيع، أو الكتاتيب في مرحلة الكتَّاب، أو المرأة العجوز المغلوب على أمرها، أو الشيخ الهرم الذي بات يدبُّ على عصاه ويتوكأ عليها، أو المزارع في مزرعته، أو الصبية الرعاة وهم سائرون وراء مواشيهم، تقطِّع أعضاءهم، وتشوي أجسادهم، وكل ذلك من غير جُرم اجترموه، ولا مكروه ارتكبوه، ولا ثلمة في الإسلام ثلموه. إذ قصفت الحكومة المطار الذي كانت ستهبط فيها الطائرة التي حملت أبناء النُّوبة من الخارج، والقريَّة التي كانت مقراً للمؤتمر، وكذلك لم ينج المنزل الذي كان يقيم فيه يوسف كوَّة ذاته قبيل 24 ساعة من بدء المؤتمر. ففي هذا اللِّقاء التشاوري ذكر يوسف – فيما ذكر – أنَّه في حال اختيار أهل الجنوب الانفصال فعلى النُّوبة أن يختاروا إما أن ينضموا إلى الجنوب أو يظلوا في الشمال أو يختاروا الاستقلال التام. وكان لزاماً – وما يزال الأمر – على أهل الحكم في الخرطوم أن يعلموا أنَّ هؤلاء الشَّعب شعب جبال النُّوبة ينبغي أن يكون لهم حيز سياسي وفضاء ثقافي في المجتمع السُّوداني؛ فإذا لم يكونوا جزءً من الحل، فإنَّهم قطعاً لجزء من المشكل لأنَّهم يدافعون ويناضلون في سبيل القيم التي تجعل هذا البلد عظيماً. فحين ينظرون يمنة ويسرة لا يجدون انعكاسات هذه القيم في الحياة العامة التي يكافحون من أجل ارتيادها. ففي كلتا الحالتين إيَّاهما يستوجب إيجاد حلٍ لهما.
كان هذا من أمر يوسف وشعبه. فقد جسَّد نفسه لخدمة شعبه النُّوبة وطاعته. وكقاعدة عامة فالشُّعوب ليست بفاسدة؛ إذ يمكن مخادعتها في بعض الأحايين، ولكن ليس في كل الأحايين. ومع ذلك، نجد أنَّ إرادة الشُّعوب في أغلب القضايا واضحة في أشد ما يكون الوضوح، ويستوجب على الساسة فقط اتِّباعها. ولعلَّ السُّودان اليوم يمكن أن نصفه ب"الدولة العميقة" (Deep state)، ويعني النعت، الذي يعود إلى أصول تركيَّة، الدولة البوليسيَّة (الاستخباراتيَّة) والعسكريَّة، وذات القضاء غير المستقل، وتفيض بالجريمة المنظَّمة. وإنَّ الحكومة السُّودانيَّة اليوم لهجين من كل هذا وما دون ذلك. وهل يمكن أن نصف السُّودان ب"جمهوريَّة ديمقراطيَّة"؟ كلا! فالجمهوريَّة من لفظتها الإنكليزيَّة (Republic)، التي إن حاولنا تشريحها تُمسي "إعادة النظام العام أو المنظومة العامة"، ولا تصلح الدولة أيَّة دولة أن تُسمَّى جمهوريَّة إذا فاشل القائمون على أمرها من السياسيين في الحفاظ عليها أو إعادة صيانتها، بل فرَّطوا في وحدتها الوطنيَّة، حتى انفصل جزء عزيز منها بفشل سياساتهم العرجاء. أما الدِّيمقراطيَّة فعلاجها يكمن في المزيد من الدِّيمقراطيَّة، برغم من أنَّها يمكن استمالتها بواسطة إرادة قلة قليلة لرعاية مصالحها دون درء مفاسدها.
فالقضايا الهامة التي يستوجب أن تثير اهتمام الناس في ولاية جنوب كردفان خاصة، والسُّودان عامة، هي قضايا المؤسسات الدستوريَّة. فقد أدرك الفلاسفة في الغرب هذه المسألة الجوهريَّة منذ آماد بعيدة؛ فها هو الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو (1689-1755م) يعلن على الملأ في أشهر آثاره "روح القوانين" (1748م) بأنَّ عند ميلاد المجتمعات السياسيَّة كان قادة الجمهوريَّة هم الذين شكَّلوا المؤسسات، ولكن بعد ذلك كانت المؤسسات هى التي أمست تشكِّل قادة الجمهوريَّة. والتشريعات ما لم تأت من الشَّعب، وتنبع من الإرادة العامة لا تستحق تسميتها بالقوانين، بل مراسيم فوقيَّة يصدرها حاكم طاغية. هكذا توصَّل الرومان إلى هذه الحقيقة الأزليَّة، وبخاصة بعد أن أدركوا بأنَّ الديكتاتوريَّة التي انتعشت داخل حدود الإمبراطوريَّة، وأوشكت على تدميرها كانت بسبب وضع كل السلطة التشريعيَّة وسلطة السيادة في نفس الأيدي. وحتى العُشاريين أنفسهم لم يدَّعوا شيئاً لأنفسهم في سبيل سن أي قانون إعمالاً لسلطاتهم المخوَّلة لهم وحدهم؛ والعُشاري هو عضو المجلس العُشاري، وبخاصة أحد أعضاء مجلس العشرة الذي جمع قوانين رومة ونظَّمها. وقد أذاعوا في الناس – فيما أذاعوا – "بأنَّه ليس هناك ثمة ما سيقترحون لهم يمكن أن يمسي قانوناً دون موافقتهم؛ أيُّها الرومان، صيروا كاتبي القوانين التي سوف تؤكِّد سعادتكم."
فالمطلوب من الناس في السودان عموماً، ومناطق النِّزاعات المسلَّحة خصوصاً، أن يسخِّروا الناتج من محصلة قوى المواطنين في اتحاد اجتماعي لخدمة المصالح العامة لهم ولأهليهم. أما الصعوبة، التي يطرحها هذا التحدِّي، فيكمن في السؤال التالي: كيف يمكن التوافق على شكل التجمع الذي يدافع عن المصالح الفرديَّة في شكل محصِّلة القوى ومصالح أي عضو في هذا التجمع بقوَّة جمعيَّة؟ إذاً، ماذا يكسب الإنسان في هذا العقد الاجتماعي وماذا يخسر، وذلك في حساب الرِّبح والخسارة؟ إنَّه ليفقد التحرُّر الطبيعي والحق المطلق اللذان يكفلان له وضع يده على أي شيء يمكن يغريه وهو يستطيع أن يحوزه؛ وفي الآن نفسه يستطيع أن يكسب – بواسطة العقد الاجتماعي – التحرُّر المدني والحق القانوني في حيازة الممتلكات التي يملكها. وليست للحريَّة الطبيعيَّة حد غير القوَّة الماديَّة للشخص المعني بالأمر، أما الحريَّة المدنيَّة فمطوَّقة بالمصلحة العامة، ومن هنا ينبغي علينا أن نفرِّق بين الامتلاك (Possession)، الذي يعتمد فقط على القوَّة أو "حق المحتل الأول"، وبين الممتلكات (Property)، التي يجب أن يُؤسَّس على عنوان قانوني. وكذلك يستطيع الإنسان أن يجني – في العقد الاجتماعي – الحريَّة الأخلاقيَّة مع الحريَّة المدنيَّة، وهذه الحريَّة الأخلاقيَّة هي وحدها التي تجعله سيِّداً على نفسه؛ لأنَّ الاحتكام إلى شهوة الأغيار هو نمط من العبوديَّة، بينما الطاعة إلى القانون الذي اشترك الشخص في صوغه بنفسه هو الحريَّة ذاتها.
مهما يكن من شيء، فقد بقي لنا هنا أن نقول من نافلة القول إنَّه عندما ينتزع النُّوبة حريَّتهم فسنخلِّد ذكرى قادتنا العظام الميامين بإطلاق أسماءهم على الميادين العامة والمطارات والشوارع والمباني الحكوميَّة والمكتبات العامة والمستشفيات ومراكز العلاج وغيرها. فسيكون هناك شارع السلطان عجبنا من الدلنج إلى سلارا، ومستشفى مندي في سلارا، ومدرسة محمد جمعة نايل بالدلنج، وشارع يوسف كوَّة من كادقلى إلى الدلنج ومطار يوسف كوَّة في كادقلي، وقاعة يوسف كوَّة للمحاضرات بجامعة الدلنج، ومطار الأب فيليب غبوش في الدلنج، وشارع الفكي علي من كادقلي إلى ميري برَّة، وشارع المك كمبو (مك أهل الداير الذين وقفوا بصلابة ضد الأتراك-المصريين والمهديَّة معاً) من الرَّهد إلى جبل الداير، وميدان المك آدم أم دبالو في العباسيَّة، ومكتبة ميرغني ود تميم في رشاد في تقلي، وحماد الأحيمر والملازم عبد الرحمن شامبي وعباس برشم، ومحمود حسيب، والمك كوبانقو مك قبيل لافوفا الذي قاوم ضريبة الدقنيَّة، مما اضطرَّت السلطات الاستعماريَّة البريطانيَّة أن ترسل تجريدة عسكريَّة مدعومة بطائرة حربيَّة لإخضاعم بالقوة، حيث قصفت الطائرة قراهم، وقُبض على المك كوبانقو مع بعض أعوانه من القبيل وأُلقوا بهم في سجن كوبر حيث بقي فيه حتى وافته المنيَّة، وآخرين لم يسع المجال هنا لذكرهم. ونحن إذ نقول هذا ونوصي به ونحث عليه، حتى لا تمحو إنجازات النِّساء البواسل والرِّجال الأفاضل بعامل الزَّمن، وحتى لا تذهب الأعمال العظيمة والمدهشة للنُّوبة وغيرهم دون شهرة، وبخاصة السَّبب الذي من أجله ناضلوا، والعلة التي في سبيلها حاربهم غيرهم، أي – بأسلوب آخر – حتى لا تنطمس مآثرهم، أو تنهار هيبتهم في نفوس الأجيال الحاليَّة والمستقبليَّة. فالرَّحمة والخلود للشهداء في عليائهم، والنَّصر والشموخ للأحياء في دنياهم.
بل علينا أن نستدرك هنا، ولِمَ ننتظر فجر الحريَّة وصبح الانعتاق أفلا يجدر بنا أن نبدأ بإطلاق أسماء أولئك وهؤلاء على هذه المعالم المدنيَّة والمنشأت الحكوميَّة حتى يعتاد النشء عليها ويلموا بتواريخها قليلاً أو كثيراً، ويبتعدوا عن مسالك الاستعراب والاستغراب، وما استُنسخ من الأسماء المستوردة ككتيبة خالد بن الوليد والخنساء وتماضر وغيرهم؛ فلو خرج هؤلاء من قبورهم اليوم يتكلَّمون، أو لو كانوا أحياءً عند ربِّهم يرزقون وعلموا بالنُّوبة في جبال النُّوبة لكانوا قد قالوا فينا ما لا يرضينا أبداً، وقد يثيروا حفيظتنا لارتكاب أشياء لا تُحمد عقباه.
والجدير بالذكر أنَّ الشُّعوب والأمم والدول تطلق أسماء قادتهم المغاوير على المعالم الهامة والمنشآت العامة دون الاستعارة بأسماء شخصيَّات أجنبيَّة في هذا الأمر. فحين تهبط بك الطائرة في العاصمة الكينيَّة نيروبي فإنَّك لواجدٌ نفسك في مطار جومو كينياتا وهو كان قائد الاستقلال الكيني؛ وفي جوهانيسبورغ ترحِّب بك جمهوريَّة جنوب إفريقيا الخارجة لتوها من ربقة الأبرتاهيد (سياسة الفصل العنصري) في مطار وولتر سيسولو وهو كان أحد قادة المؤتمر الوطني الإفريقي، وفي باريس هناك مطار شارل ديغول، ذلك الجنرال الفرنسي الذي تزَّعم قوات فرنسا الحرة خلال الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، ثم بات رئيس الجمهوريَّة (1959-1969م)؛ وفي إسرائيل هناك مطار بين غوريون وهو كان أول رئيس وزراء الدولة العبريَّة؛ ثمَّ إنَّك لواجدٌ مطار جون أف كينيدى في نيويورك، وهو الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتَّحدة الأميريكيَّة (1961-1963م)؛ ونحن معشر شعب جبال النُّوبة لسنا باستثناء.
على أيٍّ، قال دانيال ديفو: "إنَّ الأشخاص الأفاضل لا يستطيعون تأجيل مصائرهم، فالطيِّبون يموتون باكراً؛ أما السيئون فإنَّهم ليموتون أجلاً." ويوسف كوَّة من هؤلاء الأخيار الذي أنجبته جبال النُّوبة وعجَّلته أقدار المنيَّة في يوم 31 أذار (مارس) 2011م في مستشفى نوريتش بالمملكة المتَّحدة إثر علة لم تمهله زمناً طويلاً حتى يحقِّق ما كان يصبو له ويحلم به لشعبه النُّوبة في جبال النُّوبة على وجه الخصوص والسُّودان على وجه العموم.
والسَّلام عليكم،،،
ودمتم ذخراً للنُّوبة خاصة، والسُّودان الجديد عامة
بولتون، بريطانيا، السبت، 23/4/2016م