في صحبة د. يوسف النحاس (المصري الذي عشق السودان)

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

1

ربما ولد هذا المقال في زمن طفت فيه على السطح حدة الخلافات السياسية و الشعبية بين السودان و مصر بشكل أوسع من أي عهد سبق .
لا تهدأ الأمور قليلا حتى تأتي ناغصة لتثير الأعلام بين البلدين الجارين ، فيتبادل الجميع الشتائم و الأوصاف المقززة و القبيحة ، ثم سرعان ما يعود الوضع من جديد نحو السبات و تبادل الكلام المعسول و المصطلحات التقليدية المنمقة عن أزلية العلاقة بين البلدين التي درج السياسيون و الأعلاميون لقولها عند تلك الظروف .
هذه الحالة الكيميائية السياسية الغير مستقرة و التي تميزت بها على الدوام العلاقات السودانية المصرية ، وصفها الكثيرون وصفا طريفا بأنهما جارين ( إما يكونا حبايب أو يرجعا حلايب) .
وهي حالة نتجت للأسف الشديد بسبب تعليق حل مشكل المثلث الحدودي لعقود طويلة ، و فشل النخبة الحاكمة في كلا البلدين في تشكيل علاقة أقتصادية أستراتيجية قوية و راسخة تجعل المصالح و المنافع تعلو على العواطف و الأهواء السياسية المتقلبة و القضايا الخلافية .
فمفهوم الأمن القومي و العمق الأستراتيجي للدولتين لا يكتمل ألا بمحاصصة أحد الطرفين للأخر .
و ربما نجزم أن تشكيل مشاريع أقتصادية عملاقة سوف يسهم بشكل كبير في تقريب وجهات النظر في القضايا الخلافية ، و سوف يعمل على تحقيق هذا البعد الأمني بما يعود بالنفع أيجابا على مسألة أستقرار العلاقات السياسية بين البلدين .
و سوف يكون على صانع القرار السياسي أيضا رعاية و حماية هذه المصالح الأقتصادية و الحرص على تطويرها لأنها تمس في الأخير معاش و حياة أنسان وداي النيل شماله و جنوبه .
هذه المقدمة كان لزاما علي أن أقولها رغم أن وصف الحالة بين البلدين حاليا أضحى معلوما للقاصي و الداني و الجاهل و العالم .
و لكن الحاضر الذي أتحدث عنه الآن ألقى بظلاله في مخيلتي و دفعني دفعا لربطه و مقارنته بالماضي ، وأنا أقرأ ذكريات الخبير الأقتصادي الراحل الدكتور يوسف بك النحاس لآخر زيارة له للسودان من 2 يناير الى 4 مارس عام 1945 م برفقة الشاعر الكبير خليل مطران .
و الدكتور يوسف بك النحاس من أبرز رجالات الأقتصاد المصري في فترة الثلاثينات و الأربعينات من القرن الماضي قولا و فعلا و روحا و فنا ، و هو أيضا من رواد النقابة الزراعية المصرية حيث سكب فيها عصارة علمه و جهده بذلا و عطاءا من أجل قيام نهضة أقتصادية زراعية لبلده .
بدأت علاقته و عشقه للسودان و بداية معرفته اللصيقة بأنسانه منذ أن كان عضوا في أول بعثة أقتصادية مصرية جاءت للسودان ، ثم تطورت هذه العلاقة و ترسخت عندما عُين في لجنة السودان الدائمة ، فأصبح من بعدها زائرا دائما للبلاد .
تفحصت جيدا الكتاب الذي أصدره بعنوان ( ذكريات السودان ) ، فوجدت فيه سفرا تأريخيا مهما يجدر التوقف بالكتابة عنه لأنه أحالني الى مدارات كل الأسئلة و الأستفهامات العويصة التي حكمت شكل تفاعل العقل السياسي و الثقافي و الأعلامي المصري مع نظيره السوداني في معظم القضايا و الأشكالات التي تحكم العلاقة الأزلية بين البلدين .
فعلى سبيل المثال فقط و ليس الحصر يبدر للأذهان كثيرا في يومنا هذا عند معظم السودانيين التساؤل المشروع و المتكرر دوما في عالم الأقتصاد و السياسة عن نوايا الحكومات المصرية أيٍ كانت تلك الحكومات في رؤية السودان بلدا معافى أقتصاديا و سياسيا و متطور تنمويا ؟
نفس هذا التساؤل كان على د. يوسف بك النحاس أن يجد له الأجابة عندما حاصره الصحافة السودانية في أثناء زيارته في العام 1945م و سألته في عدة مسائل أقتصادية و ألحت عليه في ذلك من شاكلة .......
هل توسيع نطاق الزراعة في السودان يتعارض مع مصلحة مصر الزراعية ؟
هل تعديل أتفاقية النيل بما يوفر للسودان قسطا أكبر من المياه يتعارض مع مصلحة مصر العليا ؟
ما هو مقدار الأستعداد و الرغبة لدى صانع القرار المصري للأستثمار في السودان ؟
القارئ لهذه التساؤلات يلمس الى اي مدى ترسخ لدى العقل السوداني ومنذ أمد بعيد الشك والظن و الأرتياب من رغبة الحكومة المصرية الأرتباط بشكل قوي و واضح أقتصاديا في أطار تطوير و تنمية الجار الجنوبي رغم أن كل المؤشرات الجيوسياسية الواقعية تفرض العكس .
هذه الظنون و الشكوك لدى معظم السودانيين عضدها الفتور الذي أبدته معظم الحكومات المصرية في أحداث أي نقلة معرفية أو أعلامية أو ثقافية أو تربوية بين البلدين تمكن المواطن المصري بأن يكون ملما بشكل جيد بالحالة السودانية أي كانت سياسيا أو ثقافيا أو سياحيا أو أعلاميا .
و حتى نكون منصفين أمام أنفسنا ، ليس من باب العدل أن نرمي باللائمة نحو مصر في فشل نخبنا في إدارة الدولة و التعريف بها و أخراجها من عنوان ( الجهل المصري بالسودان ) .
أو في فشل نخبنا في إدارة الدولة و الحيد بها عن الدخول في نفق الفقر و الحروب و المرض التي ظلت ترزح فيه منذ الأستقلال ، و لكننا فقط أحببنا أن نشير بأصابع التوثيق عن ماضي و أصول تلك الحالة النفسية التي ظلت تتلبس بها هذه العلاقة على مدى عقود القرن الماضي دون أن نغفل عوامل التاريخ السياسية الأخرى .
يقول د. يوسف بك النحاس أن السودانيين في أثناء نفس الزيارة التي وثقها في كتابه كانوا يبدون أسفهم في أكثر من مناسبة من أن المصريين لا يزورون السودان إلا نادرا ، ولا يسعون إلى تقوية العلاقات الثقافية و الروابط الأقتصادية معنا .
ولذلك فقد أقترح في تقرير رفعه للدوائر الحكومية المهتمة بأمر العلاقات السودانية المصرية و نشره في كتابه أن يكثر رجال الدولة المصرية و كذلك رجال المال و الأعمال و الهيئات الزراعية و الصناعية و التجارية من زيارة السودان حتى يكون هذا التزاور مدعاة لحسن التفاهم و تبادل المنافع و تقوية الروابط .
وهنا يحضرني الموقف الذي حكاه سفير مصر السابق أسامة شلتوت في مقابلة أجريت معه قبل عدة شهور مع د.سيد فليفل في قناة الحدث اليوم بعنوان .... العلاقات السودانية المصرية إلى أين ؟
ذكر أ. أسامة شلتوت أنه عندما كان سفيرا لمصر في دولة الأمارات العربية المتحدة صادف تحديد الشارقة عاصمة للثقافة العربية فجاء ممثلا لمصر وزير الثقافة أنذاك فاروق حسني و معه جيش جرار من قيادات و أعلام الثقافة في مصر متهافتين للمشاركة في هذا الحدث .
ثم صادف أيضا بعدها أنه عندما جاء للسودان سفيرا لمصر تم تحديد الخرطوم عاصمة للثقافة العربية العام 2006 م ، فكان التفاعل معاكسا ، أعتذر في البداية فاروق حسني وتبعه أنيس منصور ، ثم معظم رموز الثقافة في مصر عن الحضور و المشاركة !
ما يثلج الصدر و يبعث بروح الفخر أن السودانيين كانوا و مازالوا شديد الأحتفاء بالرموز و الأعلام الذين تأتيهم الفرص و الظروف لزيارة البلاد ، خصوصا لو كانوا في عالم الثقافة في أوسع نطاقاتها و تعريفاتها .
لقد أستطاع د. يوسف بك النحاس أن يدخلني في أجواء حفلات التكريم التي أقيمت له و للشاعر العربي الكبير مطران خليل مطران في الأندية و الجمعيات الثقافية بالعاصمة ، حيث قال أن السودانيين جعلوا من هذه الزيارة مناسبة للحفاوة و التكريم فألفيا أنفسهما مطوقين بأطواق من المنن أينما حلا و حيثما توجها .
أقام النادي المصري حفلا للضيفين تحدث فيه رئيس النادي محمد صبري الكردي فأشار للأستاذ خليل بك مطران و وصفه بأنه علم من أعلام الصحافة و الشعر ليس في مصر فقط بل في الشرق العربي جميعه ، ثم ألقى بعدها الأستاذ عبدالحميد زيدان قصيدة عصماء حيا بها د. يوسف بك النحاس و شاعر القطرين كان لها أجمل وقع .
و أقام النادي السوري حفلا شهده عدد كبير من المدعوين ألقى فيه د. معلوف خطبة رائعة و أنشدت فيه قصائد عصماء للأستاذ أسكندر فواز نذكر منها :
ويا شاعر القطرين مصر و سوريا ***** ومن قال أقطار العروبة أصوب
أحبك أهل الضاد في كل موطن ****** عجيب لعمري والذي فيك أعجب
لأنت على السودان ألطف وافد ****** و أصفى من الماء الزلال و أعذب
و في ملجأ القرش بأم درمان أقيمت لضيفي البلاد حفلا كبيرا حضره كبار رجالات العاصمة القومية كما وصفتهم بذلك جريدة صوت السودان في تقريرها عن الحدث ، يتقدمهم رئيس مؤتمر الخريجين أسماعيل الأزهري و الشيخ حسن مأمون قاضي قضاة السودان و السيد حسن الطاهر رئيس ملجأ القرش السابق و مولانا الشيخ عمر أسحاق رئيس ملجأ القرش و لجنته و السادة رئيس أركان الجيش المصري و مدير مدرسة الملك فاروق الثانوية .
طاف ضيفي الحفل على مصانع الملجأ المختلفة و أعجبا أيما أعجاب بأرهاصات النهضة الصناعية المرتقبة ، و أبدوا ملاحظات وضعها القائمون على أمر الملجأ موضع الأهتمام و العناية .
و أقام نادي الخريجين شيخ الأندية أمسية نادرة أحتفاء بضيفي العاصمة الكبيرين و كتب د. يوسف بك النحاس من ضمن خواطره عن تلك الليلة المشهودة :
أهتم الأستاذ حسن عوض الله بتنسيق النادي تنسيقا يتناسب مع مكانة النادي الكبيرة ، و بذل مجهودا جبارا حتى يلبس ثوبا زاهيا و يبدو في أحلى صورة ، فوفق في ما أراد .
وجدنا المصطبة الكبرى و قد أمتدت فيها الموائد الضخمة و المقاعد الوثيرة ، و أزينت أرض النادي بالأبسطة و السجاد ، و أشرقت منصة الخطابة و علاها مكبر الصوت ، و تخلل هذا المشهد موسيقى نادي الهلال عزفت للحضور على فترات متقطعة .
كان رئيس النادي الأستاذ صادق شوقي يلقى الضيوف مستبشرا و مرحبا ، وقدمت للجميع أقداح القهوة و المرطبات و الحلوى . صعد الى المنبر الشاعر الكبير عبدالرحمن شوقي و ألقى شعرا رصينا و لولا السرعة في الألقاء لتضاعف أمتاع الحاضرين بهذا الشعر السهل الممتنع .
تبع عبدالرحمن شوقي شاعر الشباب محمد المهدي المجذوب فكان قويا تتسابق إليه المعاني و تتدفق وتختلط بالحس و الشعور ، فأنتزعت من الحضور أعجاب كبير تبدى في التصفيق المتواصل له ، فقد وفق أيما توفيق في تصوير الخرطوم وهي تتحرق للقيا الضيفين الكريمين .
ثم جاء الدور بعدها على محمود الفضلي و قال أن الحضور ألحوا عليه أن يقرأ لهم شيئا من شعر العباسي ، فألقى قصيده من مختاره تناسب المناسبة مسبغا عليها من إلقائه ثوبا رائعا زادها روعة على روعة ، تبعه الأستاذ الكبير الشيخ عبدالله عبدالرحمن بقصيدة لم يتمكن من ربطها بسبب ضيق الوقت .
وفي الختام ألقى شاعر القطرين خطابا مرتجلا كان عامرا بكلمات شكر قوية في فضل هذا النادي العريق و رواده و القائمين عليه و الذي أقام لهما هذه الأمسية الأدبية الفريدة و النادرة التي ستظل في الذكرى و الخاطر على مدى حياتهما .

teetman3@hotmail.com
//////////////

 

آراء