في صحبة عاشق النخيل … د. عوض العيسابي (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
تعالت أصوات الأبقار و معيز الحي و الضان من حوله ، وعناق الأيك فوق السهول ، وأنبثاق الطير في الأفق الرحيب ، وصياح الديك عند فجر الصباح ، و أشتعال نيران خلوة القرية كل مساء يتحلق حولها الأطفال و الكبار لتلاوة القرآن و الأذكار و أنشاد المدائح النبوية خلف شيخهم الشنقيطي .
هرع الطفل عوض محمد أحمد العيسابي الى شاطئ النيل عند جزيرة تنقسي ليمتع ناظريه بثبجه الخافق في صدر الشمال ، وليجلس تحت ظلال نخل باسق يتعالى في الجلال ، والسواقي من جنبه تتهادى في دلال .
جزيرة يمتد طولها الى 15 كيلومترات وعرضها حوالي 4-6 كيلو مترات تحتضن في وسطها جزيرة أخرى تسمى ( جزيرة بروس ) تعادل ثلث مساحة الجزيرة الأم ، بها مشيخة منفصلة عن تنقسي الأم التي كان بها ثلاث مشائخ أخرى .
يخترق الجزيرة طريق رئيسي من الشمال الى الجنوب يقسمها الى تنقسي الشرقية و تنقسي الغربية ، وقد أطلق الأهالي على هذا الطريق أسمي درب المأمور و لاحقا بعد الأستقلال بدرب السوق .
المأمور كان هو الحاكم الأنجليزي الذي يسير على هذا الطريق راكبا الخيل بعد قدومه للجزيرة عبر سفينة كانت تقله للمكان ، متفقدا أحوال الأهالي و النشاط الزراعي الذي يعمر المنطقة ، وكان من واجب السكان تنظيف الطريق له مسبقا بعد علمهم بموعد زيارته .
أما تسميته الثانية بدرب السوق لأنه كان يؤدي الى سوق الجزيرة الرئيسي و كان عبارة عن قطعة أرض بمساحة خمس فدان حولها أعداد من الدكاكين المتفرقة .
في هذا السوق كان يتم تخصيص عادة مساحة داخلية منه لسوق الأحد الأسبوعي الذي كانت تعرض فيه جميع أنواع البضائع في صفوف و ممرات منتظمة للمتسوقين من سكان الجزيرة أو حتى من غيرهم من المناطق الأخرى المجاورة لها .
كانت هذه تفاصيل المكان و أجواء البيئة التي حدثني عنها د.عوض حينما جلست إليه في منزله بحي الصافية بالخرطوم بحري ، أسترجع معه أسترجاع الحوار لشيخه أو أسترجاع الأبن مع والده عطر ذكرياته في أيام الصفا الباكر .
كنت أستمع إليه وفي القلب حنين لعقد الثمانينات حينما كنت طفلا يافعا ألهو و ألعب في شقته بحي الرقعي بالعاصمة الكويتية الكويت مع أبنه محمد ، أسمع من أطراف لسان والدي وهو يناديني أتيت أو زرت عمك عوض نخيل دون أن أفقه كثيرا أسباب إلصاق أو أرداف والدي شجر النخيل بأسمه .
ولكني اليوم وانا أنصت له عرفت كيف أثار النخيل غراما لاعجا في صدره منذ أن كان في الصغر مع أصدقاءه يسبحون في النيل ثم يجمعون بعدها جريد النخل و الدوم و خشب السلم للأحتطاب ولأشعال نار الخلوة و نور حفظ القرآن الكريم فيها ، غرام تمازجت فيه روح الطبيعة مع ألحان المكان .
فقد ظل هذا الشعور بعشق النخيل يهجس في قلبه ويتعمق ويترسخ فيه رويدا رويدا وهو يختال كل يوم بين السواقي و الرياض ، حتى أضحى هذا العشق رحلة حياة و مقصد حل و ترحال طلبا للعلم بين مختلف أرجاء المعمورة .
في ذلك العمر كان د.عوض يجلس كثيرا بين الحقول يقلب طرف عينيه نحو السماء ، يسبح المولى عز و جل على جمال هذا الكون ، و ينظر مبتسما الى أشجار النخيل من حوله ، وبين خلجات النفس أرتباط عميق بها يذداد يوما بعد يوم .
ينظر إليها بأعجاب و أفتتان ثم يقرأ في سره كما كان يردد خلف شيخه الشنقيطي في الخلوة تارة الآية الكريمة من سورة الأسراء ( أو تكون له جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) ، وتارة أخرى الآية الكريمة من سورة ق ( والنخل باسقات لها طلع نضيد ) .
كان يختلف كثيرا لتلقي دروس اللغة و حفظ القرآن الكريم في خلوة الشيخ حسن الخطيب في قرية الخطباء ، وكانت لا تبعد كثيرا عن قرية العيساب ، ولكن حيران تلك الخلوة كانوا كثر يتقاطرون إليها من كافة أنحاء الجزيرة و المناطق المجاورة .
و كمثلها من خلاوي الشمالية وقتها كان الطالب يدرس وسط مجموعات كبيرة مختلفة الأعمار و متابينة في المستوى الدراسي .
يبدأ معك كبار الحيران بتعليمك الحروف ثم الكلمات من قصار سور القرآن ثم جمل كاملة من بعض سور القرآن الكريم .
يستعملون في الدراسة العمار وهو الحبر الذي يصنعه الحيران محليا ، ويكتبون بنواية البلح في لوح خشب مطلي بالجير ، ويقومون بعدها خلف الحيران بمتابعة الكلمات و أظهارها بالعمار لقراءتها و حفظها .
يذكر لي د.عوض أنه من أطرف المشاهد التي يستحضرها وهم يتحلقون في الخلوة وسط الشيخ بشكل دائرى ، قدرة الشيخ الفائقة على المتابعة و الرد سريعا على كل طالب في حلقته دون أن يخطأ رغم العدد الكبير من الدارسين و أختلاف وتعدد سورهم من القرآن التي يرددونها لحفظها .
وذكر لي أيضا موقف طريف آخر وهو أنه كان معهم بعض الحيران صغار السن يقفون في الصف الأخير من الصلاة ثم ينخرطون أثناءها في نوبات من الضحك و القهقهات .
فقام شيخهم الشنقيطي بمعالجة هذا الأمر بأن طلب من أحد كبار الحيران أن يكون إماما ويصلي بهم ، فشعر هؤلاء الصغار مع تكرار المسألة بأهمية توقير الصلاة و الخشوع فيها .
كان الطفل عوض العسيابي يقف كثيرا وهو يراقب الزراع في قريته وهم يتسلقون عاليا بخفة و أحتراف النخل لحصاد التمور ،و يقطعون العراجين ( السبائط ) ثم يسقطونها أرضا من فوق رأس النخل ، يفصلون تمرها عن الشماريخ ثم يجمعونه و يعرضوه تحت أشعة الشمس الحارقة ، ثم يعبأ بعدها في شوالات الخيش .
أفتتن بعملهم دون سائر أقرانه من الأطفال ، فظل من بعدها يراقب بدقة و شغف طريقة و أسلوب تسلقهم للنخيل .
بدأ بعدها يمارس بنفسه التسلق ، ينجح تارة و يخفق تارات أخر ، فأدمى أعقاب السعف يديه بالجروح ، و تأذى جسده بالكدمات من كثرة السقوط لكنه لم ييأس وظل كذلك على حاله حتى أتقن التسلق على هذه الشجرة و صار مثل بقية الزراع .
وبينما هو كذلك على حاله يحكي لي د.عوض أنه في أحدى المرات تسلق يوما كعادته النخلة و عندما أراد النزول عجز عن ذلك ، فظل يصيح ويبكي مستنجدا حتى جاءته النجدة من أحدى زوجات أخوانه التي أزاحت السبائط لتفسح له الطريق للنزول !
بدأ الطفل ينمو وأستمر حب النخيل ينمو معه حتى أستأثر بقلبه و لبه ، و هو يردد كثيرا في نفسه أذا الأهداف كانت بعيدة ، لعمري فقد أضحى قريب بعيدها .
خبر منذ وقت مبكر وهو طفل يافع معظم النشاطات الزراعية التي كانت تختص بزراعة النخيل في قريته لأنه كان يريد ذلك ، مثل زراعة الفسائل وعمليات التلقيح وحصاد البلح بنوعيه الرطب و الجاف ، و جمع تمر الهيدب وهو التمر الذي يتساقط قبل وقت حصاده بسبب الرياح و الأمطار الموسمية .
ومن أكثر الطرائف التي كان ذكرها لي وأنا في حضرة مجلسه في تلك الفترة هي الطريقة التقليدية التي كان أهل جزيرة تنقسي يقومون بها لحماية ثمار الأصناف المبكرة من نوع البلح الرطب من هجوم الطيور عليها .
فقد كانوا يجمعون علب الصفيح الفارغة ويتم ملئها بالحصى ثم ربطها على سعف الخيل قرب السبائط من جانب ، ومن جانب الآخر تكون مربوطة بحبل يتدلى نحو الأسفل بحيث يتمكن أي شخص من الأمساك بنهاية الحبل و هزه لأحداث أصوات مزعجة بواسطة الحصى الموجود داخل هذه العلب ، فيخاف من تلك الأصوات الطير ، فيطير بعيدا عن الثمار .
كانت مسؤولية هز الحبل المتدلي للحفاظ على التمور جماعية تشمل كل من يشاهد الطير وهو متجمع حول ثمار النخيل .
كان فيضان النيل في عام 1946م علامة فارقة في حياة د.عوض فقد بدأ يحكي تفاصيل دقيقة عن تلك الأيام و كأنها حدثت معه بالأمس القريب وهذا ما جعلني على يقين بأنها ذكرى مميزة في قاموس حياته .
في أحدى الأيام من عام 1946م كانت السماء صافية و النجوم المرصعة تملأ المشهد السماوي وتزيده بهاءا فوق بهاءه ، والطفل عوض مستلقي في عنقريبه يتقلب في نومه يحلم بغد أفضل و أجمل أزهى من حاضره .
وبينما هو كذلك يغط في نوم عميق مع بقية الأهل داخل حوش البيت ، صحا وأهل البيت جميعا فجاءة على وقع صياح قوي صادر من بعض الجيران .
رأى بعدها سريعا مشهدا عجيبا و مفزعا وهو أن تيار قوي من المياه دخل حوش البيت من الخارج و بدأ يحيط بكل العناقريب التي كانوا ينامون عليها .
حاولوا جميعا التجمع والأحتماء ببعضهم البعض في أعلى مكان في البيت يمكن أن لا تصله المياه أنتظارا للنجدة و خوفا من تدفق وأرتفاع مستوى المياه المتواصل.
بعد أقل من ساعتين بدأت حيطان البيت تنهار و تتساقط محدثة أصوات مخيفة و مفزعة مازال وقع صداها يتذكره حتى اليوم .
تأخرت النجدة لساعات طوال ، وأشرقت الشمس و الجميع مازال محاصرا بالمياه التي قضت على كل غرف و حيطان البيت ، بعدها بقليل لمح عوض قاربا متجها أليهم كانت فيه أحدى زوجات أخواله تلوح بيدها لهم ، وكانت في حالة نفاس ومعها طفلها الذي يبدو أنه ولد في تلك الليلة !
يقول د.عوض لي أنني لا أذكر في ذلك اليوم بالضبط هوية الرجال الذين أنتشلونا وقاموا بعملية الأنقاذ وقتها ، ولكن ما أذكره جيدا هو أن القارب أتجه بنا من قرية العيساب عن طريق درب المأمور الذي كان ينخفض قليلا عن سطح الأرض حتى وصل بنا الى تنقسي الحلة حيث تمتلك الأسرة منزلا هناك عشنا فيه لسنوات طوال .
كان من المفترض أن ينتظم عوض في الدراسة في عام 1946م ألا أن فيضان النيل الذي أغار على قريتهم وهدم المدرسة أضطره و أقرانه دخول المدرسة بعد أربع سنوات في آوائل الخمسينيات بعد أن أعيد بناءها من جديد ، و كانت تسمى بمدرسة تنقسي النصفية .
طوال فترة الأربع سنوات التي قضاها أبناء الجزيرة في أنتظار بناء المدرسة من جديد زار د.عوض بصحبة والدته مدينة بورسودان وكانت المرة الأولى التي يغادر فيها تنقسي .
ذهب الى أعمامه الذين كان يعمل معظمهم في المدينة وقد ذكر لي أنه أفتتن وقتها بمناظر السيارات و المنازل و القطار و شاطئ البحر الأحمر وكافة الأشياء الأخرى التي تتميز بها المدن عن الحضر .
حاولوا أقناعه بترك الجزيرة و مواصلة الدراسة في بورسودان إلا أنه رفض ذلك رفضا باتا و فضل العودة للقرية وأنتظار أكتمال بناء المدرسة .
في العام 1950 م دخل عوض مدرسة تنقسي النصفية في الفصل الثاني مباشرة و الذي خصص لتلاميذ الخلاوى الذين حفظوا أجزاء من القرآن الكريم و يجيدون الكتابة و القراءة .
ذكر لي د.عوض أن في تلك الفترة فقد الكثير من أبناء جزيرة تنقسي فرصة التعليم بسبب أن فصول المدرسة الثلاثة كانت لا تستوعب الأعداد الكبيرة التي كانت تقطن قرى الجزيرة ، وحتى الذين حالفهم الحظ لدخول هذه المدرسة كانوا لا يعلمون الى أين سيكون مصيرهم بعد السنة الثالثة خصوصا أن المرحلة الأولية كانت أربع سنوات والمدرسة ليس لديها فصل رابع !
كانوا يدرسون ثلاثة مواد اللغة العربية و الدين و الرياضيات ، ثم أضيفت لهم لاحقا مادة الجغرافيا وكان ذلك أكثر ما ميز مدرسة جزيرة تنقسي النصفية عن غيرها من المدارس المجاورة التي هدمها فيضان النيل .
قضى فيها ثلاث سنوات وبعد السنة الثالثة ، أحتار الطفل النجيب عوض في طريق مساره التعليمي ، وأين سوف يذهب لأكمال المرحلة الأولية فالقرية لا توجد بها مدرسة لتلك المرحلة .
صادف القدر أن جاء موجه من المنطقة التعليمية و حكى له مدير المدرسة معاناة الطلاب في القرية فقرر أن يختار من بينهم الثلاث الآوائل لينتقلوا لمدرسة الدبة و كان من بينهم عوض العيسابي .
أكمل عوض المرحلة الأولية في الدبة في مدرسة سميت بتنقسي الأولية وقصتها أن عمدة المنطقة أختلف مع أهل تنقسي في أمر ما فقام بمعاقبتهم بنقل وترحيل المدرسة الأولية لمدينة الدبة وأحتفظ هناك للمدرسة بأسم المنطقة !
والملفت و الطريف في الأمر أنه و بعد رحيل عوض و دفعة دراسته من مدرسة تنقسي النصفية بعد إعادة بناءها ، تم تأسيس و أفتتاح المدرسة المصرية على أن تكون مدرسة للمرحلة الأولية فأستفادت منها الأجيال التي تلت دفعة د.عوض و وقاهم الله بذلك شر الأرتحال لمدينة الدبة .
أنتقل بعدها د.عوض الى مدرسة القولد المتوسطة بعد أن أختارها له أستاذه شيخ إبراهيم محمد حسين ، وهناك دارت قصص أخرى لصاحب الصحبة نتركها للجزء الثاني من هذا السفر .
teetman3@hotmail.com