في مقام الاحتفاء بالدكتور منصور خالد

 


 

 


abusamira85@gmail.com
ينتمي الدكتور منصور خالد إلى جيل سوداني كان يأتيه في مقتبل العمر طيف من نور وجمال وحكمة، يقول له: هات يدك يا بني، فأنا أعرف أن في رأسك عقلا مختلفا ومتوثبا للتطور، كما أعرف أن في طوايا نفسك طموحا يضج في دواخلك يريد الخروج والتحليق. وأعرف أنك تريد أن تضع لك مكانا بارزا في المستقبل من ضمن أمة كانت بارزة في التاريخ. فهات يدك يا بني لا تتردد ضعها في يدي، دعني أدلك على طريق شاق ووعر، يتعين عليك أن تسلكه بالحق والصبر، لأنه طريق المستقبل.
غير أن أن السير في طريق المستقبل أو رحلة البحث عن نسايم المعرفة قد شغلت الدكتور منصور خالد حتى الآن عن أن يروي لنا حياته، نشأته أو صباه، وهي ذكريات أو أحداث أو وقائع تغيب عنا فائدتها في مقام الاحتفاء هذا.
موقف مختلف
يأتي مقام الاحتفاء بالدكتور منصور خالد هنا من موقف مختلف عبر قائمة تضم عشرة شخصيات سودانية، رتبت حسب العمر، نحسب أنها الأكثر تأثيرا في الحياة العامة من جهة أنها تفردت في ما قدمته من أفكار وتجارب خلال فترة زمنية تمتد لمائة عام تبدأ من العام 1903 حين افتتح الشيخ بابكر بدري أول مدرسة لتعليم البنات في رفاعة.
تفرد الدكتور منصور خالد الذي يحتل المرتبة الثامنة في القائمة، حسب العمر، منذ مطلع شبابه بإثارة الحوار مع الصفوة. وقد يميل البعض إلى أن (الحوار مع الصفوة) عبارة ذات بريق ودلالة يُعتد بها، لكنها تظل دوما عبارة فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية. لكن هذا الرأي يدحضه أن تحليل مضمون كتابات الدكتور منصور خالد تستهدف من العبارة أن يحقق الإنسان بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للحوار وللإنسان نفسه كأعلى قيمة في الوجود.
شواهد الكتابة
تتميز كتابات الدكتور منصور خالد بثلاث شواهد تلفت نظر القارئ المتأمل لأوضاع العباد والبلاد في كتاباته، وهي:
أولها: أن الدكتور منصور خالد كاتب واضح الفكرة والرأي، ليست له حسابات سياسية، وهذا نوع نادر في الكتابة العربية إجمالا.
ثانيها: أن الدكتور منصور المؤلف لا يمارس ألاعيب السياسة، ولا تشغله أية معارك تقتضي المجاملة أو أي نوع من التنازلات.
ثالثهما: توفر الدكتور منصور خالد على إمكانيات ذهنية وثقافية ومتابعة دقيقة للتطورات السياسية والفكرية في العالم وعقلية مركبة تستلهم عبقرية التناقض وتكتشف الروابط بين التطورات.
على أن المهم في هذه الشواهد النظر إلى الدكتور منصور خالد، حسب محمد المكي إبراهيم في تقديمه لكتاب (منصور خالد لورد من أمدرمان): كمثقف اشتغل بالسياسة واعطاها من فكره وتجاربه وسجل أحداثها وخلفياتها في مجموعة من الكتب الهامة، الأمر الذي لم يفعله إلا قلة من أهل السياسة في السودان.
وحسب تعريف الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، يعد منصور خالد من أكثر الشخصيات السودانية إثارة للجدل نسبة لآرائه المختلفة ولخطورة مناصبه المحلية والعالمية التي تقلدها، وهذا دليل على التفرد والحيوية.
مقام الاحتفاء
بعيدا عن ترتيبات الاحتفال التي تستعد له اللجنة القومية لتكريم الدكتور منصور خالد بقيادة البروفسير عبد الله أحمد عبد الله، وقريبا من الفكرة نفسها، فإن الاحتفاء بالدكتور منصور خالد يتعين النظر إليها كمبادرة أهلية من قبل أفاضل رسخ في عقلهم الجمعي أن منصور خالد قدم لوطنه وشعبه ما يستحق التكريم عليه، فقد أظهرت تجربة الدكتور منصور خالد الفريدة فيما رسمه من أدوار وما أداه من مهام، مدى المكانة التي يعيشها المفكر في وطنه.
ولا أكون مبالغا أن قلت أن منصور خالد حاول أن يصنع من كتاباته لوحات تحاكي ما يرسمه الأطفال وما يفكرون فيه، وما يعيشونه أيضا من أحلام وكوابيس، وربما ما يتخيلونه من حيوانات أسطورية، وأفكار طريفة للتعبير عن فرحهم، وأملهم بتحقيق ما يرغبون في تحقيقه، من خلال أبتكارهم ألعابا وأشكالا في غاية الطرافة والإبداع. ولست في حاجة إلى التنبيه إلى النظر إلى طبيعة المثقف المستقل غير المؤدلج عند قراءة كتب منصور خالد.
قائمة العشرة
يتصدر قائمة العشرة حسب العمر، بابكر بدري (1861 ـ 1954) رائد تعليم المرأة في السودان. ولعل بابكر المتأثر بشيخه في الخلوة أحمد حامد الكراس، قد تعلم منه عزة النفس بمعنى (البعد عن الدناءة)، وبرز تفرده بافتتاح أول مدرسة خاصة لتعليم البنات في السودان عام 1903 وأدخل فيها بناته. واجه معارضة شديدة، لكنه بدأبه وحُسن فهمه لطبائع الناس كسب ثقتهم. وكانت فتيات رفاعة هن رائدات التعليم النسائي في السودان.
ويأتي تفرد البروفسير التيجاني الماحي (1911 ـ 1970) في ريادته لدراسة الطب الشعبي، وهو أول من نادى بالربط بين العلوم المادية والإنسانية، وكان يرى أن معرفة الطبيب لتراثه وفهمه له تجعله أقل تحيزا لقناعاته وأكثر انفتاحا للتعامل مع غيرها من المعارف دون أن يصمها بالدونية أو التخلف لجهله بها. وبعد عدة عقود أكدت كليات الطب في العالم تلك المقولات وعدلت من مناهجها.
أما تفرد جمال محمد أحمد (1915 ـ 1985) فقد كان مع الحوار العربي الأفريقي. وعنصر التفرد عنده أن جمال الذي ليس بـشاعر ولا قاص، أو روائي، أنه (لا يكتب علما ولا معرفة، وإنما يجاهد للامساك بتلابيب لحظات من الحس). يضاف إلى ذلك حس لغوي مرهف يجعله عفو الخاطر يوظف اللهجة اللهجة السودانية في لغة الكتابة.
كان البروفسير كامل الباقر (1918 ـ 1995) رجلا متميزا، منذ أن تبرع ليوم التعليم في نادي الخريجين، بكتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين. على أن تفرده في تطوير التعليم الديني يظهر في سعيه الحثيث لفك العزلة والتهميش للتعليم الديني، بالتأكيد على أنه لا يوجد في الإسلام تعليم ديني وتعليم مدني منفصلين، بل هناك تعليم إسلامي يشمل الجانبين. وثمرة هذا السعي تبدو واضحة الآن في تجربة جامعة أمدرمان الإسلامية.
يبرز تفرد البروفسيور عبد الله الطيب عبد الله (1921 ـ 2003) الأساسي في إيمانه العميق بحتمية اللغة من وجوه كثيرة فهو: أديب كبير، باحث عظيم، ناقد بصير، مفكر عميق، لغوي قدير، نحوي متبحر، مقرئ ومفسر، مؤرخ، ومتضلع من الأدب الغربي المكتوب باللغة الإنجليزية. ولن نكون أبلغ من الدكتور طه حسين في تقديمه لكتاب (المرشد الى فهم اشعار العرب): هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الامتاع لا أعرف أن مثله أتيح لنا في مثل العصر الحديث.
تفرد البروفسير محمد عمر بشير (1926 ـ 1992) بمسألة تطوير التعليم في السودان، ذلك أن التأصيل الحقيقي لمنهج وأسلوب البحث في مجال التعليم السوداني، قد أستند على جهده، إضافة إلى ربطه الوثيق بين التعليم والعمالة، فقد كان يشير دائما إلى أن التعليم والعنصر البشرى المتعلم والمدرب هو مفتاح الحل بالنسبة لقضايا التنمية. وهذه دعوة للتأمل في بعد نظر البروفسير محمد عمر بشير، واستقراؤه الصحيح للقضايا والاشكاليات التي تواجه السودان بأطرافه المترامية.
قاد الطيب صالح (1929 ـ 2009 ) في ستينيات القرن الماضي، أهل  السودان إلى موكب الرواية العربية. واستحق عن جدارة لقب عبقري الرواية العربية. ونشر ست روايات بينها (عرس الزين) التي ترجمت إلى ثلاثين لغة، إلا أن تفرده جاء مع (موسم الهجرة إلى الشمال)، لكونها أول رواية عربية تتناول الصدام بين الحضارات.
تفرد البروفسير علي محمد شمو (1932 ـ ) ببصمة خاصة متعددة اللمسات، فهو إعلامي انتقل بالفكر من ترف الخاصة في الصالونات إلى العامة في الشارع، حيث لا حدود للإبداع. وهو مبدع انتقل بإداء الإعلام إلى فضاءات الثقافة الوطنية المستوحاة من تراث تراكم في هذه البلاد على مدى آلاف السنين. وهو أيضا مجدد في الفن في جيل انتقل معه عالم الغناء والطرب من (صنعة الصياع) إلى عصر محمد وردي.
تفرد الدكتور جعفر محمد علي بخيت (1933 ـ 1976) بتقديم الحكم الشعبي المحلي، بأفكار جريئة وجذابة لتطوير الإدارة الأهلية. وجاءت هذه الأفكار في ست مقالات نشرتها مجلة الخرطوم، بعنوان (السلطة وتنازع الولاء في السودان)، خلال عامي 68 و1969. وحظيت هذه المقالات بتقدير حسن من الباحثين والقراء الذين ثمّنوا موضوعيتها، وتشخيصها الحاذق لقضية السلطة وتنازع ولاء الحاكمين والمحكومين من حولهم في السودان.
أما بعد
الكتابة عن تجربة الدكتور منصور خالد لا يمكن أن تحاط بعدد قليل من الأسطر، فالكتابة عن دوره ومكانته في تاريخ السودان المعاصر تحيلك فورا إلى علوم شتى وتجارب إنسانية غنية وفنون شتى. وللدكتور منصور خالد تجربة أطرها بثقافة موسوعية، وعمقها بمهارات على طرائق الكتابة. وقد أعطى ذلك نتائج مثمرة لانغماسه العميق في عمله الذي يشبه تصوف المتصوفين الذين ينسون كل شيء غير ذلك الذي أعتقدوا أنهم خلقوا من أجله ذكر الله تعالى وعبادته وتنزيهه وترديد صفاته وخصاله المجيدة وتمجيد ما خلق.

 

آراء