انطلاقا من واقع عدم ممارسة المشورة بين القا بضين على أزمَّة السلطة في سودان ما بعد الانقاذ و مكونات الرأي العام السوداني بشقيه - المنظم في ٳطار مؤسسات المجتمع المدني الذين تمثلهم مجموعة الأكاديميين و غيرهم من أهل الاختصاص الوظيفي و العوام السابلة- لا سيما في التقرير في شأن الأمور العامة الخطيرة التي تؤثر وجودا و عدما في استمرارية كينونة أو تمزق ما تبقى من البلاد ، أود أنْ أنبه لخطورة تبني نهج الاقصاء و تهميش أهل الرأي و الانفراد باتخاذ قرار الحسم في قضايا مصيرية تطال نتائجها كل السودانيين من أهل العالمية و الجاهلية على حدِّ ٍ سواء . عليه، لكي نتجنب أيَّة انتكاسات أو خروج عن ٳجماع أهل السودان سيما القوى السياسية ( في طليعتها الحركات المسلحة والأحزاب السياسية المدنية و منظمات المجتمع المدني) حول ضرورة التفاوض من أجل ٳحلال سلام عادل و تخفيف معاناة أهلنا النازحين و المُشرَّدين قسرًا الهائمين على وجوههم في المنافي ، أود أنْ أعرب عن قلقي حيال ما يجرى من تسارع غير مُبرَّر في الدخول في عملية تفاوض حول قضايا مصيرية لم يُعد لها بالكيفية التي ينبغي أنْ تكون . حتى لا نبدد هذه الفرصة ينبغي الأخذ في الاعتبار التدابير التالية التي تمثل شروط لازمة و فروض أساسية تؤمن نجاح المفاوضات المستقبلة من أجل الوصول الى مُخرجات تمثل مبادئ مُجمع عليها تكون مرتكزات يُوطد على صروحها سلام دام ، تؤسس في رحابه دولة المواطنة الجامعة الديموقراطية الفدرالية ذات المؤسسات القانونية التي يتساوى أمامها جميع بناتها و أبنائها في حقوق و التزامات المواطنة . من هذه الشروط اللازمة ما سيأتي بيانه : أولا:- وجود استرتيجية علمية يُبتدر و يُدار و فقا لشروطها و توجه وفقا لمساراتها عمليات التفاوض . من المرتكزات المحورية لهذه الاستراتيجية تحديد الثوابت القومية التي لا يتفاوض عليها مطلقا ، كعدم تجزئة السيادة الوطنية ، وحدة التراب السوداني عدم تفتيته ، وحدة الأمة السودانية في تنوعها العرقي ، اللغوي و الديني و الثقافي . ثانيا:- تأمين مصادر القدرات الذاتية للأمن القومي (القوة المعنوية- النفسية للرأي العام القومي ، و المادية الاقتصادية – العسكرية الخ، ) التي هي بمثابة مُعزِّزات عملية لضمان ديمومة استقرار الثوابت الاستراتيجية. ثالثا:- تبني أهداف عامة (مَرنة) تنسجم مع ما يطرحه الطرف المتفاوض معه ، لا تتعارض في جوهرها مع مضامين و الثوابت الاستراتيجية بل تكون مكملة و مُعزِّزَة لها. رابعا:- أعداد و تبني و تفعيل آليات تفاوضية توظف لادارة التفاوض و للاتجاه به نحو تحقيق أهداف مشتركة لا تتعارض مع الثوابت الاستراتيجية القومية السودانية. خامسا:- التأكيد الصارم على مبدأ سيادة الشعب في كليته يُمارسها عند الاقتضاء عبر :- (1)- ممثليه في مجلس الشعب القومي(البرلمان الاتحادي) أو (2)- عبر استفتاء قومي عام (ليس استفتاء جزئي اقليمي) سيما في المصادقة على أية اتفاقيات دولية أو محلية (تكون الحكومة طرف فيها مبرمه مع شخص اعتباري قانوني دولي ، أو كيان اعتباري محلي لا يتمتع بشخصية قانونية دولية معترف بها رسميا من قبل المجتمع الدولي)، و تأمين احترام تنفيذ تلك الاتفاقية بتضمينها كجزء لا يتجزأ في متن دستور البلاد . خامسا:- اختيار وسيط مُحايد و زمان و مكان عقد المفاوضات ، هذا يتطلب توافر ما يأتي :- (أ)- وسيط تتوافر فيه شروط الحياد ، كأنْ لا تكون لدية مصالح (أجنده) وطنية حيوية (خفية أو معلنة ) مع أي من الطرفين المتفاوضين أو أيديولوجية انفصالية . (رغم التقدير الفائق لجهود دولة جنوب السودان الموقرة ، فهي لا تنطبق عليها مواصفات الوسيط المحايد للأسباب التالية : (1)- أنها دولة حاضنة للحركات المسلحة سيما الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال –، 2- لها مصلحة حيوية في نزاع أبيي الذي لم يتم حسمه نهائيا ، 3 – دولة جنوب السودان الموقرة تؤمن بمفهوم ممارسة المكونات المجتمعية الفرعية (جماعات عرقية ، ثقافية ، دينية الخ ) حق تقرير المصير الخارجي و من ثم الانفصال عن الدولة الأم وقد مارست ذلك عمليا . 4- ٲنْ الدول الوسيطة أعضاء منظمة الايقاد (اثيوبيا ، أرتريا ، جيبوتي ، كينيا و دولة جنوب السودان ) لأسباب موضوعية لا تمثل وسيطا محايدًا للمعطيات التالية:- (أ)- فٳنَّ دولة أثيوبيا الموقرة ، أيديولوجيًا تتبنى و تدعم مبدأ حق المجموعات العرقية و القبائلية في تقرير المصير الخارجي بل و الانفصال و قد ضمنت هذا المبدأ في متن المادة (139) من دستورها الوطني المعمول به حاليا. (ب)- مجموعة الايقاد كمنظمة هي التي أقرَّرتْ و اقترحت مبدأ حق جنوب السودان في تقرير المصير و ضمنته وثيقتها المسومة " اعلان مبادئي" . 5- وسيط مقتدر يمتلك وسائط التأثير على طرفي التفاوض من خلال توظيف الجزرة و العصا ، فرغم فائق الاحترام لدولة جنوب السودان الموقرة أنها لا تمتلك شيئا من ذلك. ٳنْ تأمين الجبهتين الداخلية و الخارجية (في مجاليها الدوليين الٳقليمي و الكوني) كمرتكزين يتكئ عليهما الطرف الحكومي المفاوض يتطلب ذلك كسب ثقة و من ثم دعم الرأيين العامين الداخلي أولا و الدولي ثانيا . ٳنَّ احترام الرأي العام الداخلي يمكن كسبة من خلال ٳشراك مكوناته ( سيما المستنير منها) في مناقشة القضايا القومية الحيوية الاستراتيجية التي تؤثر بكيفية ايجابية أو سلبية على حاضره و مستقبله عبر حوار ديموقراطي شفاف من خلال وسائط التواصل العامة المقروء و المسموع و المرئي و الأثيري منها. حتى تتمكن مكونات المجتمع القومي من بلورة رأي عام مُجمع عليه حيال القضايا العامة المصيرية . علية، فٳنَّ من بين التدابير المتعارف عليها أنْ يطرح الطرفان المشاركان في عملية المفاوضات (الطرف الحكومي و الحركات المسلحة ) وجهات نظريهما بصراحة و تفصيل حول ماهية الموضوعات التي سيجري التفاوض عليها ، و ماهية الحلول الناجعة التي يتبنونها كترياق شافي للعلل المزمنة التي يعاني منها ما تبقى من السودان . في سياق تمكين الرأيين العامين الداخلي القومي السوداني و الخارجي الدولي (الاقليمي و العالمي) أقترح على طرفي المفاوضات أنْ يؤجلا الشروع في المفاوضات أو تعليقها مؤقتا ، ذلك من أجل أنْ يعقدان مؤتمرًا تمهيديا تداولي يطرح فيه كل طرف تصوراته و مقترحاته كحلول عمليه لأزمة الدولة السودانية سيما أنْ النظام الاقصائي الدكتاتوري قد تمت ازالته من مركز السلطة . من نافلة القول أنه لا يخفى على أحد أنَّه من بين الحلول التي لا يخلو منها برنامج حركة مسلحة باستثناء حركة العدل و المساواة مسألة تقرير المصير . لذا وجب على كل حركة من الحركات المسلحة أنْ تقنع الرأيين العامين الداخلي السوداني و الخارجي العالمي بشرعية ممارسة سكان اقاليمها التي هي بعض لا يتجزأ من ما تبقى من الاقليم القومي السوداني . لكي تأمَّن مشاركة الرأيين العالميين الاقليمي و العالمي ، أقترح على طرفي التفاوض (سيما الحكومة السودانية الانتقالية) تقديم دعوة رسمية من أجل ضمان مشاركة مندوبين عن منظمة الاتحاد الأفريقي لبيان الرأي القانوني للدائرة القانونية للمنظمة سيما قضائها في الدعوة التي رفعت أمامها من قبل ممثل بعض سكان اقليم كاتنقا ضد زائير (جمهورية الكنقو الديموقراطية حاليا) ، و دعوة ممثل عن فلندا لبيان الرٲي القانوني فيما يتعلق بمطلب جزر آلاند الانفصال ، و دعوة ممثل عن كندا لبيان قضاء المحكمة العليا الكندية في قضية مطلب اقليم كبيك الانفصال ، و كذلك دعوة ممثل عن اسبانيا لبيان رأي المحكمة العليا الأسبانية في مطـلب كاتالونيا الانفصال . أنْ عقد مؤتمر تمهيدي تداولي سابق للدخول في المفاوضات المزمع الشروع فيها في 14 أكتوبر الجاري قد يُعين على تكوين رأي محلي عام مستنير مدرك لمتعلقات مبدأ تقرير المصير الخارجي ، كأسسه القانونية الدولية و تلك الدستورية ، التكييف القانوني لهوية من يحق لهم مُمارسته، أنماطه ، خيارات ممارساته و ما يترتب قانونياً على ممارسته. ٳنْ أي مؤتمر تأسيسي يعقد عقب انفضاض المؤتمر التمهيدي التداولي قد يكون أجدى نفعا ، ذلك لزوال الغشاوة عن أعين الأطراف المتفاوضة و عامة جماهير الشعب السوداني في مجموعها حول مسألة ممارسة مبدأ تقرير المصير الخارجي ، و لأنه سيكون مؤتمرًا جامعًا مستنيرًا قادرًا على وضع الأسس الموضوعية التي قد تبنى عليها دولة المؤسسات القانونية الديموقراطية الفدرالية التي يتساوى في ربوعها كل السودانيين في الحقوق و الالتزامات ، التي تعزز فيها حقوق الانسان و تحترم و تصان الحريات الأساسية . انتهت المقالة.