في نشأة حركة الإخوان المسلمين
shurkiano@yahoo.co.uk
في المنشأ السعودي
إنَّ الطوائف المتعسكرة لشيء طبعي في الإسلام، ولها من القوَّة التي بها تستطيع أن تحوِّل العداء الطبيعي إلى تزمُّت. ففي القرن الثامن عشر الميلادي أفلح زاهد متعسكر أن يؤلِّف أتباعاً وأشياعاً في قلب الجزيرة العربيَّة. إذا تحالف محمد بن عبد الوهاب مع أسرة سعود عن طريق المصاهرة، وانطلقت جنود الحركة الوهابيَّة من الداخل واستولت على مكة المكرَّمة العام 1807م، ولكن سرعان ما خبَّت روح الوهابيَّة لأنَّها لم تكن تملك شكلاً أو اتجاهاً، عكسما كانت عليه الحال بالنسبة لحركتي الدَّراويش في السُّودان أو الأناضول. بيد أنَّها ظلَّت هامدة، ولم تمت بعد. كانت القوى الاستعماريَّة – الفرنسيُّون في إفريقيا والبريطانيُّون في الهند والروس في آسيا الوسطى – تدرك بحدة حجم الأخطار الكامنة في القبائل الإسلاميَّة. وكان أكثر ما ارتعبت منه هذه القوى هو احتمال بروز قائد يستطيع أن يحوِّل هذه القبائل المتفرِّقة المتحاربة إلى جيش عقائدي حقيقي يطيع له أمراً.
كان محمد بن عبد الوهاب م تطهُّريَّاً من الدرجة القصوى، وكان يعتقد في أقصى ما يكون الاعتقاد بأنَّ المسلمين أينما وُجِدوا قد فسدوا، وباتت معتقداتهم على شفا الشرك، وإنَّ واجبه يقتصر على إعادة الإسلام إلى معناه الحقيقي، حتى إذا دعا الأمر إلى استخدام القوة الماديَّة لإجبار المسلمين على العودة إلى الصِّراط المستقيم، ولكيما ينتهجون أسلوباً إسلاميَّاً خالصاً. على أيَّة حال، فمن هو محمد بن عبد الوهاب؟
ولد محمد بن عبد الوهاب العام 1703م في إقليم نجد في قلب الجزيرة العربيَّة من أسرة ذات علماء إسلاميين، وقضى حياته الأولى فقيراً، وهو الذي كان يعيش مع زوجاته الثلاث، ويرعى قطيع من الماشية، ويهتم ببستانه من النَّخيل.(1) وفي ريعان شبابه سافر إلى البصرة بالعراق والمدينة المنوَّرة ليغترف غرفة من العلم على أيدي علماء تمذهبوا بالمذهب الحنبلي الصارم. وكأحد الدعاة المحافظين شرع ابن عبد الوهاب يدعو إلى فكر مطلق استبدادي، واستنكر جل العادات الإسلاميَّة التي كانت سائدة أيامئذٍ مثل الاستماع إلى الموسيقى، ورسم صور الأشخاص، أو الصلاة أثناء زيارة الأماكن المقدَّسة، وتوقير القدَّاس الأموات كشركاء مع الرَّب، والتعبُّدات الخاصة عند الطوائف الصوفيَّة وغيرها. أي بعبارات أخرى، كان يرفض كل أشكال التعدُّديَّة، ويمقت المرونة التقليديَّة للمذاهب الإسلاميَّة الأخرى والممارسات الشعائريَّة لديها. إذ أنَّ موقفه الدِّيني المتزمِّت هذا قد جعله يشجب أكثر الممارسات الإسلاميَّة في ذلك الرَّدح من الزمان. فقد أذاع ابن عبد الوهاب في الناس أنَّ أتباع أي مذهب آخر من المذاهب الفكريَّة الإسلاميَّة الأخرى غير مذهبه الحنبلي يُعد شركاً بوَّاحاً. وحينما قام محمد بن عبد الوهاب بزيارات للبلاد المجاورة هاله ما شاهده من تفشِّي البدع والخصومات، ولقي كثيراً مما اعتاده العرب في عصر الجاهليَّة، فعزم على محاربة عوامل الفساد كما كان العهد بأسلافه من الحنابلة ولا سيما بن تيمية. إذ تأسَّست تعاليم الوهابيَّة ودعوتها على العودة بالإسلام إلى نقائه الأول بمحاربة ما ابتدع من عادات وتقاليد – فلا احتفاء بزيارة القبور، ولا خروج النساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغني فيها الناس ويرقصون، ولا محمل يتبرَّكون به. إذ كانت الدعوة في جوهرها محاربة الوثنيَّة المتمثلة في عبادة الأشجار والقباب والأحجار، والتوحيد في العقيدة المجرَّدة من كل شريك، وكذلك التوحيد في التشريع، فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة. هكذا حاربت الوهابيَّة وثنية أصحاب السلطان والحكم؛ فالعثمانيُّون كانوا من وجهة نظر الوهابيين مغتصبين للخلافة وحقها أن تكون أبداً في أيدي العرب. غير أنَّ محمد علي باشا استطاع أن يقضي على القوة العسكريَّة والسلطة السياسيَّة للوهابيين ومن ساندوهم، إلا أنَّه لم يستطع القضاء على بذور الثورة الدينيَّة التي بذرها الوهابيُّون في شبه الجزيرة العربيَّة.(2)
ففي المبتدأ، اعتُبِر ابن عبد الوهاب هرطوقيَّاً، وأخذ الناس ينظرون إليه بأنَّه منحرف شرير، حتى والده كان قد رفض أفكاره، وأصدر أخوه فتوى ضده، ثمَّ طُرِد من عدَّة مدن كان قد سافر إليها محاولاً جذب أشياع وأتباع. ولكن سرعان ما تغيَّر حظه حينما عقد تحالفاً مع محمد بن سعود، حاكم الدرعية، والتي كانت مدينة صغيره في إقليم نجد. إذ أقسم ابن سعود وتعهَّد أن يحمل الوهابيَّة، ويأخذها بقوَّة، ويقوم بنشرها، وتبادله ابن عبد الوهاب هو الآخر وعداً بأنَّه سيرث الأرض وفي الآخرة سيكون من الخالدين في جنات الفردوس نُزلاً. وهنا التحم الدِّين والسياسة بقوة عاتية.
وعند موت ابن عبد الوهاب العام 1792م كانت الوهابيَّة قد شرعت في الانتشار، وأُعلِن الجهاد على كل المسلمين الذين اعتبرتهم الوهابيَّة مرتدِّين ومشركين، بما فيهم الشيعة والمتصوِّفة وطوائف الإسلام الأخرى. هكذا حوَّل بيت آل سعود طموحهم السياسي والدِّيني من مجرَّد حكام صغار لمستوطنات عربيَّة في قلب الجزيرة إلى خُدَّام الحرمين الشريفين في مكة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة.
ففي الجزيرة العربيَّة، وفي منقلب القرن العشرين ظهر ذلك القائد المنتظر في شخصيَّة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، المعروف بابن سعود. إذ لم يتجلَّ نجاحه في استنهاض روح العسكرة فحسب، حيث أنَّ ذلك الأمر لم يكن عسيراً، بل نجح كذلك في تأليف وتوجيه تلك الرُّوح إلى غايات سياسيَّة. وهكذا ظهرت الثورة في الجزيرة العربيَّة وأفلحت في خلق دولة موَّحدة من الكم الهائل من القبائل والفصائل المتناحرة، وكانت آلته الجيش الوهابي المعروف باسم "الإخوان"، الذين تحدُّوا أخيراً أهداف ابن سعود السياسيَّة والاقتصاديَّة في سبيل تأسيس الدولة الجديدة. ومع ذلك، كانت ثورة بن سعود ناجحة لأنَّه استطاع أن يحطِّم الآلة التي استخدمها للاستيلاء على السلطة، حارقاً الجرح، وتاركاً جسم الجزيرة العربيَّة مستقرَّاً.
كانت أسرة عبد العزيز تعيش في المنفى، وذلك بعد إجلائهم عن موطنهم التقليدي بالرياض بواسطة قبيل آل رشيد الذي شرع في حملة تمدُّد نحو الجنوب. وفي العام 1900م، وبواسطة قلة من أتباعه، استطاع ابن سعود إعادة سيطرته على الرياض، وذلك في هجمة ليليَّة مباغتة. أما والده، الذي كان أميراً لإقليم نجد في قلب الجزيرة، فقد استقال من منصبه وولَّاه لابنه، ومن ثمَّ أخذ ابن سعود يكسب ولاء القبائل الصحراويَّة جنوب الرياض. وفي العام 1906م وقعت المعركة الحاسمة بين آل سعود وآل رشيد في الحائل – معقل الثاني – حيث انهزم الأخير، وقُتِل شيخهم عبد العزيز مطيب آل رشيد.(3)
كانت أول مستوطنة لاستيطان القبائل البدويَّة في منطقة أرطاوية العام 1913م ، والتي شكَّلت أول مجموعة للإخوان. وكانت هذه المعسكرات تُدار على مبادئ قرآنيَّة صارمة، وتنعت ب"الهجرة". غير أنَّ الدولة الوهابيَّة كانت قد أُصيبت بالدَّمار بواسطة تمدُّد نفوذ التركيَّة-المصريَّة حيناً من الزمان، لكنها عادت وانتعشت. ففي العام 1913م هجم ابن سعود بجيشه على حامية تركيَّة بها 1.200 جنديَّاً في إقليم الإحساء، وفي خلال الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) ركَّز ابن سعود حملته على استنزاف إمارة الحائل. وعندما تمَّ اغتيال أمير الحائل العام 1919م بواسطة ابن عمه، ارتضى آل رشيد بحكم آل سعود، وبقي المنافس الوحيد لحكمه هو الشريف حسين بمكَّة – حاكم الحجاز – الذي كان حليفاً للورانس العرب، وورث جيشاً مدرَّباً وعتاداً حربيَّاً بريطانيَّاً كثيراً. هكذا توالت الانتصارات والفتوحات على بقيَّة أجزاء المملكة بغية توحيدها بعد أن عانت طويلاً من التفتت، وظلَّت مسرحاً للفوضى والاضطراب والقلاقل والفتن والعصبيَّات القبليَّة. إثر ذلك تمَّت السيطرة على بلدان العارض، وشقراء عاصمة الوشم وسدير والزلفى وعنيزة، والقصيم في نجد، وإقليم الإحساء وإمارة عسير والحائل، ثمَّ مكة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة وجدة.(4) وبسقوط الطائف العام 1924م وجدة العام 1925م، تُوِّج ابن سعود ملكاً على الحجاز في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1926م.
لكن متى نشأ الفراق بين الإخوان وابن سعود؟ أمسى جيش الإخوان قادراً على هزيمة أي خطر داخل الجزيرة العربيَّة، لكنه رفض العودة إلى "الهجرة"، كما أمره ابن سعود بذلك. أما ابن سعود فقد شرع في تعزيز الدولة الجديدة، وتوحيدها من الفتات والقبائل المختلفة المتناحرة. إذ أنّه قد رأى قوة التكنولوجيا الغربيَّة بعد أن زار الجيش البريطاني في البصرة خلال الحرب العالميَّة الأولى، وأدرك أنَّ الاتصالات مفتاح النجاح في الجزيرة العربيَّة، ومن ثمَّ أخذ يؤسِّس شبكة الاتِّصالات بالراديو في جميع أنحاء المملكة العربيَّة، ثمَّ شرع يشترى أسلحة حديثة وناقلات جنود.
فقد رأى الإخوان في كل هذه الاستحداثات بأنَّها غير إسلاميَّة، وشرعوا في بث أفكارهم المتزمِّتة في جميع أرجاء مدن المملكة، وكان كل من ظنوا أنَّه هرطوقي قد جعل نفسه عرضة للقتل. وبما أنَّ ابن سعود كان قد وجد أو قرأ مكمن الخطر مكتوباً على الجدران باكراً، نجده أيضاً كان قد أوجد أسلوب التعامل مع هذا الخطر الذي تراءى له. ففي لحظات عدة حاول ابن سعود أن يثنيهم عن عزمهم، ولكنَّهم باتوا سائرين في سبيلهم، حتى أمست تعدِّياتهم وتحدِّياتهم غير محتملة. وعندما اعتزم هؤلاء الإخوان الإغارة على العراق وجدوا ردَّاً عنيفاً من القوات البريطانيَّة التي كانت متمركزة في البصرة. ففي هذه الأثناء قرَّر ابن سعود أن يزحف عليهم ويكسر شكوتهم العسكريَّة، فكان هذا نصراً للتحديث. غير أنَّ ابن سعود لم يكن علمانيَّاً كما فعل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، بل بنى مملكته على الأصول الدِّينيَّة، واستعان بالعلماء الدِّينيين في إنشاء دولته وتدعيم سلطته، وبناء الأصوليَّة البرجماتيَّة؛ وخارجيَّاً أمست دولته مؤسَّسة على القرآن، ولكنها قادرة على استيعاب التحديث الاقتصادي، حتى قبل ظهور النفط واستخراجه وتسويقه، وكذلك أقبل على الاستحداث الاجتماعي. ولكي يتجنَّب ثأرات الدَّم، التي مزَّقت الجزيرة العربيَّة لعدَّة قرون، لم يقدم ابن سعود على إعدام قادة الإخوان المتمرِّدين، وأبقى السلطة في أيدي القبائل وقادتها الذين أمسوا موالين له.
فبعد أن دحر عبد العزيز آل سعود بجيوشه الذين عُرِفوا باسم "الإخوان" آل رشيد (أمراء الحائل)، وتوَّج انتصاراته بهزيمة الشريف حسين، قام بشن هجوم على شرق الأردن، وعمل على توحيد الجزيرة العربيَّة تحت اسم المملكة العربيَّة السعوديَّة.
إنَّ تجربة آل سعود في تأسيس المملكة العربيَّة السعوديَّة هي صورة كلاسيكيَّة للتحالف الذي يتم دوماً بين القوة السياسيَّة والروح الدينيَّة. غير أنَّ آل سعود كان قد أضفى على هذا التحالف العصبيَّة القبليَّة، ونفخ فيه روح البداوة، ثمَّ لتجدنَّه كان قد استعان بالتكنولوجيا الغربيَّة الحديثة لتعضيد دعائم الدولة وإرساء قواعدها. غير أنَّ المسألة التي يجب ألا تسهو عن البال لدي الحديث عن هذا التحالف السياسي-الديني هو أنَّه خلف نظاماً إسلاميَّاً أصبحت مرجعيَّته الإسلام، حتى ولئن كان قد تخلَّص من حلفائه الإسلاميين المتطرِّفين، والذي، مع هذا، لا يخلو من عصبيَّة دينيَّة هو الآخر. هكذا أصبحت المملكة العربيَّة السعوديَّة كدولة أولاً وكراعية للإسلام في أرجاء العالم بعد ذلك، ثمَّ كمموِّل أساس للتبشير الإسلامي في دعم المساجد وتدريب الدعاة وكل الأنشطة الدعويَّة، مما أفرز الحركات الإسلاميَّة المتطرِّفة اليوم في أرجاء المعمورة.
في الامتداد المصري
في مصر كان الشيخان رشيد رضا ومحب الدِّين الخطيب يرهنان على عبد العزيز آل سعود، ومن خلال الشيخ المصري حافظ وهبة، مستشار الملك عبد العزيز وأحد المقرَّبين له، ومن ثمَّ سعى الشيخان للقاء الملك والعمل من أجل مشروعه السياسي والفكري معاً. وفي صورة أشبه بالانقلاب أو التمرُّد على فكر أستاذهما الشيخ محمد عبده المنفتح ومذهبه الحنفي الأشعري، تبنَّى الشيخان مذهب المملكة العربيَّة السعوديَّة الوهابي الحنبلي مع ما فيه. ثمَّ تبنَّيا تجربة جيش الإخوان الوهابي. ومن ثمَّ التقى الشيخان بحسن البنا (1906-1949م)، ولمحا فيه الحماسة والحمية وأُعجِب الأخير بتجربة الإخوان بالمملكة العربيَّة السعوديَّة، ومن ثمَّ أسَّس البنا جمعيَّة الإخوان المسلمين العام 1928م، وكان غرضها الأساس هو الدَّعوة إلى الله، ولا شيء غير الدَّعوة فقط.(5) فقد أذاع البنا في أشياعه: "بأنَّكم لستم جمعيَّة خيريَّة، ولا حزب سياسي، ولا منظَّمة محليَّة ذات أهداف محدودة؛ ولكن أنتم روح جديدة في قلب هذه الأمة لتمنحوها الحياة عن طريق القرآن." وحينما سُئل إلام أنت له داعٍ؟ كانت إجابته: "الإسلام، رسالة محمد." وقد حمل البنا في رسالته، التي أذاعها في الناس، بأنَّ من يقف ضدهم ويعترض سبيلهم فإنَّ الله يسمح لهم بأن يدافعوا عن أنفسهم ضد الظلم! كان هذا القول تهديداً مبطَّناً ضد من لا يتَّفق معهم ومع منهجهم.
ومن هنا أخذ دور الحزب يتراءى كمجموعة صغيرة من المغامرين نصبوا أنفسهم أوصياءً على المسلمين وغير المسلمين معاً. ثمَّ من هنا – لذلك كذلك – بات الطابع الاستبدادي يسود الحزب في إصدار الأوامر من أعلى إلى الرِّعاع في المرتبة السفلى، وما على الأخير إلا السَّمع والطاعة والتنفيذ، وبخاصة أنَّ هذه الأوامر تصدر من مؤسسة دينيَّة ورفضها أو التنكُّر عليها أو الاستهوان بها يعد عندهم مخالفة لشرع الله في الأرض. وفي نهاية الأمر أمسى الحزب طائفة تدعو إلى عقيدتها بصورة دعائيَّة ودعويَّة أملاً في أن ينتصر في العالم كله. بيد أنَّ هذه القيادة الكهنوتيَّة لم تسم إلى مراتبها على أساس أي إنجاز عملي في النِّضال من أجل العمال أو الزرَّاع أو الصنَّاع أو أيَّة طبقة اجتماعيَّة كادحة، بل التدثُّر بثياب روحيَّة مجرَّدة. فالغرض من الحزب أي حزب هو قيادة وخدمة الشَّعب لتحسين مستوى معاشهم في نضالهم السياسي-الاجتماعي اليومي، وليس تأسيس أيَّة مبادئ طائفيَّة بناءً على رغبات قادته لتشكيل وقولبة حركة الرعيَّة حسب أهوائهم. ففي مصر وبعض الأقطار الإسلاميَّة كان قادة الحركات الإسلامويَّة رجالاً نالوا تعليماً رفيعاً، وكان لهم شأن وشأو عظيمين في مجتمعاتهم. غير أنَّ أتباعهم كانوا غالباً ما يتحدَّرون من الطبقات الدُّنيا في المجتمع، ومن هؤلاء الذين حظوا بقسط من التعليم عبر اللغة العربيَّة لا الفرنسيَّة أو الإنكليزيَّة، أو الذين يحتلون أوضاعاً وسطى في المجتمع الحضري، لكنهم لم يلتحقوا بالمراتب العليا. وحركة إسلامويَّة كهذه بالنسبة لهم تمنحهم حتماً قاعدة أخلاقيَّة يتباهون بها في العالم الحديث.
إذ أنَّ هذا الجدال اللازب يقودنا إلى النظر في البناء الطبقي للمجتمع المعني. والطبقات في المجتمع لا تسير في خطوط متوازية مع بعضها البعض، ولكن الواحدة فوق الأخرى وفي حال من النِّزاع الدينامي الحركي الدائم، وتلعب الأحزاب السياسيَّة دوراً فعولاً في هذا النِّزاع. وحينما نتعامل مع النظريات الفلسفية والسياسيَّة والاجتماعيَّة التي تفسِّر نمطيَّات عمل الأحزاب وحراكها، لا يتم التركيز على النظريَّة الضيِّقة المقتصرة على التنظيم فحسب، ولكن دوماً يستوجب النَّظر إلى العلاقة الترابطيَّة بين الحزب والطبقة، لأنَّ الأحزاب السياسيَّة ما هي إلا لحظات في تطوُّر الطبقات حتى تمسي أحزاباً سياسيَّة ذات برامج أو بدون؛ إذ تمثِّل هذه الأحزاب سلاحاً في كفاح الطبقات ضد بعضها بعضاً.
على أيٍّ، كان حسن البنا يصر في خطابه الدِّيني والسياسي والاجتماعي بأنَّ "الإخوان المسلمين يرفضون قوانين الدولة هذه، وسيفعلون كل ما في وسعهم لتطبيق قوانين الإسلام في كل ميادين الحياة واستبدال قوانين الدولة الموجودة الآن، وسيكونون دائماً على استعداد لإعطاء أي تفسير يُطلب منهم بهذا الشأن ولتخطي كل العقبات."(6) كان هذا بالطبع تزيُّداً في الحجة، واستكثاراً في المقولة، فهناك مسائل دنيويَّة ومشكلات اجتماعيَّة وسياسيَّة مستحدثة لا يمكن الرُّجوع إلى الدِّين أي دين لاستخلاص حلولها، ولا يمكن أن تتحقَّق وحدة الشَّعب في الدولة التي يعتنق سكانها أدياناً مختلفة، وتتكوَّن مجتمعاتها من شعوب وقبائل متفرِّقة. أيَّاً كان من شأنهم، فقد أمسي أمرهم تدريجيَّاً ذا علاقة دينيَّة مسيطرة، والذين سرعان ما تحوَّلوا إلى طائفة، والتي بدورها صارت شوكة حوت في خاصرة الدولة المصريَّة، وباتت المسألة كلها تسآلاً من الناس العقلاء عن سر هذا التزمُّت وأصل هذا الإيمان المطلق الفائض بالتزمُّت.
بينما أنَّ الوجه الديكتاتوري لجماعة الإخوان المسلمين في مصر كان قد انكشف غطاؤه عندما دعا الإخوان قادة مختلف الأحزاب – عندما كان الوفديُّون في الحكم العام 1937م – للارتفاع فوق خلافاتهم وتشكيل حزب واحد، بل طلبوا من الملك فاروق حل الأحزاب السياسيَّة القائمة يومئذٍ، مما قد يتيح المجال أمامها للتوحُّد في منظَّمة شعبيَّة واحدة تخدم الشَّعب بهدي من تعاليم الإسلام. ولكن هل كان كل الشعب المصري مسلماً؟ كلا!
ولعلَّ أصحاب أو دعاة "الإسلام هو الحل" يبحثون "في النظم الإسلاميَّة والفكر الإسلامي لا يزال في مجمله مقيَّداً بتقليد كتابات الأقدمين، ينقل منها، ويصدر عنها، ويجعلها أصولاً يقاس عليها ويعتبر بها. وهذه الكتابات تعبِّر عن واقع عصور من كتبوها، وتصف هذا الواقع بما فهمه الكاتبون من حقيقته، وتحكم عليه بمقدار ما فهمه أصحابها من أصول الإسلام، أو ما فهموه من اجتهاد أسلافهم في فهم هذه الأصول."(7) حتى قضيَّة الشُّورى في الإسلام الذي يحسبه البعض المتأسلم بأنَّه رديف للدِّيمقراطيَّة فللبعض الآخر فيها عدة أقوال. إذ يقول راشد الغنوشي – زعيم حزب النهضة التونسي – "إنَّ أهم فشل عاناه تأريخنا (نحن المسلمون) هو أنَّ الشورى ظلَّت قيمة أخلاقيَّة عليا، ولم تتحوَّل إلى مؤسسة سياسيَّة."(8) ويضيف خالد أبا ذر العطيَّة بأنَّ "ممارسة الصحابة لهذا النوع والقدر من الشُّوري الذي عكسته السيرة النبويَّة، وحثَّ عليه القرآن الكريم، وأثنى عليه، لا تتجاوز حدود القضايا الفنيَّة والشؤون الإجرائيَّة المستندة إلى الخبرة التي يعتمد عليه أي حاكم في صنع قراره، معيَّناً كان بالنَّص أم منتخباً بالشُّورى."(9)
مهما يكن من شيء، لقد كانت هذه هي بدايات نشأة ونشاط الإخوان المسلمين في مصر، أو هكذا نشأ الإخوان المسلمون متدثِّرين برداء الحركة الإصلاحيَّة لإصلاح الفرد والأخلاق الاجتماعيَّة معاً بناءً على تحليل ما ارتأوه خطأً في المجتمعات الإسلاميَّة، كما جاء في منهاج السلفيَّة واستخلاصاً من طرائقها. وقد ارتأى الإخوان المسلمون أنَّ الإسلام قد اضمحلَّ وتضاءل نسبة لسيادة روح التقليد الأعمى وشيوع تجاوزات الصوفيَّة، وتغلغل نفوذ الغرب في المجتمعات الإسلاميَّة. فبرغم من فضائل الغرب الاجتماعيَّة إلا أنَّه جلب معها قيماً أجنبيَّة لا أخلاقيَّة، وطغيان نشاط المبشِّرين، وطفوح السيطرة الأمبرياليَّة، هكذا ارتأى الإخوان المسلمون في مصر. ثمَّ ذهب البنا داعياً إلى أنَّه ينبغي أن تصبح مصر دولة إسلاميَّة تتبنَّى الشريعة الإصلاحيَّة. ولسوف تكون لهذا التبنِّي أصداء في جميع مناحي الحياة. فعلى النِّساء أن يتعلَّمن، وينبغي أن يسمح لهن بأن يعملن، ولكن يجب أن تكون هناك ثمة مسافة اجتماعيَّة بينهن وبين الرِّجال، وينبغي أن يتأسَّس التعليم على الدِّين، وإصلاح الاقتصاد على ضوء المبادئ المستنتجة من القرآن. وبرغم من أنَّ البنا كان قد أذاع في أتباعه بأنَّهم ليسوا بحزب سياسي، إلا أنَّ للدَّعوات إيَّاها أهدافاً سياسيَّة صارخة لا شك في ذلك. وبما أنَّهم لم يزعموا بأنَّهم طلاب السلطة أو الحكم في بادئ الأمر، إلا أنَّهم أقرُّوا بأنَّهم يؤيِّدون فقط الحكَّام الذين يحكمون وفق الشريعة، وعارضوا الحكم الأجنبي الذي أمسى يهدِّد الشريعة ومجتمع المؤمنين حسبما جاء في زعمهم. كان اهتمامهم في أول الأمر مركَّزاً على مصر، غير أنَّهم انخرطوا فعليَّاً في السياسة مع اندلاع تمرُّد العرب الفلسطينيين في الثلاثينيَّات، ومن ثمَّ أخذوا يتكاثرون وينتشرون وسط السكان في الحاضرة في الطبقة الوسطى: عند الحرفيين والتجَّار الصغار والمعلِّمين والمهنيين الذين بقوا خارج دائرة الصفوة المسيطرة، والذين تعلَّموا باللغة العربيَّة لا بالإنكليزيَّة أو الفرنسيَّة، وأخذوا يرتِّلون القرآن بطريقة بسيطة وحرفيَّة. وهذا هو ديدن البسطاء أو الفقراء الذين لا يتردَّدون في اعتناق أيَّة عقيدة أو التمسُّك بأي مذهب جديد عسى أن يجدوا في ذلك الجديد مخرجاً لهم وفرجاً لحالهم ومنقذاً لكربتهم.
وبعد اغتيال حسن البنا في مصر العام 1949م بعد سنوات الاضطراب، التي أعقبت الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، شرع كتَّاب آخرون ممن ارتبطوا بالحركة الإسلاميَّة يعبِّرون – تحديداً – في كتاباتهم عن المجتمع المسلم العادل. وكان على رأس هؤلاء مصطفى السباعي في سوريا وسيِّد قطب (1906-1966م) في مصر. وقد أوضح قطب أفكاره السياسيَّة والاجتماعيَّة في كتابه الشهير "العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام"، والذي لم ير في كتابه هذا فرقاً بين العقيدة والحياة عند المسلمين، وقد قال إنَّ كل أفعال الإنسان يمكن أن تُرى بأنَّها أنشطة تعبُّديَّة.(10) هذا تعميم مخلٍ بالواقع. فأفعال الإنسان ليست كلها خيراً حتى تمسي تعبُّديَّة؛ فهناك الأفعال الإجراميَّة التي تتمظهر في اقتراف الآثام والموبقات، مثل قتل النفس التي حرًّم الله قتلها إلا بالحق، وغيرها. وأين كان هو من النفس الأمَّارة بالسُّوء!
"لقد ركَّز سيد قطب أهم قيمه الاجتماعيَّة على قيم العزلة والجاهليَّة والتميُّز والمفاصلة. فكان من الطبيعي أن يصنع حركة لا تقدر على تطوير المجتمع، بل تقدر على مصادمته والعزلة عنه، لكنها بعيدة أن تكون عنصر تطوير فيه وتُحدث التفاعل بين الإسلام كعقيدة وبين هموم الناس في العيش وفي الصحة والسكن وفي التعليم، وتتفاعل مع قضيَّة الحريَّة وتجري الحوار مع الأطراف، وتتعاطف مع كل المناضلين من أجل العدالة والحريَّة الإنسانيَّة مسلمين كانوا أو غير مسلمين، وتوجد روابط العمل المشترك مع كل المناضلين من أجل الدِّيمقراطيَّة."(11) لذلك لم يكن فكره قادراً على إحداث نوعاً من التفاعل بين حركته وبين الحركة السياسيَّة، أو بين حركته وبين الحركة النقابيَّة، كما نظر إلى الأحزاب وكأنَّها قضيَّة عابثة لا تستحق من المؤمنين أن يشاركوا فيها، وبخاصة إنَّ الذين كانوا يقودونها في أغلبهم من الشُّيوعيين، فكان الإخوان يرون بأنَّهم حري بهم أن يبتعدوا عن كل موطن يجدون فيه الشُّيوعيين، وأن يقفوا موقف المضاد.
كان سيد قطب يرى أنَّ السبيل الوحيد إلى خلق مجتمع إسلامي حقيقي يبدأ بالإيمان الفردي، الذي يتحوَّل إلى صورة حيَّة في القلب، وينغرس في برنامج عمل. والذين يقبلون بهذا البرنامج يمثِّلون طليعة من المحاربين الملتزمين، الذين بوسعهم استخدام أيَّة وسيلة، بما فيها الجهاد. وينبغي أن يلجأون إلى هذا الجهاد حتى يبلغ المحاربون الصفاء الداخلي، ومن ثمَّ يسعون إليه – إذا دعا الأمر – ليس في سبيل الدِّفاع عن أنفسهم فحسب، ولكن من أجل القضاء على كل عبدة الآلهة الزائفة، وإزاحة كل العثرات التي تعوق الناس من اعتناق الإسلام. ويستوجب أن يكون النِّضال من أجل إنشاء مجتمع عالمي إسلامي، حيث لا وجود للفروق على أساس العرق. ثمَّ كان يرى سيد قطب أنَّ عصر العالم الغربي قد انتهى وولَّى، حيث أنَّه لم يكد يقدِّم القيم التي يحتاج إلى دعم الحضارة الماديَّة الجديدة؛ إنَّ الإسلام فقط هو الذي يعطي الأمل إلى العالم. إنَّ هذه الدعوات، التي كان يدعو إليها سيد قطب، كانت ذات أبعاد خطيرة، وقد دفعت بجزء من الإخوان المسلمين، الذين وقفوا معه، إلى معارضة نظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وسيد قطب نفسه قد تمَّ اعتقاله ومحاكمته وإعدامه العام 1966م. وفي الحقب اللاحقة انبثقت جماعات من الإخوان المسلمين واتَّبعوا تعاليم سيد قطب حرفيَّاً، والتي دعت – فيما دعت – إلى أنَّ المرحلة الأولى لإرساء دعائم المجتمع الإسلامي هو الانسحاب من مجتمع الجاهليَّة والعيش في ظلال الشريعة وتطهير القلب، وتكوين نواة من المحاربين الملتزمين. هذه الجماعات كانت مستعدة كل الاستعداد إلى استخدام العنف والاستشهاد في سبيل تحقيق مراميهم مهما يكن من شيء، وقد ظهر هذا الأمر حينما اغتال أعضاء واحد من هذه التنظيمات الرئيس المصري محمد أنور السادات العام 1981م، وكذلك حينما حاول الإخوان المسلمون الاستيلاء على السلطة وقلب نظام الرئيس السوري حافظ الأسد العام 1982م.(12)
مهما يكن من شيء، فقد اعتقدت الحركات الإسلاميَّة – بما فيها الإخوان المسلمون – بأنَّ العقيدة وقوانين الإسلام قادرة على على توفير قاعدة للمجتمع في العالم الحديث، وتشجَّعت بقيام دولة لها هذه القاعدة: المملكة العربيَّة السوديَّة، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء التفكير والتأمُّل في الظروف الاجتماعيَّة والسياسيَّة والتأريخيَّة والخارجيَّة (بريطانيا)، التي ساعدت على تأسيس هذه الدولة. وكذلك لا يفوت على البال أنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة، التي يرتادها المسلمون من كل حدب وصوب لأداء شعائر الإسلام، هي مهد الأماكن المقدَّسة، وشبه الجزيرة العربيَّة هي موطن اللغة العربيَّة التي بها أُنزل القرآن. فمن الناحية التأريخيَّة كانت مكة المكرَّمة مركزاً تجاريَّاً هاماً يتوسَّط طرق القوافل التجاريَّة بين اليمن والشام في رحلتي الشتاء والصيف، ثمَّ سرعان ما اكتسبت دوراً ثقافيَّاً في إلقاء الأشعار وفي التباري والتباهي بأمجاد القبيلة، وأعراف وتقاليد العشيرة في سوق عكاظ، وأمسى الأعراب يطوفون بالبيت العتيق قبل وبعد فجر الإسلام.
ومن الناحية الدوليَّة نجد أنَّ بريطانيا كانت قد اكتشفت النفط باكراً في المملكة العربيَّة السعوديَّة وسال لعابها من أجله، وكذلك شرعت بريطانيا في استخدام شبه الجزيرة العربيَّة في المحور الإستراتيجي في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م). إذ اعتقد بعض من رجال الإنكليز وكبار قادتهم العسكريين – وعلى رأسهم السير كتشنر – أنَّ تمرُّد العرب ضد الأتراك في الشرق الأوسط قد يمكِّن إنكلترا في حربها ضد الألمان أن تهزم أحلافهم الأتراك. وكانت معرفة هؤلاء الإنكليز بطبيعة ديار العرب وقوَّتهم ولغتهم هي التي حدت بهم أن يعتقدوا في أكثر ما يكون الاعتقاد بأنَّ مثل هذا التمرُّد قد يكون أمراً مستحسناً. وبناءً على هذا الاعتقاد أشاروا إلى طبيعة هذا التمرُّد من ناحية، ووضعوا نهجه من ناحية ثانية، ثمَّ سمحوا ببدئه من ناحية ثالثة، وذلك بعد أن تحصَّلوا على الموافقة الرسميَّة فيما يختص بالمساعدة من الحكومة البريطانيَّة. وبرغم من ذلك كله جاء تمرُّد شريف مكة للآخرين كدهشة، ووجد الحلفاء غير جاهزين. ومن ثمَّ أوقد شعوراً مختلطاً، وخلق أصدقاءً أقوياءً وأعداءً أقوياءً أيضاً، فيما أمست هذه الأجواء تحمل شؤوناً من الغيرة المتصارعة مع بعضها بعضاً.
ومن هنا باتت الجماعة المصريَّة إيَّاها أنموذجاً لجماعت شبيهة في الدول العربيَّة الأخرى أو المستعربة ذات أقوام مسلمين. إذ تأثَّر الرعيل الأول من قادة الإخوان المسلمين في السُّودان، والذين تعلَّموا في مصر، بأفكار هؤلاء الإخوان المصريين، وما أن فرغوا من دراساتهم وعادوا إلى السُّودان حاملين تلك الأفكار، حتى أنشأوا حركتهم في السُّودان. وكذلك فعل الشيء نفسه طلاب اليمن الذين ذهبوا إلى مصر لتلقي العلم والمعرفة والعودة إلى ديارهم وفي معيَّتهم الفكر السياسي الإخواني، ومن ثمَّ أنشأوا النواة الأولى للإخوان في اليمن.
خلاصة
إذاً، لِمَ عادت الوهابيَّة وانتشرت وعمَّت أجزاءً كبيرة من العالم الإسلامي برغم من الاستقبال البارد – أو بالأحرى – الذي حُظِيت به في أول الأمر وفي نشأتها الأولى؟ ثمَّ لماذا أخذت تتمدَّد في شكلها الإرهابي في الدول الغربيَّة؟ وكذلك دعنا لا ننسى الدور الذي لعبه آل سعود في تكامل الوهابيَّة مع المجتمع الإسلامي، وجعلها في مكانة أصوليَّة متزمِّتة. ولا شك في أنَّ الدولارات النفطيَّة التي يتم إنفاقها في تشييد المساجد حول العالم، والصرف على تمويل وتدريب الأئمة والدعاة الوهابيين، قد ساهمت على تقوية شوكتهم وانتشارهم.
ثمَّ هناك الدور الأميريكي؛ فقد استخدمت الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة الحركات الإسلاميَّة في أشد ما يكون الاستخدام وفي أكثر من حقبة من الزمان كسيف بتَّار ضد الشُّيوعيَّة، وأداة طيعة في محاولتها لتقليم أظافر المد الشُّيوعي، وذلك عن طريق الإسلام. وقد برز هذا الدور الأميريكي في مصر وتركيا وأفغانسان وفي أماكن أخرى في العالم. غير أنَّ الدعم الأميريكي اللامحدود الذي تحصَّل عليه المجاهدون الأفغان في نضالهم العسكري ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان سيظل أكبر مساهمة قدَّمها الأميريكيُّون للحركات الإسلاميَّة. فقد كان دعماً عسكريَّاً وأمنيَّاً وسياسيَّاً وإعلاميَّاً. إذ لم يحارب الأفغان التدخل السوفيتي وحكومة بابراك كارمال في كابول وحدهم، بل شاركهم في ذلك الإسلاميُّون من جميع أنحاء العالم، والذين جاءوا من كل حدب ينسلون، وبخاصة الدول العربيَّة، والأخير هم الذين ذهبوا إلى ديارهم بعد دحر السوفيت وسقوط حكومة الدكتور نجيب الله في كابول، وأمسوا يُعرفون ب"الأفغان العرب". هؤلاء المجاهدون هم الذين كوَّنوا نواة ما يسمَّى بتنظيم القاعدة، ثمَّ تفرَّقوا أيدي سبأ وشرعوا في نشر الرُّعب والرَّهبة في كل مكان وزمان.
أما اليوم فهناك عدة أسباب عملت وساعدت على نمو ظاهرة العسكرة الإسلامويَّة، وساهمت في انتشاره السريع في الحقب الأخيرة، ألا وهي أنَّها وجدت صدى قويَّاً في عالم العولمة اليوم المتمثِّل في تكنولوجيا الحاسوب، والشبكة العنكبوتيَّة العالميَّة، والصحافة المقروءة، والإعلام المسموع والمرئي، وسهولة الأسفار والتجوال حول العالم بأسرع مما كانت عليه الحال في قديم الزمان. هذه الأسباب مجتمعة وغيرها قد ساعدت على توسيع دائرة الاعتقاد والممارسة. أما في شأن انتشار التزمُّت الديني في قالبه الإرهابي فقد وجد سبيله إلى هؤلاء الصبية من الجيل الثالث في العالم الغربي من ذوي أصول غير أوربيَّة، عربيَّة كانت أم آسيويَّة، والذي يعاني – فيما يعاني – من ظاهرة فقدان الثقة في نفسه وارتباك هُويَّته. إذ لا يكاد يعترف به المجتمع الأوربي كل الاعتراف، ولا يُحظى بالمساواة الكاملة في هذا الوسط الاجتماعي الذي ولد وترعرع فيه، حيث يبادره المجتمع بالعنصريَّة والحرمان من الوظائف والتمييز في بعض ضروب الحياة. وحين يذهب هذا الجيل إلى موطن أجداده أو آبائه يلفظه المجتمع هناك أيضاً، حيث لا يكاد يكون أصيلاً في مجتمع أهله وذويه القديم. وهكذا لا يستطيع أن يجد موطأ قدم هنا أو هناك، وقد ينجرف وينحرف إلى الإجرام والتعامل بالمخدرات، وتنتهي به الحال في السجون. وهنا يقدم عليه المتطرِّفون الإسلامويُّون في السجون ليجدونه لقمة سائغة، ويجنِّدوه في صفوفهم بكل الإغراءات الماديَّة الدنيويَّة، وفي سبيل أن يكون في الآخرة من المتَّقين في جنات الفردوس نزلاً، ومن ثمَّ يتم تشجيعه على القيام بفعل شيء عظيم ليغفر الله له به موبقاته التي اقترفها قبلئذٍ في هذه الحياة الدنيا؛ ومن هنا تأتي مثل هذه الأعمال الانتحاريَّة التي تحصد أرواحاً بريئة من كل الأجناس والأديان والثقافات، وفي كل الأزمنة والأمكنة.