في نقد مفهوم البيعة عند الأخوان المسلمين (3)

 


 

 

 


boulkea@gmail.com
تناولت في المقال السابق الأثر السلبي الذي تلعبه الطاعة المطلقة التي تنادي بها بيعة الأخوان المسلمين في جعل عضو الجماعة مسلوب الإرادة و منقاداً للقيادة بالكامل.
ويكتمل الأثر السلبي للطاعة المطلقة من خلال الركن الخامس في البيعة الأخوانية, والمتمثل في "الثقة" التي يقول عنها البنا : ( وأرید بالثقة : إطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه إطمئنانا عمیقا ینتج الحب والتقدیر والإحترام والطاعة ).
ويضيف البنا ( وللقیادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبیة، والأستاذ بالإفادة العلمیة، والشیخ بالتربیة الروحیة، والقائد بحكم السیاسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جمیعاً، والثقة بالقیادة هي كل شيء في نجاح الدعوات ).
قد أثبتت التجربة العملية أن الثقة المطلقة التي يمنحها البنا للقائد في إطار الجماعة والتي تنبني في الأساس على الرابطة القلبية و العاطفية وليس العقلانية و الموضوعية تتحول إلى نوع من التقديس لتلك القيادة, مما يجعل الكادر يغض الطرف عن أخطاء القيادة بل وخطاياها التي تؤدي إلى الإنحراف الكامل , وتمهد الطريق إلى تحول تلك القيادة إلى طغمة مستبدة أو فرد طاغية في خاتمة المطاف.
تؤكد الدراسات النفسية والإدارية الحديثة أن الطاعة والثقة المطلقة في القيادة تؤدي لا محالة إلى تركيز القرار في أيدي حفنة من الأفراد مما يزيد من إحتمالية إرتكاب الخطأ والإنحراف عن الأهداف, ولذا فإن دور القيادة وسلطتها في الأحزاب والمنظمات السياسية المفتوحة – رغم أهميته – بات مُقيدا بدرجة كبيرة في مقابل تزايد أدوار وصلاحيات الأعضاء.
ترتبطُ بأركان البيعة التي ناقشنا خمسة منها, وأجبات تبلغ في مجموعها ثمانية وثلاثين, ويقول البنا مخاطبا عضو الجماعة العامل ( إن إیمانك بهذه البیعة یوجب علیك أداء هذه الواجبات حتى تكون لبنة قویة في البناء). إنتهى
وسأكتفي لأغراض هذا المقال بإيراد بعض هذه الواجبات, ومنها ثلاثة مرتبطة ببعضها البعض, وهى ( أن تُزاول عملا إقتصادیا مهما كنت غنیا، وأن تُقدم العمل الحر مهما كان ضئیلا ، وأن تزج بنفسك فیه مهما كانت مواهبك العملیة ) و ( ألا تحرص على الوظیفة الحكومیة، وأن تعتبرها أضیق أبواب الرزق ولا ترفضها إذا أتیحت لك، ولا تتخل عنها إلا إذا تعارضت تعارضا تاما مع واجبات الدعوة ) و ( أن تخدم الثروة الإسلامیة العامة بتشجیع المصنوعات والمنشآت الاقتصادیة الإسلامیة، وأن تحرص على القرش فلا یقع في ید غیر إسلامیة مهما كانت الأحوال، ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي ).
هذه الواجبات تعكس حرص الجماعة الشديد على تجميع المال كمصدر من مصادر القوة, مع زهدها الواضح في الوظيفة العامة, وهذا الحرص مفهوم في إطار تشجيع ثراء الأعضاء بما يدعم قوة التنظيم ويخدم أهدافه, ولكن التجربة العملية, ومثالها الأوضح هو نظام حكم الإخوان المسلمين في السودان, أثبتت أن السعي المحموم لدخول السوق سيصبح المدخل الرئيسي للفساد خصوصاً في ظل إحتكار السلطة من قبل الجماعة.
أما الحرص على "ألا يقع القرش في يدٍ غير إسلامية" فإن نهايته المنطقية - التي تتماشى مع المباديء المستصحبة في أركان البيعة التي أتينا على نقاشها مبكرا وفي مقدمتها الإمتلاك الحصري للحق وتمثيل الإسلام - ستكون الحرص على "ألا يقع القرش في يد غير إخوانية" وهو ما رأيناه رأي العين في تجربة السودان حيث سيطرت الجماعة بصورة شبه كاملة على مفاصل الإقتصاد ومصادر الثروة في إطار سياسة "التمكين" التي هى بلا شك وليدة هذا النوع من التربية الفكرية.
ومن بين الواجبات التي يقول البنا أنه يتحتم على العضو العامل في إطار الجماعة القيام بها هو : ( أن تعمل ما استطعت على إحیاء العادات الإسلامیة وإماتة العادات الأعجمیة في كل مظاهر الحیاة، ومن ذلك التحیة واللغة والتاریخ والزي والأثاث، ومواعید العمل والراحة،والطعام والشراب، والقدوم والانصراف، والحزن والسرور..الخ، وأن تتحرى السنة المطهرة في ذلك ).
الحديث أعلاهُ يتعارض مع أبسط ركائز العمل المدني في الدولة الحديثة, وبالطبع في الأحزاب السياسية, حيث أنها تستوعب الناس على أساس المواطنة ودون أدنى إعتبار لإنتماءاتهم الدينية والعرقية والطبقية, وبالتالي فإن التحريض على تقسيم الحزب أو الوطن على أساس إسلامي و أعجمي لن تكون محصلته النهائية سوى ترسيخ النعرات الطائفية والإنقسام الديني في المجتمع.
كذلك تشمل تلك الواجبات التالي : ( أن تقاطع المحاكم الأهلیة وكل قضاء غیر إسلامي، والأندیة والصحف والجماعات والمدارس والهیئات التي تناهض فكرتك الإسلامیة مقاطعة تامة ) و ( أن تتخلى عن صلتك بأیة هیئة أو جماعة لا یكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك وخاصة إذا أمرت بذلك ).
هذان الواجبان يهدفان إلى إحكام سيطرة القيادة على العضو بحيث يقع فريسة لما يُعرف في علم النفس "بالحرمان الحسي" الذي يعني عزل الكادر عن كل ما يُحيط به ويصبح التنظيم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه كل شيء, وخطورة هذه الحالة أنها تخلق عقلا منغلقا عاجزا عن التواصل مع مختلف القوى المجتمعية ولا يرى فيها إلا عدوا لجماعته وفكرته.
ولا تكتفي الجماعة بالسيطرة على العضو وعزله عن قوى المجتمع المختلفة بل أنها تعمل على التحكم في أبسط نواحي سلوكه الشخصي, إذ يوجه البنا في أحد الواجبات العضو لأن ( تكون وقوراً تؤثر الجد دائما، ولا یمنعك الوقار من المزاح الصادق والضحك في تبسم ).
إذن عضو الجماعة لا يستطيع الضحك كما يرغب, فهو محكوم بمنهج صارم يكبت الرغبات والميول الإنسانية الطبيعية و يقتل المواهب, ويحصر الطاقات والجهود في كل ما من شأنه خدمة مصلحة وأهداف الجماعة فحسب.
وهو كذلك لا يملك حرية الإختيار و التصرف بمعزل عن قيادته, فالبنا يقول له أن واجبك ( أن تعمل على نشر دعوتك في كل مكان وأن تحیط القیادة علما بكل ظروفك ولا تقدم على عمل یؤثر فیها جوهریا إلا بإذن، وأن تكون دائم الاتصال الروحي والعملي بها، وأن تعتبر نفسك دائما جندیا في الثكنة تنتظر الأوامر ).
الواجب الأخير أعلاه يعطينا صورة واضحة وتعريفا دقيقا لوضع العضو داخل جماعة الأخوان المسلمين, فهو ليس سوى جندي داخل ثكنة عسكرية لا يستطيع التحرك إلا وفقاً لأوامر صادرة عن القيادة, وليس عضوا مبادرا صاحب رأي في إطار منظومة سياسية تختلف فيها الرؤى وتتصارع بطريقة ديموقراطية من أجل الوصول للقرار الأخير.

 

 

آراء