قانون الأمن وقانون الجاذبية …. وجدتها ، وجدتها !! … بقلم : العبيد أحمد مروح
26 October, 2009
Obeid51@hotmail.com
ما زلت أذكر ، على أيام الدراسة الابتدائية ، كيف أن أستاذ مادة العلوم عندما أراد أن يعطينا حصة عن قانون الجاذبية ، اضطر أن يستخدم تشبيها محليا ليقارب به الصورة الذهنية التي ارتسمت في ذهن أحد زملائنا الصغار وهو يسأل عن ( التفاحة ) التي قال لنا الأستاذ أن العالم الفيزيائي أرخميدس لاحظ أنها تسقط نحو الأرض عندما تنفصل عن فرعها ، بينما هو – أرخميدس - غارق في الاستحمام ، فخرج وهو عار يصيح ، وجدتها وجدتها ؛ وكانت تلك بداية اكتشاف قانون الجاذبية الأرضية !!
أما الصورة المستوحاة من بيئتنا ، والتي استخدمها الأستاذ فكانت ( الدومة ) فقد قال الأستاذ وهو يجيب على التلميذ ، ان ثمرة التفاح هي شيء يشبه ثمرة الدوم ؛ ولعل الكثيرين منا يعرفون أن بين التفاح والدوم ، تشابه كبير في الشكل واختلاف أكبر في المحتوى والطعم ؛ فالمرء منا ، اذا رزقه الله بتفاحة يستطعمها ، قد لا يحتاج أن يتحسس أسنانه ، أهي بحال جيد أم لا ، بل ربما لا يحتاج أن يتحسس فكيه حتى ؛ فمضغ التفاح وبلعه ، لا يحتاج الى قواطع وقوارض صلبة كما هو الوضع في حال الدوم .
تذكرت قصة عالم الفيزياء ، وهو يصيح بالحل الذي وجده ، للسؤال الذي يبدو أنه ظل يؤرقه لوقت طويل ، تذكرت ذلك وأنا أستعرض – ذهنيا – نقاط الخلاف بين القوى السياسية السودانية حول قانون الأمن الوطني ، وقلت في نفسي أنه ، ربما بسبب عمى الألوان السياسي ، غاب عني الحل الذي ظلت تدعو له الحركة الشعبية ، وأنصارها المعارضون ، لقانون الأمن ، وهو حل في غاية الوضوح والبساطة !!
الحركة وأنصارها المعارضون – اذا صح فهمي لمطلبهم - يريدون جهازا للأمن والمخابرات تكون مهمته الوحيدة هي جمع المعلومات ، وتحليلها ، ووضع التوصيات بشأنها ، ورفعها لمتخذي القرار السياسي ، لينظروا ماذا يفعلون بها ؛ ولأننا في السودان نرتب أنفسنا لدولة ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتقدسها ، فان الحركة الشعبية ومناصروها ، يرون أن جهاز الأمن الذي سينشأ وفقا للقانون الذي يجري نقاشه ، لا ينبغي أن تكون من وسائل جمع المعلومات لديه ، وسيلة الاعتقال والاستجواب ، وبالتالي الحصول على معلومات بمثل هذه الوسائل غير الانسانية ، وغير الحضارية !!
والحال هكذا ، فان على المؤتمر الوطني ومناصريه ، أن لا ( يغلبوا حالهم ) وأن يعمدوا الى انشاء مؤسسة ضخمة للأبحاث والدراسات ، ويرتبوا لها اشتراكات في كافة وكالات الأنباء الدولية والاقليمية ، فضلا عن مدها بتكنولوجيا الاتصال الحديثة ؛ وتكون هذه المؤسسة هي أداة الدولة السودانية في معرفة وتلقي الأخبار والمعلومات ، والتي يقوم الكادر البشري المؤهل والمدرب العامل فيها ، بجمع المعلومات عبر هذه الوسائل الحديثة ، ومن ثم يقوم بتصنيفها وتحليلها ، ورفع التوصيات المناسبة بشأنها . واذا كان للمعلومات التي يتم جمعها من المصادر البشرية بشكل مباشر من أهمية ، فليكن ذلك طوعيا ، عبر فتح خطوط الهاتف والبريد الالكتروني والرسائل النصية القصيرة ؛ ونكون بهذا لم نتمكن فقط من تجاوز أزمة سياسية تأخذ بتلابيب بلدنا فقط ، وانما تخلصنا والي الأبد من شيء اسمه جهاز الأمن والمخابرات ، وقدمنا تجربة فريدة للعالم !!
معذرة ، لقد فات على ، وأنا في غمرة الحماسة للفكرة التي تتبناها الحركة الشعبية ، أن أتذكر أننا – نحن السودانيين – لا نعيش وحدنا في هذا العالم ، بدليل أننا نريد أن نقدم للآخرين تجربة فريدة (!!) ولأننا نعيش في عالم نتقاسمه مع آخرين ، فانه من الضروري أن نقيس تجاربنا على تجارب هؤلاء ( الآخرين ) ، فنقتبس من الذين أحسنوا احسانهم ، ونتجنب اساءة الذين أساءوا . وحتى يصبح حديثنا مع الذين نختلف معهم في الرأي والتحليل قائما على أرضية مشتركة ، دعونا نفترض أن ( قدوتنا ) في موضوع صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات هذا ، هو الولايات المتحدة الأمريكية ، و المملكة المتحدة ، وننظر ما اذا كانت هنالك صلاحيات للحجز والاعتقال لدى أجهزة تلك الدول أم لا ، قبل أن ننظر في طبيعة تلك الصلاحيات الممنوحة في حال وجودها !!
في بريطانيا ، ثار جدل كثيف العام الماضي ، حول تعديل قانون مكافحة الارهاب ، فقد كان القانون الساري يعطي الأجهزة الأمنية صلاحية احتجاز ( المشتبه ) بهم في قضايا مكافحة الارهاب – وما أكثرها - تحفظيا ، لمدة (28) يوما ، وكانت الحكومة تطالب بزيادة مدة الاعتقال التحفظي لتصبح (42) يوما ، يساندها في ذلك عدد كبير من النواب في مجلس العموم ؛ الجدل اذن لم يكن حول وجود صلاحية الاعتقال التحفظي من عدمه ، بل كان حول المدة التي يقضيها المشتبه بهم في الاعتقال وهم يخضعون للاستجواب ، قبل أن توجه لهم التهم أو يطلق سراحهم ، وحول حماية حقوق المشتبه بهم ، وحماية المجتمع في آن !!
وفي الولايات المتحدة الأمريكية ، ثار جدل كثيف خلال الأشهر الماضية ، عندما كشفت لجان التحقيق في ملفات معتقلي سجن غوانتنامو ، أن أجهزة المخابرات الأمريكية كانت تستخدم ( الايهام بالغرق ) وسيلة لانتزاع اعترافات المحتجزين ... الجدل اذن لم يكن حول قانونية الاعتقال التحفظي ، ولا حول مدته التي تجاوزت في بعض الحالات الخمس سنوات ، ولكن الجدل ثار حول قانونية استخدام هذه الوسيلة من تلك ، لانتزاع اعترافات المشتبه بهم ، وما اذا كان الايهام بالغرق وسيلة مناسبة قانونيا أم لا ؟؟
بمنطق البحث عن أرضية مشتركة للنقاش ، نقول ان الجدل في العالم تجاوز النقاط التي نشتجر حولها نحن في السودان ، ذلك أن المخاطر التي يواجهها العالم الذي نعيش فيه اليوم ، لم يعد بعضها شأنا وطنيا فقط ، بل ان العولمة التي تمددت فجعلت من العالم وكأنه قرية صغيرة ، جلبت معها مخاطر ومهددات غير تقليدية ، للمجتمعات البشرية ، كظواهر التطرف الديني والعنصري ، والارهاب بكافة أشكاله ، والمخدرات والجرائم الاقتصادية من سرقة واحتيال وغسل الأموال ؛ وما دامت هناك مهددات أمنية غير تقليدية ، فالمنطق يقتضي قيام أجهزة أمنية لها القدرة والصلاحية على مواجهة هذه المهددات ، واعطائها صلاحيا غير تقليدية للتعامل معها ، من خلال التنبؤ بمخاطرها ، وجمع المعلومات حولها ، وتحليلها ، والوصول لاستنتاجات وتوصيات بشأنها ؛ والصلاحية التي يتحدث عنها النواب في مجلس العموم البريطاني ، وفي الكونغرس الأمريكي ، ونتحدث عنها نحن هنا ، هي صلاحية الاستدعاء والاحتجاز بغرض الاستجواب ، ولا نقول صلاحية استخدام وسائل غير قانونية كالايهام بالغرق !!
لقد تمكن شخص ، كالعالم الفيزيائي أرخميدس ، من الوصول لاكتشاف مذهل بمجرد الملاحظة ، وهو – كما فهمنا من الدرس – في حالة استرخاء داخل بركة السباحة ، ولعلنا في السودان نتمكن من تقديم السباحة الآمنة ، بديلا للايهام بالغرق ، فيخرج الموقوفون بواسطة أجهزتنا الأمنية وهم يصيحون : وجدتها ، وجدتها !!
وما دمنا قد عدنا لسيرة أرخميدس والتفاحة مرة أخرى ، فلا بأس من التذكير بأن المخاطر التي تحيط ببلادنا وتحدق بمجتمعنا ، تقتضي قيام جهاز للأمن والمخابرات ، له من القوة والقدرة على القيام بمهامه ، ما يجعله مثل ( الدومة ) عصيا على القضم والعض ، وليس كالتفاحة سهل العض والقضم والالتهام . على أن الذي ينبغي أن تنكب عليه طوائف مجتمعنا السياسية ، ليس هو نزع الأسنان والأضراس من قانون الجهاز ، وانما المواءمة بين اعطاء الجهاز صلاحية حماية أمن المجتمع ، واعطاء أفراد المجتمع حق التمتع بحقوقهم الدستورية ، وهي لعمري ليست مهمة سهلة ، ولا يخفف من ثقلها الا أخذ العبرة من تجارب الأمم والشعوب التي سبقتنا ، والتي لا نختلف حول ايمانها بحق الانسان في الحرية والعيش الكريم .