قراءات في تاريخ السودان المعاصر والروايات الشفاهية (الحلقتين الرابعة والخامسة)

 


 

 

( 4 / 5 )

روايات وأقوال رائجة تمحوها وتنسخها حقائق ومدونات وثائقية
1. رسالة الخليفة عبد الله للملكة فكتوريا:
ظل بعض المهتمين بتاريخ المهدية من غير المؤرخين والباحثين الأكاديميين يتداولون إلى يومنا هذا روايات شفاهية بأن خليفة المهدي عبد الله عرض على ملكة بريطانيا – فكتوريا – الزواج إن هي أسلمت واتبعت المهدي عليه السلام وأذعنت لحكم الخليفة...وفي رواية أخرى يزوجها لصفيه يونس ود الدكيم!
كادت هذه الرواية ترسخ وترقى إلى مصاف الحقائق التاريخية المؤكدة من فرط التكرار والتواتر والتناقل. وأصل ومصدر هذه الرواية ربما الرسالة الوحيدة الأولى والأخيرة التي بعث بها الخليفة إلى الملكة خاطبها في مطلعها بقوله (... إلى عزيزة قومها فكتوريا ملكة بريطانيا، سلام على من اتبع الهدى...) لم يرد في هذه الرسالة أي ذكر أو إشارة لا تصريحاً ولا تلميحاً أو إيحاء إلى مسألة الزواج المزعوم... كل ما عرضته الرسالة على الملكة ودعتها إليه إنما هو الإسلام لا الزواج... الإسلام لا الزواج! (7)
وكنت قد وقفت على نص هذه الرسالة وأصلها في دار الوثائق القومية في سياق بحث قصير عن ( الدبلوماسية الرسالية) وهو فصل في كتابي (مذكرات) بعنوان (حياة في السياسة والدبلوماسية السودانية) صدر مطلع العام 2013.
ولكن ماذا عن " الديبلوماسية الرسالية؟" ما هي؟ وما أهدافها ووسائلها ونتائجها؟
إبتدر رسول الإسلام سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه الديبلوماسية الرسالية بالتواصل مع الملوك والزعماء عبر المبعوثين والرسائل في دولة المدينة التي قام على تأسيسها وإدارتها. وكانت الدعوة للإسلام وتبليغ رسالة خطية موجهة عبر هذه البعوث وتلك الرسائل للأباطرة والملوك وزعماء القبائل في جزيرة العرب وما حولها، تبشيراً ودعوة بالحسنى وتحذيراً وإنذاراً لمن طغى واستكبر واستدبر وأبى الدخول إلى دار الإسلام سِلماً.
ومن أبكر وأشهر هذه الرسائل رسائل الرسول (ص) لهرقل إمبراطور الدولة البيزنطية ولخسرو الثاني إمبراطور فارس وللمقوقس حاكم مصر ولملك الملوك النجاشي في الحبشة. وقد أفاض المؤرخون، مسلمون ومستشرقون، في وصف هذه الديبلوماسية الرسالية من حيث مضمون الرسالة وصفة المبعوثين الذين حملوها وبلَّغوها وردود الأفعال التي عادوا بها للمدينة.
وممن أوفى الموضوع حقه من الشرح والتحليل المستشرق مونتغمري وات في كتابه بالانجليزية وعنوانه المترجم محمد: الرسول ورجل الدولة وكتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل وما جاء في كتاب الدكتور عون الشريف قاسم بعنوان: دبلوماسية محمد والذي أورد فيه نصوصاً مقارنة لتلك الرسائل استوفى في تحقيقها شروط مناهج البحث العلمي بتنقيتها من أغراض الرواة وشوائب الرواية.
وللدبلوماسية الرسالية إرث وتراث وتجربة في تاريخ الثورة المهدية في السودان إذ اتخذ الإمام محمد احمد المهدي ومن بعده خليفته عبد الله ألتعايشي أسلوب المنشورات والرسائل الخطية وإيفاد المبعوثين للاتصال والتواصل مع الزعماء الدينيين والقبائليين داخل السودان وخارجه ومع بعض الملوك والسلاطين في دول الجوار وما وراء الجوار والبحار. وسارت رسائل المهدي وخليفته على نسق وسُنن دبلوماسية دولة المدينة من حيث البلاغ وتبليغ الدعوة ، وإن اختلف المضمون بالتركيز على أن "المهدي المنتظر قد ظهر ليملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جورا" والدعوة لمبايعته وإتباعه إماماً للمسلمين.
ومن تلك الرسائل "الرسالية" رسالة الخليفة عبد الله للملكة فكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى والمؤرخة جمادى الثاني سنة 1304 هجرية الموافق مارس 1887 يدعوها للدخول في الإسلام وجاء في صدر الرسالة: "....إني أدعوك إلى الإسلام فان أسْلمتِ وشهدتِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأتبعت المهدي عليه السلام وأذعنتِ لحكمي فاني سأقْبَلِكْ وأبشرك بالخير والنجاة من عذاب السعير وتكوني آمنة مطمئنة، لك ما لنا وعليك ما علينا، وتتصل بيننا المحبة في الله..." ثم أضافت الرسالة في فقرة أخرى التهديد والوعيد: " ..وإن أبيتِ إلا الجحود إعتماداً على ما عندك من الاستعدادات والجنود فاعلمي إنك في غرور كبير كاسِد فان رجال المهدية طبعهم الله على حب الموت وجعله أشهى لهم من الماء البارد للظمآن فلذا صاروا أشد على الكفار كأصحاب رسول الله الأبرار لا تأخذهم في الله لومة لائم..."
وأوجزت الرسالة الوعيد والتهديد في ختامها بالقول: "... وإنكِ إن لم تُسلِّمي لأمر الله وتدخلي في ملةِ الإسلام واتباع المهدي عليه السلام فاحضري بنفسك وجِنودك لحرب حزب الله، وإن لم تحضري فاستعدي في محلك فان حزب الله سيطأ دارك بإذن الله في الوقت الذي يريده الله ويذيقَك السُّوء بما صددت عن سبيل الله وفي هذا كفاية لك.. والسلام على من اتبع الهدى...."
وعلى خلاف ما شاع بين عامة السودانيين المهتمين بتاريخ المهدية من غير الباحثين والمؤرخين فلم يرد في الرسالة أي ذكر أو وعد من الخليفة عبد الله بزواجه من الملكة إن هي أسلمتْ! لكن ماذا كان رد الملكة؟ هل وصلتها الرسالة أو بُلِّغت محتواها ومضمونها؟
وصلت هذه الرسالة إلى قسم المخابرات بمقر المندوب السامي البريطاني بقصر عابدين بالقاهرة وأطَّلع عليها رينالد ونجت رئيس القسم ووجه بإرسال الترجمة إلى وزارة الخارجية البريطانية مرفقاً معها تعليقه التالي: "... ربما لا تعرض هذه الرسالة على الملكة للإطلاع عليها...." ويبدو هذا رأي ونجت بان ليس هناك ما يدعو من حيث الأهمية واللياقة لإطلاع صاحبة الجلالة على مثل هذه الرسائل ( الاستفزازية!!)؟ إلا أن مؤرخي المهدية لم يجزموا بالرأي اليقين إن كانت الملكة علمتْ بها أو أطلعت عليها. ولكن وبعد مضي عشر سنوات على هذه الرسالة الدبلوماسية أو ربما "الدبلوماسية الرسالية" تبلورت ردود الفعل في الخطط والاستعدادات البريطانية من مصر والتي أشرف عليها ونجت نفسه لغزو السودان وتدمير الدولة المهدية واغتيال خليفة المهدي في دم بارد وهو راكع ساجد يصلي في أم دبيكرات، رحمة الله ورضوانه عليه.
2. "السيد علي الميرغني ملكاً علي السودان":
جاء في جريدة " الأحداث " السودانية الصادرة في 3 فبراير 2012 أن السيد علي الميرغني رحمة الله عليه ورضوانه " رفض عروضاً عديدة من الإمبراطورية البريطانية بأن يكون ملكاً علي السودان....".!!
ولم يرد في هذا الخبر شئ عن سيرته الذاتية وعن متي وكيف ولماذا قُدمت له هذه العروض "المتكررة" ؟ ومن بادر بها وحملها لمولانا الميرغني نيابة عن الإمبراطورية؟ هل هو الحاكم العام أو موفد له أم من هو دون ذلك ممن كانوا علي رأس السلطة البريطانية في السودان خلال سنوات حكمهم للبلاد 1900 – 1956 ؟
كنتُ قبل سنوات مضت تقصيت هذا الخبر، والذي جاء علي ألسنة الرواة وأشباه المؤرخين، في الوثائق البريطانية المودعة في أرشيف السودان بجامعة دارام Sudan Archives وبحثتُ عنه أيضاً في سياق بحث لي حول تاريخ الحركة الوطنية وفي مجموعة "الوثائق البريطانية" عن تاريخ السودان المعاصر التي أشرف علي إعدادها ونشرها وترجمتها عام 2003 الأستاذ محمود صالح عثمان صالح عام رحمه الله .. فلم أجد للخبر أثراً يذكر ولا حتى إشارة توحي بالمعني !
وكذا فعلتُ عند العودة لأمهات الكتب عن تاريخ السودان الحديث والمعاصر لأعلام المؤرخين السودانيين والبريطانيين فما وجدت فيها ما يشير إلي أن البريطانيين سعوا لمولانا السيد علي الميرغني عارضين عليه مُلك السودان.
إلا ان صحفي سوداني مخضرم كتب قبل سنوات عن سيرة السادة الميرغنية فأورد هذه الرواية وخبر هذا "العرض" وبأن السيد علي الميرغني أعتذر ولم يقبل .. فقلت له أن شيئاً من ذلك لم يحدث ويلزم أن نصحح التاريخ ونصوب كثيراً من الأخطاء والروايات الشفاهية الشائعة عنه وخاصة في أوساط العامة والناشئة من تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات وبين الأتباع والمريدين فلا تحل أنصاف الحقائق وأشباهها وسرابها محل الحقيقة التاريخية المجردة.
ويعلم كل من وقف من المؤرخين والاكاديميين علي سياسات البريطانيين في السودان تجاه الزعامات القبلية والطائفية أنهم اعترفوا لهؤلاء بسلطانهم وسلطاتهم التقليدية المتوارثة وأجازوهم وثبتوهم فيها بل منحوا بعضهم مزيداً من السلطات الإدارية والقضائية ... لماذا؟ لضمان ولاءهم وطاعتهم وتعاونهم في إدارة شئون بلد مترامي الأطراف متعدد القبائل متنوع العادات والتقاليد يصعب حكمه وإدارته من الخرطوم أو حتى من عواصم الأقاليم والمديريات.
..فعل البريطانيون كل ذلك ضمن سياسة استقطاب وحشد التأييد والمؤيدين للحفاظ علي أمن واستقرار "المستعمرة" ونشر ما أسموه سلام الإمبراطورية في ربوعها: Pax- Britanica . ومن ناحية أخري فان مثل هذا العرض المزعوم للسيد الميرغني ليكون ملكاً علي السودان يجافي ويناقض سياسة الإدارة البريطانية في السودان ... بل يقوض ركناً أساسياً من أركانها وهو حفظ توازن القوي والنفوذ بين زعماء الطوائف والقبائل السودانية وخاصة بين طائفتي الأنصار والختمية وزعيميها السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي طيب الله ثرائيهما. وحفظ التوازن هذا يشير إليه المؤرخون والسياسيون أحيانا بسياسة "فرق تَسُدْ " Divide and Conquer ".
ولا علم لنا ولا لدي المؤرخين دليل بأن عرضاً مماثلاً قدمته الإمبراطورية لزعيم ديني أو قبلي في أي من مستعمراتها الأفريقية أو العربية أو في مستعمرة الهند مثلاً درة التاج البريطاني كما وُصفتْ يوماً ما.
ولا يقولن احدهم إن عرض مُلْك السودان قد قدم للسيد علي الميرغني شفاهة ولذا لن تجد له أثراً أو إشارة في الوثائق المكتوبة والتي تقصينا النبأ في صفحاتها ولم نعثر عليه!
إن مثل هذا العرض إن قُدم فعلاً - وهو لم يقدم أصلاً – لورد ذكره تدويناً في التقارير والبرقيات الرسمية المتبادلة بين الخرطوم ولندن، أكانت التقارير الدورية أو السنوية للحاكم العام أو في تقارير قلم (إدارة) المخابرات المحلية في السودان. هذا قرار لا يجوز للخرطوم أن تتخذه منفردة قبل التناصح أو التشاور مع وزارة الخارجية البريطانية (إدارة السودان الاستعمارية لم تك تتبع لوزارة المستعمرات وإنما للخارجية لأسباب ليس هذا مكان شرحها).
ولا أدري إن كان لدي مؤرخي الطريقة الختمية أو لدي آل البيت الميرغني وسدنة الطريقة من الوثائق (سوي الروايات الشفاهية والتي لا تنهض وحدها دليلاً علي صحة الواقعة والعرض المزعوم) ما لم نقف عليه في المظان والمصادر التي أشرنا إليها.
ولئن جاز وصح قولنا أن عرض مُلك السودان علي مولانا الميرغني لم يقدم أصلاً ولا وجود له في سجلات ومصادر تاريخ السودان المعاصر فان هذا لا ينتقص من سيرته الوطنية العطرة ومن دوره في تحرير البلاد من الاحتلال والسيطرة الأجنبية ومن خدمته للإسلام والمسلمين بنشر الإسلام وبإحياء سيرة وسنة رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام.


قراءات في تأريخ السودان المعاصر و الروايات الشفاهية ( 5 /5 )
3) رواية عن ملكية "بيت السودان" في لندن
أشرنا أعلاه إلى أن روايات شفاهية لا أساس لها من الصحة والدقة شاعت وراجت وتواترت وتناقلها عامة الناس عن جوانب من تاريخ السودان المعاصر وكاد بعضها يرقى إلي مصاف الحقائق التاريخية أو هي بالفعل حلت مكان الحقيقة في طيات الثقافة الشعبية.
وهذه رواية ثالثة عن مِلْكِية بيت السودان في لندن SUDAN HOUSE إذ زعم الرواة أن الِملْكِية تعود لطيب الذكر عظيم السيرة الإمام عبد الرحمن المهدي – رحمه الله – أهداه داراً للجالية السودانية عند زيارته الرسمية للندن في أكتوبر 1952م .
ومما حفزني وحرضني على تصحيح وتصويب هذا الخبر ما قاله ضيف من النخبة السودانية في برنامج راديو أم درمان وبث عام 2013 بان الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا العظمى هي التي أهدت العقار (بيت السودان) للسيد عبد الرحمن أثناء تلك الزيارة فأهداه وأوقفه بدوره للجالية السودانية!!
وعادت بي الذاكرة وأنا استمع لهذه الرواية التي بثتها إذاعتنا العتيقة إلى عام 2002م عندما زارني في الخرطوم مدير إدارة الأوقاف بوزارتنا، وزارة الشئون الدينية والأوقاف، ليحدثني عن خطة الوزارة لتطوير واستثمار الأوقاف السودانية بالخارج ومنها "بيت السودان" في لندن!! والذي كما ظنَّ وقال أوقفه السيد عبد الرحمن لصالح السودانيين المقيمين في بريطانيا! ويود القيام بزيارة للندن للوقوف على حالة ذلك الوقف! وتلك كانت رواية أخرى عن أن البيت كان وقفاً.
وبقدر ما فاجأني مدير الأوقاف بإصراره وتيقنه من صحة ما قال، كاد وجهه يَسْوَد وجبينه قد تقطب عندما أكدتُ له أن البيت ليس وقفاً كما تَوهَّم هو وليس وحده فمثله كثيرون... إن بيت السودان عقارٌ مملوك لحكومة السودان ومن قبل الاستقلال.. وهو ملك حر Free hold تم شراؤه عام 1947 بتصديق من السكرتير المالي في الخرطوم Financial Secretary ويقعُ في منطقة بادنقتون وسط لندن: Paddington ليكون دار ضيافة قصيرة الأمد للمبعوثين السودانيين الوافدين لبريطانيا للدراسات العليا والتدريب الفني والمهني والي حين انتقالهم إلى مواقع سكنهم الدائم ودراساتهم في الكليات والمعاهد في لندن والمدن البريطانية الأخرى.
هذا وكانت أعداد المبعوثين السودانيين للدراسة والتدريب في بريطانيا تزايدت وتضاعفت عقب نهاية الحرب العالمية الثانية... جاءوا مبتعثين من مختلف المصالح الحكومية: من مصالح ووزارات الصحة، الأشغال، السكك الحديدية، مشروع الجزيرة، القضائية وكلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم فيما بعد) ..الخ.
تم شراء البيت بواسطة المسؤولين البريطانيين في ما عرف آنذاك بوكالة السودان Sudan Agency (سفارة السودان لاحقاً عام 1956) ثم انتقل في يوليو 1953 إلى موقعه الحالي الذي اشتهر به وهو 32 Rutland Gate في منطقة نايسبردج وسط لندن. وشهادات البحث (شهادة التملك) محفوظة في أرشيف بعثتنا الديبلوماسية بلندن، اطلعتُ عليها قبل سنوات إبان رئاستي للبعثة.
ولكن كما هي سمة وسيرة الروايات الشفاهية من ناحية عامة فأنها لا تخلو من رهاب أو سراب معلومة صحيحة ومثقال ذَرَّةٍ من الحقيقة..وهذا المثقال في رواية مِلْكية السيد عبد الرحمن لبيت السودان هو إهدائه قطع أثاث فاخرة - بمقاييس زمانها ومكانها – تستكمل نواقص البيت وذلك عند زيارته له في أكتوبر 1952 وفي موقعه الأصلي في بادينقتون وعند لقائه بأعضاء الجالية الذين إحتفوا به وبمقدمه لبريطانيا.
وكانت الهدية سجادة كبيرة وجهاز تلفزيون زُينتْ بهما صالة وصالون البيت.
... لذا فهو لم يهدهم داراً كما قال الرواة والرواية وإنما أثاثاً لدار قائمة منذ سنوات (1947) وكائنة في المنطقة التي اشرنا إليها.
أما تاريخ "بيت السودان" وتاريخ البعوث والابتعاث لبريطانيا ودور الدار ومآلاتها وحالتها الراهنة المأسوف عليها وفشل مساعي إصلاحها وتطويرها فلا يسعه موضوع وأسطر هذه الدراسة. تكفي الإشارة الى أن أفضل ما كُتِبْ عنه هو دراسة غير منشورة أعدتها السيدة البريطانية بير كليتون Beer Clayton أول مديرة ومشرفة على إدارة بيت السودان والتي التحقت للعمل بوكالة السودان والسفارة لاحقاً خلال السنوات 1929 – 1963.
وقد عكف السفير الروائي جمال محمد إبراهيم على ترجمة هذه الدراسة إلى العربية مع مقدمة عن سيرة السيدة كليتون (كليتونا كما كان يناديها المبعوثون) وعن مشاعرها الدافئة الصادقة ومحبتها ووفائها للسودان وللمبعوثين السودانيين الذين رعت شئونهم وأحسنت إليهم لنحو ربع قرن. وهذه دراسة لم يتم نشرها بعد.
و يا للمفارقة فان السيد عبد الرحمن المهدي لم يَدَّعِ ملكية البيت – بيت السودان في لندن- وربما لم يسمع بهذه الرواية التي نَسبتْ إليه هذا الحق المزعوم إلي يوم وفاته عام 1959.ولكن ومرة أخرى فان آفة الأخبار رواتها وآفة الروايات ما يشوبها من إضافة وحذف وتحوير وغرض وما يعتري الذاكرة الجمعية من وهن وضعف عند النقل والتداول.
4) شعار "السودان للسودانيين" أصل وتاريخ الشعار ودلالاته:
يعود أصل هذا الشعار السياسي من شعارات ونداءات الحركة الوطنية السودانية إلي السياسة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1919) ... ثم تلقفه بعيد نهاية الحرب الثانية تيار الاستقلاليين ولكن في سياق سياسي مختلف وفي بيئة وطنية مختلفة.
أصل الشعار بريطاني ابتدعه وصاغه وروج له لأول مرة عام 1917 رينالد ونجت باشا ثاني حاكم عام للسودان )خلف هربرت كتشنر وبعد انتقاله من الخرطوم إلى القاهرة مندوباً سامياً لبريطانيا في مصر.)
يلخص الشعار سياسة بريطانيا آنذاك الرامية إلى عزل السودان عن مصر وعن رياح التغيير التي بدأت تهب جنوباً صوب السودان، أثر ثورة 1919... ومن هذه الناحية فلم يكن شعار السودان للسودانيين سوى قول حق أريد به اقصاء مصر أي أن السودان للسودانيين لا للمصريين... يتبع لبريطانيا وليس لمصر كحق تاريخي وسيادي لها..كما ظلت تزعم وتطالب به منذ نجاح الثورة المهدية.
كان إندلاع الثورة المصرية في مارس أبريل 1919 – ما يعرف بثورة 1919 – حدثاً يدعو إلي الحذر والتشاؤم في نظر الإدارة البريطانية الاستعمارية إذ كان موظفوها يخشون أن تؤدي الاضطرابات السياسية المتجددة في مصر إلى إستجابة الحكومة البريطانية للمطالب المصرية للظفر بدور اكبر وأهم في حكم السودان: بعث ونجت المندوب السامي في مصر في ديسمبر عام 1918 – قبل بضعة أشهر من اندلاع الثورة – إلي الخارجية البريطانية يحث حكومته لإستبقاء الحالة الراهنة Status Quo في السودان كما هي مهما حدث من تغييرات دستورية وسياسية وضغوط مصرية . قال ونجت في تلك الرسالة، ( والترجمة لي) "طالما أن السودان في قبضتنا فإننا نمسك بمقاليد الأمور في مصر.. ولذا مهما كان مصير مصر ومستقبلها السياسي والدستوري فيجب ألا يدور السودان في فلكها..." وأضاف ونجت في رسالته: "السودان ..يمثل أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة لنا ولكنه كجزء من مصر يشكل خطراً حقيقياً على الإمبراطورية إذ انه سيتحول إلى بوتقة لصهر المؤامرات المصرية والأجنبية من أواسط أفريقيا والحبشة وإرتريا...الخ" وخلص ونجت إلى أهمية المحافظة على الوضع القائم في السودان –مستعمرة بريطانية خالصة وشراكة مصرية هامشية – وهذا يتم بعزل السودان عن مصر بإحكام إغلاقه في وجه النفوذ المصري ولصد رياح التغيير التي تهب منها جنوباً. حُظي هذا الشعار – السودان للسودانيين، والذي أخترعه لأول مرة ونجت باشا كما أسلفنا، بالتفهم والقبول والاستحسان والترديد من زعماء الطوائف الدينية الكبار وبتشجيع من الإدارة البريطانية بأن ليس لمصر حق تاريخي في السودان مثل الذي لبريطانيا، حق الفتح! وليس أصدق تعبيراً عن هذا المفهوم وهذا التفسير للشعار من برقية الولاء التي أرسلها هؤلاء الزعماء لحاكم عام السودان السير لي ستاك في 23 أبريل 1919 ونشرتها صحيفة "السودان" الصحيفة الرسمية. جاء في البرقية " نحن الموقعين أدناه أصالة عن أنفسنا ونيابة عن كل شعب السودان نستعجل بالتعبير للحكومة البريطانية عن الآتي:
1. الامتنان التام لكل ما قام به المسؤولون البريطانيون في السودان لخير السودان.
2. ولائنا العظيم والصادق للحكومة البريطانية الذي لا يتغير.
3. تأكيدنا القاطع بأنه لا يد لنا ولا صلة تربطنا بالحركة التي تجري الآن في مصر (ثورة مارس –ابريل 1919) كما أن تلك الحركة لا تمثل تطلعاتنا..."
وقد أكدّ معنى شعار - السودان للسودانيين - تحت التاج البريطاني لا التاج المصري سلسلة المقالات التي نشرتها جريدة "حضارة السودان" في مطلع عام 1920 بقلم السيد حسين الخليفة شريف إبن أخ السيد عبد الرحمن المهدي وأحد ملاك الصحيفة بالشراكة مع السيدين علي الميرغني والشريف الهندي. فتحت عنوان المسألة السودانية جاءت المقالات تدحض جميعها المطالب المصرية في السيادة على السودان وتؤكد حاجة السودان للوصاية والرعاية البريطانية وجاء في واحدة من تلك المقالات وبعنوان "لماذا نفضل البريطانيين على المصريين؟":
"إن السودانيين لا يستطيعون حكم أنفسهم في الوقت الراهن دون توجيه أجنبي وأن مصر لا تملك الخبرة في فن حكم الآخرين... وإذن لم يبق غير البريطانيين الذين هم دون شك أكثر الأمم الأجنبية مهارة وخبرة في حكم الشعوب الأخرى...."
هذا الاتجاه والرأي السوداني في العلاقة بين السودان من جهة ومصر وبريطانيا من جهة أخرى سرعان ما تبلور في تبني النخبة السودانية التقليدية لشعار "السودان للسودانيين" وهو في ظاهره شعار وطني بلا شك ولكنه في حقيقة الأمر استحدث وبُثَّ لصالح المحتل والمستعمر البريطاني وعلى حساب مصر والسودان كليهما. ولعله من المفارقة بمكان أن ونجت باشا كما أوضحنا كان أول من بشر بهذه الفكرة وصاغ هذا الشعار باعتباره الأدعى والأفضل كسياسة لانفراد بريطانيا دون مصر بإدارة السودان وتأمين مصالح وأمن الإمبراطورية البريطانية في المنطقتين الأفريقية والعربية.
لا شك ان الشعار قد اكتسب معناه الحقيقي الوطني بعد نحو ثلاثة عقود (بعد الحرب العالمية الثانية) كتعبير عن مطلب حق تقرير المصير والاستقلال عن كل من مصر وبريطانيا وصار شعاراً داوياً صادقاً لتيار ما عرف بالحركة الاستقلالية بزعامة حزب الأمة، وإنْ إستبطن أصداء خافته لمعناه الباكر وهو عزل السودان وفصله عن مصر.

=====

abasalah45@gmail.com

 

آراء