قراءة عصرية في منشورات المهدية

 


 

 

لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟!

(1من6)

[كتب هذا المقال قبل ستة عشر عاما وينشر اليوم كاملا للمرة الأولى]

طلبت من مكتبة جامعة المسيسيبي أن تزودني بنسخة من كتاب (منشورات المهدية).
ولما كانت المكتبة لا تملك هذا الكتاب، فقد طلبته لي من مكتبة أخرى.
ففي نظام الإعارة الداخلية بين المكتبات الأمريكية، تطلب مكتبة الجامعة الكتاب من أجلك، من مكتبة أخرى، على مسؤوليتها، وتعيرك إياه ريثما تقضي وطرك منه، ثم تعيده إليها.
نسخة أم درمان من الكتاب:
لم يخطر ببالي يومها غير أني سأحصل على نسخة من الكتاب، الذي حققه العلامة الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم.
ولكن كم كانت دهشتي بالغة، إذ جاءت لي الجامعة بنسخة من الكتاب، استعارتها من مكتبة جامعة هارفارد، كانت من الطبعة الأولى لكتاب(منشورات المهدية)!. وهي الطبعة التي صدرت عن مطبعة الحجر، بأم درمان، في عام 1896م.
وكانت قد طبعت بأمر من الخليفة عبد الله التعايشي، رحمه الله.
وهذه النسخة لم يكن للدكتور العلامة أبي سليم، رحمه الله، علم بوجودها، لأنه قرر أن النسخة التي حقق منها طبعته للمنشورات، هي نسخة جامعة بريطانية، وذكر أنها النسخة الوحيدة، التي بقيت في العالم أجمع، مما صدر عن مطبعة الحجر، من (منشورات المهدية).
عمر هذه النسخة هو بالضبط اليوم خمس عشر ومائة سنة ميلادية، وهي مع ذلك تبدو في وضع سليم، ولا تعروها آثار البلى، لأن مكتبة جامعة هارفارد قد عرفت قدرها، فصانتها من أيدي العوادي والحدَثَانِ.
ويضم  هذا المجلد من كتاب المنشورات جزئين اثنين، أولهما: في 290 صفحة وهو  يحتوي علي المناشير الدالة إلى الله، بدلالة القرآن العزيز، للإمام عبد الله المهدي.
ويليه الجزء الثاني: الذي يحتوي على الإنذارات، لبعض العلماء، ومشايخ الدين والحكام.
وعلى صدر هذه الطبعة من (منشورات المهدية) كتب التصدير التالي: هذا هو "الجزء الأول من مناشير سيدنا الإمام المهدي المنتظر محمد بن عبدالله عليه السلام. طبع بمدينة المهدي عليه السلام، يوم السبت المبارك لتسع مضين من شوال عام 1314هـ من هجرته صلى الله عليه وسلم وشرف وبارك ".
الأرواح المتمردة:
والمطلع على هذه المنشورات المتكاملة يرى فيها الدليل الساطع علي عمق العاملين الروحي  والعلمي في الثورة المهدية.
ويرى أن الإمام المهدي إنما حرك كتل الناس للجهاد عندما أفرغ قلوبهم من حب المادة، وحلق بهم في سماوات الروح.
وهذه المعاني أدركها من دون أن يقرأ تفصيليا هذه المنشورات، المفكر الثوري الكبير اللماح، كارل ماركس، فاحتفي بالجانب الروحي في الثورة المهدية.
ولا ريب أن ماركس كان على اطلاع عام على أخبار الثورة المهدية، مما كانت تنشره صحيفة (التايمز) البريطانية من أخبارها.
وعلى إثر معركة الجزيرة أبا في عام 1881م، قيل إنه كتب إلى رفيقه في الفكر والنضال، فريدريك إنجلز، قائلا: إن الأخبار التي تأتينا من السودان، في هذه الأيام، أخبار مثيرة للفكر، وإنها ستدفع بنا إلى أن نجيل النظر في مجمل بنية المذهب الشيوعي، الذي ندعو إليه، وستجبرنا على إعادة التأمل في حديثنا عن أن الدين إنما هو مجرد إفراز للوضع الطبقي، وتدعونا إلى النظر بعين النقد إلى أطروحتنا المتفرعة عن ذلك، وهي القائلة إن: (الدين أفيون الشعوب). فإن الدين الإسلامي، بهذه الصيغة الثورية المهدوية المتفجرة في السودان، أصبح، وسيضحى وقودا للثورة العالمية ضد الإمبريالية، ولا يمكن أن يوصف بأنه أفيون يخدر المستضعفين كما كنا نقول!
من ماركس إلى القدَّال:
ولكن لم يتمكن كارل ماركس من التفرغ لإعادة النظر في مجمل فكره، على نحو جذري، لأنه مات بعد عامين من معركة الجزيرة أبا، التي انتصر فيها مستضعفو السودان على جند الإمبريالية المقتحمين.
ولقد كان ينتظر أن لو عاش كارل ماركس دهرا بعد ذلك، أن يعيد ترتيب التفكير اليساري الثوري على نحو جديد، غير معاد للدين.
ولربما انطلق شعاره الثوري بعد ذلك لينادي: يا مستضعفي العالم، إن الدين ليس أفيونا للشعوب، كما كنا نقول، بل هو وقود الثورة، فاتحدوا وانتظموا خلف قيادة الإمام المهدي القادم من بلاد السودان !
وقد كان من المفروض أن ينهض الرجل الذي خلَف ماركس على إمامة الفكر الشيوعي، وهو فريدريك إنجلز، بالواجب حيال هذه المسألة التأسيسية المهمة.
ولكنه لم يقم به كما ينبغي، ولم يقم به أي خلف لذلك السلف.
بل إنهم سدروا في غيهم يستخدمون أطروحات ماركس المادية المتطرفة، التي كان هو نفسه على وشك التخلي عنها.
وحتى عهد غير بعيد كان أحد أحفادهم، وهو الدكتور محمد سعيد القدال، يدرِّس طلابه بجامعة الخرطوم، وقائع الثورة المهدية بمصطلحات ماركسية، ويصورها صراعا طبقيا ماديا بين البروليتاريا السودانية والإمبريالية الغربية !!


قراءة عصرية في منشورات المهدية
لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟!
محمد وقيع الله
(2من6)

تسلط (منشورات المهدية) أضواء قوية إلى مكامن أسرار وخفايا وخواص لتلك الثورة الهائلة، التي بعثها الإمام المهدي، ورجَّ بها أرجاء البلاد، وقوض بها أركان الظلم والاحتلال الأجنبي.
ونشر بها الفكر الجهادي الذي تألف من فكر صوفي ذي لهب. 
وتفيد قراءة هذه المنشورات أول ما تفيد في تحديد جذور ثقافة الإمام المهدي، ومنابع فقهه الديني والسياسي.
ثقافة الإمام المهدي
فقد كان  المهدي على ثقافة دينية فقهية و(عرفانية) قوية، استمد أقلها من من تعليمه النظامي، وأكثرها من اطلاعه الخاص على فكر حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، (من أهل القرنين الخامس والسادس الهجريين) وخواطر الصوفي الأندلسي ابن عربي الحاتمي (من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين).
وعن تكوين المهدي العلمي ذكر العلامة، الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم، أن الإمام المهدي:" نال قسطا وافرا من التعليم، في حدود ما كان متاحا لأترابه، في ذلك الزمان ".
وذكر عنه العلامة الدكتور، عز الدين الأمين، أنه التحق بمسجد كترانج ودرس هنالك كتبا من عيون التراث منها (قطر الندى وبل الصدى) و (شذور الذهب في معرفة كلام العرب) لابن هشام الأنصاري، وهو المؤلف الذي قال عنه الإمام  ابن خلدون: " ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه "!
التكوين الفكري المتين
وربما درس المهدي هناك من كتب الفقه المالكي، الرسالة الشهيرة لسيدنا ابن أبي زيد القيرواني التونسي المالكي السلفي، ومن كتب العقيدة الأشعرية (جوهرة التوحيد) لإبراهيم اللقاني المالكي، وغيرها من كلاسيكيات أصول علوم الدين.
وفي عام 1297هـ اختتم المهدي دراساته بأكاديمية كترانج، الرفيعة الشأن، وفكّر في الالتحاق بالأزهر بمصر، إلا أنه توقف في طريقه إلى هناك بخلوة الشيخ محمد الخير عبد الله خوجلي الشهيرة بالغبش، غربي مدينة بربر، واستقر بها.
وطابت أوقاته هناك بصحبة الكتاب الأشهر والأخطر، في تاريخ الثقافة الإسلامية، كتاب (إحياء علوم الدين)، من تأليف سماحة الإمام الأكبر، شيخ الإسلام وحجته أبي حامد الغزالي.
ومما ينقله الرواة أن الشيخ الغبشاوي افتقد المهدي لعدة أيام، وسأل عنه، وطفق يبحث عنه بنفسه في كل مكان، حتى وجده أخيرا منزويا في خلوة روحية رهيبة منكبا على قراءة كتاب الإحياء.
وراعه ذلك المنظر المذهل وأزعجه، فانتزع الكتاب من يد الفتى المهدي، خشية أن يحترق بوهجه ولهيبه، وأمره في لهجة المربي العارف الحازم، ألا يقترب من كتاب الإحياء، إلا بعدما يستكمل دراساته في الفقه المالكي.
فـ (كورسات) الفقه المالكي، بلغة المناهج الحديثة، هي المتطلب القَبْلي، للاستغراق في (كورسات) التصوف، والسباحة في بحوره اللجية العارمة.
وفي قرية (أم مرحى) المعمورة، لازم الفتى الطالب محمد أحمد المهدي، شيخ الطريقة السمانية محمد شريف نور الدائم، وعثر لديه على كنوز كتب علم الباطن، مثل آثار أحمد بن إدريس.
كما اطلع على تفاصيل وأسرار الفكرة المهدية المبثوثة في كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي الأندلسي الحاتمي الطائي.
فكانت تلك هي بوادره الأولى في التعرف إلى تراث المهدية، في (الثيولوجي)، و(المثيولوجي)، الكثيف، الذي انثال من قلم ابن عربي السيال.
وقد أعانت هذه القراءات المتعمقة، في روائع الفكر، الإمام المهدي، لكي ينضج فكريا، ويبرز فيلسوفا، ويقود الثورة، التي أقلقت دوائر الغرب.
البداية المحرقة والنهاية المشرقة:
وعن التأهيل الفكري العام للإمام المهدي، شهد العميد أبو سليم شهادة كبرى، فقال إن المهدي:" كان هو بنفسه يكتب مشرِّعا، وواعظا، وحاكما، وكأن الكتابة مهمته الأولى، ولا يترك لغيره إلا ما لا يتوفَّر له، فالمهدي هو الموجه الأول لمسار الفكر، وهو القدوة للكتاب فيما يكتبون، ولست أرى في تاريخ السودان من كان له مثل هذا التأثير البالغ في تاريخ الفكر والثقافة في السودان ".
وصدق أبو سليم.
وهذه شهادة خبير، يقرُّه عليها كل منصف من أهل الفكر والذكر.
فلو لم تكن للإمام المهدي تلك البداية المحرقة، لما كانت له تلك النهاية المشرقة!
فهذا التأهيل الروحي والأكاديمي العالي، والملتزم للإمام المهدي هو الذي فجر ثورته السياسية الكبرى، التي صنع بها واقعا جديدا في السودان.
وألهمه لكي يفرز تراثا فكريا قويا، كان هو الإعلان والمرتكز العام لتلك الثورة.
وهذه دلالة أكيدة كبرى على أن الثورة الشاملة لا يمكن أن تتفجر من دون فكر أصيل عميق راسخ.
وهذا درس جيد نافع لسياسيي السودان المعاصرين أجمعين.


قراءة عصرية في منشورات المهدية
لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟!
محمد وقيع الله
(3من6)

يبدو الإمام محمد أحمد المهدي كواحد من كبار العباد المخبتين في تاريخ الإسلام.
فقد كان مطبوعا بالعبادة الخاشعة، ولذا قلما تقرأ صفحة من منشوراته لا يرد فيها ذكر العبادة وتبيان فضلها.
وتتلخص مضامين أكثر منشوراته في الحض على التقرب إلى الله تعالى، والتعبد الصادق له جل وعلا.
فقد كان الإمام المهدي على  يقين كامل، من أن العبادة الصحيحة الصادقة تصنع الإنسان المسلم، المثالي، المنشود، الذي يحقق أعظم غايات الخلق ومقاصده.
الإنسان الكامل
ولم يبتغ الإمام المهدي بمنشوراته وإنذاراته ودعوته  إقامة دولة وحسب، وإنما رام إقامة الإنسان المسلم الصحيح، أو الإنسان الكامل بتعبير السادة الصوفية.
وما أجمل قوله في هذا المعنى:" وأنت أيها المؤمن إن مسجد صلاتك محل معافاتك، أي مصادقتك مع ربك، وموافاتك له، ومناجاتك. إذ قال الله تعالى:" وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي". كما يقال ادخل على الملك لتعرف قدره وهيبته وعظمته، وإنك إن دخلت في الصلاة تذكرت عظمته في أنه خلقك من نطفة إلى ما ترى، واستولى على الظاهر منك والباطن، وخلق لك السماوات والأرض وما فيهن، لترى قدرته في كل شيئ، فإنك تفوض أمرك له، وتخضع خاشعا له، فتدخل الإستكانة والتواضع في قلبك".
فنشر الدعوة، وإقامة الدولة، الغرض منهما في منظور الإمام المهدي صنع الإنسان العابد الخاشع.
ولا غرو فإقامة الصلاة هي أولى وأهم واجبات المسلم إذا مُكِّن في الأرض. قال تعالى:" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ". الحج:41.
وليس الغرض من تأسيس الدولة مجرد الظفر السياسي، وإنما تحقيق وجود الإنسان الفاضل.
وهي المهمة نفسها التي كانت تدعو لتحقيقها، من وراء العمل السياسي، نصوص الفلسفة العظمى في كتابي (الجمهورية) و(السياسة) لأفلاطون وأرسطو.
التشوق إلى لقاء الله تعالى
وهكذا يبدو أن الغرض النهائي من دعوة الإمام المهدي لم يكن غرضا سياسيا، ولا غرضا من أغراض الحياة الدنيا الزائلة، وإنما كان غرضا بعيد المدى، غايته الإلتحاق بعالم المثل العليا، بتعبير الفلسفة القديمة.
وهو لا يتحقق ذلك بمجرد الأماني الرومانتيكية العاطلة.
ولا بمجرد الإنتساب العائلي، أو الطائفي، الزائف، إلى مقام الإمام المهدي، عليه السلام.
وإنما يتأتى للمرء:" في حال القوة بعرق الشباب الذي يجد نوره في المشيب. ولو تقادم العبد في العمر انحل عزمه وبردت همته وفتر عن مساعي المحبة. وإذا فهمتم ذلك يا أهل الإسلام وأنصار الإيمان فتشوقوا أحبابي إلى لقاء الله في حال الصحة والعزم القوي والهمة الشديدة قبل أن ينقص ذلك ".
وفي غمار النصوص السياسية والتشريعية للإمام المهدي، يعثر المرء على إشارات وبحوث قيمة في الجوانب التعبدية الروحية، وعلى تعليقات في فقه الصلاة وتصوفها، كما يتضح من رسائله إلى الأعلام من مشائخ الإسلام، وخاصة فضيلة الشيخ العلامة مدثر الحجاز.
وهذا العالم الرباني الذي ناصر الإمام المهدي، كان من دأبه ألا يبيت الليل ببلد لا مسجد جامع فيه.
وعندما زار قريتنا كلي أبى المبيت بها، وأوحى إلى فقيهها الفكي الشيخ محمد مدني، أن يبادر إلى إنشاء المسجد فورا. وهذا ما كان، إذ سارع القوم إلى تشييد مسجدها الجامع القائم حتى الان.
وقد دلنا على هذه المعلومة التاريخية ذات المغزى أستاذنا الشيخ سراج الدين على عبد الخالق إمام وخطيب مسجد كلي الحالي.
وصف صلاة المهدي
ولم تكن دعوة الإمام المهدي إلى العبادة الصادقة، إلا أثرا لممارسته لها أكثر وقته، بعمق، وعشق، وشوق، وصدق.
ولطالما وصف الإمام المهدي بشدة التعبد من قبل خصومه الحانقين قبل أوليائه الحادبين.
ويعرف السادة القراء، ولا شك، تلك القوافي الشرود، التي نظمها في وصف تعبد الإمام المهدي، شيخه، ثم خصمه فيما بعد، الشيخ محمد شريف نور الدائم، تلك القوافي التي تحدثت عن تكبيره لصلاة الضحى بوضوء الليل، وختمه القرآن في سنة الوتر.
فلنتحفهم إذن بنص نثري غير مشهور على نطاق متسع، وهو من صنع خصم آخر كان في غاية العنف في تصديه ومقاومته لتوجهات الإمام المهدي ورسالته، وهو الفريق إبراهيم فوزي، الذي حارب المهدية عسكريا، وافترى عليها فكريا وتاريخيا.
ولكنه بعد ذلك خلَّف لنا هذا النص الرائع، إثر رؤيته مرارا، في الأيام التي قضاها في الأسر، للإمام المهدي وهو يصلي.
وصف الفريق فوزي في كتابه الذي حمل عنوان (السودان بين يدي غردون وكتشنر) بأنه:" كان ذا صوت جهوري في الصلوات الجهرية، يرفع صوته بالقراءة بالقرآن، وتتساقط الدموع من عينيه، وكثيرا ما كان يمسح تلك الدموع في حال القراءة ... وقيامه وسجوده ثقيلان جدا، حيث كان يقوم في قراءة الركعة أكثر من عشرة دقائق، وفي الركوع والسجود نحو ثلاثة دقائق، وصلى في رمضان صلاة القيام عشر ركعات، قرأ فيهن جزءا من القرآن، وصلى بالناس في ليلة نصف شعبان مائة ركعة بالقرآن كله رافعا صوته بالقراءة باكيا ".
فهذا شأن الإمام المطبوع الصادق الذي يستطيع أن يطوِّع الخليقة بالحقيقة.
ويستطيع أن يصنع ما يشبه المعجزات.
وهو الصنيع الذي لم يقدر عليه من قبله، ولا من بعده، أحد في السودان.
ومسجدكم من العباد خالٍ!
هذا البعد التعبدي في حياة المهدي وآثاره التوجيهية، وفي مقدمتها (منشورات المهدية)، هل غاب، يا ترى، بعد غياب المهدي عن الحياة، وأصبح من ذكريات التاريخ؟!
لا يقول بذلك إنسان صادق.
فما أكثر المتعبدين المخبتين في الطائفة الأنصارية العظيمة.
ولكن الإنسان الصادق لا يسعه إلا أن يشهد، في الوقت نفسه، أن هؤلاء العباد الصادقين قل أن يوجد منهم أحد في القيادة السياسية لخط الحركة الأنصارية وامتداداتها الحزبية في عالم اليوم.
فقد نشأت الحركة الحزبية الأمية على تقاليد شبه علمانية، أو هي إلى العلمانية أقرب.
صحيح أن حزب الأمة ليس حزبا مخاصما للإسلام، ولكنه لا يعطيه المقام الذي كان يعطيه له الإمام المهدي في العمل السياسي.
وقل أن يبدي حزب الأمة حماسة لشأن إسلامي، محلي أو عالمي، إلا إذا كان من ورائه كسب سياسي أو دنيوي مباشر للحزب لا للإسلام.
فالإسلام مسخر للعمل السياسي، في دوائر حزب الأمة، بدلا من أن يسخر الحزب مجهوداته السياسية طرا لصالح الإسلام.
مثلما كان عليه الحال في عهد الإمام المهدي عليه السلام.


قراءة عصرية في منشورات المهدية
لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟!
محمد وقيع الله
(4من6)

إذا عجب المرء للبعد الدنيوي العلماني الطاغي على حزب الأمة اليوم، فما لذلك إلا لمخالفة وضع الحزب للتراث العظيم الذي قام عليه.
وهو تراث روحي في المقام الأول.
وقد يرد علينا من يماري فيقول إن هذا ليس من شأن الحزب إنما من شأن الهيئة المسماة بهيئة شؤون الأنصار.
ولكنا لو نظرنا إلى أحوال هذه الهئية المزعومة، وتأملنا نشاطاتها القليلة المجدبة، لألفيناها  هامشية عاجزة، لا تقوم بواجبها في رعاية الجانب التربوي للأنصار عموما، وللأجيال الطالعة من أبنائهم على وجه الخصوص.
وقلما تجد في أطواء هذه الهيئة عالما أو داعية ذا مقدار مشهود.
كما هو الحال في حركات الصحوة والبعث الإسلامي النشطة في البلاد.
وتبدو هيئة شؤون الأنصار، في أفضل أحوالها، مجرد (ديكور) أو ظل شاحب لحزب الأمة.
بينما كان المبدأ يقتضي أن تكون الهيئة هي الأصل، ويصبح الحزب لها ظلا أو ذيلا.
فقه المهدي الروحي أعمق من فقهه الدستوري
والقول بأن الجانب الروحي ليس من عمل الحزب السياسي يبدو مجرد مغالطة لمن يمعن في قراءة منشورات المهدي.
حيث يلاحظ أن الجانب الروحي في المهدية كان غالبا وطاغيا على الجوانب السياسية والقانونية.
ويرى بوضوح أن كتابات المهدي في الجوانب الروحية كانت أبرز بكثير من كتاباته في مجالات السياسة والنظم الدستورية والتشريعية.
والغريب أن الإمام المهدي كان يوكل تلك القضايا، إلى الخليفة عبد الله التعايشي، مع أنه لم يكن مؤهلا، بحكم خلفيته التعليمية، للفصل في تلك القضايا العميقة.
وربما لم يكن المهدي ملما بأبعاد تلك القضايا حق الإلمام، حيث لم تشر المراجع التي تحدثت تفصيليا عن اهتماماته العلمية، عن أي توجه من قبله تلقاء الفقه الدستوري التراثي الإسلامي، الذي برع فيه إمام الحرمين الجويني الشافعي، وأبو الحسن الماوردي الشافعي، وأبو يَعلَى الفراء الحنبلي، وأبو بكر الباقلاني المالكي.
وهذا ليس مما يؤخذ على المهدي، إذ لم يكن هذا الفرع الفقهي السياسي يجد اهتماما في معاهد العلم الشرعي، منذ افترق السلطان عن القرآن.
الجانب القانوني في المهدية
ولكن كان للمهدي اجتهاده التشريعي الواضح الذي قد يعترض عليه كثير من علماء الشرع.
فقد كان يشدد في إنزال العقوبات الشرعية على المخالفين، غير مبال ببيئة الحرب الطاحنة، وظروف العسر المعيشي، التي تستدعي التخفيف والتجاوز في تطبيق الحدود.
ولكن كان للمهدي رأيه الخاص، وهو ضرورة التشديد في تطبيق الأحكام على أتباعه، الذين شكلوا القاعدة الصلبة، والطليعة النافذة، للدعوة والثورة.
وهذا نموذج من نماذج العقاب التقديري، الذي كان يأمر به، جاء في خطاب بعث به إلى الخليفة التعايشي، وقال فيه :" إن الأمر الذي أبدى إلي الحلال محمد شريف لم يقر به وأبعده، وحيث إن هذا الفعل إن الفقراء الذين رأوه أمناء، وقد رأوا العدو والمقاربة ... لزم ضربه زجرا له من هذا الفعل، ويكون نحو المائتين والخمسين سوطا أو الكائتين ويصير حله والإفراج عنه والسلام ".
وهذه العقوبة كما هو واضح أعلى من عقوبة الحد الشرعي في الزنا.
وقد أمر المهدي بعقاب كل من يخالف الآداب الشرعية، دون ذلك، تعزيرا. ففي منشور آخر بعث به إلى الخليفة قال: " إننا قد نبهنا من أول الأمر  على أن نساء الفقراء من لها زوج تسلم إليه، ولا يعارضه فيها أحد. وقد بلغني أن بعض الأنصار يقولون أن أمر المهدي لم يلزم العمل به ... وما اظن أن الذين بفعلون هذا إلا عائقون عن سبيل الله، صادون عباد الله عن طاعة الله، اتباعا لأهواءهم. فافحص يا صديقي عن هذا أنت ومن معك من الخلفاء والأنصار الصادقين. إن من يفعل مثل هذا وغيره من ترك الأوامر تحبسوه نحو شهر، وكل يوم يضرب نحو أربعين سوطا، كفارة له، وعبرة لغيره، لينزجروا عما يورث الهلاك لهم وللأمة والسلام.
وكذلك من يمسك امرأة دون أن يؤمن عليها، ولم يأمروه بها، ولا يحفظها، ولم يوصلها محل الأمانة المعدودة لها، كأمين بيت المال ومن أمرهم، فلازم أن يحصل عليهم الزجر الكافي، والتهديد الشافي".
وقد علل المهدي صرامة الحكم الذي أصدره، والذي خالف به معهود العلماء القاضي بأن التعزير لا يتجاوز الحد، قائلا إن في هذا الفعل فساد شنيع فظيع:" وما مثل هذا إلا أفعال الجبابرة الذين لا خلاق لهم، فيهتكوا الحريم، ويفتضوا الأبكار، وما ذلك إلا عذاب النار. فلازم الإهتمام بهذا الأمر الذي أمرض قلبي وأنالني هما والسلام ".
وهذا رأي فقهي ربما يكون له وجه صواب عند العلماء.
التطبيق الشرعي الفوري
وبالكلية فقد كان المهدي بعيدا عن المماحكات المستشرية، حتى بين بعض دعاة الإسلام المخلصين، وهي تلك التي تدعي أن تطبيق الأحكام الشرعية يحتاج إلى تربية وريْث وانتظار طويل.
وهي دعوى لم يأبه بها الإمام المهدي، ولم يعرها أدنى اهتمام، وبادر إلى تطبيق شرع الله على الفور.
وهذا درس ينبغي أن يستوعبه، ويمتثل إليه، كل مخلص لدعوة الإمام المهدي، فلا يراوغن أحد منهم في تطبيق شرع الله، ولا يعترضن عليه، إن تم تطبيقه من قبل الغير.
ولا يزايدن على ذلك، كما يزايد الصادق المهدي، بالحديث الدائم عن حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، بافتراض أن هذه هي أهم إشكاليات التطبيق الشرعي الإسلامي.
وهو افتراض زائف يتضمن، بغير مسوغ، أن غير المسلمين سينالهم الضيم في ظل أي تطبيق شرعي، وأن تطبيق شرع الله يؤدي ضربة لازم إلى ظلم غير المسلمين.
وينحو هذا الافتراض من نواح أخرى إلى الاعتراض على التطبيق، المماطلة في إنجازه، وإلى التودد للدول الغربية، بادعاء حماية النصارى وسواهم من غير المسلمين، في دار الإسلام.
وهو موقف منهزم لا يتسق مع الموقف المتشدد لإمام المهدي إزاء الدول المعادية.
فقه العلاقات الدولية
فقد كان للمهدي رأي متعالٍ متشدد في فقه العلاقات الدولية عموما.
ولم يؤثر عنه أنه سلك نهج حكام عصور الإنحطاط، من بقايا الدولة الإسلامية التاريخية، الذين اعتادوا ،منذ قبيل سقوط إمارات الأندلس، على الإستنصار بالأغْيَار، وتجرأوا أحيانا على الله تعالى، وعلى دينه، فأفرزوا فقها مشبوها يبرر الارتماء في أحضان أعداء الله.
وعلى غير هذا الدأب المخزي بدا المهدي ثائرا، أنف الركون إلى الكفار. (وهي الصفة التي كان يشير بها إلى القوى العظمى في عهده)!
وما برح المهدي يوصي أصحابه ألا يخشوا بأس الكفار، ولو جاؤوا بعدد الأحجار، وقطر الأمطار، وورق الأشجار: " ولو أن المهدي كان معه أربعة ناس أو خمسة أو ستة أو واحد فالله ناصره وحافظه وإن الدين منصور".
وظل يلهج بالتذكرة والموعظة قائلا: " أحبابي لا يخفاكم أن الله أعلمَ عباده بأن يكتفوا به، وألا يلتفتوا لغيره، وألا يتخذوا واليا دونه ".
وحذر من حال المهانة والذل قائلا: " ولكن من ألف الأغيار واعتاد الإعتماد عليها لا يهون عليه أن يقلع عنها إلا بإيمان كامل بقوة الله وقدرته ".
والأغيار إحدى كلمات القوم, وهي تعني كل ما سوى الله تعالى.
وقد تعني في واقع التحليل السياسي المعاصر القوى الأجنبية الإقليمية والدولية المتربصة بدولة الإسلام.
فالتحالف معها ضد دولة الإسلام، مهما انتحلت له المبررات والذرائع، هو نقيض الإيمان بالإسلام، وهذا ما يمكن أن يستوحى من كلام الإمام المهدي عليه السلام.
الذي دأب على حض أنصاره وحوارييه على الإقتداء بالجيل القرآني الفريد - بتعبير سيد قطب - جيل الصحابة الأوائل.
فهؤلاء كما يقول الإمام المهدي لما: " خرجوا عن الكثرة بالوثوق بالله واتكلوا على الله واستعانوا بالصبر والصلاة نصرهم الله وآواهم ووسع بهم الدين وغرس النور بهم في قلوب الخلق إلى يوم الدين، ولو اتكلوا على الأسباب الدنياوية والتي استعانوا بها الكفار لما ساغ لهم هذا التمكين".
وهكذا نصروا مع خلو أيديهم عن الكليات والجزئيات.
ومما يمكن أن يفيد قادة حزب الأمة لو تدبروا (منشورات المهدي) نهيه المؤكد عن اتباع القوى الأجنبية، وتحذيره من الانسياق وراء مخططاتها، ولو على نحو تكتيكي اعتاده الحزب لاسيما في القدين الماضيين. وقد قال الإمام المهدي إن أي سلوك من هذا المنحى هو من قبيل عدم الوفاء بالله.
وساق في ذلك قصة سيدنا إبراهيم:" الَّذِي وَفَّى ". فقد وقف سيدنا إبراهيم :" وحده في مواجهة الطغيان، مستنصرا بالله تعالى، لأنه استبصر وتيقن أن قوة الله تعالى هي وحدها القوة العظمى، وأن الله تعالى كاف عبده.
ولم يتزعزع ولم يتضعضع لما خوَّفوه بغير الله من الأغْيِار والسِّوِى.
وقدعقب المهدي على ذلك قائلا: "وقد أمرنا الله أن نكون إبراهيميين فقال:" وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ". البقرة:130.
فمن السفه، أو كل السفه، أن نضع أيدينا في أيدي من عادى الله، وحارب شرع الله.


قراءة عصرية في منشورات المهدية
لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟!
محمد وقيع الله
(5من6)



كان الزهد في حطام الحياة الدنيا ركنا أساسيا من أركان الدعوة المهدية، وواحدا من أهم متبنيَّاتها الكبرى.
وكان عادة منبعة من قِبل عند دعاتها المخلصين، وفي طليعتهم الإمام المهدي عليه السلام.
وقد اقترن الزهد الخالص في هذه الدعوة الصادقة بالعبادة المخلصة لله تعالى.
ولذلك فقلما تقرأ صفحة من منشورات المهدية إلا ووجدت فيها إشارة قوية، وأمرا حازما، يلزم الأنصار والحواريين، بالتخلق بالزهد في متاع الحياة الدنيا الفاني، الذي كان المهدي يرمز إليه بأنه محض خيالات.
سقوط الهمة
وفي هذا يقول المهدي:" إن السعي إلى طلب النعمة والراحة في ظل دار البلاء، هو دليل ضعف الهمة والسقوط في الفتنة والبلاء".
وكان الإمام المهدي يسوق المجاهدين إلى الله تعالى، بهذا التزهيد الشديد في متاع الحياة الدنيا، ويدعوهم إلى الصبر والتصبر على الجوع، والإقبال على ما عند الله تعالى بالقلب القنوع .
وبحسه الصوفي العميق كان الإمام المهدي يرى أن متع الحياة الدنيا لا تعدو الأوهام والخبط في الظلام.
وهكذا فسر قول الله تعالى: " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ". الكهف:7.
فقال:" فانظر إلى أنه سبحانه أعلَمَ بأن تلك الظواهر التي على الأرض زينة، لا حقيقة لها، بل ابتلاء وتجربة للعباد بالظواهر، لمن يحسن عملا. ثم جعل تلك الظواهر عرضا منقطعا، فيا حسرة من تمسك بما لا وجود له في الحقائق ".
ولذا شدد الإمام المهدي أيضا في نهي نصرائه عن:" المشاركة بالكلاب، والتخلق بأخلاقهم، من التهارش والبغضاء على الجيفة، أو كالذباب التي لا يمنعها القتال على العذرة إلا الضعف والهوان، ومن وجد القوة من الذباب قاتل كالجُعلان، الذي لا يجد إلا شيئا قليلا من العذرة في المكان ".
وقال الإمام المهدي عليه السلام موصيا أتباعه:" وحقيقة تعلمون أن جميع ما في الدنيا جيف وعذرات، وخيالها الظاهر يعود إلى هذه الخسة والهوان،  فطيبوا قلوبكم بطلبِ الباقيات".
الزهد في الألقاب
ومن ضمن ما أمر به المهدي الزهد في الشهرة وطلب الألقاب:" التي تلتفت إليها النفوس المغرورة  بالزائلات، إذ أن التفات النفس إلى علو الدنيا يذهب طلب الآخرة وإرادتها كما هو وارد ".
وقال في خطاب بعث به إلى كافة أحبابه في الله: "ولذلك فقد كتبت لإخواني جميعا المنشورات لترك التسمِّي باسم الشيخ التي تلتفت، والسيد، وغير ذلك من الألقاب.
وأكد ذلك النهي قائلا:" وحيث التفت القلب وتشوُّف إلى التسمي بالأمير، والسيد، وغير ذلك في الدنيا، فقد فاته انكسار القلب، وإيثار الرب، وما عنده من أخبار الغيب، وصار طالبا ما فات كل من طلب، مثل ذلك وأذهَب به  صدق الإنابة إلى الله، والدَّلالة إليه بكلية القلب. وإذا فهمتم شُوم ذلك أحبابي فلا يتسمَّى أحد بعد هذا بالأمير".
ومع أن المهدي عليه السلام سمى ذلك شؤما، إلا أن أمره هذا لم يُسمع، وظل لقب السيد لاصقا بأحفاده، بل إن الكثيرين من الأتباع - ومن غير الأتباع - لا يجرؤون على مخاطبة أحفاده إلا بكلمة السيد، مهما كان حظه من الدين رقيقا.
والصادق المهدي, زعيم حزب الأمة، على الأخص هو أكثر من يسير لقب السيد مع اسمه، حذو القذة بالقذة، حتى كاد أن يندمج معه، ويصبح جزءا أصيلا منه، وإن كان بعضهم يقولونها له تظرفا:(سيد الصادق!).
وأخيرا سعى الصادق المهدي إلى حيازة لقب آخر، هو لقب الإمام، وقد حازه بالانتخابات الحرة كما قال!
لقب الحبيبة
ثم توسع أتباعه وانطلقوا في اختراع الألقاب السنية، وإطلاقها على أنفسهم بجود وسخاء.
حتى أصدرت إحداهن تعميدا بجواز، بل استحباب، أن يطلق الرجل على المرأة الأنصارية الأجنبية عنه لقب (الحبيبة)!
وهو أمر لا تستسيغه الذائقة السودانية ولا غيرها من الذائقات السليمة!
هذا في الوقت الذي لا يبيحون فيه للرجل أن يخاطب أخاه الرجل، ما لم يكن من عِلية العِتْرة إياها، بلقب (السيد) الذي احتكروه لأنفسهم!
فهذا اللقب وإن كان مبذولا في الأدبيات السودانية، ويمنحه كل من هب ودب، لكل من هب ودب، إلا أنه في دوائر  حزب الأمة محتكر لنفر قلائل من آل البييت المهدوي.
لماذا حذف أبو سليم هذا الجزء من المنشورات؟!
وقد عجبنا لماذا لجأ المؤرخ الحصيف البروفسور، محمد إبراهيم أبو سليم، إلى حذف هذا الجزء من منشورات المهدية، وهو الجزء المتعلق بمنع المهدي لاتخاذ لقب السيد، وهو جزء اتخذ حيزا طويلا على صفحتي 167- 168 من طبعة المنشورات، الصادرة عن مطبعة الحجر، بأم درمان، في سنة 1896م؟!
وهي الطبعة التي حصلنا على نسخة منها من مكتبة جامعة هارفارد كما أومأنا في مطلع هذا المقال.
وقد حصل العلامة أبو سليم على نسخة أخرى منها من إحدى دور الكتب البريطانية كما قال.
ولكنه لسبب لا نعلمه شاء أن يخفي هذا الجزء منها.
ولابد أن نحسن الظن، فلا نتسرع ونتهم هذا المؤرخ الكبير، بأنه آثر أن يجامل آل المهدي، المتشبثين بلقب السيد، وقرر ألا يحرجهم بهذا النص، فقام بحذفه من المنشورات.
ونبتغي من أولي الخبرة والعلم الدقيق بالتاريخ، وأرباب تمحيص الوثائق، وتحقيقها، أن يدلونا على تعليل مقبول.


قراءة عصرية في منشورات المهدية
محمد وقيع الله لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟!
(6من6)

إن قراءة منشورات المهدي هي واحدة من القراءات الرائعة الممتعة بحق وحقيق.
فهي تنقل قارئها إلى روح تلك الحقبة المثيرة من تاريخ الوطن الحبيب.
وتزوده بمعلومات كثيرة حية نابضة من قلب التجارب والأحداث.
وتعد منشورات المهدية من ضمن المصادر الأولية التأسيسية لتاريخ الثورة المهدية.
وتتعين قراءتها لكل من يريد أن ينجز بحثا أصيلا في موضوع الدعوة المهدية وتاريخ السودان الحديث.
وقد أحسن العلامة البروفسور أبو سليم، إذ أخرجها في طبعة عصرية ميسرة، فشجع مثقفي السودان، وطلاب علم التاريخ، على تدبر الوثيقة الأولى للثورة المهدية.
ولست أدري لم تأخر اطلاعي على تلك الوثائق، وقد كان الأحرى أن أطلع عليها منذ بواكير عهد الشباب.
وعلى كل فهذه دعوة لطلاب العلم الشرعي والعصري، لتجنب خطئي وتقصيري، وهي دعوة حارة لقراءة تلك المنشورات، لكن بروح عصرية حرة وثابة، لا أثر فيها للنزعة التبعية الطائفية الرجعية.
فتراث المهدي ينبغي أن ينظر إليه باعتباره جزءا من التراث الفكري الإسلامي السوداني.
وينبغي أن ينظر إلى شخص الإمام المهدي على أنه بشر، مثل سائر البشر، يخطيء ويصيب، فلا عصمة له، ولا نبوة، ولا مهدية.
ولا أظن أكثر أتباعه العصريين يدعون له أيا من هذه الصفات.
أحسن الصادق المهدي
وقد أحسن الصادق المهدي إذ ذكر في ختام كتابه (يسألونك عن المهدية) أن جده بشر يخطيء ويصيب، مثله مثل البشر أجمعين، وأنه ليس فوق الملاحظة والنقد.
ومن جانبنا فلم يكن من قصدنا، ونحن نطالع منشورات المهدي، ونقبس منها، أن نرشق سهام النقد الهدام تجاهها، رغم أن فيها ما يستحق النقد الشديد.
لأننا نظرنا إليها باعتبارها من بعض التراث الروحي والفكري السوداني العظيم، الذي لا نحب نهدمه أو ننتقصه.
وإنما نقصد الإلتزام في قراءته، بشروط القراءة العقلانية، التحليلية، المقارنة، التي تعين على استخلاص دروس نافعة منه للحاضر وللمستقبل.
لماذا لا يجوز إهدار منشورات المهدية؟!
وربما مال بعض أتباع المذاهب السنية السلفية المتشددة، لكي يدحضوا منشورات المهدية، ويهدروا قيمتها، من أول نظرة يلقونها إليها.
كشأنهم في التسرع في إبطال كل ما يعجبهم من المأثورات العلمية والشعبية.
ولكن التريث في قراءة هذه المنشورات متطلب فكري مهم من أجل التبصر في تاريخ الدعوة الإسلامية، مثل ما هو مهم من أجل التبصر في تاريخ السودان وحاضره.
فقد أدت منشورات المهدي وإنذاراته، في ظرفها التاريخي، إلى أكبر خضة ثورية شهدها التاريخ السوداني التليد والطارف منه على السواء.
وأدت إلى تحولات كبرى في أوضاع البلاد المذهبية والسياسية.
ثم أصبحت بعد خمود الثورة جزءا حيا من الثقافة السودانية، وموجها قويا لسلوك قطاعات كبيرة من الشعب.
ماذا تستفيد الحركات الإسلامية من تراث الدعوة المهدية؟!
وتستفيد الحركات الإسلامية، واسعة الأفق، من الاطلاع النقدي الواعي على منشورات المهدية.
إذ تتمكن عبر ذلك من تقدير الأثر الروحي في التعبئة الشعبية.
فلا تنشأ الثورات بمجرد تعقيد الخطاب العقلي الإيديولوجي وتكثيف الشعارات السياسية.
وإنما بإشعاعات البواعث الروحية الغلابة، ممن قبيل ما بثه الإمام المهدي في أنحاء البلاد.
وهي الإشعاعات التي تعدت حدود السودان، فبلغت أقصى غرب أفريقيا، كما بلغت شرقا إلى مسلمي الهند، الذين وفد بعضهم للمشاركة في الجهاد.
وعلى الحركات الإسلامية التي تعتني بدراسة تراث المهدي، أن تقوم بعد تقديرها للأثر الروحي الإيجابي المثالي للمنشورات، بمضاهاة مثاليات الثورة المهدية بما طرأ عليها من الممارسات التاريخية.
بدءا بعهد الخليفة عبد الله التعايشي، الذي ضمرت فيه الإنجازات، واتسعت فيه الانحرافات، وتوالت السلبيات، وجلب الكثير من المظالم والجنايات في حق بعض أبرز قادة الثورة، وجندها، وعموم أهل البلاد.
ومرورا بعهد المهدية الثانية، الذي ابتدره عبد الرحمن المهدي، في عشرينيات القرن الماضي، وما اقترن به ذلك العهد من السخرة والاستغلال في علاقات العمل الاقتصادي المحلي من جانب، ومن تمتين العلاقات بالاستعمار البريطاني من جانب آخر.
ثم قيام حزب الأمة في أربعينيات القرن الماضي، وتوليه الحكم لعدة مرات، وإخفاقه عبر تاريخه الطويل، في استلهام الروح الأصيلة للدعوة المهدية.
كيف تحولت النزعة الثورية إلى طائفية؟!
وتساعد القراءة العصرية النقدية لمنشورات المهدية، في تحليل هذه الظاهرة العجيبة، المتمثلة في تحول تلك الدعوة الشعبية الثورية العظمى، التي بعثتها (منشورات المهدية) إلى حركة طائفية ثقيلة ذات رسوم وطقوس؟!
وقد تساعد القراءة الحرة لمنشورات المهدية في الإجابة عن سؤال مهم، عن كيفية تحول ذلك البناء الاجتماعي الثوري الحر الذي قام على المساواة، إلى تكوين طبقي من سادة ومسودين؟!
وكيف طغت على مبادئ الدعوة المهدية المفاهيم العلمانية السياسية، التي أدت إلى تقليص أثر الروح الدافع وأثر الدين الحافز؟!
وكل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة يشكل مبحثا تحليليا علميا مهما، يفيد إنجازه أصحاب حركات الصحوة الإسلامية الحديثة.
وربما أسعفت الإجابة المتعمقة عن هذه الأسئلة الحرجة، الحركات الإسلامية الحديثة وحمتها من تكرار الدرس، في الانطواء الطائفي، والاستحالة إلى دعوات مغلقة، يتبخر من أجوائها الأثر الديني الروحي، وتُطبق عليها العلمانية، لاسيما في هذا العصر، عصر العولمة المطبق.
وبالطبع فإن قوانين التحول الإجتماعي تنطبق على الجميع، وتشمل التقليديين والحداثيين بلا استثناء!
فالحركات الإسلامية المعاصرة، مهما تغنت بالحداثة، لا عاصم لها من هذا المصير المحدق، الذي رأينا ملامح منفرة منه عند الترابيين!
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

آراء