قراءة فاحصة في وثيقة لقاء الصادق/ نميري

 


 

 


من أسرار  اللقاء الأول
قراءة فاحصة في وثيقة لقاء الصادق/ نميري بتاريخ 30 يونيو 1969م
( 1 من 2)
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]
كنت أود أن يكون الصادق المهدي أول من يشارك في حوار هادئ موضوعي حول النص الوثائقي الذي خطه بقلمه وسجل فيه وقائع لقائه بالرئيس الأسبق جعفر محمد نميري بتاريخ 3 يونيو 1969م.
أي بعد نحو أسبوع من انقلاب الأخير على النظام الحزبي الديمقراطي التعددي.
ولو شارك الصادق المهدي في هذا الحوار لكان قد كشف لنا مزيدا من الملابسات والدقائق التي حفَّت بذلك اللقاء، وأبان لنا عن الغرض الذي استهدفه من لقائه بقائد الانقلاب اللواء جعفر محمد نميري.
ولا شك أن الحوار بين السياسيين حتى لو كان حوارا تساوميا ليس جريمة ولا خيانة، ولكن ما يدور في الحوار ويتمخض عنه هو اللباب الذي ينبغي أن يسلط عليه الضوء لكشف قيمته وخلاصة آثاره.
وإذا تبرع الصادق المهدي لاحقا بالمشاركة في هذا الحوار فإننا نتمنى أن تأتي إفادته موقَّعة بقلمه فهو قد كاد أن يتحول إلى كاتب صحافي راتب ينشر مقالا كل أسبوع، وأمر مهم كهذا يستحق أن يكرِّس له مقالا واحدا أو أكثر ولا يحق له أن يعهد به إلى مكتبه كي يصدر حوله بيانا مبهما يدور حول الموضوع ولا يمس جوهره بقول شاف. فالبيان الذي صدر عن مكتبه ردا على الأستاذ فاروق أبي عيسى الذي كان أول من أشار إلى معرفة الصادق بانقلاب مايو يجافي جوهر الموضوع والتف عليه من بعيد.
 ثم أدلى بما يتناقض مع محتوى هذه الوثيقة الضافية، والتي هي بلا ريب نتاج الأسلوب الكتابي للصادق المهدي، وهو لم يقم بنفي صدورها عنه حتى الآن.
فقد جاء في الرد الذي صدر عن مكتب الصادق المهدي أن الصادق نصح جميع السياسيين بعدم جدوى الانقلابات العسكرية، أما ما جاء في الوثيقة فهو بخلاف ذلك وسنعرض له عما قليل.
حدود فهم الصادق للديمقراطية:
وقد اتضح جليا في ثنايا هذه الوثيقة حدود مفهوم الصادق القاصر للديمقراطية، فهو يقول صراحة للنميري: " أما إذا فازت التشكيلة الإئتلافية الحاكمة فهي ستذهب بالسودان حتماً إلى الهاوية ".
والتشكيلة الإئتلافية الحاكمة حينها هي مزيج من الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة جناح الإمام شكلت الأغلبية الساحقة وتمكنت من إسقاط الصادق المهدي من سدة رئاسة الوزارة.
وطالما أسقطته هو من الوزارة، فهي بالتالي ستسقط بالبلاد في قعر الهاوية، وهذا هو ظن الصادق المهدي بالممارسة الديمقراطية: إما أن تأتي به إلى الحكم وإلا فإنها الكارثة، فهو وحده الجدير بالفوز وما عداه لا يحق لهم الفوز.
وهذا التوجه الذاتي في الفهم وتزكية النفس له قرائن أخرى في هذه الوثيقة حيث يقدم الصادق المهدي نفسه إلى النميري على أنه أسمى بكثير من الوسط السياسي السائد يومذاك.
واسمع إلى قوله: " تولِّينا قبل غيرنا كشف مفاسدهم وسوء التطبيق الديمقراطي الماثل في البلاد ".
 ويقصد بذلك حكومة الأحزاب الديمقراطية الإئتلافية التي كان يرعاها عمه الهادي المهدي، رحمه الله.
وقوله: " نحن نقدم دائما مصلحة المجتمع على المصالح الخاصة لأن رابطتنا بالناس أقوى من المال ولذا كنا أول من نادى بالإصلاح ". وكان يدفع بذلك عن نفسه تهمة الخوف من المصادرات والتأميمات التي بدأت حكومة النميري في تنفيذها.
واسمع إلى قوله: " ونحن لدينا بعض الدراسات والآراء التي قد تساعدكم ". وقد ذكر ذلك في معرض تسويقه لنفسه عند المايويين عسى أن يقبلوا به مساهما في نطاق مجاهداتهم لمكافحة الفساد والانحلال الخلقي كما قال!
نقد العهد الحزبي البائد:
وكما أسرف الصادق في تزكية ذاته فقد أسرف في نقد النظام الديمقراطي الحزبي، فهو عنده عهد بائد.
وهذه هي التسمية التي روجها إعلاميو مايو الأوائل وأكثرهم شيوعيون في سياق حملتهم على عهد الأحزاب.
ويقول الصادق في ذلك: " إننا سعداء بزوال العهد البائد، فهو عهد أفسد فيه السادة وأفسدت فيه أحزابهم التطبيق الصحيح للديمقراطية، وكان يعيش في أخريات أيامه مسخا لا يستقيم أن يلحق بالديمقراطية، فهو مستند على دستور مخروق وموبوء بسياسيين فاسدين ". وهذا تعميم ذميم لا يكاد يستثني أحدا إلا على سبيل استثناء الاسوأ، فهو يذكر باسمه من أجل التشهير.
فالصادق يرجو النميري أن يمنع أجهزة إعلامه من :" الترويج لتأييدات بعض العناصر التي تمثل أفسد مافي العهد البائد كتأييد موسى ابراهيم موسى "، فهو يخشى أن يسابقه أمثال موسى إبراهيم موسى هذا في تأييد انقلاب مايو، هذا مع أن موسى هذا شخص ليس له وزن يذكر في دنيا السياسية بجانب الصادق المهدي!
وكما أراد الصادق أن يزيح أمثال موسى هذا من الواجهة فإنه يبدي غيرته واحتجاجه من استظهار الحكم المايوي في أيامه الأولى بزعيم الطائفة الختمية، محمد عثمان الميرغني.
وهنا يأخذ الصادق المهدي على النميري سياسته القائمة: "على انتهاج ما يشبه المهادنة مع بعض العناصر على أساس مساومة معينة، فهي تؤيد، والحركة تغض الطرف عن مفاسدها، وقد حدث سعي لجلب بعض القادة الطائفيين على هذا الأساس. ونحن نربأ بالثورة أن تساوم ".
فهو يريد أن يساوم مع النميري ويريد أن يحتكر عملية التساوم بأسرها فلا ينافسه فيها أحد ولا يسبقه فيها أحد لا موسى ابراهيم موسى ولا محمد عثمان الميرغني!
السعي إلى دخول حكومة مايو:
ولقد كان انطباعي أثناء القراءة الأولى للوثيقة أن صاحبها قد وقف وقفة قوية ضد الشيوعيين وضد ظهورهم الساطع في مقدِّمة الركب المايوي وقيامهم بالتحكم في مفاصله الطرفية، وكدت أقول إن هذا هو الموقف الإيجابي الوحيد في هذه الوثيقة.
فمما لا شك فيه أن هؤلاء القوم الماركسيين كانوا في الستينيات وإلى أوائل السبعينيات من العهد الماضي يمثلون خطرا كبيرا على عقيدة هذا الوطن وأخلاق أهله، ولذا قدرت موقف الصادق في نقدهم أمام النميري، غير أن القراءة الثانية نبهتني إلى مقارنة هذا الموقف بموقفه الآخر ضد الختمية، فبدا لي أن نقد الصادق للشيوعيين لم يكن إلا وليد الخشية من مزاحمتهم له في (التكويش) على السلطة الجديدة.
ويزكي هذا الظن في سعي الصادق لدخول حكومة مايو قوله في عتاب النميري إن التشكيل الوزاري المايوي الأول لم يضم أفرادا من حزب الأمة مع أنه اختار أفرادا صالحين من أحزاب أخرى.
يقول الصادق المهدي إن هذا التشكيل: " عزل حزب الأمة، فإن اختير عدد من الوزراء على أساس صلاحهم من كل الأحزاب، فإن عناصر حزب الأمة عُزلت "، فماذا كان يجدي حزب الأمة أن يزج بوزير أو وزيرين في بحر لجي زاخر صاخب كبحر مايو الطامي في تلك الأيام؟!
وسعي الصادق الحثيث للوصول إلى السلطة ولو على ظهور الانقلابيين يؤيده اعترافه للنميري بأنه كان يسعى لتقويض الحكم الديمقراطي قبله. يقول الصادق: " وعندما تشكَّلت الحكومة الماضية كان همُّنا جمع الناس ضدها، وكان خطنا أن نعثر من القضاء على حكم في القضية الدستورية، ونتيجة لذلك يجتمع الجيش والقضاء وممثلو الشعب لايجاد مخرج للبلاد.. وكنا نحس بالمشاكل التي تجول وتدور في الجيش وبمشاعر كثيرين من عناصره التي تريد مخرجا، وغريب أن لم نعثر عليكم وتفهموا خطنا ".
وهذا النص مشحون بمعنى مزدوج، فهو يفيد أن رغبة الصادق في أن يقوم الآخرون بخدمته وتحقيق أغراضه هي رغبة قديمة مزمنة، فهو يريد من القضاء والجيش أن يقوما بتنفيذ سياساته في تحطيم الحكم الديمقراطي.
وفي هذا فوق ذلك دليل على نوعية فهم الصادق للعمل الديمقراطي، فهو يريد أن يجد لجهازي القضاء والجيش دورا بارزا في العمل السياسي ولسوء حظه فقد خذله كلٌّ من هذين الجهازين اللذين كان يراهن عليهما فأحبط الجهاز القضائي عريضته الدستورية واختطف الجيش منه حلمه في السلطة ومنحه للنميري يتمتع به إلى عام 1985م!
هل كان الصادق على علم بانقلاب نميري؟
لقد كان الصادق كما قال يتطلَّع للقاء الانقلابيين المايويين (جيتنا وفيك ملامحنا!!) ويستغرب أنه لم يلتق بهم والثورة في المخاض، ويزعم أنه لم يحاول أن يفسد على الانقلابيين تحركهم. فهو يحدث النميري متوددا: " ربما كنا الجزء الوحيد في الحركة السياسية الذي علم بحركتكم قبل وقوعها إلى الساعة. ولكننا لم نشأ أن نقوم بعمل مضاد لأننا في حالة اقتناع تام بأن الوضع البائد لا يستاهل الانقاذ ".
فهو يسجل على نفسه إدانة كاملة بأنه كان يعرف أمر الانقلاب العسكري الذي كان بإمكانه أن يحبطه ولكنه تستَّر على التحرك إلى أن اكتمل وتمكن من إسقاط النظام الديمقراطي الذي لم يكن يستحق الإنقاذ كما قال!
ولا ندري إن كان الصادق المهدي صادقا في هذا القول أو أنه كان يقوله على سبيل المجاملة وإبداء حسن النية والتقرب إلى النميري، والآن فإن بإمكان الصادق أن يتحدَّث ويشير إلى هذه الإمكانية أو الاحتمالية التأويلية الثانية فيخرج نفسه من تهمة التستر على الانقلابيين، وهي تهمة ثقيلة غلظية كفيلة بتدمير جزء كبير من تاريخه السياسي التليد.
ولكنه إن خرج من هذا الوزر الأول فسيخرج إلى وزر أشد ينسف مصداقيته من الأساس، فليس حسنا أن يسجل المرء على نفسه قول زور أبلق مثل ذاك!!
وإننا لنميل إلى ترجيح هذه الاحتمالية الثانية لأن تحرك عساكر نميري لو كان مكشوفا للصادق لما كان مكشوفا له وحده، فهو لم يكن يملك جهازا للاستخبارات في ذلك الحين، وهو حتى لما تملَّك جهازا للاستخبارات في عهده عندما كان رئيسا للوزارا في الثمانينيات خفي عليه تحرّك عساكر البشير الذي قوّض حكمه " الذي كان يستأهل الإنقاذ !! "..
 ونحن نميل لتأييد هذه الإحتمالية الثانية لسبب آخر هو ما رأيناه من إفاضة الصادق أثناء لقائه بالنميري بأحاديث التودد والقربى، فها هو يحادث النميري قائلا: "وانطلاقا من كل تلك المفاهيم أود أن أوضح أن سوء التطبيق الديمقراطي ووجود مشاكل استعصت على الإصلاح في ظل الديمقراطية وفساد الأحوال الذي سار به الركبان، كانت عوامل جعلتنا نستبشر بقيام حركة الإصلاح الثوري على يد القوات المسلحة، وهي قطاع من مواطنينا نحن نؤمن بوطنية أكثريته وبقومية تركيبته ".
وفي هذا اللقاء حرص الصادق على أن ينفي عن نفسه أي عداء لرئيس وزراء مايو السيد بابكر عضو الله، فقال الصادق المهدي مخاطبا النميري: " هنالك أشياء تقال عنا، ونحن قوم خصومنا كثيرون، ويهمنا أن نصححها لكم، حتى تكونوا على بيِّنة من الأمر، أولا: يقولون إن بيننا كجماعة والسيد بابكر عوض الله خصومات شخصية، وهذا من جانبنا غير صحيح، ودليل ذلك أننا في مكتبنا السياسي في 1968م عندما ناقشنا الأوضاع المتعلِّقة بانتخابات 1968م أشدنا بالسيد بابكر عوض الله وعلاقته معنا ".



من أسرار  اللقاء الأول
 قراءة فاحصة في وثيقة لقاء الصادق / نميري بتاريخ 30 يونيو 1969م
( 2 من 2)

حرص الصادق على أن يصحب معه إلى الاجتماع نص ملف كان حزب الأمة قد أعده عن انتخابات عام 1968م وناوله للنميري كي يثبت له أنه لا يحمل أي مشاعر سلبية تجاه السيد بابكر عوض الله.
كما ذكر الصادق المهدي للنميري أنه، أي الصادق، كان قد زار السيد بابكر عوض الله بمنزله في أكتوبر 1968م للتفاكر في سوء أحوال البلاد يومها وإمكانات تعاون الساعين لخلاصها.
 وما أراد أراد الصادق بتلك الإضافة إلا أن يؤكد للنميري معنى آخر، وهو أنه كان يفكِّر في تلك الأثناء في أمر الانقلاب على النظام الديمقراطي ويبحث عن الانقلابيين من أمثاله، لأن السيد بابكر عوض الله كان في ذلك الحين ضالعا مع نفر من ضباط مايو في التخطيط للانقلاب، وذلك ما كشفت عنه إفادات بعض ضباط مايو الذين كتبوا مذكراتهم في السنوات القليلة الفارطة.
هذه هي بعض أقوال الصادق في التقرّب إلى النميري ورئيس وزرائه بابكر عوض الله، ونستند إليها لنقول بأن الصادق لم يكن له علم بانقلاب مايو كما زعم.
ولكنه شقَّ عليه أن تُظن به الغفلة وعدم المعرفة بوقوع الانقلاب فورَّط نفسه في هذا المأزق الوبيل.
كما اتخذ ذلك المزعم تكأة يتقرَّب منها إلى النميري، ويتخذ من تكتمه على أمر الانقلاب مأثرة عسى أن يقدرها له النميري، إن صدَّق أن الصادق كان صادقا في ذلك المسعى، ويكافئه فيسمح له بأن يشاركه في حكم البلاد، وهو الأمر الذي كان يرنو إليه الصادق كما اتضح من أقواله المباشرة في القسم الأول من هذه الوثيقة التي خطتها يُمناه!
اقتراحات عملية:
وكأنما صدق الصادق أن تودده للنميري قد أثمر فعلا، لاسيما بعد أن استدرجه النميري بكلمات معسولة قال فيها: " أود أن أوضح لك أنني لست غريبا عليكم، ففي ناحية الفكر السياسي لقد قرأت كلما كتبت وقلت، وأعجبت به، وأيدته، ومن الناحية الأخرى فأنا أنصاري أكثر من الصادق المهدي".
وهي كلمات شبيهة بالكلمات التي استدرجه بها إلى لقاء بورتسودان بعد ذلك بسبع سنوات.
وقد أسرع الصادق المهدي وهو يسمع كلمات النميري المعسولة بلقاء القيادة العامة في 1969م ليتطوَّع ببذل الاقتراحات العملية التي تساعد النميري والانقلابيين في التحكم بالسلطة.
وأهم هذه الاقتراحات ضرورة الاقتصاص من رجال العهد الديمقراطي (البائد)، وهنا استخدم الصادق المهدي المصطلح المبتذل بشدة في تلك الأيام وهو مصطلح (القصاص الشعبي).
فالقصاص لا يكون بحكم القانون وإنما بحكم أولئك الخارجين على القانون من الغوغاء الموتورين بأثر الشعارات الحمقاء.. يقول الصادق المهدي مخاطبا النميري: " إن هذه الثورة فرصة للقصاص الشعبي من الذين آلموا هذا الشعب ".
ودعاه إلى عدم إنصاف الذين سرقوا ومارسوا المحسوبية، وهنا نرجِّح أن زلة قلم قادت الصادق لاستخدام تعبير: "ولا إنصاف لأولئك الذين ما عفُّوا عن السرقة "، وقد كان يقصد ولا عفو عن أولئك الذين ما عفُّوا عن السرقة.
وقد جاء ذلك الخطأ من طبيعة التسرع لدى الصادق في التفكير والتعبير فهو خطأ غير مقصود ولا نحاسبه عليه.
ومن جملة الاقتراحات العملية التي طرحها الصادق يومذاك على النميري اقتراحه بتطهير الصحافيين فـــ:" الصحف من أكثر مجالات الفساد فساداً".
وقد ذكر الصادق للنميري أن القوانين التي كانت سائدة في الوضع الديمقراطي لم تكن تساعد على تطهير الصحافيين وإعادة هيكلة الصحف: "وهذه الإجراءات مع ضرورتها لم يكن من السهل تحقيقها في ظل الأوضاع الدستورية والقانونية الماضية، فلمَّا قامت الثورة توقعنا أن تحدث هذه الإصلاحات، ولذا نرى أن قرار إعادة صدور الصحف والوضع كما هو ليس موفقاً ".
وهكذا كان الصادق يستعدي الانقلابيين على الصحف وكأنما كان يومئ إلى ضرورة تأميمها بدعوته إلى :" توسيع قاعدة ملكيتها " وذلك من قبل أن تأتي إجراءات التأميم.
ومن العجب الذي أتى به الصادق في هذه الوثيقة أنه أخذ على رجالات الأحزاب أنهم خرقوا الدستور، ولكنه عاد هنا فدعا النميري إلى أن يتجاوز الدستور والقانون معا فيهجم على المجتمع الصحفي ويفعل فيه وبه ما يشاء.
وفي سياق اجتياح النظم والقوانين أبدى الصادق المهدي للنميري اغتباطه بفصل ضباط القوات المسلحة، فقال يخاطبه : " نحن نرحب بتطهير القوات السودانية المسلحة وبإجراء إصلاحات جذرية كم تطلعنا اليها وإن كان القانون في النظام الماضي لا يبيح مجالا  كافيا لذلك فإننا نرحب بما أقدمتم عليه من تطهير وإصلاح ".
هذه عينة من الاقتراحات المتسرعة التي بذلها الصادق للنميري في ذلك الاجتماع الخطير الذي استمر لساعتين ونصف الساعة بالقيادة العامة للقوات المسلحة، وبقية الاقتراحات وعد أن يزوِّده بها في شكل دراسات حيث قال له: " ونحن لينا بعض الدراسات والآراء التي قد تساعدكم، ويسرنا إذا طلبتم أن نجعلها في متناول أيديكم ".
وهو الأمر الذي لم يتمكَّن الصادق من تقديمه للنميري، الذي لم يكن في حاجة إليه، حيث لم يكن النميري أصيلا في طلب التفاهم مع الصادق المهدي، وإنما كان يهدف إلى قراءة مجمل أفكاره واستشفاف مواقفه.
وقد كان النميري ماهرا في مثل تلك الأفاعيل، واستطاع طوال سنوات حكمه أن يوازن بين مواقف الرجال، وأن يضرب بعضهم ببعض بدهاء شديد.
وهذا ما ألمح إلى جزء منه الصادق المهدي حين قال عن أتباعه: " إن بعضهم كان يعتقد أننا متفقون مع الثورة وآخرون يعتقدون أننا سنقوم بمقاومة لها، فأوضحنا لهم رأينا وأننا بصدد التفاهم مع قيادة الثورة ".
وقد أتخذ الصادق منفردا هذا القرار الكبير من دون الرجوع إلى أجهزة الحزب ومن دون الاتفاق مع عمه الإمام الهادي المهدي الذي كان قد أخذ لتوه يعد العدة لمواجهة الإنقلابيين من معقله بالجزيرة أبا.
الثابت والمتحول:
ولكن هكذا يفكر الصادق المهدي دائما باستعجال، وهكذا يتصرف دائما من دون روية. وذلك هو أحد أسباب إخفاقاته في عالم السياسية.
لقد كتب الصادق المهدي هذه الوثيقة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وعندما ينظر المرء إلى أفكار الصادق المهدي اليوم بعد أن تخطى السبعين من العمر المديد بإذن الله تعالى يرى فيها مشابهة لأفكاره وهو شاب، وهذه محمدة تحسب للصادق بلا ريب.
وأبرز نقاط التشابه الثابتة هي سعي الصادق الحثيث للوصول إلى السلطة، واتجاهه للاعتماد على جهد الآخرين ليبلغ به إلى تلك الغاية، ونزعته القوية لتزكية ذاته ووضع نفسه مفكرا خلاقا يعتقد أنه هو الوحيد المؤهل لإنتاج الحلول، ودعوته الملحة لانعقاد المؤتمر القومي الدستوري الجامع، وانتهازه الفرص لإستحداث تعديلات دستورية تطال حرية الصحافة.
وكل هذه النقاط قد برزت مكبَّرة واضحة في ثنايا هذه الوثيقة، ولا تزال تبرز في خطابات الصادق المهدي من حين لحين وربما إلى آخر الحين.
وأما الجوانب المتحولة في فكر الصادق فهي الجوانب الذرائعية، أي تلك التي تتصل بالوسائل التي تقوده في درج السلطة إلى ذراها.
وقد كشف لنا في هذه الوثيقة عن الذريعة التي كان يرى صوابيتها ويعتمد عليها، وهي تلك التي تتمثل في: " ايجاد مخرج ثوري عن طريق دستوري انطلاقا من قرار محكمة ". ولا محالة أن الحديث عن حل  ثوري، يخرج من نصوص الدستور الثابتة الجامدة، فيه تناقض لا يستطيبه إلا من لا يفقه شيئا في الثورة والدستور.
وأما أن ينطق بهذا الحل الثوري الدستوري قاضٍ مطلوب منه تطبيق القانون فهذا أعجب من ذاك وأوغل منه في التناقض والتعارض.
فليس من مهمة القاضي – أي قاضٍ- أن يعمل بالسياسة، ولا أن يخرج من نصوص الدستور والقانون بحثا عن حلول ثورية، لاختناقات الوضع السياسي، ومعالجة الأزمات الخاصة بالسياسيين الفاشلين من أمثال الصادق المهدي.
////////////////

 

آراء