قراءة في المبادرات الداعية لإيقاف الحرب: ما الحلقة المفقودة فيها؟ 

 


 

 

(1)

توطئة

لا جدال في أن أولوية السودان العاجلة والملحة، تتجسد في إيقاف الحرب، بكافة الوسائل التي أشارت إليها المبادرات الوطنية المبثوثة في الفضاءات الاسفيرية، والتي تحتاج إلى جبهة وطنية عريضة، تجمع شتات أفكارها، وتؤسس لخطاب جامع، تكون رسالته الأولى "لا للحرب" من أجل حماية المدنيين العُزّل، ومعالجة الأوضاع الإنسانية التي طفح كيلها في العاصمة القومية، قبل أن تتسع دائرة الحرب أفقياً، ثم تدفع بعض القطاعات الأثنية الناقمة على المركز إلى حمل السلاح وكالةً عن بعض الكيانات الإقليمية والدولية الطامعة في موارد البلاد واستغلال موقعها الجغرافي-السياسي. كما تعلمون يا سادتي، فإن الحرب الدائرة الآن في الخرطوم، قد خلَّفت مآسي كثيرة، وأضرارٍ عاطفيةٍ وجسديةٍ ونفسيةٍ جسيمةٍ، وأهدرت الثروات والموارد الاقتصادية، وجلبت الفوضى محل الأمان والطمأنينة، وأوقفت عجلة الحياة الاقتصادية والثقافية والعلمية، وساهمت في ارتفاع معدلات البطالة، واشعلت نيران العنف والجرائم بتأثيراتها السلبية على الأخلاق والقيم الإنسانية. ونشرت الموبقات والفوضى بفعل جنود لا يحكمهم وازع أخلاقي ولا تضبط سلوكهم نظم عسكرية، وبفعل ضعاف نفوس مال حدسهم الإجرامي إلى النهب والسرقة. وبموجب ذلك دُمرت كثير من المرافق الحيوية في العاصمة القومية، وأُفسدت بنياتها التحتية ومقومات استمرارها الوجودية، وهجر أحياء العاصمة السكنية الذين آثروا النجاة بأنفسهم بين نزوحٍ إلى ولايات السودان الآمنة أو اللجوء إلى دول الجوار. ورسالة الجبهة الوطنية الثانية يجب أن تؤسس على طرائق تفكير جديدة مغايرة للطرائق السالفة التي أورثت دولة سودان ما بعد الاستعمار (1956-2023) فشلاً ذريعاً، تجسدت آخر فصوله الخاتمة في الحرب الدائرة اليوم في الخرطوم. وبذلك نصل إلى نتيجة مفادها أنَّ الحرب قد أفرزت واقعاً جديداً، لا يسع مخرجات اتفاق جوبا لسلام السودان، ولا يلبي طموحات الموقعين على الاتفاق الإطاري، ولا يتماهى مع أجندة المعارضين له باختلاف توجهاتهم السياسية، أو أولئك الذين يقفون في منزلة بين المنزلتين، ولا يسمح بإبقاء المليشيات العسكرية خارج سياج القوات المسلحة السودانية. يحتاج الأمر إلى شجاعة انتقال من دائرة المكايدات السياسية غير المنتجة التي أفسدت أداء جمهورية السودان الأولى (1956-2023)، إلى مربع السياسات المدروسة، الذي يمكن أن يفسح المجال لإعادة النظر بناء جمهورية سودان ما بعد الحرب، وفق نظام حكم قوامه التداول الديمقراطي للسلطة، ومواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، وإرادة سياسية حاذقة لتحويل شعار ثورة ديسمبر الثلاثي "الحرية والعدالة والسلام" إلى واقعٍ حقيقي، وابتكار سياسات غايتها التنمية المتوازية والتميز الإيجابي للمناطق المهمشة، ثم إرساء دعائم العدالة الانتقالية التي تقضي بمحاسبة الذين تسببوا في هذه الأزمة، وأفسدوا الحياة السياسية والعسكرية في السودان، وجبر كسر المتضررين من تداعياتها وآثارها.


(2)

مبادرات إيقاف الحرب

وقفتُ على العديد من المبادرات التي تنادي بإيقاف الحرب، ووجدتُ مشتركاتٍ جامعة بينها، ونذكر منها على سبيل المثال الورقة التي أعدتها مجموعة من السودانيين والسودانيات، أطلقت على نفسها "سودانيون مهتمون"، وتُقرأ الفقرة الأولى من ملخصها التنفيذي هكذا: "تدعو هذه المجموعة إلى الوقف الفوري للحرب، وبحث الإجراءات اللازمة لجعل ذلك وقفاً دائماً لها، كما تدعو السودانيين والسودانيات للخروج من السجال حول إيقاف/إنهاء حرب الخامس عشر من أبريل 2023 من عدمه إلى العمل المشترك والرجوع إلى منصة الوطن، والمحافظة على بقائه، والامتناع عن تبادل الاتهامات والتخوين للتيارات الفكرية  والسياسية، وتوجيه الطاقات للتفكير العملي حول كيفية تخفيف آثار الحرب وحماية المدنيين." وجاء في بيان آخر بعنوان "أوقفوا الحرب اليوم وليس غداً"، إذ دعا أصحاب هذا البيان "كل القوى المدنية والسياسية الوطنية لأن تتوافق على تكوين أعرض جبهة مدنية وطنية؛ لإيقاف النزاع المسلح الجاري الآن، وسحب شرعية استخدام السلاح من أي جهة سوى القوات المسلحة السودانية. وأن يتزامن إصلاح القوات المسلحة مع ابتدار مسار جديد للتحول المدني الديمقراطي ينخرط فيه الجميع في عملية سياسية انتقالية شاملة تهدف إلى إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة تعالج القضايا التأسيسية المؤجلة منذ الاستقلال: قضايا العدالة الانتقالية والاجتماعية، والسلام المستدام عبر توافق اجتماعي وجهوي عريض، صناعة الدستور، صياغة المشروع التنموي للدولة، وإصلاح أجهزتها النظامية والعدلية. كل ذلك إلى جانب معالجة القضايا الآنية الملحة كإعادة بناء ما دمرته الحرب، وإغاثة المتضررين منها وعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم." كما تدعو المجموعة السودانية للدفاع عن حقوق الإنسان إلى: "إلى تحالف وطني عريض، للالتفاف حول" مبادرتها "والتبشير بمراميها وأهدافها، فضلاً عن العمل على انفاذها بكل جدية واخلاص بالتنسيق والتعاون مع سائر الفعاليات والتنظيمات المشار إليها بعالية. ومن هذا المنبر تطلق المجموعة ذات النداء على المستوى الإقليمي والدولي صوب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وسائر القوى المحبة للسلام والمناهضة للحروب والنزاعات المسلحة؛ لدعم المبادرة والوقوف معها في تآزر وثيق حتى تتحقق" أهدافها السامية. كما تدعو مجموعة من الكوادر والقيادات الصحية والطبية ورواد التعليم الطبي داخل السودان وخارجه (رابط لموقع ميدكس): " كل الأطراف ذات الصلة بالحرب للاستجابة للمبادرات الداعية لوقف إطلاق النار بصورة دائمة؛ لتسهيل ايصال العون الإنساني للمحتاجين"؛ وتدعو "كل القوى السياسية إلى المشاركة في حل الصراع الحادث الآن بشقيه السياسي والعسكري عبر الطرق السلمية والحوار السوداني/السوداني الهادف". وعلى النسق ذاته دعا بيان لجان المقاومة والقوى المدنية الديمقراطية السياسية والمهنية كل "قوى الثورة المدنية لأخذ زمام المبادرة والتوحد لإدانة العمليات الحربية، والدعوة لإيقافها فوراً"، وعدم السماح "لخطابات الفتنة والتفتُت والكراهية البغيضة بأن تمزق هذا الوطن، وتنال من وحدته وسيادته وسلامة وكرامة أهله."


(3)

الحلقة المفقودة

إذاً ما الحلقة المفقودة في مبادرات إيقاف الحرب؟ تتمثل الحلقة المفقودة حسب وجهة نظري في التحرك السريع من أصحاب هذه المبادرات لتشكيل آليات مشتركة أو جبهة وطنية موحدة؛ يكون هدفها الأول والأساس، كما أشرنا من قبل، توحيد خطاب هذه المبادرات، وخلق آليات للتحرك السريع لإيقاف الحرب، ثم عقد ورش عمل للتفكير الجاد لمعالجة آثارها وتداعياتها، والشروع في إعادة بناء دولة سودان ما بعد الحرب، وفق طرائق تفكير جديدة، واستئناسٍ بتجارب الدول الناجحة، التي نهضت من ركام الحروب المدمرة، مثل اليابان في شرق آسيا، ورواندا في الوادي المتصدع الكبير (الأخدود الأفريقي العظيم)، وأسست لمواطنيها مستقبلاً مشرقاً، تحت شعار "الكل يكسب"، تجاوزاً لإسقاطات المعادلات الصفرية (أنصار الحرب هم الوطنيون ودعاة إيقافها هم الخونة).




ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء