قراءة في المشهد السياسي: السياسة في سوق نمرة “3”! … بقلم: د. الشفيع خضر سعيد

 


 

 

 

كان في الماضي....!

سوق نمرة 3، أو سوق الخرطوم 3، توجد بقاياه الآن في المنطقة غرب ميدان عبد المنعم حيث نادي الأسرة، وشرق شارع الحرية في منطقة الخرطوم (3). إذا قصدته الآن، كما فعلت أنا قبل يومين، فلن تصدق أن الحطام الماثل أمامك كان مدرسة حية من مدارس الشعب والتاريخ السوداني. كان في الماضي سوقا يضج بألوان وروائح وأنغام متعددة كما سحنات ولغات من تجدهم فيه. كانت السينما..المكتبة..الطابونة..الجزارين..الخضرجية..البقالين..العطارين..باعة الباسطة المتجولين..الحلاقين وغاليتهم من شعب إثيوبيا الشقيق حيث تصدح من أجهزة التسجيل العتيقة أغنياتهم الدفيئة جنبا إلى جنب مع أغاني ابراهيم عوض ومحمد وردي المنبعثة من الروادي الترانزستور.. وتسجيلات عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة القادمة من السينما قبل بدء العرض. دكاكين السوق كانت في شريط هلالي، يمتد من الشرق إلى الغرب ويتوسطه بهو مهيب كإيوان كسرى. كان سوق (3) يمنحنا الفرح والدهشة الممتعة قبل أن نتبضع منه بالمبلغ الزهيد..! ولكن قبل أن تقرب السلعة كان عليك أن تقترب أولا من الناس: الباعة، المشترين، المتسكعين...تسمع منهم لغات مختلفة بتعدد لغات أهل السودان وجيرانه شرقا وغربا، أو لهجات مختلفة للغة واحدة...وكان هنالك رجل بوليس وحيد لايحمل سلاحا، وفي الحقيقة لا يحمل أي شيئا سوى ابتسامة لطيفة ونظافة فائقة.. 

قبل التوقف عند وجهتي المحددة، قصدت التجول في السوق، لا للبحث عن بهو كان يفضي إلى دهاليزه الآمنة والمترعة بجلسات الانس، ولكن لاتمعن في الجديد الماثل وارصد مؤشراته..، فوجدت الخراب قد عم المكان في زمن تستطيل فيه شاهقات الطفيلية. الآن كلما أدلف إلى المولات التي إمتلأت بها الخرطوم، وأرى السلع تنظر إلينا بشكل مستفز، أفتقد سوق نمرة (3) وأفهم أفضل من أي مثال في بطون الكتب ما أسماه كارل ماركس في سفره (رأس المال)، " الصنمية البضاعية" مشيرا إلى أن العلاقات بين الناس في السوق تبدو كعلاقات بين السلع، وكأنما السلعة هي الأصل المعبود والناس دونها في القيمة.

حوار غير متوقع في السياسة

 في ذلك اليوم كانت وجهتي محل لبيع الإطارات يملكه أحد الأصدقاء. في المحل التقيت  مجموعة من الناس تواجدوا لأغراض مختلفة. داهموني بوابل من الأسئلة والتعليقات حال دخولي المكان. كل حديثهم إنصب حول المقترح الوارد في مقالي السابق" إما وحدة على أسس جديدة..أو دولتين على حد الإخاء". أحد التعليقات تطرق إلى أن الحكومة، شمالها وجنوبها، مازالت سادرة في ثنائيتها بمباركة المجتمع الدولي، وتواصل الضرب بسياج السرية للتعتيم على المباحثات الجارية في إثيوبيا لبحث مسائل تتعلق بتقسيم تركة السودان الموحد. قلت، فعلا الحكومة تواصل التمسك بالمنهج الخاطئ الذي إقترحته دوائر الوسطاء منذ بدايات التفاوض، والذي يتعمد تجاهل الآخرين في مسائل مصيرية كوحدة البلاد. قاطعني أحدهم داعما حديثي قائلا بأني كنت اتوقع أن تتصل بكم الحكومة أو رئيس الجمهورية لأن هذا الموضوع كبير جدا ولا يمكن أن يدار بواسطة حزب واحد أو حزبين مهما إدعيا حصولهما على الأغلبية المطلقة في الانتخابات. وآمن ثالث على الحديث مشيرا إلى أن الحكومة تدير ملف دارفور بنفس العقلية غير مبالية بالاوضاع السيئة من حرب وإعتقالات وشظف عيش في دارفور، وتخبط تجاه محطة المفاوضات في الدوحة من قبول لحركة العدل والمساواة ورفض للآخرين، ثم قبول للآخرين ورفض للحركة. تدخل صديقي ذاكرا أنها نفس العقلية التي تدير التعامل مع إضراب الأطباء والمتضرر الأول هو الشعب والوطن.

شدني حديث أكبر الحاضرين سنا عندما تأسف لتفشي المخدرات وسط الطلاب، وتعمق حالة اللامبالاة تجاه الوطن وسطهم، منوها بحرقة إلى أن الضربة الموجعة التي اصابت الحركة النقابية السودانية أقعدتها عن القيام بمهامها الوطنية مثلما كانت تفعل في الماضي وهي تدعم نضالات  لوممبا، نكروما، وجمال عبد الناصر.. وأضاف كيف أنها كانت ستتولى الدفاع عن وحدة الوطن مستلهمة تقاليد التلاحم النقابي بين نقابيي الشمال والجنوب، وكيف أنها كانت ستبادر لتطوير وتنفيذ المقترح الوارد في المقال أو أي مقترح مماثل آخر.

أحد الحضور باغتني بسؤال مباشر: ما هي أكثر توقعاتك المتفائلة للمقترح الوارد في المقالة؟ قلت: إنني لست كاتبا صحفيا، وإنما سياسي يسعى، مع زملائه، لطرح رؤى وبرامج، ويبحث عن كيفية تنفيذها. مثلا، أتوقع أن يجد المقترح حظه من النقاش في منابر عديدة، وعبر هذا النقاش سيتطور المقترح، إضافة وحذف، حتى يكتمل.   ويبدو أن السؤال فتح شهية الحضور للأسئلة التحقيقية، حيث باغتني آخر بإمكانية التفاوض حول هذا الموضوع مع المؤتمر الوطني رغم القطيعة؟ أجبت: إن مستقبل وحدة البلاد، ربما هي من أهم القضايا القادرة على دفع الجميع للجلوس والحوار، ومن هنا إشارة المقترح للمائدة المستديرة.   

لا حظت أن أحد الجنود كان قريبا من مجلسنا، وكان يبدو عليه الإهتمام بالحديث الذي كان بصوت عال. وشجعني ذلك لسؤالهم حول دور القوات المسلحة في الحفاظ على الوحدة، خاصة وهي التي قدمت الغالي والنفيس من أجل الوطن، غض النظر عن محتوى القرار السياسي، وهي تمثل نموذجا حقيقيا لمعنى الوحدة حسب تكوينها من مختلف القوميات والقبائل والألسن السودانية.؟

 تصدى أحدهم مجيبا بأن من صميم واجبات القوات المسلحة هو التجهيز لضمان الجو الملائم لإستفتاء تتوفر فيه شروط النزاهة والشفافية وسلامة مخرجاته، ففي كل الأحوال ستكون القوات المسلحة هي المتضرر الأول في حال حدوث مناوشات أو حرب نتيجة الإخلال بهذه الشروط. والقوات المسلحة المقصودة هنا تشمل أيضا الجيش الشعبي لتحرير السودان. قلت لهم أن دور القوات المسلحة او الجيش الشعبي لا ينحصر فقط في الحفاظ على الأمن لحظة الإستفتاء او بعده، وإنما في ضرورة الإستماع لرؤيتهما حول الوحدة والإنفصال. فبإسم هاتين الكلمتين استشهد الآلاف من جنود الوطن، من الشمال والجنوب. لذلك، فالذي يتحدث عن الانفصال، أو الوحدة غير الطوعية، بكل بساطة حديثه عن أفضلية تناول الفول أو اللبن في وجبة العشاء، عليه تذكر تلك الدماء التي سالت انهرا في ميادين المعارك التي قررتها النخب السياسية وليس الضباط والجنود.

أحدهم، وكان صامتا طوال الوقت، تدخل قائلا : هنالك زاوية لم تتطرقوا لها، وهي دور منظمات المجتمع المدني في دعم خيار الوحدة. هذه المنظمات ظلت على صلة ثابتة بالقواعد، سواء في الشمال أو الجنوب، تقدم كل ما هو إيجابي لتحسين الأوضاع ولرفع الوعي، خاصة الوعي بالمواطنة، بعيدا عن التأثر بأهداف ومشاريع النخب السياسية. لقد عملت منظمات المجتمع المدني بجد في كنس آثار الحرب وفي المعسكرات وفي بناء قرى السلام. ومن هنا فهي تكتسب مشروعية التواجد بشكل مفصلي في مناقشة وتنفيذ أي مشروع حول الوحدة مثل المقترح الوارد في المقال.

قلت، وأنا أستعد للمغادرة: جئت لأعالج إطارات سيارتي، فوجدت حصة دسمة في المعرفة والسياسة أعادت إلي ذكريات سوق نمرة 3 كما كان زمان. وزدت: هنالك قضية هامة جدا، وهي قضية الديمقراطية. فالبعض يظن أن تمسكنا بالوحدة هو تخوف من إستفراد دعاة الدولة الدينية الشمولية بنا في الشمال. ولكن نقول لهولاء، إن قيام الدولة العلمانية، في الجنوب أو الشمال، ليس في حد ذاته ضمانا تلقائيا للديمقراطية. والتاريخ يحدثنا عن أسواء العلمانيات ديكتاتورية وقهرا مثل النازية، كما يحدثنا عن القبضة النارية للدولة الدينية.

        رجعت إلى المنزل وزخم الحوار العميق من أناس يوصفون بأنهم من عامة الشعب، محتشد في رأسي. فتحت الكومبيوتر لأسجل ملخصا لهذا الحوار، وكعادتي عرجت لقراءة بريدي الإلكتروني، فكانت المفاجأة رسالة من رفيق معتقل قديم في الثمانينات، كان رائدا في القوات المسلحة، يشيد فيها بالمقال ويصرخ بكل وطنية " المقترح الوارد في مقالك فعلاً محاولة الثواني الأخيرة لعل الذين أضاعوا تلك السنوات الذهبية يصحو ضميرهم مرة أخرى ليلحقوا قطار الإنفصال قبل أن يتحرك... قلبي على وطني وأنا أراه يتمزق على أسنة رماح الإنفصال والتعنت وضيق النظر والتضحية بالسودان الجميل.... إقتراحكم معقول... ولا أرى مخرجا سواه. إلاً أن أعداء الإنسانية وجنود العنصرية ناس )........)  ومن على شاكلتهم من أكلة السحت سيقفون لهذا الحل الفريد بالمرصاد... تراني أحلم بالسلام والوحدة وأتمنى أن لا أصحو على كابوس. نعم أخي العزيز يجب أن نحاول ونحاول ونحاول فهذا كل ما نستطيع ولكن بشرط الإخلاص والعمل الجاد."

 د. الشفيع خضر سعيد

 

ELSHAFIE kHIDIR SAEID [eksahmed@gmail.com]

 

آراء