الابداع ليس مرتبطا بعمر معيَّن، مع أن الغالب هوشغف المبدع بالنشر في شبابه. لكن في حالة الاستاذ محمد حامد فقد تمت كتابة الرواية بعد أن توهَّط الكاتب في كرسي المعاش وكأنه كان يتوق الي ذلك ليُفرغ ما خزَّنه طوال سنوت عمله مرة واحدة في عمل روائي جميل.
نقرأ في حياتنا عشرات أو مئات الروايات لكن القليل منها يبقي في الذاكرة أويترك أثر باقيا فينا، وكل قارئ منًّا له اسبابه أوالأوتار التي لامستها تلك الروايات فتركت تلك الاثارالباقية. رواية الاستاذ محمد حامد الحاج (الحياة ككذبة -" باللغة الانجليزية 290 صفحة-الناشر-أمازون دوت كوم 2016))- رغم العنوان الصادم للبعض- ستبقي للقارئ منها أشياء في ذهنه ، علي الاقل افتتاحيتها التي لا تنسي وما يرد في الرواية من أراء عميقة في الحياة والناس علي السنة عدد من اشخاصها. ما الذي يبقي في ذهنك من رواية قرأتها أو بالأحري استمتعت بقراءتها؟ في تقديري كل الحريصين علي قراءة الرواية هم نقَّاد لها –كل علي طريقته. وقد ترسَّخ لدي هذا الاعتقاد بعد المداومة علي جلسات نادي الكتاب (الحقيقة نادي الرواية) الذي تديره الاستاذة مشاعر شريف. تصيبك الدهشة في أحيان كثيرة من ذكاء وعمق بعض الملاحظات والتأويلات والتعليقات التي يبديها أعضاء النادي في الجلسة وتعجب كيف لم تخطر علي بالك و كيف فاتت حتي علي النقاد المحترفين. ولا يخالجني شك في أن وقائع جلسات النادي لوقدر لها أن تُنشر ستكون اضافة حقيقية لرأي النقاد حول الرواية موضوع النقاش-هذا إن لم تكن فتحا جديدا في مجال النقد (النقد الجماعي). علي وجه العموم فالذي يبقي من الرواية في ذهن القارئ شئ مركب من جزيئات صغيرة منها المقدرة المذهلة علي الحكي (كما عند خيري شلبي) والشخصيات المكتملة البناء التي تتحول الي أناس من لحم ودم تسعي بين الناس (مثل السيد احمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ أو مصطفي سعيد والزين عند الطيب صالح ) . وربما من أهم ما يبقي اللغة الشاعرية التي تتزين بها الرواية والآراء التي تمت صياغتها بصورة جديدة مبدعه يتمني القارئ لوكان هو قائلها. فمن من القراء من لم يستمتع بشاعرية لغة الطيب صالح في رواياته وقصصه القصيرة وبدرجات متفاوتة كما في لغة الفلسطيني أميل حبيبي في "الحوادث الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل" والارتري حجي جابر في "سمراويت". تشكِّل اللغة رافعا مهما لأي رواية ، وفي رواية "الحياة ككذبة" لايمكنك إلا أن تحتفي باللغة الانجليزية الرفيعة والسلسة في غير تنطُّع التي كتبت بها، و يمكن للرواية أن تحتفظ بنصاعة تلك اللغة حتي بعد الترجمة إن قدر لها أن تترجم. تبدأ الرواية بداية عفوية بسؤال عابر يسأله الراوي لصديقة قديمة و وكلاهما ينتظرأسرته العائدة من الاجازة في الوطن، " كيف حالها؟". وكأنما كان ذلك آخر ما تتوقعه منه، تجيب السيدة والدهشة تعلو وجهها "يا إلهي.... أما زلت تفِّكر فيها؟ بعد كم من الزمن؟ ستة وعشرون عاما؟" . يقول الراوي "عندما أكملت إجابتها المتسائلة كانت ابتسامتها المميزة قد أضاءت وجهها بالكامل ، وفي ظني أن كل شئ في المرء يمكن أن يتغير إلا طريقة الابتسام". ثم يمضي الراوي في فيما يشبه الاعتراف بأنه قد حاول أن يزيِّف لنفسه شخصية أخري -بعد ذلك اليوم البعيد من اغسطس قبل ستة وعشرين عاما عندما انهار عالمه فجأة بانتهاء ذلك الحب العاصف- شخصية تقمَّصها طوال تلك المدة حتي ظنَّ أنه فعلا يمتلك القدرة علي خداع نفسه ومن حوله بتلك الشخصية. في شعاب الرواية تتداخل/تلتقي عدة محاور منها محور "وطن" ذو ماض جميل-علي بساطته- مذقت نسيجه أصولية غريبة علي مجتمعة تشتَّت علي أثرها الآلاف من أبنائه وضربوا في الارض إلي بلاد لم تنظر اليهم إلا كوافدين، وعالجوا أوضاعهم الجديدة- التي تجبرهم علي تقبل الإهانة -في أحايين كثيرة-بالانحناء للريح حتي تمر، وبلطيف القول لتحاشي الإساءة وسوء المعاملة ، وبالتقية في كل الاحوال. وكخيار تعويضي عن الوطن الطارد خلقوا في منافيهم الاختيارية تلك، أوطانا بديلة صغيرة ، بنقل عاداتهم وتقاليدهم وتكافلهم في الافراح والاتراح. كما تجد محور الصداقة ممثلا في أحد أصدقاء طفولة الراوي الذي تثري تجربته الحياتية المجري الرئيسي للرواية بنظرات وآراء في الحياة والناس في غاية العمق إن لم نقل الروعة. المجري الرئيسي للرواية هو قصة الحب الموًّار الذي ينتهي فجأة ويترك الراوي جسدا بغير روح. لم يتحدث الراوي عن كيفية النهاية الفاجعة لحبه ولم يقل أنها تركته.ومن فرط تقديره لتلك العلاقة لم يشأ أن "يرمي اللوم" عليها حتي بعد أكثر من ربع قرن من الزمان، ربما تمثلا بقول الشاعرفي الاغنية" هو يسوَّي الغلط وأنا اسوِّي كتَّر خيرو" ، وهي درجة من الحب تجدها فقط عند كبار العشاق في العصرالاسلامي الأول ، درجة ينبئ عنها ما قالوه فيهن (ليلي وبثينة وعزة). يقول الراوي عن اللقاء الأول " أول يوم رأيتها فيه حدث لي شئ غريب، شئ لم يحدث في المليون سنة التي سبقت ذلك اليوم . تمكنتُ بعد أن أفقت من الآثار الأولي لإبتسامتها المزَلزِلة، أن أتحدث إليها كأنني عرفتها طوال حياتي، كأنما هي السبب في تعلمي الكلام أصلا. ومن المؤكد أن ذلك لم يكن الشئ المعتاد عند تعاملي اول مرة مع شخص غريب، ناهيك عن أن يكون مع شخص مبهر مثلها" (ص111). وقد حاول الراوي التعافي منها (لأنها كانت تسد عليه كل اقطار نفسه) بزيارة أماكن اللقاءات الاولي (جبل التوباد الخاص به) علَّه بذلك يتصالح مع نفسه ويطوي تلك الصفحة فاكتشف أن ذلك لم يكن علاجا بل فتحا للجراح. يقول " "أغمضت عيني فرأيتها قادمة نحوي، تسبقها ابتسامتها الآسرة التي فتحت –بهدوء -كل نوافذ وبوَّابات قلبي المحروم من دفء شمسها. حدثني قلبي-هذا القلب القديم المنهك- وترجَّاني أن أقبض علي تلك اللحظة وأقوم بتجميد ذلك المهرجان، مهرجان الألوان والموسيقي والعذوبة. أردت أن أسألها لماذا اختارت أن تجعل لحياتي معني، و لوفقط لتلك المدة القصيرة التي دامت فيها علاقتنا.أردت أن أعبر لها عن دهشتي كيف استطاعت أن تخترق روحي وكل وجودي". بوجه من الوجوه تبدو هذه العلاقة في عمقها وذوبان المحبين فيها وما سكبه الراوي في وصفها -رغم اختلاف النهايات- شبيهة بما جري بين الرئيس فرانسوا ميتران وعشيقته آن بينجو إذ في بعض رسائله لها يقول "افكر فيك وبحنان فيَّاض بحيث يستحيل علي قلبك في هذه اللحظة ألا يشعر بذلك". وفي تعرجات الرواية يدلف الرواي إلي فلسفاته ورأيه فيما يجري للبشرفي حياتهم " سألت نفسي متعجِّبا عما إذا كان في هذه الأرض التي تحكمها الأقدارهنالك فرق بين أن يكون الشخص سئ الحظ أو أن يتخذ قرارات خاطئة. لايهم ما إذا كان سوء الحظ يتبعك دائما أو أنك قد استنفذت حصتك منه، إذ في لحظة ما فإنه لامفر من أن تكون كل قرارتك خاطئة." ويري "إن الشخص يحتاج الي جرعة هائلة من مسحوق خداع النفس لكيلا يكتشف أن أسوأ الخلق دائما هم الذين يتغلبون في النهاية ؛ إذ بمجرد أن يصبح الشخص سيِّئا (أو مُنحطا) فلا شئ يوقفه. بالمقابل فإن الناس الفضلاء (ربما كما في قول المتنبي –أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمنِ) ليسوا فقط موبوئين بالتردُّد وعدم الحزم وإنما أيضا عليهم الصبر علي ظاهرة تخاذل أعداد كبيرة -وعلي الدوام- من بين صفوفهم مع الزمن". ويصل الراوي إلي نتيجة هامة مؤداها أن "هنالك دائما اشخاص هم أكثر قابلية من غيرهم علي ارتكاب أسوأ الافعال بمجرد تأكدهم أو اقتناعهم بأنه لن يتم إكتشافهم" أحد الثيمات الرئيسية التي تتكرر في الرواية هي اكتشافات الراوي حول خبايا النفس البشرية وصعوبة تحليلها أو الوصول الي أعماقها حتي فيما يختص بأقرب الأقربين يقول " إن الشخص دائما ما يفاجأ أنه لا يعرف في الحقيقة أناسا ظن -ولمدة طويلة- أنه يعرفهم كمعرفته لباطن كفه ، بما في ذلك الاصدقاء وافراد الأسرة". وهو قول شبيه بقول فيلسوف يوناني –فلوطرخوس-في القرن الأول قبل الميلاد "إن المرء غالبا ما ما ينخدع بمن يعتقد أنه يعرفه حق المعرفة"- مع اختلاف المقصود. وفي هذا المعني وعندما تحدثت ام الراوي عن فجيعتها في موت صديقتها -كما لم تتحدث أم لإبنها من قبل -يقول " فذكَّرتني للمرة الألف قلة ما نعرف عن أشخاص طالما تصورنا أننا نعرف عنهم كل شئ".فاجأته مرة أخري عندما عاتبته -لحسن ظنها في فهمه - " وأنت أيضا اخترت أن تسافر دون أن تهتم أو تسألني رأي في سفرك. ظننت مثل أخرين أنه مادام لدي عدد من الأبناء فأن غيابك سوف لن تكون له أهمية. فلتعلم إن الأم ليست أُمَّا فقط لإثنين أو اربعة أو أي عدد. الأم هي أم لكل واحد منهم علي حدة." والارجح أن الراوي قد شعربوخذ الضمير لإستهوانه أمر استشارة أمه عند سفره/اغترابه وفات عليه أن يتذكرالقول المأثور في رد أم علي سؤالها "من أحب أبناؤك اليك؟ فقالت الصغيرحتي يكبر والمريض حتي يشفي والغائب حتي يعود." هذه رواية متعتها في توقع آراء ذكية وعميقة عن الحياة والناس في كل منعرجاتها مما يجعلها جديرة بالقراءة وتستحق جهد البحث عنها ولو في الأمزون. أسفت لأن الاستاذ محمد حامد الحاج لم يشأ أن يكتب إسمه كاملا في غلاف الرواية واكتفي بالاحرف الاولي (م. ح. الحاج) وهي إضاعة للحق الادبي للكاتب في مجتمع الاسم فيه رباعي ومتشابه ، كما أنه لم يكتب حتي سطرين من سيرته الذاتية كما فعل معاشي آخر(الدكتور ميرغني محمد حسن –قانون جامعة الخرطوم سابقا) والذي سطَّر رواية اخري بالانجليزية ممتعة وغاية في السخرية (2014) بعنوان (الجنرال والضفادع).وأتمني أن تجد الروايتات من يعمل علي نقلهما للغة العربية كما حدث مع بعض روايات السودانيين الذين يكتبون باللغة الانجليزية.
* يجئ الاستاذ محمد حامد الحاج الذي يعيش في كندا حاليا إلي الرواية من باب الاقتصاديين ، إذ عمل اولا بوزارة الصناعة ثم صندوق النقد العربي –ابوظبي لسنين عددا ولعل المجتمع الثقافي النشط بالقضارف واتحاد الكتاب السودانيين يحتفيان بالرواية لولا موضوع اللغة وصعوبة الحصول علي الرواية ، و الأمل أن يعمل الكاتب علي معالجة الامر. صديق امبده 6 مارس 2017