قضية جنوب كردفان/جبال النوبة: نحو إطار عام للتفاوض
hamidelbashir@yahoo.com
إنَّ جبال النوبة إقليم ذو خصوصية في الماضي والحاضر: في الماضي عبر حقب تاريخية متباعدة تمتد منذ مملكة سنار في القرن الثامن عشر وفي الحاضر خلال الثلاثة عقود الأخيرة حينما أصبح الإقليم إمتداداً للحرب الأهلية التي كانت بين شمال السودان وجنوبه ولم تتوقف إلا في العام 2005 بتوقيع إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) والتي تمخض عنها في نهاية الفترة الإنتقالية (9/7/2010) إنفصال الجنوب عن السودان. بعد الإنفصال مباشرة إندلعت الحرب في جبال النوبة و(النيل الأزرق) لتجعل من سنين الحرب في الإقليم مع توقفات قصيرة تقارب الثلاثة عقود. هذه الحرب الممتدة أحدثت دماراً في البنى التحتية والفوقية على السواء. لقد دمرت الحرب الموارد وأنماط الإنتاج وأحدثت حالة كارثية من الفقر وبذات القدر أحدثت شروخاً في الإنسجة الإجتماعية ــ الثقافية يصعب ترميمها في مدى زمني قصير. وتتزايد هذه الشروخ وتتزايد أثارها ومردوداتها مع مرور الزمن مما يهدد مستقبل الإستقرار بالإقليم الذي قد ألقى به حظه العاثر أن يكون نقطة وسطية بين السودانين في خلال فترة التحوُّلات الكبرى التي أعقبت الإنشطار وقبيل الوصول إلى وئام يتمثل في جوار آمن. يضاف إلى كل ذلك موقع الإقليم (الجيوبولوتيكي) المميز وموارده التي يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في مستقبل السودان وإستقراره، ليس فقط بوجود 20% من أرض السودان الزراعية فيه، بل لموارده البترولية والمائية والرعوية الواعدة وفوق ذلك إنسانه الذي يحمل آلاف السنين من ثراء التعايش وعبق التاريخ الزاخر بين قومياته وثقافاته التي تثري ــ وقد أثرت ــ السودان من قبل.
لكن إن الزمن لهذا الإقليم ــ في هذه الظروف الحالكة ــ قد يعني بما لا يعنيه لإقليم آخر: أن أي تأخير في إيقاف الحرب الراهنة والوصول إلى تسوية سياسية يعني زيادة في الشقاق وفي الشرخ في حائط الوطن الكبير. إنَّ تحركنا يجب أن يكون بقصد منع الشرخ أن يصل مرحلة التصدع والإنهيار ومن هنا تأتي أهمية هذه المبادرة.
قضية جبال النوبة: إطار عام للتفاوض:
مدخل: إن الأمر في جنوب كردفان/جبال النوبة التي تعيش في حرب مع المركز منذ قرابة العام قد تخطى الحلول من شاكلة:
(أ) الحلول الإدارية الخاصة بالتقسيم وإعادة تقسيم الوحدات الإدارية داخل الولاية.
(ب) أو العمليات من نوع إضافة إدارية لأخرى.
(ت) أو إرضاء جماعة بإنشاء عمودية هنا أو معتمدية هناك.
(ث) أو إنشاء المنشأت الخدمية (مدارس مراكز صحية .. إلخ) هنا أو هناك.
(ج) أو حتى زيادة ميزانية الولاية في واحد أو في كل فصولها الثلاثة.
في تقديري أن الحلول الناجعة والمستدامة وتلك التي يمكن أن تحقق الإستقرار التام والمستدام (الإستقرار والسلام الإجتماعي والسياسي) تكمن في الحلول السياسية الهيكلية (Structural) وهي التي تُبني وتُستشف/تُستنبط من الفهم للُب الإشكال وجذور المشكلة بكل أبعادها التاريخية، الحضارية، الثقافية، الإجتماعية، الإقتصادية والسياسية.
إن النظر إلى الإشكالية في جبال النوبة بخلاف هذا الشمول (Inclusiveness) وخارج إطار تاريخيتها لا يعدو أن يكون حرث في البحر ويزيد من معاناة الإقليم وأهله ويزيد من إحتمالات تدويل القضية. والتدويل يعني إحتمال أن تفرض الحلول من الخارج. ويعني إمكانية أن ترتفع سقوفات الثوار من شعب النوبة وغيرهم ويعني إمكانية أن يدخل الأجاويد والجيران بأجندتهم .. الحل المحلي الداخلي المستوعب للحقائق العميقة وذو الفكرة السودانية القومية هو الأحسن لانه سيكون الأكثر فرصاً في الإستدامة والقبول المشترك بين كل الأطراف. وذلك لأنه الأصلح للتربة السودانية والذي من الممكن ـــ بحكم المولد والنشأة ــــ أن يترعرع ويزدهر فيها. "الحل الغريب" سيواجه إشكالية المواءمة والملاءمة والنمو الإزدهار. هذا يعني أن الإشكالية في جبال النوبة ليست فقط لا يمكن تجزئتها بل لا يمكن فصلها من سياقات تاريخيتها بكل الأبعاد التي ذكرت أنفاً (التاريخية، الحضارية ....إلخ) إن مشكلة جبال النوبة ما هي إلا جزئية من الأزمة السياسية القومية وفي بعض جوانهبا هي تمظهر لتلك الأزمة والتي يمكن إجمالها في الآتي: إدارة التنوع، تفعيل مفهوم دولة المواطنة، شيوع الدولة المدنية عملاً وفعلاً، خلق التوازن التنموي والسياسي المطلوب الذي يشتكي منه الجميع ويحتج عليه الجميع. إذن الأزمة هي أزمة البناء القومي وبناء الأمة المتفق عليه بين مختلف المكونات.
دون تبسيط مُخل، إلا وأنه وفي تقديري ــ أن حل إشكالية جبال النوبة ــ جنوب كردفان يكمن في جزء أو كل من مكونات الإطار المقترح للحل كما مبين أدناه:
1. مسلمات عامة:
(أ) جبال النوبة/جنوب كردفان جزء لا يتجزاء من شمال السودان وليس في ذلك جدال ولا ينبغي أن يكون.
(ب) للإقليم خصوصية تاريخية، حضارية، ثقافية وسياسية، وهو إقليم أقل نمواً من غيره وأن أهله أقل مشاركة في فعاليات الأمة الثقافية، الإجتماعية، الإقتصادية والسياسية.
(ت) للإقليم أو سكانه الحق في الإنخراط في أي تنظيمات سياسية وإن تقاطع ذلك مع حدود جغرافية ــ فكرية لدولة أخرى. إن فكرة السودان الجديد القائمة على المكون ا لآيدولوجي المستنهض للفكرة الإفريقانية في السودان مكون شرعي فكرياً وحركياُ ومقبول في مقابل أفكار مشابهة في البنية ومخالفة في التوجهات في الساحة السياسية السودانية، عليه فإن الأفكار المعبرة عن هذه التوجهات الآيديولوجية (السودان الجديد) لها مطلق الحرية في تشكيل كياناتها الحركية (الأحزاب) المعبرة عن هذه الأفكار والتي تسعى من خلالها لتحقيق حلم السودان الجديد عبر الأطر والقنوات الديمقراطية والترتيبات الدستورية المتفق عليها والمتعارف عليها في البلاد. إذن الحركة الشعبية قطاع الشمال أو تحت أي مسمى آخر يجب أن يسمح لها بممارسة كافة الأنشطة السياسية دون حجر، بل وتوضع أمامها ــ كما ينبغي للأحزاب الأخرى ــ كافة المعينات القانونية الداعمة لإثراء الحوار القومي والحراك السياسي المفضي إلى المشاركة والرضا القومي بين مكونات المجتمع السياسية.
2. إنسانياً: إغاثة النازحين فوراً والسماح للمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية بالإطلاع بهذه المهمة تحت قيادة السلطات السودانية وفعاليات الحركة الشعبية ــ قطاع الشمال.
3. الترتيبات الأمنية: وقف العدائيات، وهذا يعني الشروع فوراً في كل ما يتعلق بوقف إطلاق النار.
4. هيكلياً(سياسياً وإدارياً):
(أ) إنشاء سلطة إقليمية لجنوب كردفان بصلاحيات محددة (يتفق عليها) لمدة لا تزيد عن العشرة سنوات.
5. تنموياً:
- إنشاء برنامج تنموي كبير بإسم "برنامج الدفعة القوية" وهو برنامج إستراتيجي للتمييز الإيجابي ويدفع بالتنمية ثمناً للإستقرار في جنوب كردفان ويأخذ بيد الولاية في مختلف المجالات التنموية والخدمية (بضامنين قوميين وعالميين ــ عربياً وأفريقياً وعالمياً) وبميزانية لا تقل عن 10 مليار دولار.
- التنمية الزراعية وتنمية القطاع الحيواني.
- تنمية الخدمات الإجتماعية بصورة غير تقليدية من رعاية ومحاربة الفقر وشمول الأرامل والأيتام ومن تقطعت بهم السبل من خلال برنامج التحويلات النقدية للفقراء (Cash transfer) ومحاربة الفقر وإدماج متضرري الحرب الأهلية.
- رفع كفاءة القطاع الإجتماعي ــ الخدمي (التعليم والصحة) مع التوسع رأسياً وأفقياً.
- رفع وزيادة الطاقة الإستيعابية والنهضوية للقطاع الخاص.
- تأسيس وتفعيل برتوكول/ميثاق لمعالجة التظلم الثقافي والحضاري يكون واضح المعالم يحدد ويعالج قضايا الخصوصية الثقافية بشكل منهجي ودستوري.
6. الترتيبات السياسية (لتفعيل الإطار المقترح):
4-1 الترتيبات العملية (الداخلية):
أ. إلغاء نتائج الإنتخابات الإقليمية لمنصب الوالي والمجلس التشريعي (2011) وكل ما ترتب عليها: حل الجهاز التشريعي والتنفيذي.
ب. تأسيس وضع تشريعي وتنفيذي جديد بالولاية على هدي الآتي:
- يتم الإتفاق على صيغة للمشاركة في إدارة السلطة الإقليمية(بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والكيانات السياسية بنسب 33% لكل.
- إن يتم الإتـفاق على صيغة مرضية لإدارة الولاية
- إختيار والي بالتراضي.
ج. إعادة دمج قوات الحركة الشعبية (جبال النوبة) حسب بروتوكول جبال النوبة.
د. تفعيل وتنفيذ المشورة الشعبية حسبما جاء في البرتوكول.
4-2 الترتيبات العملية (الخارجية):
أ. مع دولة جنوب السودان:
- ترسيم الحدود.
- تشجيع وتقنين التجارة مع جنوب السودان.
- وضع ترتيبات حول إستغلالات الأرض (للرعي) والمياه بالنسبة للبدو الرحل عابري الحدود الدولية.
- الترتيبات اللازمة لإستغلالات المياه المشتركة مع دولة جنوب السودان.
4-3 مع الولايات المجاورة (شمال كردفان، شرق دارفور، النيل الأبيض):
أ. تنظيم الحدود بين الولايات.
ب. تنظيم حركة الرعي بين الولايات.
5. العلاقة بين السلطة الإنتقالية لجنوب كردفان والحكومة المركزية:
- تبعية السلطة الإنتقالية لرئاسة الجمهورية مباشرة لمدة 10 سنوات.
- التمويل يتم بزيادة تخصيص عائدات الولاية من البترول إلى (15%) ومن الموارد القومية الأخرى (10%).
- بنية السلطة الإنتقالية لجنوب كردفان(على ذات نمط السلطة الإنتقالية لدارفور).
- إستجلاء التوضيحات الدستورية التيمن شأنها أن تؤكد وضعية دستورية للإقليم في الإطار الفدرالي القومي مع تمييز ثقافي ــ سياسي ــ إقتصادي(تنموي).
6. دروس مستفادة:
- علينا أن نسرع بالحل في جنوب كردفان/جبال النوبة، لأن كل يوم تأخير يعني الزيادة بمتوالية هندسية في التعقيد (التدويل وإرتفاع السقوفات).
- علي الحكومة أن تسعى جهدها ألا تنتهج ذات الأسلوب الذي قاد إلى الخطأ الأكبر في تاريخ السودان وهو إحتكار الحل بواسطة الحكومة وحزب الحكومة وآيديولوجية الحكومة. إن الحكمة لا حزب لها ولا آيديولوجية لها، يجب أن تنتصر الدولة لمصلحة السودان وأن تقاطعت مع آيدولوجيتها ومصالح حزبها وذلك بتغليب الحل المحلي التشاركي الذي ينتصر لجنوب كردفان، مما يعني إنتصاره للسودان.
- على الدولة أن تبدي مرونة أكبر في القبضة المركزية لصالح الإقاليم الطرفية وخاصة جبال النوبة قبل أن تتطور الإشكاليات في هذا الإقليم من مجرد إحتجاج إلى رفض للشراكة القومية مع المركز، ولمنع ذلك لابد من رضوخ المركز لتحويل أكثر للسلطات لهذا الإقليم ذو الخصوصية التاريخية و يعني إتباع برامج من شاكلة التمييز الإيجابي والتي شأنهاأن تعيد الترميم القومي ومن ثم التماسك المفضي إلى الوحدة والإنسجام والسلام الإجتماعي في الإقليم وبينه وبين المركز(الخرطوم).
أنا على يقين بأن الحل يكمن في هذا الإطار المقترح (كله أو جزء منه) لكن ليس خارجه وذلك الجزم ناتج من الفهم العميق لإشكالية الإٌقليم وأهله عبر كل الحقب التاريخية. لكني لا أستطيع أن أجزم كيف سيكون شكل الحل بعد عام (أو أقل) من الآن لأن المتغيرات الدولية والإقليمية قد تختطف المشكلة والحل معاً وتتركنا فقط في حالة إنتظار حركة الملفات الخارجية التي تتجول بين عواصم العالم وحينها سيكون الحل مفروضاً خارجياً، تماماً كما حدث في نيفاشا والتي ستظل عالقة (بطعم الحنظل) في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال القادمة.
نقلا عن صحيفة السوداني
hamidelbashir@yahoo.com