قمة المناخ والدبلوماسية السودانية … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك
30 December, 2009
Ussama.osman@yahoo.com
أسدل الستار على اجتماعات قمة المناخ في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن قبيل بداية عطلة أعياد الميلاد دون التوصل لاتفاق ملزم يتمثل في معاهدة دولية تشتمل على التزامات من جميع الأطراف للحيلولة دون أن يؤدي التغير المناخي بسبب ارتفاع حرارة الأرض لنتائج مدمرة على الأجيال القادمة . وأجّل احتمال التوقيع على اتفاقية ملزمة حتى انعقاد القمة القادمة للمناخ في المكسيك في نهاية عام 2010، ويكمن الهدف الأهم للمحادثات في الحيلولة دون تمخض الاحتباس الحراري او الارتفاع في معدل حرارة الأرض بسبب الانبعاثات الحرارية الناجمة من الصناعة ونشاطات أخرى عن عواقب يكون لها آثار مدمرة على الأجيال المقبلة. وتشمل هذه الآثار الاختفاء المحتمل لجليد البحار بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين وزيادة معدل تكرار موجات الحرارة الشديدة والعواصف الاستوائية ، وانخفاض الموارد المائية ، وانقراض ما يصل إلى 30 في المئة من أنواع الكائنات الحية على الكوكب. ويشير العلماء إلى أن مستوى الماء في البحار ارتفع بمقدار 17 سنتيمترا خلال القرن العشرين، مما يهدد الدول المنخفضة مثل بنغلاديش والدول والجزر الصغيرة مثل غرانادا وجزر المالديف بالغرق.
وإن كان هنالك إجماع على الآثار المدمرة المتوقعة للتغير المناخي فإن الخلاف يكمن في مقدار تحمل المسؤولية لمواجهة الأمر فالدول النامية ومنها الكثير من كبار الملوثين ومن بينها الصين التي حملت راية «الملوث الأكبر» من الولايات المتحدة فإنها ترفض التحرك ما لم تقم الدول الغنية بخفض انبعاثاتها بنسبة 40 في المئة على الاقل بحلول 2020 مقارنة بمعدل عام 1990، والى جانب دول متقدمة اخرى، تتركز الانظار على الولايات المتحدة التي بقيت على هامش المفاوضات المتعلقة بالمناخ طوال ثماني سنوات في عهد الرئيس السابق جورج بوش. وقد تعهد الاتحاد الأوروبي بخفض 20 في المائة من الانبعاثات يمكن ان تزيد الى 30 في المائة إذا تعهدت الدول الاخرى بزيادة نسبتها. وتردد دول العالم الغني على الرغم من ارتفاع وعيها بالقضية ونشاط المجتمع المدني فيها ناجم عن مجموعات الضغط المختلفة في المجال الصناعي التي ترى أن الالتزام بحد معين لخفض التلوث يعني استخدام تقنيات نظيفة في الانتاج قد تجعل الصناعات تجد صعوبة في منافسة دول من العالم الثالث كالصين والهند لا تهتم كثيرا بالبيئة وتلوثها مما سيفقد مواطنيها مستوى المعيشة المرفه الذي يعيشون.
بينما ترى الدول النامية الصناعية كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا أن تحديد سقف للتلوث سيعيق مستوى نموها الاقتصادي وانطلاقتها التنموية وسعيها القاصد لمستوى معيشة أفضل لمواطنيها وإن على الذين لوثوا العالم وساعدوا في اتساع ثقب الاوزون قبلهم أن يكون نصيبهم في الخفض مساويا لنصيبهم في التلوث البيئي ليس بمقاييس اليوم ولكن بأخذ الأمر في منظوره التاريخي وترى الدول الصناعية أن هذا موقف هروبي يدل على عدم الرغبة في تحمل المسؤولية كما ترفض الصين إيجاد آلية متفق عليها للمراقبة. ومن بين بلدان العالم الثالث البلدان التي ستعاني أكثر من غيرها من الآثار الضارة للتغيير المناخي لفقدانها مصادر دخلها من السياحة والزراعة وتعرضها للجفاف وشح المياه مما سيعرض حياة مواطنيها للخطر وعليه تطالب بأن تحصل على التزام بتدفقات مالية تسمح لها بمواجهة هذه التحديات المصيرية. ويثير العالم الغربي في وجهها مسألة الشفافية والفساد واحتمال أن تستغل الأموال في غير مواردها ويطالب بآلية للتحقق من استخدام الاموال فيما خصصت له وليس للتنمية من ناحية عامة.
إزاء هذه الخلافات التي كانت شقتها قد ضاقت أثناء الاجتماعات التمهيدية قدمت الدولة المضيفة مشروع اتفاق وقع تسريبه قبل مناقشته مما أثار ضجة كبرى أدت إلى تعليق المفاوضات إلى بعض الوقت بسبب رد الفعل العنيف لدول العالم الثالث بقيادة مجموعة الـ 77 التي يرأسها السودان حتى نهاية هذا الشهر ويمثل الدبلوماسي السوداني، نائب المندوب الدائم للسودان في الأمم المتحدة في نيويورك، السفير لوممبا دي آبينغ كبير المفاوضين باسمها. والذي وصف الاتفاق بأنه غير متوازن ومن شأنه أن يطيح بجهود عامين من المفاوضات ويتجاهل تماما صوت الدول النامية» ولقد كانت الدنمارك حريصة جدا على صياغة النص على أن تلتزم به الولايات المتحدة لإعادتها إلى المفاوضات بشأن المناخ بعد أن كانت بعيدة عنها على مدى ثماني سنوات حكم بوش وتبعا لذلك اعتبرت الدنمارك التزام الولايات المتحدة معيارا اساسيا لنجاح الدنمارك في القمة مما جعل البعض يلقي عليها مسؤولية جزئية في خيبة الأمل التي أصابت الحضور.
لقد شهدت مدينة كوبنهاغن نشاطا للمنظمات غير الحكومية وتظاهرات للناشطين ولقاءات عالمية بلغت ذروتها مع اختتام 120 من رؤساء الدول والحكومات القمة التي حملت على عاتقها التوصل الى اتفاق يحدد مستقبل البشرية وانتهى اسبوعان من المفاوضات المحتدمة بين الوفود القادمة من أكثر من 190 بلدا بمرارة كبرى. وربما يكون من الصعب جمع هذا العدد من قادة العالم في مفاوضات جديدة حول المناخ. كما أن خيبة الأمل التي أصابت الجميع ربما وضعت حدا لقدرة الأمم المتحدة في قيادة العالم لتوقيع اتفاق بشأن المناخ وربما وقعت تسويات خارج إطار الأمم المتحدة للمناخ.
على الرغم من أهمية هذه القمة التي مثلت محطة مهمة في دبلوماسية العلاقات الدولية إلا اننا لاحظنا الحضور الضعيف للزعماء والرؤساء المسلمين والعرب منهم على وجه الخصوص. وربما كان من المفهوم غياب رئيس السودان بسبب قرار المحكمة الجنائية الدولية الذي يحول دون زيارته للدول الموقعة على ميثاق روما على الرغم من أن مندوب السودان في الأمم المتحدة كان قد شرح في لقاء مع تلفزيون البي بي سي في الشهر الماضي أن الرئيس ربما لا يحضر القمة ليس بسبب قرار المحكمة ولكن بسبب قرار لمنظمة المؤتمر الإسلامي يوصي بمقاطعة زيارة الدنمارك لمواقفها المسيئة لرسول المسلمين. وتبعا لهذا التفسير حسبنا أن السيد النائب الأول للرئيس السيد سالفا كير هو الذي سيقود وفد السودان إلى كوبنهاغن ولكنا فوجئنا بأن مساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع على نافع هو الذي قاد الوفد للعاصمة التي تسيء للرسول الكريم حتى قال أحدهم: وهل نافع هذا من كفار قريش! ربما يعود غياب الرؤساء والزعماء العرب في مثل هذه القمم إلى ضعف الوعي بقضايا البيئة والتغير المناخي وتأثيره على الحياة في بلدانهم وعدم اهتمامهم الشخصي بمثل هذه القضايا الكبرى التي لا تمس سلطتهم مباشرة وربما فات عليهم أن القضية قضية اقتصاد في المقام الأول. كما أن الكثير من الدول العربية لا تملك وزارة للبيئة وإن أحدثت لها وزارة فإنها تعتبرها من الوزارات الهامشية التي يتولى أمرها أحد أفراد الهامش الحكومي كما في السودان مثلا. كانت السيدة ميركل مستشارة ألمانيا وزيرة للبيئة في عهد المستشار كول وقادت وفد بلادها في مفاوضات بروتوكول كيوتو للمناخ وكانت وزارتها من اهم الوزارات في الحكومة وقاد نجاحها فيها إلى انتخابها لرئاسة الحكومة مستقبلا. ولقد أوكلت رئاسة وفد السودان لمساعد الرئيس فهو على الرغم من تخصصه في الزراعة فإن البيئة والمناخ يبدوان من آخر اهتماماته في الوقت الحالي على الأقل فهو قد عرف بقدراته في مجال الأمن والمخابرات والعمل السياسي الحزبي ومقارعة الخصوم بالحسنى وبغيرها وربما كان موجودا في كوبنهاغن وقلبه معلق بارتفاع حرارة المناخ السياسي في الخرطوم واجتماعات الشريكين ومظاهرة يوم الإثنين وليس في ارتفاع حرارة الأرض في العالم عام 2050!
على الرغم من ذلك كان حضور السودان في تلك القمة متميزا ممثلا في وفد إدارة البيئة في الخارجية السودانية بقيادة السفيرة المقتدرة أميرة داؤود التي تجاهد لرفع الوعي البيئي للدبلوماسيين أولا ولغيرهم من بعد عن طريق النشرة المقروءة (من اجل وعي بيئي مستنير ودبلوماسية خضراء). كما برز كبير المفاوضين باسم مجموعة الـ77 السفير لوممبا الذي خطف الأضواء بدفاعه القوي في مواقف واضحة ولغة لا تحتمل اللبس عن مصالح معظم بلدان العالم التي تضمها مجموعة الـ77 وهي أكثر من 130 بلدا. اهتمت أجهزة الإعلام بلوممبا عندما أعلن موقف دول العالم الثالث عند تسرب وثيقة الدنمارك التي أسمتها «اتفاق كوبنهاغن» والتي اعدت بليل دون إشراك مجموعة الـ 77 في صياغتها ولقد وصفته بعض الصحف بالاقتصادي الراديكالي خريج جامعات ماكينزي وأكسفورد الذي يحسن التعامل مع أجهزة الإعلام الغربية بل أنه قد كان وراء إقناع البليونير المعروف جورج سورس بأن تستخدم بلايين الدولارات من حقوق السحب الخاص لصندوق النقد الدولي في تمويل بلدان العالم الثالث في إطار التدفقات المالية لاتفاق المناخ. وتحدثت بعض الصحف عن بعث روح المناضل باتريس لوممبا وأصوات التحرر الأفريقي مجسدة في لوممبا الثاني. لقد كان نقده شديدا لمسودة «اتفاق كوبنهاغن» التي اعدتها الدنمارك ولم يسلم موقف اوباما من نقده عندما أعلن بعد اجتماع للمجموعة الأفريقية « لقد طلب منا أن نصوت على «أمر انتحار» قبل أن يضيف «ماذا سيقول أوباما لبناته؟ هل أن أقاربهن من الأفارقة (في كينيا) لا يساوون شيئا! و»في كينيا» هذه من إضافة من الصحيفة التي نقلت التصريح، وربما كان سعادة السفير يعني أقاربهن من قبيلة اللو في جنوب السودان قبل أن يهاجروا لكينيا مما لا تعرفه الصحيفة. ثم خاطب جمع المجموعة الأفريقية قائلا « يا صحابي إن أمامنا معركة ولا بد أن نخوضها». وقدم مقترح أفريقيا للقمة في شكل شعار «أفريقيا واحدة درجة واحدة» أي أن يكون الهدف أن لا تتجاوز درجة ارتفاع حرارة الأرض درجة واحدة كحد أقصى لأن درجتين تعني الانتحار وقد انتظمت مظاهرة تحت هذا الشعار في مركز المؤتمرات جذبت الكثير من أجهزة الإعلام حتى أن اسم «لوممبا» قد ورد في محرك غوغل للبحث في أكثر من مئة ألف صحيفة ووكالة أنباء أو تلفزيون في ذلك اليوم والأيام التي تلت. وقاد كتلته للانسحاب من المفاوضات في مطلع اسبوعها الثاني بعد أن تبين أن الدولة المضيفة تسعى لأن يسود رأي الدولة الغنية على حساب الدول النامية بدلا من السعي للتوفيق بين الموقفين مما سبب ضغطا كبيرا على الرئاسة الدنماركية للمؤتمر بعد انسحاب أكثر من مائة دولة من الجلسات. وربما استلهم أسلوب الانسحاب من انسحاب كتلة الحركة من البرلمان الذي أدى إلى قبول شريكها في الحكم لمطالبها على جناح السرعة!
أشارت إحدى الصحف لقدراته في التفاوض في الاجتماعات التمهيدية التي قادت لهذه القمة وفي غيرها من اجتماعات مجموعة الـ 77 ، وحقا كثيرا ما سمعنا عبارات إشادة بأدائه المتميز من الدول الأعضاء وبعض كبار موظفي الأمانة طيلة العام الجاري الذي صار فيه السودان صوت الدول النامية في المنظمة الدولية.
على الرغم من كثرة أصوات الإشادة في مختلف أجهزة الإعلام إلا أن بعضها اعتبر مواقف السفير لوممبا نوعا من الخطاب التعبوي التحرري القديم والعداء الأمريكي لبعض مثقفي القارة الذي اتسمت به فترة الحرب الباردة وحملته بعض الصحف مسؤولية إفشال المقترحات «البناءة» للدول الصناعية ونسبت أخرى قدرته على الفر والكر لخبرته في التفاوض مع النظام الإسلاموي في السودان للوصول لاتفاق السلام ولم تسكت بعض الصحف عن الإشارة إلى أن هذا الدبلوماسي ذو الصوت العالي يمثل نظاما يقتل مواطنيه في دارفور ويمثل رئيسا مطلوبا للعدالة الدولية مثل ما أوردت صحيفة «استراليان» اليمينية التي تساند دعوة أن مسألة التغيير المناخي هي أمر غير مثبت وربما تكون مؤامرة من اليسار في العالم كما يردد البعض في قناة فوكس الأمريكية. ما لم تعرفه الصحف العالمية عن سر ثورية لوممبا غير اسمه الذي يدل على إعجاب والده بالمناضل باتريس لوممبا الذي كان صدى اغتياله حاضرا في ذهنه عند ميلاد لوممبا الأصغر هو أن خاله هو المناضل الشهيد جوزيف قرنق.
بعيدا عن الوفد الرسمي كانت تقف كفاءة سودانية أخرى ممثلة في السيدة سلوى دلالة السكرتيرة التنفيذية للمؤتمر المسؤولة عن تنظيم أكبر تجمع دولي تشهده البشرية وهي سيدة سودانية بدأت حياتها دبلوماسية بوزارة الخارجية السودانية قبل أن تطالها يد الفصل للصالح العام في بداية التسعينيات وشقت طريقها من خلال مكتب اتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي في بون حتى نالت هذه المسؤولية العظيمة التي أدتها بكفاءة عالية لا شك أن وزارة الخارجية تحتاج لمثل هذه القدرات في تنظيم المؤتمرات.
نقلا عن جريدة الصحافة – الثلاثاء 29 ديسمبر 2009