قوى الحرية والتغيير وحكومتا حمدوك والحرب
د. حيدر بدوي صادق
30 May, 2023
30 May, 2023
haydarbadawi@gmail.com
حكومتا الفترة الانتقالية لم تكونا في مستوى شعبنا العملاق على الإطلاق! ولم تكونا في مستوىً يحقق تخليص شعبنا الثائر العظيم من تعدد الجيوش. بل أكثر من ذلك، كان إنجاز الحكومتين متواضعاً للغاية في كافة أوجه الحكم (سأذكر اثنين منها). هذا، إذا أخذنا في الاعتبار عظمة الثورة السودانية وإدهاشها لنا وللعالم كما لم تدهشنا وتدهش العالم ثورة من قبل!
ثورتنا العظيمة كانت تتطلب الاستفادة من زخمها العارم في أمرين إثنين (كان يجب أن تكون لهما الأولوية). الأمر الأول هو إبعاد القوى العسكرية تماماً من الحكم، ودمج فصائلها في جيش واحد. هذا، بعد تنظيفه تماماً من قوى الهوس الديني. وذلك كان ممكناً في شِرَّة الثورة وقوتها الجبارة، التي أبطلت مفعول آلة عنف نظام الهوس الديني. وهنا يجدر أن أذكر قول الأستاذ محمود محمد طه بأن "القوة المستحصدة تبطل مفعول العنف." وهو يعني، فيما يعني، أن قوة الرأي العام المستحصد تبطل مفعول العنف. وقد ثبت ذلك في ثورة اكتوبر، وفي انتفاضة أبريل، وفي ثورة ديسمبر! وقد ثبت كذلك بعد ثورة ديسمبر، عملياً، أن العسكر يستجيبون لضغط الثورة، أي للقوة التي يفرضها الشعب السوداني برأيه العام المستحصد، المستنير، الحاسم! وتأكد ذلك كذلك عند تغيير ابنعوف، وإزاحة زين العابدين. ثم عند خضوع البرهان الظاهر في تبنيه لخطاب وشعارات الثورة. ولا ننسى قوله أنه مع الثوار "الواقفين قنا!" صحيح أن البرهان فعل ذلك تمويهاً، وتدليساً. ولكن مجرد الاضطرار لتبني خطاب الثورة كان دليلاً على الخضوع لإرادة الشعب.
للأسف، لم توظف حكومة حمدوك الأولى -ولا الثانية- ذلك الزخم للثورة وقوتها في تحقيق المزيد من خضوع الجيش لإرادة الشعب. وهذا الخضوع كان سيتمثل في تخليص الشعب من هيمنة القوى العسكرية. وذلك كان سيؤدي إلى تفكيك الجيش وإعادة تركيبه -بحيث تدمج قوات الدعم السريع -والحركات المسلحة بعد ذلك- فيه . كل ذلك بعد تنظيفه من قوى الهوس داخله، كما أشرنا من قبل. قولاً واحداً، هذا الأمر كان ممكناً. فقد كان المجلس العسكري في حالة رعب من الشعب وثورته العارمة. وكذلك كانت قوى الهوس الديني التي سقطت حكومتها سقوطاً مدوياً. فانزوى قادتها، والمنتمون إليها، فزعاً من الثورة. ويا للأسف الشديد، لم توظف القيادات المدنية فزع قيادات الجيش وقوى الهوس لتحقيق هدف تفكيك الجيش وإعادة تركيبه (بحيث يصبح جيشاً قومياً، مهنياً، موحداً، بعيداً عن السياسة وتقلباتها).
الأمر الثاني الذي أغفلته قيادات قوى الحرية والتغيير إبان الثورة -وحكومتا حمدوك الأولى والثانية فيما بعد- له ارتباط بالأمر الأول. وهو متعلق بعدم الاستفادة من حسن الظن العالمي في السودان والسودانيين بعد الثورة مباشرة.
كيف ذلك؟
في تقديري أن تحقيق الهدف الأول كان سيندفع العالم للمساعدة الفورية للسودان والسودانيين. صحيح أن حكومتا حمدوك حققتا بعض النجاحات في مجال التفاعل مع العالم الخارجي. ولكن هذه النجاحات تتضاءل أمام ما كان يمكن تحقيقه من نجاحات (أكبر بكثير جداً من ذلك). وهنا أكاد أجزم أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وشطب ديونه كانا سيتمان بصورة أسرع مما حدث. ذلك لأن القوى الغربية -التي أبدت استعداداً منقطع النظير لدعم الثورة ودعم حكومة الثورة- كانت تنوي مساعدة السودان فوراً. ولم يمنعها من ذلك إلا سيطرة الجيش على مقاليد الحكم، وعجز قوى الحرية والتغيير عن زحزحة العساكر من السلطة ومن ممارسة السياسة. فضاعت بذلك فرصة لا تعوض -بسبب تلكوء القوى الغربية في المساندة الفورية للسودان بعد الثورة مباشرةً، نتاج توجسها من الحكم العسكري. وهكذا تسببت قوى الحرية وحكومتاها في الخسران المبين للسودان في هذا الباب.
ثم إن الحكومتين تعطلتا كثيراً عن أداء دوريهما بسبب انشغال فصائل قوى الحرية والتغيير بالكسب الآني وبالاطماع في السلطة، ومن النفوذ الناتج عن ذلك. وهذا الوضع قاد إلى التنافس والتباغض والمشاددة بين قوى الحرية والتغيير في ذاتها. فكان أن تمزقت قحت إلى أشلاء. وبقية القصة معروفة! والمآل هو ما نحن عليه اليوم من تمزق وشقاق، وصل لحد الحرب الأهلية. وهذه أدت للموت المجاني، المؤلم للآلاف -إذا ما اخذنا في الاعتبار المرضى والجوعى الذين توفوا بسبب عدم توفر العلاج، بل عدم توفر الغذاء للبعض. وأدت الحرب كذلك للنزوح المهين بعد تدمير البنية التحتية، والمنازل، والأسواق، ومرافق الخدمات العامة. ثم هي أدت لدخول دارفور في دوامة الحروب البشعة من جديد!
وهذا لا يجوز أبدا في حق الشعب السوداني الطيب، العظيم، "العملاق الذي يتقدمه أقزام،" على قول الأستاذ محمود محمد طه، الشهيد الأعظم في تاريخ السودان!
٢٩ مايو ٢٠٢٣
رالي، نورث كارولينا، الولايات المتحدة الامريكية
حكومتا الفترة الانتقالية لم تكونا في مستوى شعبنا العملاق على الإطلاق! ولم تكونا في مستوىً يحقق تخليص شعبنا الثائر العظيم من تعدد الجيوش. بل أكثر من ذلك، كان إنجاز الحكومتين متواضعاً للغاية في كافة أوجه الحكم (سأذكر اثنين منها). هذا، إذا أخذنا في الاعتبار عظمة الثورة السودانية وإدهاشها لنا وللعالم كما لم تدهشنا وتدهش العالم ثورة من قبل!
ثورتنا العظيمة كانت تتطلب الاستفادة من زخمها العارم في أمرين إثنين (كان يجب أن تكون لهما الأولوية). الأمر الأول هو إبعاد القوى العسكرية تماماً من الحكم، ودمج فصائلها في جيش واحد. هذا، بعد تنظيفه تماماً من قوى الهوس الديني. وذلك كان ممكناً في شِرَّة الثورة وقوتها الجبارة، التي أبطلت مفعول آلة عنف نظام الهوس الديني. وهنا يجدر أن أذكر قول الأستاذ محمود محمد طه بأن "القوة المستحصدة تبطل مفعول العنف." وهو يعني، فيما يعني، أن قوة الرأي العام المستحصد تبطل مفعول العنف. وقد ثبت ذلك في ثورة اكتوبر، وفي انتفاضة أبريل، وفي ثورة ديسمبر! وقد ثبت كذلك بعد ثورة ديسمبر، عملياً، أن العسكر يستجيبون لضغط الثورة، أي للقوة التي يفرضها الشعب السوداني برأيه العام المستحصد، المستنير، الحاسم! وتأكد ذلك كذلك عند تغيير ابنعوف، وإزاحة زين العابدين. ثم عند خضوع البرهان الظاهر في تبنيه لخطاب وشعارات الثورة. ولا ننسى قوله أنه مع الثوار "الواقفين قنا!" صحيح أن البرهان فعل ذلك تمويهاً، وتدليساً. ولكن مجرد الاضطرار لتبني خطاب الثورة كان دليلاً على الخضوع لإرادة الشعب.
للأسف، لم توظف حكومة حمدوك الأولى -ولا الثانية- ذلك الزخم للثورة وقوتها في تحقيق المزيد من خضوع الجيش لإرادة الشعب. وهذا الخضوع كان سيتمثل في تخليص الشعب من هيمنة القوى العسكرية. وذلك كان سيؤدي إلى تفكيك الجيش وإعادة تركيبه -بحيث تدمج قوات الدعم السريع -والحركات المسلحة بعد ذلك- فيه . كل ذلك بعد تنظيفه من قوى الهوس داخله، كما أشرنا من قبل. قولاً واحداً، هذا الأمر كان ممكناً. فقد كان المجلس العسكري في حالة رعب من الشعب وثورته العارمة. وكذلك كانت قوى الهوس الديني التي سقطت حكومتها سقوطاً مدوياً. فانزوى قادتها، والمنتمون إليها، فزعاً من الثورة. ويا للأسف الشديد، لم توظف القيادات المدنية فزع قيادات الجيش وقوى الهوس لتحقيق هدف تفكيك الجيش وإعادة تركيبه (بحيث يصبح جيشاً قومياً، مهنياً، موحداً، بعيداً عن السياسة وتقلباتها).
الأمر الثاني الذي أغفلته قيادات قوى الحرية والتغيير إبان الثورة -وحكومتا حمدوك الأولى والثانية فيما بعد- له ارتباط بالأمر الأول. وهو متعلق بعدم الاستفادة من حسن الظن العالمي في السودان والسودانيين بعد الثورة مباشرة.
كيف ذلك؟
في تقديري أن تحقيق الهدف الأول كان سيندفع العالم للمساعدة الفورية للسودان والسودانيين. صحيح أن حكومتا حمدوك حققتا بعض النجاحات في مجال التفاعل مع العالم الخارجي. ولكن هذه النجاحات تتضاءل أمام ما كان يمكن تحقيقه من نجاحات (أكبر بكثير جداً من ذلك). وهنا أكاد أجزم أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وشطب ديونه كانا سيتمان بصورة أسرع مما حدث. ذلك لأن القوى الغربية -التي أبدت استعداداً منقطع النظير لدعم الثورة ودعم حكومة الثورة- كانت تنوي مساعدة السودان فوراً. ولم يمنعها من ذلك إلا سيطرة الجيش على مقاليد الحكم، وعجز قوى الحرية والتغيير عن زحزحة العساكر من السلطة ومن ممارسة السياسة. فضاعت بذلك فرصة لا تعوض -بسبب تلكوء القوى الغربية في المساندة الفورية للسودان بعد الثورة مباشرةً، نتاج توجسها من الحكم العسكري. وهكذا تسببت قوى الحرية وحكومتاها في الخسران المبين للسودان في هذا الباب.
ثم إن الحكومتين تعطلتا كثيراً عن أداء دوريهما بسبب انشغال فصائل قوى الحرية والتغيير بالكسب الآني وبالاطماع في السلطة، ومن النفوذ الناتج عن ذلك. وهذا الوضع قاد إلى التنافس والتباغض والمشاددة بين قوى الحرية والتغيير في ذاتها. فكان أن تمزقت قحت إلى أشلاء. وبقية القصة معروفة! والمآل هو ما نحن عليه اليوم من تمزق وشقاق، وصل لحد الحرب الأهلية. وهذه أدت للموت المجاني، المؤلم للآلاف -إذا ما اخذنا في الاعتبار المرضى والجوعى الذين توفوا بسبب عدم توفر العلاج، بل عدم توفر الغذاء للبعض. وأدت الحرب كذلك للنزوح المهين بعد تدمير البنية التحتية، والمنازل، والأسواق، ومرافق الخدمات العامة. ثم هي أدت لدخول دارفور في دوامة الحروب البشعة من جديد!
وهذا لا يجوز أبدا في حق الشعب السوداني الطيب، العظيم، "العملاق الذي يتقدمه أقزام،" على قول الأستاذ محمود محمد طه، الشهيد الأعظم في تاريخ السودان!
٢٩ مايو ٢٠٢٣
رالي، نورث كارولينا، الولايات المتحدة الامريكية