قوي الإنتاج” في تونس، ودورها القيادي في عملية الانتقال السياسي الديموقراطي واستدامته

 


 

 

"قوي الإنتاج" في تونس، ودورها القيادي في عملية الانتقال السياسي الديموقراطي واستدامته:
نموذج لتحقيق واستدامة الانتقال السياسي الديموقراطي في السودان!!؟

اطروحة
من غير تواجد مجتمع مدني عريض، و"قوي إنتاج" منظمة جيداً في نقابات عمالية ومهنية وفي اتحادات لأصحاب ورجال الأعمال، ووعي بمسؤوليتها السياسية والاجتماعية ودورها في بناء واستدامة نظام سياسي واجتماعي ديموقراطي حر وعادل ومتكافل، لا يمكن تحقيق انتقال سياسي من نظام دكتاتوري استبدادي الي نظام مدني ديموقراطي تعددي، وفي نفس الوقت التصدي لمشروع الدولة الثيوقراطية، الذي "تجاهد" مجموعات الإسلام السياسي لتحقيقه.

انطلاق ثورات "الربيع العربي" من تونس
ثورات "الربيع العربي" لشمولها جزء كبيراً من العالم العربي في ربيع 2010, تعتبر ظاهرة سياسية فريدة في تاريخ الانتفاضات والثورات الشعبية السياسية والاجتماعية. حيث أخذ الربيع العربي بدايته، في تونس، قبل أكثر من 12 عاماً، وتمامًا في يوم 17.12.2010، عندما قام بائع الخضروات، الشاب محمد بوعزيزي، بسبب التعامل التعسفي من قبل رجال الأمن، في ما يخص ممارسة عمله، بحرق نفسه امام الملأ. حادثة بوعزيزي المأساوية، والتي عكست مدي الإحباط وفقدان الأمل في حياة أفضل، دفعت في لحظتها، الشباب التونسي في كل انحاء البلاد، الي الخروج في مواكب احتجاج هادرة، تندد بالتعامل التعسفي العنيف لأجهزة الأمن. وبوتيرة عالية، وتحت قيادة قوي الإنتاج المتمثلة في "الاتحاد العام التونسي للشغل"، تطورت المظاهرات الشبابية الي مواكب جماهيرية عارمة ضمت كل قطاعات الشعب، مطالبة بنهاية نظام "زين العابدين بن علي" الاستبدادي، وبالحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.

قيادة "قوي الإنتاج" لعملية التوافق بين الأحزاب السياسية للإدارة الفترة الانتقالية
وفي 14 يناير2011 ، وبفعل ونجاح أضراب عام علي مستوي القطر، دعت له "قوى الإنتاج" ونفذه "الاتحاد العام التونسي للشغل" تما اسقاط نظام "حزب التجمع الدستوري" الاستبدادي، وهرب الجنرال "زين العابدين بن علي" الي المملكة العربية السعودية، بعد حكم دام قرابة 24 عاما. بعد سقوط النظام، مباشرة، تولت قوي الإنتاج دور القيادة للعملية السياسية من أجل تحقيق التوافق بين الأحزاب السياسية علي كيفية ادارة الفترة الانتقالية، وعلي خارطة طريق للانتقال السياسي الديموقراطي، وانتخاب "مجلس تأسيسي" لإجازة دستور ديموقراطي دائم خلال عاما واحد، وقيام انتخاب انتخابات برلمانية بعد إجازته.

الاختلافات حول الدستور بين الكتلة الإسلاموية والعلمانية
بموجب بنود خارطة الطريق لتحقيق الانتقال السياسي، تم في اكتوبر 2011 انتخابات اعضاء "المجلس الوطني التأسيسي"، وتحصل "حزب النهضة" الإسلاموي، علي 37% من المقاعد، وكون بذلك أكبر كتلة برلمانية. تبعاً لنتيجة الانتخابات التي كانت حرة ونزيهة، تما تكوين السلطة التنفيذية الانتقالية بقيادة حزب النهضة. وحسب خارطة الطريق للانتقال السياسي، حدد للفترة الانتقالية عام واحد، الي حين إجازة الدستور الدائم وقيام انتخابات برلمانية. ولكن، وبسبب نشؤ صراعات "ايديولوجية" عنيفة بين الكتلة الإسلاموية والعلمانية حول الأسس الدستورية وصيغة الدستور، وذلك رغم التوافق المسبق حولها، وحول طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وحول نظام الانتخابات، امتدت الفترة الانتقالية الي نهاية 2013.
التداعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للصراعات الأيدولوجية حول الأسس والمبادئ الدستورية
تحت الإدارة السياسية للفترة الانتقالية من قبل حزب النهضة، ما بين نهاية 2011 الي نهاية 2013 ، انتقلت حدة الصراعات الأيدولوجية حول أسس الدستور من داخل "المجلس الوطني التأسيسي" الي الشارع السياسي وشملت المجتمع بكامله. وظهرت تداعيات هذه الصراعات بين المكونات السياسة الإسلاموية والعلمانية في شكل تهديدات أمنية وانتشار ظاهرة العنف السياسي في شكل تعديات جسدية ضد المبدعين الثقافين وضد المؤسسات والنشطات الثقافية، ووصلت أشكال الارهاب والعنف السياسي الي حد الاغتيالات لناشطين سياسيين ولقادة أحزاب سياسية يسارية، وقادة نقابين، وضد السواح الأجانب في المناطق السياحية. وادت العمليات الارهابية ضد السواح الاجانب، والتي قامت بها مجموعات "الجهاد الإسلامي" الي انهيار كامل لقطاع السياحة، والذي يعتبر اهم القطاعات في اقتصاد البلاد، والمصدر الاساسي للعملة الصعبة. ايضاً، وتزامنا مع الفعل الارهابي المحفز دينياً، تفاقمت الضغوطات السياسية والاقتصادية من المجموعات الساعية لإفشال "المشروع الديمقراطي" من فلول النظام الساقط داخل المؤسسات الأمنية والجيش، ومن الارستقراطية الرأسمالية، وحلفائها الإقليميين.
التمكين السياسي من قبل حزب النهضة الإسلاموي: من أسباب الازمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
ويرجع المراقبين والمحللين السياسيين نشؤ الازمة السياسية وتداعياتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، والتي باتت تنزر بانفلات كامل للأمن وانهيار الدولة، الي استغلال "حزب النهضة" للسلطة الانتقالية من أجل التمكين السياسي، وانتشار دائرة الفساد في دواوين الدولة، والي سياسة الاستقطاب، الذي مارسه حزب النهضة بين النواب المستقلين والتابعين للأحزاب الصغيرة بهدف كسبهم لدعم صياغة وإجازة دستور دائم ذو صبغة دينية. وبسبب ممارسات الاستقطاب السياسي تعاقب علي الوزارات المختلفة في خلال عامين، اكثر من 480 وزيرا، الامر الذي ترتب عليه سوء ادارة الفترة الانتقالية واستغلال الوزراء لمناصبهم من أجل الثراء....الخ. حيث قامت الحكومة الانتقالية، في خلال عامين، بتوظيف 300 الف شخص في دواوين وشركات الدولة، تنتمي اغلبيتهم لحزب النهضة ولمجموعات اسلاموية متحالفة معه، وذلك من غير اعتبار للمؤهلات العلمية والمهنية. بجانب سياسية التمكين، ساهم الخطاب الديني المتشدد، ومشاركة كوادر من حزب النهضة في حشد وتنظيم الشباب التونسي في صفوف الحركات الاسلامية الارهابية، مثل "داعش" و"تنظيم القاعدة"، في انتشار ظاهرة "التدين السياسي" في المجتمع، وبذلك الي تعميق الانشقاق السياسي والمجتمعي في البلاد. (International: Magazine for International Politics, II,2023).
اندلاع السخط الشعبي بسبب تفاقم الأزمات الأمنية والاقتصادية تحت سلطة حزب النهضة
تحت هذه الأوضاع وبسبب تزايد الضغوطات المعيشية علي الغالبية العظمي من الشعب التونسي، والمرتبطة ايضاً بالتدهور الأمني والانهيار الاقتصادي، خصوصا بعد انهيار القطاع السياحي بسبب انقطاع السواح الاجانب بعد حدوث الاقتيلات، التي نفذتها مجموعات الجهاد الإسلامي الارهابية في المناطق السياحية، اندلعت، وبعد قرابة عامين من سقوط نظام زين العابدين بن علي، مرة اخري احتجاجات هادرة في كل انحاء تونس، مطالبة بتنحي حكومة "حزب النهضة"، ووقف التدهور الأمني والاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والقصاص لشهداء الثورة.
تفاعل "قوي الإنتاج" مع تفاقم الأزمات الأمنية والاقتصادية: تكوين الية "الحوار الوطني الرباعي"
كجزء من السخط والحراك الشعبي ضد تفاقم الأزمات في الدولة، وتفهماً لخطورة تفاقمها علي آمن ووحدة البلاد، ولمنع تطور الصراعات الأيدولوجية الي "حرب اهلية"، قامت "قوي الإنتاج" المتمثلة في النقابات العمالية والمهنية بقيادة "الاتحاد العام التونسي للشغل"، و"الهيئة الوطنية للمحامين بتونس"، و"الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية"، الذي يضم رجال واصحاب الاعمال الخاصة، و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، بتكوين تحالف تحت مسمي "الحوار الرباعي الوطني". وهدف التحالف الي القيام بقيادة عملية حوار "جديد" بين الاحزاب السياسية الإسلاموية والعلمانية من أجل التوافق علي وجود طريق لتخليص البلاد من الأزمات المتعددة.
واعتمدت مكونات "الحوار الوطني الرباعي" في قيادتها لهذا الحوار علي ثقلها الجماهيري وقدراتها التنظيمية في تحقيق "أضراب العام"، كعوامل ضغط علي الاحزاب السياسية للوصول الي التوافق المطلوب لحل الأزمات القائمة. هذا الوضع الإجتماعي والتنظيمي، والذي تتميز به منظمات قوي الإنتاج المتمثلة في النقابات العمالية والمهنية، مثل عامل ضغط أساسي علي حزب النهضة لحل الحكومة الانتقالية، التي قادها من نهاية عام 2011 الي نهاية 2013, وعلي الموافقة علي تكوين "حكومة تكنوقراط" تحت قيادة رئيس وزراء غير منتمياً لحزب سياسي. بمزيج من فعل الوساطة السياسية والضغط السياسي الجماهيري، استطاعت آلية "الحوار الوطني" من خلق توافق بين الأحزاب السياسية علي "خارطة طريق"، حددت فيها أهداف سياسية داخلية وخارجية مستقبلية، وإنشاء هيئة عليا مستقلة لصياغة قانون الانتخابات، وقبول مراقبة الآلية لتنفيذ التوافق بخصوص ادارة الفترة الانتقالية من كفاءات متخصصة مستقلة سياسياً، الي حين إجازة الدستور الدائم واقامة الانتخابات البرلمانية.
مكتسبات قيادة "الحوار الوطني الرباعي" لعملية التوافق بين الأحزاب السياسية الإسلاموية والعلمانية
التوافق بين الأحزاب السياسية الإسلاموية والعلمانية، والذي تما بفعل "الحوار الرباعي الوطني" كقائد لعملية التوافق، وكوسيط بينهم، ومقدم حلول للقضايا المختلف عليها، وكقوى متجذرة في المجتمع وتضم بين صفوفها كل طبقات الشعب التونسي، وتمثل العمود الفقري لاقتصاد الدولة، وكمالك لوسيلة الاضراب العام كأداة ضغط سياسي، تم في يناير 2014، وبعد ثلاثة أعوام من سقوط النظام، إجازة الدستور الدائم. وكفل وثبت الدستور المجاز: فصل واستقلالية السلطات الثلاثة في الدولة، والحرية الشخصية والسياسية والمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، وحرية الاعتقاد، والاعتراف بحقوق الاقلية في المجتمع.
عمل "الحوار الوطني الرباعي" تحت التحديات السياسية والامنية
مجملا، يمكن القول، أن الية "الحوار الرباعي الوطني" استطاعت بقيادتها لعملية التوافق بين الأحزاب السياسية الإسلاموية والعلمانية من تحريك وتفعيل عملية الانتقال السياسي من نظام فردي استبدادي الي نظام سياسي مدني ديموقراطي تعددي، وبذلك افشال مشروع "مجموعات الإسلام السياسي" تحت قيادة "حزب النهضة" الهادف لدفع البلاد في اتجاه قيام دولة ثيوقراطية. واستطاعت أن تحرز هذا النجاح، رغم القوة المادية، والمرتبطة ايضاً بالدعم الخارجي، والقوة التنظيمية لمجموعات الإسلام السياسي تحت قيادة "حزب النهضة"، ورغم الكم الهائل للأحزاب السياسية – حيث شارك في الحوار والتوافق 21 حزبا بتوجهات سياسية مختلفة-، ورغم الهزات الأمنية والاقتصادية بسبب الإرهاب والتطرف الدين والاغتيالات السياسية والتهديدات المحفزة دينيا، لقادتها. ورغم كل هذه التهديدات الأمنية، بعد نجاحها للضغط علي الاحزاب السياسية لإجازة دستور ديموقراطي دائم يرتكز علي المبادئ الإنسانية الكونية، قامت انتخابات برلمانية حرة ونزيهة في اكتوبر 2014، أدت الي انهاء سلطة حزب النهضة الإسلاموي، وفوز "حزب نداء تونس"، ذو التوجه الإجتماعي الديموقراطي.
"الحوار الرباعي الوطني" يحصل علي جائزة نوبل للسلام لدوره في انجاح الانتقال السياسي الديموقراطي
اعترافاً بالدور، الذي قام به تحالف "الحوار الرباعي الوطني" في تحقيق واستدامة الانتقال السياسي الديموقراطي قامت "لجنة نوبل النرويجية" بمنحه جائزة نوبل للسلام لعام 2015. وعللت اللجنة اختيارها للحوار الرباعي الوطني لدوره: في "إقناع الإسلامين للتوصل مع الأحزاب العلمانية علي قواعد دستورية وسياسية واضحة"، وسهره علي إنجاح الفترة الانتقالية، والتي تمثل أهم عوامل تحقيق الانتقال السياسي.

تحقيق "ثورة الياسمين" للانتقال السياسي الديموقراطي، نجاح استثنائي تحت ثورات الربيع العربي
وحقيقة، في ظل تعدد الأزمات استطاع "الحوار الرباعي الوطني"، بقوة وعزيمة ومثابرة قادته وعلو إحساسهم بالمسؤولية الوطنية التاريخية، وبقوة دعم الزخم الثوري، تحقيق التوافق السياسي بين الأحزاب السياسية والقوي المدنية المؤمنة بالديموقراطية كنظام سياسي واجتماعي مرتكز علي دستور مبني علي المبادئ والقيم الإنسانية الكونية. تبعاً لهذا الانجاز السياسي، والذي تما بموجب التوافق الوطني خلال الاربعة أعوام من عمر "ثورة الياسمين"، استطاعت تونس، الدولة الوحيدة من دول "الربيع العربي"، ان تأسس نظام مدني ديموقراطي تعددي، وتقيم انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة، ولثلاثة حقب برلمانية. وتداولت علي السلطة أكثر من عشرة حكومات منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي. افتخارا بهذا الانجاز الوطني التاريخي، وإجلالاً وتعظيما لدور قادة المنظمات المنضوية تحت "الحوار الرباعي الوطني"، اطلق الشعب التونسي عليهم وعلي تنظيمهم أسم "الرباعي الراعي".

طريق الانتقال السياسي الديموقراطي الشائك
الطريق الذي قطعته الديموقراطية وتطور الدولة المدنية في تونس خلال الاثني عشر عاما الماضية، كان مليئا بكثير من التحديات والعثرات وكذلك النكسات الدستورية والسياسية والاقتصادية. وترجع الأسباب الأساسية الي الصراع الأيديولوجي بين الأحزاب السياسية الإسلاموية والعلمانية وما ارتبط به من نشاطات وعمليات إرهابية مسلحة للمجموعات الإسلامية الجهادية، والتي تقويت بعودة الآلاف من المقاتلين الشباب الذين التحقوا فيما بين عام 2011 و 2015 بالجماعات الإرهابية في سوريا والعراق وليبيا، لاسيما بتنظيم "دولة داعش". حيث كشف تقرير للأمم المتحدة في يوليو 2015 عن وجود أكثر من 5000 تونسي ضمن القوات "الجهادية الإسلامية" المسلحة في ساحات الحروب القائمة في آسيا وأفريقيا. في نفس الوقت جاء اداء النواب المنتخبون في البرلمان الأول والثاني في مراقبة عمل السلطة التنفيذية وتطوير العمل الديموقراطي مخيبا للآمال الشعب. حيث ساد الانطباع عند الغالبية عن تحول البرلمان الي "منتدي للخطابات" والتشاكس السياسي، ووسيلة للارتزاق المادي. وفاقمت ممارسات التمكين السياسي من قبل حزب النهضة، وانتشار الفساد المالي في مؤسسات الدولة، والتدهور الاقتصادي تحت حكوماتها، من الإحساس عند معظم المواطنين، بعجز الصفوة السياسية عن حل الأزمات القائمة وإدارة الدولة.

الازمة السياسية والدستورية القائمة، واسبابها السياسية والدستورية
تحت سيادة عدم "الرضاء السياسي" الشعبي من الاداء السياسي الديموقراطي للصفوة السياسية في ادارة الدولة وحل الأزمة الاقتصادية، قام الرئيس المنتخب "قيس سعيد" في مارس 2022، بتقويض الدستور وحل البرلمان المنتخب، واستعان بالجيش لمنع النواب من الوصول الي مبني البرلمان. وعلل قيس هذه الاجراءات، بعدم مقدرة البرلمان بالقيام بالدور المطلوب، وانتشار الفساد المالي والمحسوبية والتمكين السياسي.
وشملت الاجراءات السياسية والدستورية، حل الحكومة والبرلمان وتعديل الدستور بهدف اعطاء الرئيس صلاحيات لحل الحكومة وتعين وتسريح قضات "المحكمة الدستورية العليا" من غير أخذ موافقة البرلمان. وجاءت التعديلات الدستورية بشكل فردي، وتما اجازتها في يوليو 2022 عبر استفتاء شعبي، شارك فيه اقل من 12% من المنتخبين الشرعيين. وتما في 17 ديسمبر 2022، و20 يناير قيام انتخابات برلمانية، قاطعتها الأحزاب السياسية تحت اسم "جبهة الانقاذ" بقيادة "حزب النهضة"، كذلك معظم الشعب التونسي. بادلا فقط، 8٫8% من أصل 9٫1 مليون ناخب مسجل بصوته في الانتخابات، مثلت المشاركة فيها اقل مشاركة في تاريخ الانتخابات في تونس. ومثلت المقاطعة الشعبية العريضة للمشاركة في هذه الانتخابات، رسالة رفض شعبي لإجراءات السياسية والدستورية، التي اتخذها الرئيس قيس. وذلك رغم حصول إجراءات قيس السياسية والدستورية، في البداية، علي قبول شعبي كبير، وايضا من "الاتحاد العام التونسي للشغل"، والذي تراجع عن هذا الموقف، وصرح مؤخرا، بأن الانتخابات، التي قامت "قليلة الفائدة".
وترجع هذه الازمة الدستورية والسياسية التي تعيشها عملية الانتقال السياسي الديموقراطي، في الأساس الي فشل الكتل الإسلاموية والعلمانية، التي كانت ممثلة في "المجلس الوطني التأسيسي"، وكذلك في الثلاثة برلمانات المنتخبة لاحقاً، علي التوافق علي قضات "المحكمة الدستورية العليا"، والتي اوجب الدستور الدائم قيامها. وبرهن تقويض الدستور من قبل رئيس الدولة المنتخب، دور هذه المؤسسة الدستورية في "حراسة الدستور"، وبذلك استدامة الديموقراطية وتطورها.

دروس من تجربة تونس في الانتقال السياسي الديموقراطي
التجربة التونسية في عملية الانتقال السياسي الديموقراطي، والمجاري والتطورات الاخرى لثورات "الربيع العربي"، بما فيهم ثورة ديسمبر المجيدة في السودان، تقود الي خلاصة، ان الانتقال السياسي من نظام دكتاتوري شمولي الي نظام مدني ديموقراطي تعددي مستدام، يحتاج الي دور قيادي لقوي الإنتاج المنظمة في نقابات عملية ومهنية واتحادات اصحاب ورجال الاعمال، ومنظمات مجتمع مدني مدافعة عن حقوق الإنسان، والي اعلام حر محمول بصحفيين مؤهلين ومحترفين وذو شجاعة أدبية واجتماعية، وإحساس عالي بالمسؤولية تجاه الوطن، والي أحزاب سياسية ديمقراطية متفهمه "للطريق الملغم" لعملية الانتقال السياسي ولمتطلبات تحقيقه وتؤمن بمبدأ المواطنة كأساس لدستور الدولة وتكون نابعة من ومنخرطة داخل المجتمع، ويحتاج كذلك، وبالاخص، الي نساء ناشطات سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. تواجد كل هذه العوامل يجب أن يكون مصحوب بتغير جزري في العلاقة بين الرجل والمرأة، وفصل واضح بين السياسة والدين. من غير توفير هذه الشروط والعوامل لا يمكن تحقيق واستدامة انتقال سياسي من نظام دكتاتوري شمولي الي نظام مدني ديموقراطي تعددي، ولا يمكن أن يكون هناك مستقبل واعد للدولة ومواطنيها.

دعائم المجتمع المدني في تونس
ويرتبط نجاح قوي الانتاج في قيادة عملية التوافق بين الأحزاب السياسية، بتجذر المؤسسات المدنية، من نقابات عمالية ومهنية واتحادات أصحاب ورجال أعمال ومنظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الإنسان في المجتمع التونسي. ويرتبط هذا التجذر المجتمعي لها الي توفر شروط وعوامل عديدة أدت الي تطور مجتمع مدني مؤثر في الحياة السياسية والاقتصادية. ويمكن اختصار تلك الشروط والعوامل في الاتي:
1) وجود حركة نقابية عريقة وحره ومؤثرة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا متمثلة في "الاتحاد العام التونسي للشغل" منذ 1946.وجود أسس للدولة العلمانية منذ تأسسها عام 1956،
2) منع التعددية الزوجية ولباس الحجاب في المدارس ودواوين الدولة خلال حكم الحبيب بورقيبة
3) تثبيت المساواة بين الجنسين قانونيًا خلال حكم الحبيب بورقيبة.
4) وجود قانون للطلاق ولفترة الحمل يحفظ حقوق وحماية عالية للمرأة،
5) وجود سياسة لتشجيع المرأة للانخراط في المجتمع، خصوصًا في القطاع الانتاجي والمشاركة في التنمية
6) مشاركة نسبة عالية من النساء في كل قطاعات الدولة الانتاجية والادارية والخدمية والاكاديمية
7) وجود نظام تأمين اجتماعي وصحي يحقق الحد الأدنى من الضمانات المادية والصحية
كل هذه الشروط والعوامل الداعمة لنجاح الثوره التونسية لم تكن متاحة لثورات الربيع العربي الاخرى!
دروس من التجربة التونسية لعملية الانتقال السياسي في السودان
رغم الاختلاف بين البلدين في كثير من المعطيات الداخلية والاقليمية والخارجية المؤثرة علي مجري السياسية، والمرتبطة بالتجانس السكاني وبعدد سكان والمساحة، والتواجد للمواد الخام وتسببه في جعل المنطقة هدفا للصراع العالمي او الإقليمي، يمكن ان تستفيد "ثورة ديسمبر" السودانية، خصوصا بعد فشل "قوي الحرية والتغيير" في استدامة عملية الانتقال السياسي الديموقراطي، من الدور الذي قامت به قوي الإنتاج المتمثلة في النقابات العمالية والمهنية في تحقيق التوافق السياسي بين الأحزاب السياسية الإسلاموية والعلمانية علي خارطة طريق لإدارة الفترة الانتقالية، وعلي صياغة وإجازة دستور ديموقراطي يرتكز علي المبادئ والقيم الإنسانية الكونية. وان نجاحها في تحقيق الانتقال السياسي وسهرها علي استدامته يرتبط ايضاً بدورها الطبيعي في تحقيق حرية الرأي والتنظيم والعدالة والمساوة والتكافل في المجتمع. حيث تشمل قوي الإنتاج كل طبقات الشعب، وتمثل القاعدة العضوية لكل منظمات المجتمع المدني، بما فيهم الأحزاب السياسية، وهي التي تقوم بالدور الأساس في السيرورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة الحديثة، وذات الأثر الأكبر في الدولة والمجتمع، والفئة الأكثر تنظيماً في نقابات عمالية ومهنية واتحادات أصحاب ورجال أعمال، وتمثل بذلك العمود الفقري للدولة الحديثة.

المانيا، في 27.08.2023

shamis.khayal@gmail.com

 

آراء