كتاب جديد: كسلا … الزمن الجميل .. استعراض: د/ محجوب الباشا

 


 

 


تبدو مدينة كسلا للقادم إليها من اتجاه الغرب وعلى خلفية امتداد قمم الختمية ومُكْرَام وكأنها تفرد ساعديها للترحيب بالقادم نحوها على الطريقة السودانية المحببة في استقبال الضيف. وما أن يدلف الزائر إلى داخل المدينة ويرى تلك الوجوه الباسمة حتى يحس بدفء الحضن الذي ضم الملايين من المقيمين والعابرين دون تفريق بين هذا وذاك. لا غرو ، أنه ما من شاعر أو أديب مر بهذه المدينة الساحرة أو أقام بها إلا وترك وراءه أثراً شعرياً أو أدبياً تتداوله الأجيال. فما بالك إذن عندما يكتب عنها إبن من أبنائها رضع من ثديها وتربى في حضنها هو الأستاذ الطيب محمود النور الذي تبتل في محراب حب مدينته ولم تزده تجربة الاغتراب والبعد عنها إلا ارتباطاً بها وحنيناً لأهلها ، فهو أين ماحل سأل عن أبناء كسلا وسعى للتواصل معهم. وتؤكد عشقه الدائم لمدينته الحبيبة هذه التفاصيل الدقيقة عن الحياة فيها والتي ضمنها دفتي كتابه الجديد "كسلا: الزمن الجميل".
الكتاب الذي يقع فيما يقارب المائتي صفحة يمثل قطعة رائعة ومائدة دسمة من أدب التاريخ الاجتماعي ــ إن صح التعبير ــ فهو لا يكتفي فقط بتناول الشخصيات الكسلاوية مشهورها ومغمورها ولا مناطق المدينة المختلفة التي تتحول على يديه إلى مخلوقات ناطقة تتنفس وتتحدث وتجري عليها سنن الله سبحانه وتعالى كما تجري على خلقه من البشر. فعندما يتناول المؤلف بالحديث مواقع داخل المدينة مثل نادي الدومة ، أو السينما الشرقية أو دار الرياضة فإن القارئ قد يندهش لهذه الحميمية التي يتحدث بها عن المكان وكأنه يناجي صديقاً أو حبيب. وقد كان للمكان موقع كبير في صفحات الكتاب وهو أمر غير مستبعد فقد عايش المؤلف هذه المواقع عبر تاريخها الطويل وتحدث عنها حديث العارف الخبير متناولاً ما اعتراها عبر الزمن من تحولات وتغيير. يتحدث الكتاب بصورة أساسية عن كسلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، إلا أن الكاتب لم يحصر نفسه في تلك الفترة من تاريخ المدينة بل ذهب إلى ما بعد نهاية الدولة المهدية في نهاية القرن الماضي وعودة السادة المراغنه من منفاهم في أم درمان إلى مدينة كسلا مرة أخرى.
وبما يملكه المؤلف من براعة التصوير بالحرف فإنك تكاد تحس ، وأنت تقلب صفحات الكتاب ، بوجودك الفعلي في مختلف مواقع المدينة ، تعيش بين أهلها ووتتنسم عبيرها. فعندما يتحدث الكاتب عن مطعم أبو طيارة فإنك تكاد تشم رائحة الشواء ، وعندما ينتقل للحديث عن ميدان عقرب الكسلاوي فإنك تكاد أن تسمع صيحات الجماهير التي غمرها الحماس وهي تتابع مباراة غير رسمية في كرة القدم وتستمتع بمهارات محمد حاج عثمان وعمر بيَّن وصلاح عابدين الكروية. غير أن قمة ما بلغ المؤلف من الإبداع عندما تحدث عن زقاق الست الناظرة الذي ضم أنماطاً من البشر متباينة أكدت "كوزموبوليتانية" مدينة كسلا التي يلمسها الزائر منذ الوهلة الأولى. فبالإضافة إلى التنوع القبلي السوداني الهائل فقد ضمت المدينة في ذلك الزمان العديد من الجاليات الأجنبية مثل الإرتريين والإثيوبيين والقادمين من اليمن والهند وأوربا ، أما الجالية التي جاءت من غرب أفريقيا فقد كان لها مساهمتها المقدرة في بناء وتنمية الاقتصاد السوداني على طول البلاد وعرضها ، واستقر جانب منها في غرب القاش واكتسب أبناؤها الجنسية السودانية.
يؤكد الكتاب مدى وفاء الكاتب لأهله وأصدقاءه ، وقد وضح ذلك بصورة جلية عند الحديث عن شقيقه المغفور له بإذن الله بابكر محمود النور الصحفي النابه الذي اختطفته يد المنون في وقت أحوج ما كنا فيه لفكره الثاقب ودربته في مجال السينما. كما يتضح كذلك في تناوله لسيرة العديد من الشخصيات الكسلاوية التي عايشها سواء بفضل الجوار أو عن طريق المعرفة والصداقة ، ويورد الكاتب في كل حالة من الحالات العديد من التفاصيل الدقيقة التي تؤكد معرفته العميقة بالمدينة وأهلها. لم يقتصر الكتاب على الشخصيات المعروفة في كسلا ، بل اشتمل على عدد ممن يعرفون بملح الأرض مثل تلك السيدة من قبيلة الرشايدة والتي عرفت بين الناس باسم حامدة ، وقد تابع الكاتب سيرتها منذ أن كانت تعطر جو المدينة بصوتها الجميل وهي تتلو آيات من القرآن الكريم وحتى زواجها وهجرتها مع زوجها.
عبرت الجوانب المشرقة التي تناولها الكاتب في مدينته الحبيبة عن عشق لا حدود له لهذه المدينة ، وقد وضح ذلك في السرد الممتع عن شخصياتها الأسطورية مثل العم عبد السلام بلال والحاجة نور الشبك بت أحمد الدالي. كما تحدث بالكثير من الأسى عن مواقعها التاريخية التي اندثرت بسبب التحولات الاقتصادية والاجتماعية مثل ميدان المولد الذي كان يشهد مهرجاناً سنوياً تشارك فيه الحكومة ومكونات المجتمع الأخرى. غير أنه وبالرغم من  عشق الكاتب لمدينته فإن بعض الظواهر السالبة أوما يعرف في لغة الفرنجة باسم (sub-culture)  في المجتمع الكسلاوي لم تغب عن باله. وقد كان الحديث عن تلك الظواهر في الكتاب أمراً ضرورياً حتى تكتمل الصورة الحقيقية لمدينة كسلا ومجتمعها في ذلك الزمان. تناول الكاتب هذه الظواهر السالبة تحت عنوانين هما "حارة سيئة السمعة" و "بيت النمل"  تحدث فيهما عن ممارسات كان المجتمع في مجمله يرفضها بالرغم من موافقة السلطات عليها في ذلك الزمان والترخيص لممارسيها بالعمل. ولا زال هناك من يعتقد حتى يوم الناس هذا أنه ليس من الحكمة اللجوء للقانون لمحاربة مثل هذه الظواهر ، فذلك ربما قاد في النهاية لغير ما قصد منه وأدى لتفشي الظاهرة ولو بصورة خفية.
لا أراني أبالغ كثيراً إن قلت أن هذا الكتاب من أجمل ما قرأت في السنوات الأخيرة عن مدينتي الحبيبة. لذلك فإنني لن أتردد في القول أنه لا غنى عنه لأي مهتم بالشأن الكسلاوي ، فهو بالنسبة لمن عايشوا تلك الفترة يمثل عودة للأيام الزاهية أو كما سماها الكاتب "الزمن الجميل". أما بالنسبة للشباب الذين لم يعاصروا تلك الأيام والأحداث فإنه يمثل وثيقة تاريخية مهمة حول نشأة المدينة وتطورها ، خاصة وأن الزمان لم يعد يجود بما كان ممكنا في السابق من انتقال للتاريخ شفاهة عن طريق الرواية والاستماع. وبذلك فإن الكتاب يساهم في سد ثغرة مهمة فيما أشرنا له أعلاه باسم "التاريخ الاجتماعي" حيث تناول بالتفصيل مسيرة الحياة في كسلا عبر سرد وقائع تتصل بحياة عدد من الناس الحقيقيين وليس عن طريق السرد القصصي لشخصيات خيالية. ولا شك أن الروايات التي أوردها الكاتب وشخصياتها تعكس بوضوح شديد النمط الاجتماعي الذي كان سائداً حينئذٍ ، ليس في مدينة كسلا وحدها بل وفي الغالبية العظمى من المدن السودانية التي كانت تتحسس خطاها وهي تنتقل من حياة البداوة نحو حياة الحضر. كما أن الكتاب يمثل مادة دسمة للدارسين في مجال العلوم الاجتماعية ، ونسأل الله أن تكون مبادرة الاستاذ الطيب حافزاً للمزيد من الكتب حول مدينة كسلا لسبر أغوار تاريخها من كل الجوانب سياسية كانت أو اجتماعية أو غيرها ، فقد تناول الكتاب الذي نحن بصدده بعض هذه الجوانب باختصار فاتحاً الباب على مصراعيه أمام الباحثين الجادين لتناول العديد من أوجه الحياة والتطور في المدينة وربما الإقليم ككل.
mahjoub.basha@gmail.com
/////////////

 

آراء