كرري تُحدث.. فمن يجرؤ على الكلام..؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كانت كرري التي تمر بنا ذكراها هذه الأيام، معركة بل ملحمة بطولية لها ما بعدها في تاريخنا الوطني وبمناسبة ذكراها الملهمة، أعيد- بتعديلات طفيفة، نشر هذا المقال الذي سبق نشره في سبتمبر 2010م في جريدة الصحافة.
ونحمد الله كثيرا على أن دروس كرري والدماء التي روت أرضها لم تمض سدىً، فقد شهدنا أمثلة شهداء كرري ماثلة في ثورة ديسمبر المجيدة في مواجهة السلاح الناري والقوة الغاشمة بالصدور المفتوحة والجباه المرفوعة.
وكرري هي معركة الكرامة التي يجب أن نخر لشهدائها ساجدين «حكاما ومحكومين» لو جاز لنا السجود لغير الله، ذلك أنها معركة قلبت حقائق الأشياء فتحولت بفعلها الهزيمة المادية الى نصر مؤزر، وروت دماء وأشلاء الشهداء الدعوة التي ذهبت دولتها لتصبح والى اليوم زرعا يعجب الزراع نباته، وألهمت بطولاتها الشعراء والمناضلين، لكنها لا شك أرقت الغزاة خوفا من هؤلاء الكواسرغيرالعابئين بالموت، فطفقوا يرمونهم بالرزايا والخطايا.
وبسبب من هذا الاهمال الرسمي والشعبي الا من بعض الاستثناءات هنا وهناك، اتوجه اليوم لكل سوداني غيور على وطنه ولكل مسلم يعجبه تحدي الباطل ويلهمه الموت في سبيل الغايات الساميات، بل لكل انسان يحترم الانسان لمجرد الانسانية التي استهان بها الغزاة في كرري بأبشع الصور، حيث أزهقوا في ظرف «3» ساعات ما يقارب العشرين ألف نفس جملة واحدة، ثم قضوا على «16» ألف جريح دون رحمة بحجة أنهم يقاتلون وهم جرحى!
أطلب منكم قرائي/قارئاتي الأعزاء/العزيزات جميعا، أن تحنوا الهامات اجلالاً لهؤلاء الأبطال رجالاً ونساءً من الذين من أجل الكرامة ومن أجل الوطن ومن أجل الدين ومن أجلنا جميعا واجهوا مدافع المكسيم بصدور عارية الا من الايمان بالله بين خيارين هما إحدى الحسنيين نصر أو شهادة. وبقول أستاذ كمال الجزولي في روزنامة 2 سبتمبر 2008م: (عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تدافعوا، كما الضوارى الكواسر، وملء الصدور نشيد واحد ما أكثر ما دوَّى فى ذاكرة الوديان والبراري والصحارى والجبال والسهوب والغابات:
في شان الله .. في شان الله
لكن قليلاً ما تهيَّأ له، ذاك النهار الأغبر، التحام ينقع الغلة، أو يجلو الشجاعة. فأذرع المدفعيَّة الطويلة، مفخرة الفرنجة التي لم تكن قد أتيحت لأجدادنا البواسل أدنى معرفة بها، ظلت، وعلى مدى ساعات أربع، تحصد الصفوف المتراصَّة لـ «عظمة الرجولة الصامدة»، كما أسماها تشيرشل في «حرب النهر»، الصفَّ وراء الصفِّ، تماماً مثل إعمالك ممحاة على أسطر بقلم الرصاص، بينما الحناجر لا ينقطع صداحها بنداء الفرسان النبيل:
سِدُّوا الفرَقة .. سِدّوا الفرَقة).
لا يقلل من هذا المشهد البطولي بعض أصوات تطالب بقراءة أحداث كرري على أنها كانت محض تهور ساذج استحق سخريتهم. ولا تلك التي لا تخجل من تفضيلها انتصار الغزاة حيث يتساءلون جهارا أليس من الأجدى للسودان انتصار الحكم الثنائي الذي وضع لبنة جامعة الخرطوم والخدمة المدنية وأنشأ خطوط المواصلات؟
سبق أن ذكرنا مرارا أن تاريخنا كتب بأيدي أشرار لم يريدوا لنا الخير، ولكن معظمنا عمّيت عليه نواياهم الخبيثة تلك فتبعهم مقلدا دون روّية، ولأسباب شتى.
نحن اليوم كما الأمس أحوج ما نكون لخلفية تاريخية متينة متفق عليها تجبر كسر وحدتنا الوطنية. تاريخ لا تطاله شكوك تحاول تلطيخه، وتجريده من ماض مشرف نستلهم منه الدروس والعبر ومثال العزة والثقة التي لولاها ما تم انجاز. وهذا هو ما تحاوله أقلام الاستخبارات وما تفعله تلك التي تبعتها بغير احسان- ربما دون قصد، يريدون تلويث تاريخنا مخلفين وراءهم أمة «بروس» «لا وراها لا قدامها»..!! فما أسهل القضاء على نبتة سطحية نبتت في غير مكان انباتها...
ومن ذلك المنطلق يجب أن نقرأ كرري التي يخبر من شهد وقيعتها بأنه يحق لك قارئ العزيز -ان كنت سودانيا، أن تفخر بها هاتفا بملء الفيه قائلا: أنا سوداني أنا!
وهي قراءة لوقائع التاريخ لا بد لها من التمدد لتشمل تحديدا زمان وصول جيش الغزاة على أبواب السودان الشمالية، حيث ثبت أن خليفة المهدي كان يريد أن يحرس ثغر الشمال في المتمة بواسطة أهلها، فكان أن أرسل لعبد الله ود سعد يكلفه بذلك الأمر، ثم ما تلى ذلك من أحداث فصلها بروفيسور مكي شبيكة في كتابه «السودان عبر القرون» وقد عصى ود سعد الأمر بإخلاء المتمة ليعسكر فيها جيش المقاومة بقيادة محمود ود أحمد، فكان ما كان من أحداث المتمة المؤسفة، والتي لو احتكمنا لرصد موضوعي لها لكانت نتيجته الحتمية ما قاله مكي شبيكة في كتابه المذكور متسائلا «كيف يتسنى لحاكم مسؤول والعدو ببابه معالجة عصيان الأوامر والتعاون مع العدو؟ يجيب د. مكي بأنه مما لا شك فيه أن عبد الله قد ثار على الدولة وللدولة أن تعاقب الثائر»، ولقراءة موضوعية لكرري يجب عموماً أن نخضع عهد خليفة الصديق برمته للدرس على ضوء الموضوعية والاحتكام الى سياق الأحداث، ويأتي في السياق حرج موقف من يخلف المهدي ذا القدرات الكبيرة ومحنة فتنة الأشراف وتكالب الدول الأجنبية واستثمارها جو الاستقطاب الذي أفرزته صراعات أهل البحر وأهل الغرب، دون تلكؤ.
ولكن شهادتنا لا تدعي لقادة كرري العصمة! فكرري معركة خاضها البشر ولا نريد أن نعصمهم، فلندرسها اذن بموضوعية، وقد تكون نتيجة تلك الدراسة الخلوص لتحديد ما وقع من أخطاء بسبب الحماسة غير المتشككة، مما رجح الهجوم النهاري وعدم ادراك أن البطولة والحماسة والايمان لن تغير نواميس الكون، فمدفع المكسيم سيحصد الأرواح لا محالة، والأوربيون قد قرروا الانتقام لغردون والاستفادة من خيرات بلادنا، أو ربما وجدنا أن توقيت المعركة لم يكن ليفيد كثيرا بحسب قول اللواء أبو قرون الذي كتب في مقال له عنوانه «اللواءان» إن مع الغزاة كشافات كانت ستحيل الليل نهارا.
لكن الحقيقة الثابتة التي سطرها ذلك المشهد الماثل الذي شهد بروعته الأعداء ومنهم تشرشل الذي كان مراسلا حربيا رافق حملة كتشنر في كتابه «حرب النهر» فقال: «لو كانت مقومات النصر في ذاك اليوم ترتكز على الشجاعة والإقدام والثبات والإيمان بالمبادئ والتضحية والفداء لكانوا هم المنتصرون، ولكن لحسن حظنا لم يكن النصر في ذلك اليوم الرهيب لهذه المقومات بل كان للسلاح أو لمدفع المكسيم والبارود، لذا فنحن لم نقهرهم في كرري ولكننا دمرناهم بقوة الحديد والنار».
وكتب ستيفنس: «لقد بلغ رجالنا درجة الكمال، ولكنهم هم فاقوا حدَّ الكمال. كان ذلك أعظم وأشجع جيش خاض حرباً ضدنا.. حملة بنادقهم يحيط بهم الموت والفناء من كلِّ جهة، وهم يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرديئة عديمة الأثر فى وجه أقوى وأحدث أسلحة التدمير «مع كتشنر إلى الخرطوم، ص 211». وكتب فيليب وارنر، بعد زهاء السبعين سنة من كرري: «ربما وجدنا، إذا نقبنا فى تاريخ الإنسان، جماعة ماثلت فى شجاعتها الأنصار، ولكننا، قطعاً، لن نجد، مهما نقبنا، جماعة فاقتهم شجاعة» «قيام وسقوط إمبراطورية إفريقية، ص 9». لقد كانت تلك حقاً.. «أفضل خصال البشر عندما يتجردون.. فى أعنف اختبار .. من كل ضعف وخور» «زلفو؛ كررى، ص 495». حتى عبد الرحمن ود أحمد، شقيق الأميرين محمود وابراهيم الخليل، مضى بثبات إلى جبهة القتال الأماميَّة، يتلمَّس، وسط كلِّ الموت المصبوب على الرؤوس، مكاناً بين الصخر بعصاه التى لا تفارقه، رغم معارضة الأمير يعقوب «جراب الراي» الذي كان يشفق على الفارس الأسطوري، كونه كان .. ضريراً! «نفسه، ص 418».«الروزنامة 2008».
وبهذا الخصوص فقد كتب كثيرون تحليلا ودروسا مفيدة عن تلك المعركة الملحمية، ومنهم الإمام الصادق المهدي الذي أورد في مقال له نشر عام 2005م في الشرق الأوسط خمس دروس لمعركة كرري:
- تطور الآلة الحربية عند الغرب جعل خسائر الحرب علينا فادحة من حيث أعداد القتلى الفلكية بينما تقل خسائر الأعداء.
- شجاعة الأنصار في مواجهة معركة كرري تثبت أن الطاقات المدفونة يمكن بعثها بالأساليب التربوية.
- -التضحيات لا تذهب هدرا، حيث أن ذهاب الدولة المهدية لم يعنِ أن تقبر الدعوة أيضا.
-الاحتكام الى منطق القوة والسلاح جعل الميزان يميل الى الشمال على حساب الجنوب، فكانت من نتائجه تطور سلاح الضعفاء «أسلحة الضرار الشامل» فلا سبيل لمواجهة ذلك دون اتجاه الأغنياء الى معادلة جديدة في السياسة الدولية تقوم على التفاهم الحقيقي مع دفع استحقاقاته.
- -آحادية المهدية خلقت استقطابا أدى الى الانقسامات وفتح باب التدخلات الأجنبية.
وكتب البعض مقترحات أراها وجيهة، أوردها أدناه كاملة للفائدة، أمثال ما كتبه أستاذ جبر الله عمر الأمين «صحافي سوداني» في منتدى البركل 2009م،وقد كتب:(:
وكنت أتوقع أن تكون المناسبة هذه السنة مختلفة،
ـ بأن تعلن الدولة إقامة نصب تذكاري ـ مسلة بارتفاع 12 مترا ويزيد ـ في موقع المعركة. على أحد جانبيها تسجيل أكبر عدد من أسماء الذين استبسلوا فيها، ويمكن أن يتولى طلاب التاريخ في الجامعات السودانية جمع الأسماء وتمحيصها مع المؤرخين. وعلى الجانب الآخر رسم يجسد تلك المعركة.
ـ أن تطالب الحكومة وقيادات الأحزاب السياسية وقادة الرأي العام ورؤساء تحرير الصحف كل على حدة، بريطانيا ومصر دولتي الاحتلال باعتذار رسمي للشعب السوداني، ودفع تعويض مجزٍ عن جريمتي إبادة «12» ألف سوداني في وطنهم في ساعات معدودة، واستباحة الجيش الغازي أم درمان ثلاثة أيام
ـ أن يصدر توجيه بتصحيح الخطأ الفادح الذي يتكرر في كتابات المؤرخين السودانيين وغيرهم من الكتَّاب، وذلك بارجاع المصطلحات المتداولة الى معناها الحقيقي واستخدام عبارات:
غزو السودان بدل فتح السودان.
احتلال الخرطوم بدل سقوط الخرطوم.
دولتا الاحتلال أو الاستعمار الانجليزي المصري بدلا عن دولتي الحكم الثنائي.
ونضم إلى تلك المقترحات المطلب الحق الذي توجه به السيد محمد داؤود الخليفة يحث الرأي العام السوداني في مقال له بـ «آخر لحظة» ويطالب فيه البريطانيين بالاعتذار رسميا للشعب السوداني عما اقترفوه من جرائم، والتعويض المجزي للضحايا، لتقوم بالزود عنها جهة وطنية مأذونة. ونود أن نستصرخ المسؤولين لتسمية الشوارع والقاعات برموز تاريخية شخوصا ومعارك، ومنها كرري التي تحدث عن رجالٍ كالأسود الضارية.
لا شك أن الفرص تبدو أكبر لتنفيذ مثل هذه المطالب الوطنية بعد ثورة ديسمبر المجيدة.
وسلمتم
umsalsadig@gmail.com