كوشيون وادي النيل القديم
د. عثمان عابدين عثمان
8 February, 2023
8 February, 2023
جغرافياً يشير اسم ‘كوش’ إلى المنطقة الواقعة جنوب الشلال الأول على طول وادي النيل، أما عرقياً وثقافياً نفضل إستخدام مصطلح ‘الكوشيين’ الذي يشير إلى السكان الأصليين الذين يتحدثون أو تحدثوا في الماضي إحدى اللغات الكوشية أو إلى أولئك الذين يسكنون أو سكنو في الماضي سهول وهضاب ألإخدود الأفريقي العظيم، أعالي وأسافل وادي نهر النيل، المغرب العربي، جزرالكناري و السيشيل ومنطقة البحيرات الكبرى، بشكل عام. تاريخياً كانت هناك أربع كيانات كوشية، سياسي- اجتماعية، متميزة على طول إمتداد أعالي النيل، منها مملكتان وثنيتان: نبتة ومروي، وثلاثة مسيحية: نوباتيا ، المقرة ، وعلوة .
بدأت مملكة كوش في التشكل حول مدينة نبتة الثقافية والدينية النابضة بالحياة في حوالي عام 590 ق.م وقد كان ألارا ملكها المُؤسِس الأول. أما بعانخي فقد كان أول ملوك سلالة الأسرة الخامسة والعشرين ‘المصرية’ حسب تقويم وتبويب المستشرق الأميركي جورج رايزنر، تبعه بعد ذلك في العرش الكوشي الملوك شباكا، شبيتكو، طَهارْقَة، تانتاماني واسبالتا. بعد سيطرتها على الملوك المحليين بيفتواويباست، نمرود، إوبوت الثاني و أوسركون الرابع، بسطت ممكة كوش نفوذها حتى مصب النيل في البحر الأبيض المتوسط ومنها إمتدت إلى حدود الإمبراطورية الأشورية في بلاد الشام.
في أعقاب غزو سماتيكس الثاني لنبتة، نقل الملك أسبالتا العاصمة إلى "مدينة مروي المعروفة أيضا حينذاك باسم إثيوبيا. وقد كان أختيار"مدينة الثروة والغموض الأسطورية"، مروي، لعدة أسباب أهمها غِنَى المنطقة بخام الحديد والخشب والذهب ولموقعها الإستراتيجي الذي يتيح الوصول إلى طرق التجارة عن طريق البحر الأحمر. إمتدت مملكة مروي - الكوشية (300 ق.م - 350 م) في ما بعد جنوبًا حتى مقرن النيلين الأزرق والأبيض وشرقاً إلى سواحل البحر الأحمر ، وقد كان لعملية التنمية الزراعية والصناعية المعقدة وتجارة الأشغال الحديدية والأسلحة والأدوات والحبوب والماشية دورا محوريا في إزدهار المدينة ونموها. بدأ العهد المروي لمملكة كوش في الضعف والتفكك بعد أنهكتها الحروب مع مقاطعة مصر الرومانية وغزو مملكة أكسوم بقيادة الملك ازانا لعاصمتها وتدميرها في عام 300 م.
تربع الملك اركاماني، الذي كان معاصراً لحكم اليوناني بطليموس الثاني (285 - 246 ق.م) لمصر، على التاج المروي في ما بين أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد وقد إشتهر بإنحيازه لرِيادة المرأة ومدنية الدولة حيث كان أول الملوك الكوشيين الذي أتاح للكنداكات الحكم بمفردهن وأوائل الحكام في التاريخ الذي رفض تدخل الجيش ورجال الدين في شؤون الدولة.
كان تتويج الكوشيين للعرش قبل عهد الملك أركاماني يعتمد على حكم وتقييم كهنوت الإله آمون في مدينة نبتة. ففي سيناريو نموذجي لعملية التصعيد الملكي، كان يقوم الكهنة بإستشارة الإله آمون بشأن ملاءمة وصحة وطول عمر الشخص المرشح للعرش وفي حالة إجتيازة لإختبار الكهنة يقوم بأداء المراسم والشعائر الدينية في حفل التتويج في معبد الإله آمون ليظل بعد ذلك تحت رحمة ذلك التقييم الكهنوتي طوال فترة حكمه ليرضخ للتنازل عن العرش وِاختيار الاِنتحار في حال فشله في أية من المعايير التي يتم اِنتخابه على أساسها. لكن الملك اركاماني المُسْتنير بدراسة الفلسفة اليونانية رفض أن تُحَدِد سلطة الكهنة التقليدية مصير العرش الكوشي أو حتى تدخلها في سلطته ليخلق بذلك أحد العوامل الحاسمة في نقل العاصمة الروحية من نبتة لمروي في حوالي العام 250 ق.م.
كل هذا السبق والتفرد كان نتاجا لمجتمعً حضري معقدً يتمتع بمستويات عالية من التنظيم ومشاركة فاعلة للمرأة. ففي نظام وراثة العرش الكوشي الذكوري- الأخوي كان لقب كنداكة يُمنح للنساء اللائي يحكمن إلى جانب الملك وعادةً ما تكن والدة للملك الذي تم تنصيبه. أما فيما بعد عهد الملك أركاماني كان لقب كنداكة غالبًا ما يشير إلى ملكة مستقلة، قائمة بذاتها. بذلك رفع النوبيون من قدر النساء وساووا بينها وبين الرجل لتمكينها من مشاركة الرجل في كثير من شئون الحياة، فكن عسكريات من طراز رفيع ومشاركات للملوك في إدارة شئون البلاد وفي كثير من الأحيان انفردن بالحكم لوحدهن.
الكنداكة شناكداخيتي (177 - 155 ق.م)، على الرغم من كونها إمراة كانت تعرف ب - ‘إبن رع إله الجهتين’ في إشارة لأعالي وأسافل وادي النيل كإقرار بإستقلاليتها وقبولها كحاكمة مقتدرة على قدم المساواة مع نظرائها الذكور التقليديين. أما المقدرات الإستثنائية للكنداكة اماني ريناس (40-10 ق.م) في شئون الحكم وقيادة الجيش فقد تجلت حين توليها لقيادة الجيش الكوشي وتصديها لقوات الإمبراطور الروماني أوغسطس سيزر بعيد غزوه لنبتة في عام 22 قبل الميلاد، لكنه إضطر بعد ثلاث سنوات من الكر والفر لعقد اتفاقية سلام أدت إلى زيادة التجارة المتبادلة وساهمت في نهاية المطاف في صعود مروي كعاصمة إقليمية بلغت شأوا عظيما من التقدم والرقي.
أما الكنداكة أماني شاخيتو (10 - 01 ق.م) فتظهر نقوش مقبرتها أنها كانت ملكة قوية حكمت بشكل مستقل. "قال ملاك الرب لفيلبس: قم واذهب نحو الجنوب إلى الطريق المنحدرة من القدس إلى غزة. فهذا مكان صحراوي . هناك ستجد المسؤول عن كنوز كانديس، الملكة الإثيوبية، يتعبد في القدس" – هذا هو صف العهد الجديد للتوجيهات التي قدمها ملاك الرب لفيليب المبشر حول كيفية مقابلة مسؤول خزانة الكنداكة أمانيتوري (22-41 م) التي شاركت الحكم الملك نتاكاماني وأعادت بناء معبد آمون في نبتة ومروي.
إلى جانب إتقانهم لفنون الرسم والنحت والنقش كان الكوشيون صناعيين ومهندسين معمارين وزراعيين بارعين غزيري الإنتاج. فالفخاريات المزخرفة عالية الجودة، وجداريات المدافن والمعابد الفارهة، وتماثيل الجرانيت الأسود، وادوات الفلاذ المصقول، وأساليب تحسين الري والمحاصيل، كلها تقف شواهد صارخةً على مهارة حرفيوها إبداعهم. فهناك إبريق الملك أسبالتا المصنوع من الذهب الخالص والذي وقف أمامه صاغة عصرنا الحديث صاغرين، مندهشين من دقة نقشة وجمال مظهره. كذلك هناك مجوهرات الكنداكة أماني شاخيتو المبهرة في دقة صياغتها والتي قام صائد الكنوز سيئ السمعة، جوزيبي فيرليني، بسرقة مقتنيات مقابرتها الهرمية في عام 1834.
شيد الكوشيون مدنا بالغة العظمة ومعابد وقصورا وإهرامات سامقة شامحة كثر. فهنك ما يربو على ثلاثمائة وخمسين هرمًا في أعالي النيل ضم بعضها رفاة مالكيها وحاشايتهم وثرواتهم ومقتنياتهم الشخصية. وكذلك هناك ‘منزل الدفوفة’ المكتفي بذاته والمتعدد الطوابق الذي ينتصف وينتصب عاليا وسط أحياء حاضرة كرمة، أحد أعرق المدن التي بناها الأنسان على الإطلاق. كذلك بنى الكوشيون أرصفة الموانئ على نهر النيل وطريقًا مرصوفًا بالحجارة في جبل البركل، بإلاضافة إلى أنهم حفرو العديد من الآبار وإخترعوا خزانات المياه على شكل حفاير وإستخدموا عجلة المياه التي يحركها الحيوان (الساقية) فتضخ مياه النيل المحاصيل الجروف من أجل زيادة الإنتاجية .
إبتدع الكوشيون أفران معدن البرونز في شكل غرف معزولة، عالية الحرارةً إستخدموها في صهر المعادن لصناعة أدوات الإستخدام اليومي مثل شفرات الحلاقة والمرايا والملاقط. وكذلك طوروا مصانع الجعة بإستخدام بكتيريا الستربتومايسيدس في عملية التخمير لتحسين طعم الشراب فكان إكتشافهم الغير مقصود لخواصة المعالجة للألتهابات لوجود المضاد الحيوي - التتراسيكلين التتراسايكلين قبل ثلاثة ألاف سنة.
كان لكوشيين وادي النيل القديم فهم متطور للرياضيات إستطاعو من خلاله تأسيس نظامًا للهندسة استخدموه في إنشاء إصدارات مبكرة من الساعات الشمسية والخرائط الجغرافية. فهناك خريطة ‘بردية تورين’ لمنجم ذهب في النوبة يرجع تاريخها إلى حوالي 1160 ق.م وتعد واحدة من أقدم خرائط الطرق المميزة الموجودة.
طور الكوشيون أحد أقدم أشكال الكتابة الأبجدية في تاريخ البشرية. فالخط المروى المتميز الذي تطور خلال القرن الثاني قبل الميلاد، لم يختصر فقط من أكثر من ألف علامة هيروغليفية إلى مجرد ثلاثة وعشرين خرف أبجدي، لكنه ابتدع أيضًا أصوات حرف العلة ووضع علامات على رموز التقسيم وخصص علامات الحروف المتحركة وعلامات الترميز والتقسيم. أقدم نقش بالكتابة المروية ويعود تاريخه إلى ما بين 180-170 ق.م ويوجد في معبد الملكة شناكداخيتي. أما آخر خط مرَّوي يعود تاريخه لسنة 410/450 م، وفقًا لكلود ريلي فهو لملك البليميين - خارامادوي في معبد كلابشة.
وضع الكوشيون لأنفسهم ناموس أخلاقي عالي المُثل. فمدونة ال –‘ماعت’ عبارة عن مبادئ أخلاقية - قانونية متقدمة للحكمة والحقيقة والعدالة تهدف لإبقاء العالم الطبيعي والإنسان في توازن وتناسق. مع مرور الوقت تطورت ال -"ماعت" إلى دليل قانوني لتلبية الاحتياجات المعقدة للدولة الحديثة الناشئة التي احتضنت شعوبًا متنوعة ذات معتقدات ومصالح متضاربة. فقد كان من المتوقع أن يتبع الفراعنة والحكام والقضاة والكُهان والإفراد على حد سواء مبدأ ال - ماعت، ليس فقط في حياتهم الشخصية اليومية، ولكن أيضًا في إدارة الدولة وأداء الطقوس والاحتفالات الدينية.
الكيانات الثلات، الإجتماع- سياسية، النوبية - المسيحية بدأت في الظهور في إثر زوال مملكة مروي وحلول المسيحية محل الأديان القديمة. مملكة نوباتيا (400 – القرن السابع الميلادي)، التي تعني في اللغة النوبية القديمة "أرض النوبة"، قامت في اراضي وادي النيل التي تقع في ما بين الشلال الثاني والثالث، أما مملكة المقرة (350 - القرن الثلت عشر الميلادي) التي كانت عاصمتها دنقلا فإمتدت الواقعة بين الشلالين الثالث والرابع حينما تمركزت مملكة علوة (569 - القرن الرابع عشر الميلادي) حول مدينة سوبا على النيل الأزرق شرقي مدينة الخرطوم الحالية. بجانب تحدث شعوي هذه المماك بالغات النوبية، القبطية، الإقريقية والعربية، إلا أن دينها الشعبي كان خليطا من الأديان القديمة والمسيحية والإسلام في أواخر عهدها، وذلك على الرغم من تبني الدولة للرسمي للديانة المسيحية.
الكوشيون- النوبيون الحاليون ينقسمون إلى كنوز، محس، داناقلة، نوبة كردفانيين، ميدوب ومجموعة البرقد المنقرضة. إنفصل نوبيون الغرب عن نوبيين وادي النيل في أثناء توسع الممالك الكوشة - المسيحية جنوبا وغربا ومن خلال عملية التعريب و الأسلمة التي تمت في ما بين القرنين الثالث والسادس عشر الميلادي. لذلك، قد يتكلم أحفاد الكوشيين الحاليين لغات مختلفة، وهذا متوقع، ولكنهم يجتمعون وراثيا في آخر جد مشترك لأبيهم وحبوبة لأمهم. كلود رايلي، أستاذ اللسانيات الفرنسي الذي يعكف حاليا على فك شفرة اللغة المروية، يعتبر اللغتان الأفرو- آسيويتان، المصرية والكوشية، هما اللغتان اللتان تحدث بهما سكان منطقة النوبة القديمة والتي يرجع أصلهما، بالإضافة اللغات النيل - صحراوية المعاصرة، إلى اللغة البروتو- كوشية.
وراثيًا، سلالة الحمض النووي الأبوي- ‘E’و‘J’ وسلالة المايتوكوندريا الأمومية -‘L’ تغلب بشكل كبير بين المجموعات العرقية - اللغوية السامية والكوشية على حد سواء. ما يقرب ال- 83٪ من النوبيين، 71٪ من البج ، 52.2٪ من الإثيوبيين، 20٪ من البربر ونسبة مقدرة من السكان الصوماليين يتشاركون في السلالة الأموية ‘ل’. وفقًا لـ - إهيرت وكيتا "الأصول الأفرو- آسيوية (2004)"، فإن السلالة ‘E1b1’، المنحدرة من صلب السلالة -’E’ والتي عمرها ثلاثة وسبعين ألف عام تتتوافق مع توزيع سكان القرن الأفريقي الناطقون باللغة الأفرو- آسيوية، المكان المحتمل لظهور اللغات الأولية الأفرو - آسيوية. ففي حين أن السلالة الفرعية ‘EV1515’ هي السائدة في السكان الناطقين باللغة الكوشية في منطقة البحر الأحمر، فإن السلالة ‘EM78’ هي أكثر شيوعًا بين المجموعات العرقية في وادي النيل.
أما السلالتان الأبويتان ‘A’ و ‘B’ فقد نشأتا في القارة - الأم إفريقيا وبقي أفرادها فيها على مدى التاريخ ليَتركَّز أحفادها بشكل أكبر بين سكان شرق افريقيا وحوض النيل. من بين هؤلاء، عاش جد- جدنا الأكبر في مكان ما في شرق إفريقيا، غالبا على شواطئ إحدى الأنهار التي تنبع من فوق هضبة الأخدود الأفريقي العظيم (أنهار أومو، أواش، النيل الأزرق) وذلك منذ حوالي مائتين وستة وثلاثين ألف عام. أما أحفاد – أحفاد هاتين السلالتين- السلالة ‘E’ فهي تغلب بين سكان وادي النيل القدماء، الصوماليين، غالبية سكان الهضبة الإثيوبية والصحراء الكبرى من البربر(الأمازيغ).
دراسات مختلفة من علم الجينات السكانية إتفقت في أن ما يقارب نسبة 100٪ من الكوشيين والبربر، 93٪ من الإثيو- ساميون، 80٪ من أوموتيك، 76٪ الصحراويون، 70.6٪ من الصوماليين، 58٪ من الإثيوبيين، 52٪ من البجا، 44٪ من سكان جزر الكناري، 36.1٪ من الأقباط المصريين و23٪ من النوبيين يشتركون في سلالة .‘E1b1b’من ناحية أخرى، في الوقت الذي تغلب فيه السلالة الأبوية ‘T’ في سكان شرق أفريقيا الناطقين بالغة الكوشية، فإن السلالة ‘J’ تربط من ناخية وراثية أخرى 44% من النوبيين، 38% بجا، 32% مصريين، 20% أمازيغ و 18% إثيو – ساميين.
مراجع
(هيروديتس)؛ (بروكمان، 2017)؛ (هوسكينز، 1835)؛ (ريلي، 2019). (أوشا، 2014). (رايلي،2010 )؛ (كلود ريلي وأليكس دي فوغت، 012 )؛ ( رايلي،2016 )؛ (سميث ، 2007) ؛ (أسانتي ، 2005)؛ (كوبر،2017)؛ (سيمينو وآخرون، 2002)؛ (توماس وآخرون، 2004)؛ (لوكا وآخرون، 2012)؛ (أهيرت، كيتا، نيومان، 2004)؛ (كروشياني وآخرون، 2004)؛ (كروشياني وآخرون، 2007)؛ (سانشيز وآخرون، 2005)؛ (ترومبيتا وآخرون)؛ (سولي- موراتا وآخرون، (2017 ;(سيمينو وآخرون، 2004).
osmanabdin@gmail.com
////////////////////////////
بدأت مملكة كوش في التشكل حول مدينة نبتة الثقافية والدينية النابضة بالحياة في حوالي عام 590 ق.م وقد كان ألارا ملكها المُؤسِس الأول. أما بعانخي فقد كان أول ملوك سلالة الأسرة الخامسة والعشرين ‘المصرية’ حسب تقويم وتبويب المستشرق الأميركي جورج رايزنر، تبعه بعد ذلك في العرش الكوشي الملوك شباكا، شبيتكو، طَهارْقَة، تانتاماني واسبالتا. بعد سيطرتها على الملوك المحليين بيفتواويباست، نمرود، إوبوت الثاني و أوسركون الرابع، بسطت ممكة كوش نفوذها حتى مصب النيل في البحر الأبيض المتوسط ومنها إمتدت إلى حدود الإمبراطورية الأشورية في بلاد الشام.
في أعقاب غزو سماتيكس الثاني لنبتة، نقل الملك أسبالتا العاصمة إلى "مدينة مروي المعروفة أيضا حينذاك باسم إثيوبيا. وقد كان أختيار"مدينة الثروة والغموض الأسطورية"، مروي، لعدة أسباب أهمها غِنَى المنطقة بخام الحديد والخشب والذهب ولموقعها الإستراتيجي الذي يتيح الوصول إلى طرق التجارة عن طريق البحر الأحمر. إمتدت مملكة مروي - الكوشية (300 ق.م - 350 م) في ما بعد جنوبًا حتى مقرن النيلين الأزرق والأبيض وشرقاً إلى سواحل البحر الأحمر ، وقد كان لعملية التنمية الزراعية والصناعية المعقدة وتجارة الأشغال الحديدية والأسلحة والأدوات والحبوب والماشية دورا محوريا في إزدهار المدينة ونموها. بدأ العهد المروي لمملكة كوش في الضعف والتفكك بعد أنهكتها الحروب مع مقاطعة مصر الرومانية وغزو مملكة أكسوم بقيادة الملك ازانا لعاصمتها وتدميرها في عام 300 م.
تربع الملك اركاماني، الذي كان معاصراً لحكم اليوناني بطليموس الثاني (285 - 246 ق.م) لمصر، على التاج المروي في ما بين أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد وقد إشتهر بإنحيازه لرِيادة المرأة ومدنية الدولة حيث كان أول الملوك الكوشيين الذي أتاح للكنداكات الحكم بمفردهن وأوائل الحكام في التاريخ الذي رفض تدخل الجيش ورجال الدين في شؤون الدولة.
كان تتويج الكوشيين للعرش قبل عهد الملك أركاماني يعتمد على حكم وتقييم كهنوت الإله آمون في مدينة نبتة. ففي سيناريو نموذجي لعملية التصعيد الملكي، كان يقوم الكهنة بإستشارة الإله آمون بشأن ملاءمة وصحة وطول عمر الشخص المرشح للعرش وفي حالة إجتيازة لإختبار الكهنة يقوم بأداء المراسم والشعائر الدينية في حفل التتويج في معبد الإله آمون ليظل بعد ذلك تحت رحمة ذلك التقييم الكهنوتي طوال فترة حكمه ليرضخ للتنازل عن العرش وِاختيار الاِنتحار في حال فشله في أية من المعايير التي يتم اِنتخابه على أساسها. لكن الملك اركاماني المُسْتنير بدراسة الفلسفة اليونانية رفض أن تُحَدِد سلطة الكهنة التقليدية مصير العرش الكوشي أو حتى تدخلها في سلطته ليخلق بذلك أحد العوامل الحاسمة في نقل العاصمة الروحية من نبتة لمروي في حوالي العام 250 ق.م.
كل هذا السبق والتفرد كان نتاجا لمجتمعً حضري معقدً يتمتع بمستويات عالية من التنظيم ومشاركة فاعلة للمرأة. ففي نظام وراثة العرش الكوشي الذكوري- الأخوي كان لقب كنداكة يُمنح للنساء اللائي يحكمن إلى جانب الملك وعادةً ما تكن والدة للملك الذي تم تنصيبه. أما فيما بعد عهد الملك أركاماني كان لقب كنداكة غالبًا ما يشير إلى ملكة مستقلة، قائمة بذاتها. بذلك رفع النوبيون من قدر النساء وساووا بينها وبين الرجل لتمكينها من مشاركة الرجل في كثير من شئون الحياة، فكن عسكريات من طراز رفيع ومشاركات للملوك في إدارة شئون البلاد وفي كثير من الأحيان انفردن بالحكم لوحدهن.
الكنداكة شناكداخيتي (177 - 155 ق.م)، على الرغم من كونها إمراة كانت تعرف ب - ‘إبن رع إله الجهتين’ في إشارة لأعالي وأسافل وادي النيل كإقرار بإستقلاليتها وقبولها كحاكمة مقتدرة على قدم المساواة مع نظرائها الذكور التقليديين. أما المقدرات الإستثنائية للكنداكة اماني ريناس (40-10 ق.م) في شئون الحكم وقيادة الجيش فقد تجلت حين توليها لقيادة الجيش الكوشي وتصديها لقوات الإمبراطور الروماني أوغسطس سيزر بعيد غزوه لنبتة في عام 22 قبل الميلاد، لكنه إضطر بعد ثلاث سنوات من الكر والفر لعقد اتفاقية سلام أدت إلى زيادة التجارة المتبادلة وساهمت في نهاية المطاف في صعود مروي كعاصمة إقليمية بلغت شأوا عظيما من التقدم والرقي.
أما الكنداكة أماني شاخيتو (10 - 01 ق.م) فتظهر نقوش مقبرتها أنها كانت ملكة قوية حكمت بشكل مستقل. "قال ملاك الرب لفيلبس: قم واذهب نحو الجنوب إلى الطريق المنحدرة من القدس إلى غزة. فهذا مكان صحراوي . هناك ستجد المسؤول عن كنوز كانديس، الملكة الإثيوبية، يتعبد في القدس" – هذا هو صف العهد الجديد للتوجيهات التي قدمها ملاك الرب لفيليب المبشر حول كيفية مقابلة مسؤول خزانة الكنداكة أمانيتوري (22-41 م) التي شاركت الحكم الملك نتاكاماني وأعادت بناء معبد آمون في نبتة ومروي.
إلى جانب إتقانهم لفنون الرسم والنحت والنقش كان الكوشيون صناعيين ومهندسين معمارين وزراعيين بارعين غزيري الإنتاج. فالفخاريات المزخرفة عالية الجودة، وجداريات المدافن والمعابد الفارهة، وتماثيل الجرانيت الأسود، وادوات الفلاذ المصقول، وأساليب تحسين الري والمحاصيل، كلها تقف شواهد صارخةً على مهارة حرفيوها إبداعهم. فهناك إبريق الملك أسبالتا المصنوع من الذهب الخالص والذي وقف أمامه صاغة عصرنا الحديث صاغرين، مندهشين من دقة نقشة وجمال مظهره. كذلك هناك مجوهرات الكنداكة أماني شاخيتو المبهرة في دقة صياغتها والتي قام صائد الكنوز سيئ السمعة، جوزيبي فيرليني، بسرقة مقتنيات مقابرتها الهرمية في عام 1834.
شيد الكوشيون مدنا بالغة العظمة ومعابد وقصورا وإهرامات سامقة شامحة كثر. فهنك ما يربو على ثلاثمائة وخمسين هرمًا في أعالي النيل ضم بعضها رفاة مالكيها وحاشايتهم وثرواتهم ومقتنياتهم الشخصية. وكذلك هناك ‘منزل الدفوفة’ المكتفي بذاته والمتعدد الطوابق الذي ينتصف وينتصب عاليا وسط أحياء حاضرة كرمة، أحد أعرق المدن التي بناها الأنسان على الإطلاق. كذلك بنى الكوشيون أرصفة الموانئ على نهر النيل وطريقًا مرصوفًا بالحجارة في جبل البركل، بإلاضافة إلى أنهم حفرو العديد من الآبار وإخترعوا خزانات المياه على شكل حفاير وإستخدموا عجلة المياه التي يحركها الحيوان (الساقية) فتضخ مياه النيل المحاصيل الجروف من أجل زيادة الإنتاجية .
إبتدع الكوشيون أفران معدن البرونز في شكل غرف معزولة، عالية الحرارةً إستخدموها في صهر المعادن لصناعة أدوات الإستخدام اليومي مثل شفرات الحلاقة والمرايا والملاقط. وكذلك طوروا مصانع الجعة بإستخدام بكتيريا الستربتومايسيدس في عملية التخمير لتحسين طعم الشراب فكان إكتشافهم الغير مقصود لخواصة المعالجة للألتهابات لوجود المضاد الحيوي - التتراسيكلين التتراسايكلين قبل ثلاثة ألاف سنة.
كان لكوشيين وادي النيل القديم فهم متطور للرياضيات إستطاعو من خلاله تأسيس نظامًا للهندسة استخدموه في إنشاء إصدارات مبكرة من الساعات الشمسية والخرائط الجغرافية. فهناك خريطة ‘بردية تورين’ لمنجم ذهب في النوبة يرجع تاريخها إلى حوالي 1160 ق.م وتعد واحدة من أقدم خرائط الطرق المميزة الموجودة.
طور الكوشيون أحد أقدم أشكال الكتابة الأبجدية في تاريخ البشرية. فالخط المروى المتميز الذي تطور خلال القرن الثاني قبل الميلاد، لم يختصر فقط من أكثر من ألف علامة هيروغليفية إلى مجرد ثلاثة وعشرين خرف أبجدي، لكنه ابتدع أيضًا أصوات حرف العلة ووضع علامات على رموز التقسيم وخصص علامات الحروف المتحركة وعلامات الترميز والتقسيم. أقدم نقش بالكتابة المروية ويعود تاريخه إلى ما بين 180-170 ق.م ويوجد في معبد الملكة شناكداخيتي. أما آخر خط مرَّوي يعود تاريخه لسنة 410/450 م، وفقًا لكلود ريلي فهو لملك البليميين - خارامادوي في معبد كلابشة.
وضع الكوشيون لأنفسهم ناموس أخلاقي عالي المُثل. فمدونة ال –‘ماعت’ عبارة عن مبادئ أخلاقية - قانونية متقدمة للحكمة والحقيقة والعدالة تهدف لإبقاء العالم الطبيعي والإنسان في توازن وتناسق. مع مرور الوقت تطورت ال -"ماعت" إلى دليل قانوني لتلبية الاحتياجات المعقدة للدولة الحديثة الناشئة التي احتضنت شعوبًا متنوعة ذات معتقدات ومصالح متضاربة. فقد كان من المتوقع أن يتبع الفراعنة والحكام والقضاة والكُهان والإفراد على حد سواء مبدأ ال - ماعت، ليس فقط في حياتهم الشخصية اليومية، ولكن أيضًا في إدارة الدولة وأداء الطقوس والاحتفالات الدينية.
الكيانات الثلات، الإجتماع- سياسية، النوبية - المسيحية بدأت في الظهور في إثر زوال مملكة مروي وحلول المسيحية محل الأديان القديمة. مملكة نوباتيا (400 – القرن السابع الميلادي)، التي تعني في اللغة النوبية القديمة "أرض النوبة"، قامت في اراضي وادي النيل التي تقع في ما بين الشلال الثاني والثالث، أما مملكة المقرة (350 - القرن الثلت عشر الميلادي) التي كانت عاصمتها دنقلا فإمتدت الواقعة بين الشلالين الثالث والرابع حينما تمركزت مملكة علوة (569 - القرن الرابع عشر الميلادي) حول مدينة سوبا على النيل الأزرق شرقي مدينة الخرطوم الحالية. بجانب تحدث شعوي هذه المماك بالغات النوبية، القبطية، الإقريقية والعربية، إلا أن دينها الشعبي كان خليطا من الأديان القديمة والمسيحية والإسلام في أواخر عهدها، وذلك على الرغم من تبني الدولة للرسمي للديانة المسيحية.
الكوشيون- النوبيون الحاليون ينقسمون إلى كنوز، محس، داناقلة، نوبة كردفانيين، ميدوب ومجموعة البرقد المنقرضة. إنفصل نوبيون الغرب عن نوبيين وادي النيل في أثناء توسع الممالك الكوشة - المسيحية جنوبا وغربا ومن خلال عملية التعريب و الأسلمة التي تمت في ما بين القرنين الثالث والسادس عشر الميلادي. لذلك، قد يتكلم أحفاد الكوشيين الحاليين لغات مختلفة، وهذا متوقع، ولكنهم يجتمعون وراثيا في آخر جد مشترك لأبيهم وحبوبة لأمهم. كلود رايلي، أستاذ اللسانيات الفرنسي الذي يعكف حاليا على فك شفرة اللغة المروية، يعتبر اللغتان الأفرو- آسيويتان، المصرية والكوشية، هما اللغتان اللتان تحدث بهما سكان منطقة النوبة القديمة والتي يرجع أصلهما، بالإضافة اللغات النيل - صحراوية المعاصرة، إلى اللغة البروتو- كوشية.
وراثيًا، سلالة الحمض النووي الأبوي- ‘E’و‘J’ وسلالة المايتوكوندريا الأمومية -‘L’ تغلب بشكل كبير بين المجموعات العرقية - اللغوية السامية والكوشية على حد سواء. ما يقرب ال- 83٪ من النوبيين، 71٪ من البج ، 52.2٪ من الإثيوبيين، 20٪ من البربر ونسبة مقدرة من السكان الصوماليين يتشاركون في السلالة الأموية ‘ل’. وفقًا لـ - إهيرت وكيتا "الأصول الأفرو- آسيوية (2004)"، فإن السلالة ‘E1b1’، المنحدرة من صلب السلالة -’E’ والتي عمرها ثلاثة وسبعين ألف عام تتتوافق مع توزيع سكان القرن الأفريقي الناطقون باللغة الأفرو- آسيوية، المكان المحتمل لظهور اللغات الأولية الأفرو - آسيوية. ففي حين أن السلالة الفرعية ‘EV1515’ هي السائدة في السكان الناطقين باللغة الكوشية في منطقة البحر الأحمر، فإن السلالة ‘EM78’ هي أكثر شيوعًا بين المجموعات العرقية في وادي النيل.
أما السلالتان الأبويتان ‘A’ و ‘B’ فقد نشأتا في القارة - الأم إفريقيا وبقي أفرادها فيها على مدى التاريخ ليَتركَّز أحفادها بشكل أكبر بين سكان شرق افريقيا وحوض النيل. من بين هؤلاء، عاش جد- جدنا الأكبر في مكان ما في شرق إفريقيا، غالبا على شواطئ إحدى الأنهار التي تنبع من فوق هضبة الأخدود الأفريقي العظيم (أنهار أومو، أواش، النيل الأزرق) وذلك منذ حوالي مائتين وستة وثلاثين ألف عام. أما أحفاد – أحفاد هاتين السلالتين- السلالة ‘E’ فهي تغلب بين سكان وادي النيل القدماء، الصوماليين، غالبية سكان الهضبة الإثيوبية والصحراء الكبرى من البربر(الأمازيغ).
دراسات مختلفة من علم الجينات السكانية إتفقت في أن ما يقارب نسبة 100٪ من الكوشيين والبربر، 93٪ من الإثيو- ساميون، 80٪ من أوموتيك، 76٪ الصحراويون، 70.6٪ من الصوماليين، 58٪ من الإثيوبيين، 52٪ من البجا، 44٪ من سكان جزر الكناري، 36.1٪ من الأقباط المصريين و23٪ من النوبيين يشتركون في سلالة .‘E1b1b’من ناحية أخرى، في الوقت الذي تغلب فيه السلالة الأبوية ‘T’ في سكان شرق أفريقيا الناطقين بالغة الكوشية، فإن السلالة ‘J’ تربط من ناخية وراثية أخرى 44% من النوبيين، 38% بجا، 32% مصريين، 20% أمازيغ و 18% إثيو – ساميين.
مراجع
(هيروديتس)؛ (بروكمان، 2017)؛ (هوسكينز، 1835)؛ (ريلي، 2019). (أوشا، 2014). (رايلي،2010 )؛ (كلود ريلي وأليكس دي فوغت، 012 )؛ ( رايلي،2016 )؛ (سميث ، 2007) ؛ (أسانتي ، 2005)؛ (كوبر،2017)؛ (سيمينو وآخرون، 2002)؛ (توماس وآخرون، 2004)؛ (لوكا وآخرون، 2012)؛ (أهيرت، كيتا، نيومان، 2004)؛ (كروشياني وآخرون، 2004)؛ (كروشياني وآخرون، 2007)؛ (سانشيز وآخرون، 2005)؛ (ترومبيتا وآخرون)؛ (سولي- موراتا وآخرون، (2017 ;(سيمينو وآخرون، 2004).
osmanabdin@gmail.com
////////////////////////////