لابد منها في جوهر أي عملية سياسية أو دستورية!

 


 

 

ثمة مهمة شاقة أمام السودانيين والسودانيات في طريق ثورتهم هذه ؛ هي كيفية صناعة قيم إيجابية بمعزل عن القيم السلبية التي صنعتها عهود الاستبداد والحروب الأهلية ؛قيم تساعد السودانيين في التصالح مع ماضيهم المُثقل بالجراحات والآهات وذلك بإنشاء إطار وصرح من القانون والعدالة للتعاطي مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المدي البعيد والقريب ،وفي الوقت ذاته ،إطار قانوني وسياسي خاص بالمستقبل يحظى بقبول واسع وشرعية شعبية من مختلف شعوب السودان، فالمهمة الشاقة الأخرى أيضا؛ هي كيفية تحويل مؤسسات الدولة التي ساعدت في استدامة الصراع والحكم القمعي الي مؤسسات تسعي لاستدامة السلام وتحمي حقوق الإنسان وتعزز ثقافة احترام سيادة القانون ،حيث تمنع العنف والإفلات من العقاب وتُقرر مبدأ المسائلة وحماية المواطنين علي قدم المساواة دونما اعتبار للعرق أو الدين أو اللون ،والتحدي الأكبر من نوعه ؛ هو كيفية إزالة مخاوف السودانيين من عودة الاستبداد والحروب الأهلية وتقسيم البلاد مرة الأخرى والعمل علي استعادة الثقة المفقودة بين المجتمعات علي المستوي الأفقي وبينهم وبين الدولة علي الصعيد الرأسي .
كل هذه التحديات والمهام الشاقة أمام ثورة التغيير الحقيقي في السودان كانت وما زالت هي نتيجة منطقية وحتمية لغياب العقد الاجتماعي بين السودانيين كاطار لفلسفة العيش المشترك، وغياب فكرة المواطنة الحقيقية التي تنظم العلاقة التفاعلية بين المواطنين والوطن الذي ينتمون إليه ، ولا يمكن الحديث عن أي عملية سياسية دونما تناول المسالة المركزية التأسيسية والتي تقوم عليها جميع المسائل الأخرى، وهي تأسيس العقد الاجتماعي وحقوق المواطنة الحقة التي لا تعني فقط مجرد مساواة قانونية في الحقوق والواجبات علي المستوي النظري والنصوص الدستورية والقانونية ،بل لابد أن ترتبط في جوهرها بالقدرة علي تمتع جميع الشعوب السودانية بحقوقهم المنصوصة عليهم في الوثائق الدستورية والقانونية ،ولنا في التاريخ السياسي السوداني القديم والحديث دروسا كثيره مفادها أن عدم تمكين السودانيين في ممارسة حقوقهم في المواطنة سواء كانت حقوق مدنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ،ساهمت في التهميش والاغتراب والاستبعاد الاجتماعي ،وانتهي الحال بأبشع الجرائم في حق بعض المواطنين من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري. الخ.
تفشل معظم المحاولات السياسية لإخراج السودان من ورطته التاريخية إما لإغفالها أو تغاضيها قصدا لحقيقة السودان المتعدد والمتنوع كأساس لاي فعل سياسي أو دستور ي، فالسودان بلد يوجد فيه درجة عالية من التعقيد الثقافي والاجتماعي ،ومن الواضح ،تميل بعض المجموعات الي التصاهر والاندماج طوعا ،والبعض الآخر تسعي للتعايش وليس للانصهار والاندماج ،وتريد أن تحافظ علي هويتها وتقاليدها وأنماط عيشها وأعرافها الخاصة ،والعامل الحاسم في إنشاء فلسفة العيش المشترك بين هذه المجموعات ،هو تحقيق الهندسة التوافقية التي تقوم علي المساواة وعدم تسلط مجموعة علي آخر والاعتراف بالآخر المختلف ،وفي هذا المضمار ،تعتبر الآلية اللامركزية السياسية (الفيدرالية) من انجع الآليات لإدارة التنوع والتعدد الثقافي والعرقي والديني، بحيث يسمح لكل مكون الحفاظ علي هويته وخصائصه التي تميزه من باقي المكونات الأخرى، وآلية الفيدرالية الحقة تساعد أيضا رسم سياسات متعلقة بالهوية والثقافة واللغة ،بل العمل لتطوير تقنيات لتطوير هذه الثقافات واللغات ،والسماح للشعوب في استخدام لغاتهم حتي في الدواوين الرسمية للدولة والسياسات التعليمية حسب الدساتير الإقليمية المُتوافق عليها ،ورسم أيضا اطار للتلاقح الثقافي عبر سياسات التعليمية والإعلامية ،ونظرية الفيدرالية المطلوبة لمعالجة واقع السودان ليست كالنظريات التي تبنتها الأنظمة السابقة في السودان ولا حتي الوثيقة الدستورية لسنة 2019 التي أسست للفترة الانتقالية المُجهضة ولا حتي مقترح الدستور الانتقالي للمحامين الحالي ،بل تبني نظرية فيدرالية حقيقية تكون اصل السلطات والصلاحيات لدي الوحدات الفيدرالية الفرعية ،وتُحدد سلطات وصلاحيات الوحدات الفيدرالية الرئيسية والوحدات الإقليمية والمحلية بدقة .
لا يمكن تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز وحدة تراب السودان، ما لم تكن في جوهر أي عملية سياسية ودستورية المسائل التي تُشكل هواجس وهموم لدي بعض السودانيين في دخولهم للفعل التعاقدي أو التأسيسي، وخاصة الاستجابة للخصوصيات المحلية الثقافية والدينية ،بغرض صناعة دولة تقف في موقف محايد بين جميع شعوب السودان دونما اعتبار لميولهم الثقافية أو الدينية ،واي هروب من هذا الاستحقاق الجوهري عبر الالتفاف بخطاب الدولة المدنية التي تتحايل لإخراج الدين من باب وإعادة إدخالها من باب آخر ،لا تزيد الطين إلا بِلة ،ولكن طرح وتسمية الدولة المدنية لا تعتبر مشكلة في حد ذاتها اذا تم الاتفاق علي مبادئ الدولة العلمانية التي لا تستند الي المرجعيات الدينية في نظام الدولة القانوني والتشريعي والتنفيذي ،وتستبعد التفسيرات الدينية الإقصائية عن سلم القيم الاجتماعية والثقافية ،وهذا لا يعني بالضرورة رفض الدين كحقيقة أو كحاجة إنسانية التي تقوم علي حرية الاختيار الفردي ،ولا يعني علي الإطلاق رفض القيم الأخلاقية الدينية التي تتوافق مع القيم الأخلاقية الإنسانية . جميع هذه القضايا المشار اليها في هذا المقال ضرورية ولازمة إن أردنا الحفاظ على وحدة تراب السودان وبناء نظام سياسي ينبع من جماع إرادات السودانيين.
عبد العزيز التوم إبراهيم.
galaabi100@hotmail.com

 

آراء