لا للجامعة العربية، سوق عكاظ، ولا مغلّظة لأمينها العام، أبو الغيط!
بسم الله الرحمن الرحيم
أما الجامعة العربية، فقد بح صوتي كما بحت أصوات العديد من الوطنيين السودانيين الداعين لانسحاب وطنهم منها، مثلما فعلت إرتريا التى لم تدخلها من الأساس احتراماً للنفس وصوناً للكرامة، إذ لا داعي "للتلصّق" والتكالب للتماهي مع من لديهم تحفظات حول هويتك المزعومة، (بل عليك بالتمسك بما يقوله أهلك الغبش: اليدورنا ندوره واليابانا لا باس....وحديث الما بندورو نسوّي دوماس)، واستنكافاً عن مؤسسة تجمع بين دفتيها أنظمة سياسية وكيانات غير متجانسة، بل متناقضة ومتشاكسة ومتنافرة وبينها ما طرق الحداد فى غالب الأحيان – كأنها سمك لبن تمر هندي - .....مؤسسة سفسطائية هلامية سلبية لا طعم ولا لون لها، كالماء الزلال، ولا تقدم ولا تؤخر، مثل بج بن، وليس لديها أي رصيد من الإنجازات الملموسة على صعيد النضال ضد الاستعمار الأجنبي والاستيطاني، أو من أجل رأب الصدوع وتحقيق السلام والاستقرار، أو على صعد الدعم الإنساني والإغاثات أثناء الكوارث التى ألمت بالكثير من الدول الأعضاء، أو حتى علي صعيد القضية المركزية التى تبنتها منذ نشأتها وأصبحت عقيدتها الأولي، raison detre، وهي القضية الفلسطينية منذ 1947، أو على أصعدة البني التحتية والتقدم الإقتصادي والتحول الاجتماعي بالدول العربية، لا سيما الفقيرة منها؛ وذلك وفق الحيثيات التى انبنت عليها تلك الدعوة، والتى يمكن العزف عليها مجدداً هاهنا علها تجد أذناً صاغية هذه المرة فلا تذهب أدراج الرياح كصيحة في واد، (أو بندق فى بحر، كما يقول السودانيون).
إن السودانيين أمة خلاسية هجين رغم شيوع اللسان العربي بين ربوعها كلنقوا فرانكا lingua franca وكلغة سوقmarket language وتجارة وموانئ ومواقف لواري وغناء وأهازيج ومدائح وطقوس صوفية وتعليم وخلاوي ومساجد وصحافة وإذاعة وإدارة حكومية منذ قيام أول دولة عربية إسلامية فيه – مملكة سنار عام 1504م، ودخول حوالي 65% من سكانه فى دين الإسلام وفق مذهبية الإمام مالك السنية، وهو دين قامت بنشره وترسيخه الطرق الصوفية: القادرية والسمانية والشاذلية والهندية والختمية والأحمدية والتيجانية. ولقد تبلورت الشخصية السودانية المميزة بسمرتها المحببة ( خضرة البرسيم) بكافة تدرجاتها وتبايناتها حتى داخل الأسرة الواحدة، وتقاطيعها الوسيمة الأخاذة والآخذة من كل نبع قطرة، وسمتها وشلوخها ومشاطها (ضفر وتجديل شعرها) وهندامها (- وعلى الحد الأدني منه العراقي والسروال والعمامة التى تمثل القاسم المشترك الأعظم بين غالبية أهل البادية والحضر)، ومزاجها وطعامها وتقاليدها وربابتها وإيقاعاتها.....تبلورت هذه الشخصية عبر كيمياء ومحكات السلطنة الزرقاء (مملكة سنار) – 1504/1822م – التى نشأت أصلاً كحلف بين الأفارقة النيليين (الفونج المنحدرين من قبيلة الشلك) والعرب العبد اللاب، ذلك الحلف الذى أباد مملكة سوبا - آخر كيان مسيحي كوشي سابق لدخول العرب، ونقل العاصمة إلي سنار حيث ازدهرت الحضارة السودانية الحديثة ذات النكهة الخاصة المستصحبة لطارفها وتليدها، وتمازجت فى أحشائها فسيفساء الإثنيات والثقافات المختلفة التى تألف منها سودان ذلك الزمن: (الحاضرون على ضفاف النيل – الحلفاويون والكنوز والعبابدة والمحس والسكوت والدناقلة والبديرية الدهامشة والشايقية والجعليون بكافة فروعهم وبطونهم وأفخاذهم والعركيون والجعافرة؛ والحاضرون بأطراف أخري بالوطن: كالفور والزغاوة والمساليت والداجو والنوبة والفونج والإنقسنا ؛ وأبناء عمومتهم البدو الهائمين بالفلاة، البجة والشكرية والبطاحين والحلاوين والدباسيين والقراريش والهواوير والكبابيش والحمر والمجانين (أجمل خلق الله قاطبة) والرزيقات وبنى هلبا والكواهلة والحسانية والدغيماب والرفاعيين والكنانيين والنفيدية والعقليين)، دون تمييز أو عنجهية عنصرية أو تراتبية هرمية كوضع الإثنيات والطوائف المختلفة castes في الهند، ودون أي مماحكات أومخاشنات أوحروب أهلية كما نشهد اليوم. ولقد كانت تلك الدولة على صلة تجارية ودينية وثقافية ودبلوماسية حميمة ووثيقة بكل من جارتيها مصر شمالاً والحجاز بشرق البحر الأحمر؛ فما انقطعت بعثات الحج السنوية وكسوة الكعبة التى كان سلاطين سنار، ومن بعدهم سلاطين الفور، ملتزمين بها كل عام، مصحوبة بالزكاة والصدقات والأطعمة لقاطني الحرمين الشريفين؛ كما لم تنقطع وفود الدارسين بالأزهر الشريف المعمرين ل(الرواق السناري) المعروف منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي بتلك المؤسسة التعليمية الدينية العريقة، بالإضافة ل(رواق دارفور).
كل ذلك لم يشفع للسودان عندما أقدم الخديوي محمد علي باشا على غزوه عام 1820 لتحقيق هدفين أجمع كل المؤرخين عليهما، وهما جلب المال والرجال من ذلك البلد "الإفريقي": أما المال فهو ما ينتزعه مصاصو الدماء الباشبوزوك (القوات الخاصة المتوحشة بجيش الأتراك) من أتاوات وضرائب إقطاعية بلا رحمة (فعل القط) من فلاحي ورعاة السودان المعدمين؛ وأما الرجال فهم العبيد الذين كان محمد علي ينوي استيعابهم في جيشه الإستعماري بغية تحقيق طموحاته التوسعية في الجزيرة العربية وبلاد الشام والهلال الخصيب، (وربما في مؤخرة دماغه إتفاقية البقط بين عبد الله بن أبي السرح والنوبة الكوشيين التى ظل السودان بموجبها يمول مصر بحوالي أربعمائة عبد كل عام لمدة ثمانية قرون 582-1500م). ولقد قام آخر ملوك سنار بمخاطبة محمد علي باشا قبيل حملته برسالة تذوب رقة وشاعرية وبلاغة (تجدها في نعوم شقير)، بلسان عربي مبين وبمنطق ساطع يناطح الصخر وكلمات (تبكّي الكافر) قائلاً: كيف تستمرئون غزونا ونحن دولة عربية مسلمة مستقرة ذات سيادة ومسالمة، تحكم بشرع الله وبالعدل والقسطاس والرحمة، وتعمل على نشر الرسالة المحمدية واللغة العربية والعلم الإسلامي بالتى هي أحسن.......إلخ؟. ولقد تجاهل الخديوي تلك الرسالة، كما ضرب عنها صفحاً المثقفون والكتاب والمؤرخون المصريون ومن سار في ركابهم، كما لم تضعها الحركة الوطنية المصرية في حسابها فى أي يوم من الأيام. (وهنالك رسالة شبيهة بها أخذت طريقها للخديوي كذلك من سلطان دارفور).
وعلي كل حال، واصل الجيش المصري التركي زحفه متوغلاً في السودان، مجهزاً بالأسلحة النارية المتفوقة التي قاومها السودانيون بالسيوف والقنا والسهام والعكاكيز المضببة، فتغلب جيش الترك على كل من لاقاه في الطريق من منطقة حلفا حتى سنار العاصمة، ومضى باطشاً لا يلوى على شيء، ولا يفرق بين بيضان وحمران وزرقان وسمر وخاطفي لونين، ويرسل أسرى تلك الحروب إلى مصر المحروسة كأرقاء. والغريبة أن المصريين والعرب الشرق أوسطيين ما انفكوا حتى اليوم لا يدركون حقيقة السودانيين ولا يفرقون بين العربي وغير عربي منهم، باستثناء البعض هنا وهناك الذين ما برحوا يعبرون عن إعجابهم بالسودانيين ويأمنونهم على العرض والمال وأسرار الدولة، خاصة المواطنين الأصليين بالإمارات العربية المتحدة وبعض المتعلمين من سكان المدن بدول الخليج العربي. ولقد مللنا من السؤال الذي يبادرك به أي عربي شرق أوسطي أو شمال إفريقي تدخل معه فى عملية تعارف: هل أنت من الشمال أم الجنوب؟ وفي إحدي المرتين اللتين ذهبت فيهما حاجاً للأراضي المقدسة بالحجاز، حاملاً عصا (حداثة/بنبقة) متواضعة اشتريتها بخمس دراهم من سوق البتان في أبو ظبي، ركض خلفي حاج مصري إلى أن لحقني وسألني بالفصحى: (يا أخ الإسلام، من أين أتيت بهذه العصا التي تحملها؟) فأجبته: (من بلاد إسمها ك.....) فضحك واحتضنني صائحاً: (ياه! ده انت من عندنا.) كما هالني ذلك الخطيب في أحد المساجد ذات جمعة الذي قال بملئ فيه وبكل براءة: (إن رحمة الله تسع جميع خلقه يوم القيامة، فحتي العبيد والسودانيين سيدخلون الجنة إذا فقط صلوا وصاموا.) فخير للسودانيين أن يدركوا حقيقة موقعهم فى المخيلة العربية.
وما أن بلغ إسماعيل باشا إبن محمد علي باشا سنار، حتي هرع نحو التخوم الجنوبية للسلطنة الزرقاء ليستطلع منطقة الإنقسنا بحثاً عن جبال شنقول المتهمة بتكدسات الذهب، وقفل راجعاً نحو القاهرة ماراً بشندي، وهنا استدعي المك نمر ملك الجعليين وأمره بتسليم الحكومة التركية المصرية مئات العبيد كل عام بدءاً من تلك اللحظة. ولما استنكر الزعيم الجعلي ضخامة العدد، أفرغ الباشا جمر غليونه علي رأسه. ولكن المك نمر كظم غيظه وانتظر حتى جنح الليل ليفرغ أطناناً من الجمر على رأس الباشا ورؤوس كل من معه من أفراد كتيبته العسكرية، إذ أشعل الجعليون النار في معسكر الباشا بعد أن ردموه بكميات هائلة من القش الناشف والقصب، وانتظروهم بأطرافه ليقطفوا رأس كل من أفلت من النار.
كان الدفتردار صهر اسماعيل باشا متمركزاً بجيشه فى الأبيض عاصمة كردفان بالغرب الأوسط، وما أن سمع بنبأ مصرع الباشا حتى انقلب إلي وحش نادر مثله فى تاريخ البشرية، وأخذ في ذبح كل من لاقاه من أطفال ونساء، وفي حزم الرجال الأسوياء وإرسالهم إلي مصر عبيداً فاضت بهم أسواق النخاسة فى المحروسة؛ وبلغت تلك الحملة التأديبية ذروتها فى منطقة الجعليين، حيث تفنن الجنود في وأد الأطفال واغتصاب وذبح النساء وحزم الرجال حزم السلم ليبعثوا كأرقاء إلي مصر. ومنذ تلك اللحظات الدموية ترسخت النظرة الدونية للسودانيين، واستمر البطش التركي المصري بأهل هذا البلد المستغيث لستين سنة كاملة، مما دفع السودانيين للإنضمام لجيش الإمام الثائر محمد أحمد بن عبد الله الدنقلاوي القادم من الجزيرة لبب بأقصى شمال السودان، الذي أعلن ثورته المهدوية ضد المستعمر عام 1881م، وبعد أربع سنوات فقط ومسيرة ألف ميل بلغ بجيشه الثائر الخرطوم حاضرة النظام التركي المصري، واقتحمها ودك حصونها وقتل سردارها غردون باشا الأسكتلندي الحاكم بأمر الخديوي، وأقام دولة وطنية سودانية ذات سيادة، الوحيدة من نوعها في إفريقيا، باستثناء لايبيريا في غرب القارة.
وبعد ثلاث عشرة سنة من الاستقلال التام عاد الغزاة مرة أخرى ممثلين في جيش الفتح الإنجليزي المصري، وسلبوا السودان استقلاله عام 1899م وأسموه "السودان الأنجليزي المصري"، حاكمه العام بريطاني، والطبقة العليا من مساعديه بريطانيون (مدراء المديريات ومفتشو المراكز)، تليها طبقة الإداريين المصريين (الموامير) الذين وضعهم الإنجليز فى فوهة المدفع، خاصة فى مجال متابعة الجبايات والضرائب من الكادحين السودانيين. ومع التقدم نحو الإستقلال عام 1955 كانت هنالك مرارات ضد المصريين تعشعش فى أفئدة الغالبية العظمي من أهل السودان، مما جعل نوابهم بالبرلمان الإنتقالي ينحازون لخيار الإستقلال التام، ويقلبون ظهر المجن لدعوة الإتحاد مع مصر التي كانت الطبقة الحاكمة المصرية تروج وتدفع الغالي والنفيس مهراً لها طوال العهد الملكي، مروراً بالنظام العسكري الذى جاءت به ثورة 23 يوليو، والتى كان من أنصارها بعض الزعماء الإتحاديين السودانيين – غير أنهم غيروا رأيهم فى الزمن الإضافي وانضموا للدعوة الإستقلالية، فخرج قرار الاستقلال من ذلك البرلمان الانتقالي بإجماع أعضائه، وتبخرت الدعوة الإتحادية كأنها منطاد هوائي شك بدبوس، أو كأنها "فص ملح وداب".
بيد أن التبعية والإنصياع للسياسات المصرية، خاصة ما يتعلق بمياه النيل وغيرها مما يتعلق بمصالح تلك الدولة المتبنية للسودان باعتبارها شقيقه الأكبر Big Brother (باللغة الجورج أورويلية) شاء ذلك الشقيق الأصغر أم أبي..... ما زال يخالط الجسم السياسي السوداني، وما زال التدخل فى الشأن السوداني أمر متاح للحكومات المصرية غض النظر عن نوع النظام الحاكم فى هذا البلد المسكين الذى ظل يدور فى الفلك المصري معصوب العينين كثور الساقية (الناعورة). وقد نشأت علاقة أبوية تجسسية مخابراتية بين البلدين مثل تلك التى صبغت العالاقات بين سوريا ولبنان طوال الخمس عقود الماضية. وعموماً، كانت الحكومة الوطنية الأولى برئاسة الزعيم اسماعيل الأزهري سودانية الهوى، إذ تحقق الاستقلال على يديها، ولكنها ضمت بعض الوزراء المنحازين لمصر بلا تحفظ مثل الراحل محمد نور الدين، بلا أدني إعتبار للسيادة السودانية، وبعضهم ضباط في المخابرات المصرية. والحكومة العسكرية الأولى 1958/1964 بقيادة الجنرال ابراهيم عبود مالت نحو مصر بالكامل، وعقدت معها اتفاقية 1959 التى منحت مصر بموجبها 84% من مياه النيل واكتفي السودان ب16% فقط، وقدمت لها وادي حلفا بقضها وقضيضها على طبق من فضة بثمن بخس، ولم تكافئها الحكومة المصرية ولو بطريق مسفلت طوله كيلو متراً واحداً أو بشيء من الكهرباء الهايدرولوكية التى أنتجها السد العالي بدعم سوفياتي بعد أن غطت بحيرته منطقة حلفا برمتها. وأستطيع أن أجزم أن الحكومة العسكرية الثانية برئاسة العقيد جعفر نميري كانت مصرية بنسبة تسعين بالمائة؛ كان وزير العمل في أول عهدها، العميد محمد عبد الحليم، مدير بنك مصر فرع الخرطوم، ضابطاً عظيماً بالمخابرات المصرية، ولقد كان أخوه أحمد فى القضاء العسكري ومن الذين أصدروا الأحكام الجزافية الجائرة ضد متهمي حركة 19 يوليو 1971، وهما لأب شايقي من القرير خدم بحرس الحدود فى مصر، وأم مصرية، وانتهي بهما المقام في القاهرة كمصريين أقحاح لا تربطهما بالسودان ولا شعرة معاوية. ومن هذه الشاكلة الضابط بالقضاء العسكري أحمد محمد الحسن القاضي الظالم كذلك فى محاكمات 19 يوليو، وسكرتير الرئيس النميري ومحرر خطبه الصحفي محمد محجوب سليمان ( وكلاهما مطعومان كذلك – من أب سوداني وأم مصرية – مع ميل واضح نحو الهوية المصرية)، والدكتور محي الدين صابر، وغيرهم كثيرون ممن تغلغلوا في أحشاء الدولة السودانية ونخروا فيها كالسوس وهم كوادر متنفذة في المخابرات المصرية. ولقد سارت حكومة النميري فى ركاب النظام المصري كخادم مطيع – poodle - إلى أن أجبرته انتفاضة أبريل 1985م على البقاء في مصر، حيث خصصت له حكومة حسني مبارك بيتاً فاخراً قريباً من القصر الرئاسي بمصر الجديدة.
أما الحكومة الحالية التى جاءت عن طريق إنقلاب عسكري خطط له ونفذه تنظيم الإخوان المسلمين في 30 يونيو 1989، فقد بدأت معادية للنظام المصري، متشدقة بالأحاديث الرنانة عن التوجه الحضاري واستقلالية القرار والثورة ضد الذيلية والتبعية، ولكنها مع مرور الزمن، وبفضل ما تعرضت له من ضغط المعارضين وما نجم عنه من عزلة داخلية وإقليمية ودولية، عادت للحضن المصري تائبة مستفغرة وذيلها بين فخذيها؛ وأول ما قامت به من باب الولاء وحرق البخور (كسير التلج) هو منح المصرين ملايين الأفدنة بشمال غرب السودان وبالجزيرة، وتشجيع الصعايدة على الهجرة الأبدية والاستقرار بتلك الأراضي؛ كما تبنت وزارة الري السودانية الموقف المصري من سد النهضة الإثيوبي، بلا تفكير في المصالح السودانية غير المتضررة من ذلك المشروع؛ وغير ذلك من الشواهد علي انبطاح النظام السوداني أمام الحكومة المصرية، وآخرها موافقة وزير الخارجية الدكتور إبراهيم غندور على ترشيح أحمد أبو الغيط أميناً عاماً للجامعة العربية، وهو يعلم جيداً أنه غير أمين على مصالح الدول الأعضاء – باستثناء المحروسة طبعاً - وغير مؤتمن على موقع حساس كهذا، وله سابقة سمع بها الوزير السوداني تتعلق بخطاب كان قد بعثه لوزراء خارجية الإمارات والسعودية والكويت وقطر عندما كان وزير خارجية حسني مبارك، طالباً من تلك الدول ألا تقدم أي عون أو دعم مالي أو لوجستي للسودان لإقامة أي مشروع كهربائي أو زراعي على النيل، حيث أن ذلك سيكون خصماً على حصة مصر من مياه النيل، وذلك خط أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري، والأمن القومي العربي بالضرورة كما زعم. وسنعود لهذا الموضوع لاحقاً عندما نتعرض لما اغترفه أبو الغيط في حق السودان.
ودعنا نعود لموضوع جامعة الدول العربية، ذلك المولود الناقص الذي تمخضت عنه برجوازية الباشوات المصرية/التركية الحاكمة بمصر فى أربعينات القرن العشرين، فيما قبل ثورة 23 يوليو 1952. وعلي الرغم من أن فكرتها صائبة واستراتيجيتها مشروعة ومطلوبة، وهي السعي شيئأ فشيئاً نحو (الوحدة العربية) بين شعوب يجمعها الكثير – اللغة والدين والثقافة والجوار الجغرافي – إلا أنها ليست الجسم المناسب لتحقيق تلك الغاية. فهي تشترط فى عضويتها فقط النطق بالعربية، غض النظر عن نوع النظام السياسي الذي يحكم البلد طالب العضوية. وهكذا فقد تألفت الجامعة من أشتات لا يجمع بينها غير لغة الضاد: منها حكومات ملكية، وأخري ثائرة على النظام الملكي، مثل مصر وسوريا والعراق واليمن ولاحقاً ليبيا، ومنها دول مستقلة وأخرى ترزح تحت الإستعمار الاستيطاني، مثل فلسطين، والجزائر حتى مطلع الستينات، ومنها دول تدور في فلك الغرب والولايات المتحدة، وأخرى تدور في فلك إيران وتركيا والصين، ومنها أنظمة شيوعية، مثل عدن طوال الستينات والسبعينات، ومنها أنظمة إخوانية حليفة لإيران وجزء من منظومة الإخوان المسلمين العالمية. عطل هذا التباين حركة الجامعة منذ ميلادها، ووضعها في straitjacket وهي الجبة البيضاء بلا أكمام التى يوضع فيها مرضى انفصام الشخصية، على العكس من نماذج أخري فى العالم وفى المنطقة حققت الكثير في سنوات معدودات. أنظر إلى السوق الأوروبية المشتركة التى تطورت نحو الإتحاد الأوروبي في زمن قياسي وأنجزت وحدة العملة وحرية تنقل العمالة بين الدول الأعضاء والبرلمان الموحد والحكومة الأوروبية التى تفاوض وتبرم الاتفاقيات الدولية بإسم المجموعة الأوروبية، مما ساهم في ازدهار وتقدم الاتحاد بشكل عام، وفي الخير الكثير الذي تنزل على كل واحد من أعضاء المجموعة. والدولة الوحيدة التى لم تسمح لها عنجهيتها الإمبريالية أن تذوب في هذا الكيان الجامع المتحضر والتقدمي هي بريطانيا، التى ما جنت سوى الحصرم من الإقدام على الانسحاب من الاتحاد Brexit، وهكذا نشهد انحدار الإقتصاد البريطاني نحو القاع ومصرع الجنيه الاسترليني وهو في تراجع مضطرد إزاء اليورو، مثله مثل الجنيه السوداني.
وقصة نجاح أخري حققها تكتل إقليمي متجانس يضم ست أقطار هي دول مجلس التعاون الخليجي التى حققت الكثير باتجاه الوحدة الإقتصادية مستشرفة آفاق الوحدة السياسية المستقبلية بإذن الملك العلام؛ فقد رفعت القيود عن الاستثمار والتنقل بالنسبة للشركات ورجال الأعمال، وكثفت من وتائر التعاون التجاري والتعليمي والثقافي والسياحي والجمركي واللوجستي والشرطي، وسهلت عملية تدفق العمالة من ركن لآخر بالمنظومة حسب حاجة السوق ودون المساس بحقوق أي من الدول الأعضاء، كما قطعت خطوات جبارة في ربط المنطقة كلها بخط سكة حديدية عابرة للحدود، وبشبكات الغاز والكهرباء. إن اجتماعات المجلس على مستوى الرؤساء أو الوزراء تنهمك في صياغة وإجازة الإتفاقيات المحددة التى يتم توقيعها والالتزام بها سيراً نحو استحقاقات الوحدة المستقبلية، وليست مجرد سوق عكاظ كمؤتمرات جامعة الدول العربية.
والجامعة العربية عبارة عن كيان بيروقراطي مصري بالضرورة، يعاني من أعراض التكلس والترهل التى ورثتها أرض الكنانة بعد سبع آلاف سنة من الدولة المركزية التقليدية؛ وما زادها ضغثاً على إبالة أن منصب الأمين العام محجوز للإخوة المصريين، وبالتحديد لوزراء خارجيتهم المتقاعدين الطاعنين في السن، من لدن عبد الرحمن عزام وحسونة ومحمود رياض وعصمت عبد المجيد وعمرو موسى ونبيل العربي وأخيراً وآخراً (كما أتمني) أحمد أبو الغيط، والإستثناء الوحيد كان الشاذلي القليبي التونسي. وهي مؤسسة بطيئة ومحشوة بالعاملين المصريين وباهظة التكلفة بلا أي مبرر. ماذا أنجزت طوال عمرها الذى يناهز الخمس وسبعين سنة فى مجال التسويات وحل النزاعات العربية / العربية ، دع عنك النزاعات الأخرى مع القوى غير العربية؟ ماذا فعلت تجاه الحرب بين الشمال العربي ! المسلم والجنوب المسيحي الإفريقي التى استمرت في السودان منذ عام 1955 حتي يناير 2005 عندما أبرمت إتفاقية نيفاشا للسلام الشامل تحت إشراف مؤسسة أخري أكثر فعالية – دول الإيقاد: إثيوبيا وجيبوتي وإرتريا ويوغندا وكينيا؟ ماذا قدمت لملايين المتضررين من الحرب التى ظلت مستعرة بدارفور منذ 2003 وبجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان منذ 2011؟ أو قل مشكلة الصحراء الغربية؛ أوتغول ليبيا علي إقليم أوزو بتشاد؛ أومشكلة مثلث حلايب الذي غزته القوات المصرية عام 1995 كرد فعل على محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا فى يونيو من ذلك العام؟ ربما كان الإنجاز الوحيد الذي قامت به منظمة ألسكو التابعة للجامعة هو توحيد المناهج التعليمية، وهذا فى الواقع هو السبب الأساس فى تدني التعليم في السودان منذئذ. فتلك محمدة تحولت إلى نقمة وكارثة ووبال وشر مستطير.
وعن الأمين العام الحالي للجامعة، أحمد أبو الغيط، حدث ولا حرج. فقد جاء هذا الرجل لتقديم محاضرة فى ديوان وزارة الخارجية الإماراتية فى نوفمبر 2013 عن حرب أكتوبر 1973 "حرب العبور"، وخاطب جمعاً من عشرات الدبلوماسيين والموظفين الإماراتيين والوافدين العاملين بالوزارة. وفجأة خرج عن النص بدون أي مناسبة، وقال الآتي:
(على فكرة. لما كنت وزير خارجية مصر بعثت برسالة لسمو وزير الخارجية الإماراتي طالباً من حكومته ألا تقدم أي دعم للسودان ولا لأي دولة تقع على شواطئ النيل خاص بأي مشروع كهربائي أو زراعي، إذ أن ذلك سوف يكون على حساب حصة مصر من مياه النيل، وذلك خط أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري.)
وواصل محاضرته حول أحداث تلك الحرب. وعندما أزفت فترة المناقشة تقدمت من الصفوف الخلفية، من خلف عمود بالبهو كان يفصلني عن المحاضر الذى لم يفطن لوجود شخص أسمر بين الحضور، وطلبت فرصة للتعقيب، ولكن رئيس الجلسة اعتذر بسبب قفل باب النقاش، ولكنني أصررت على المساهمة ولم أجلس، فطلب المحاضر من رئيس الجلسة أن يسمح لي بالتعقيب: " بالله عليك خلي عصمان هذا يتكلم!"، وبالفعل أذن لي المنسق بالحديث، فقلت الآتي:
(ياأستاذ أحمد، نحن نشأنا علي وحدة وادي النيل، وحب مصر يسري فى عروقنا، وعندما أُبعدتم من الجامعة العربية وذهبت عنكم إلى تونس وقاطعتكم الحكومات العربية، كان السودان يرعي حقوقكم وينجز معاملاتكم بدول الخليج هذه، ولم نوغر صدور الآخرين ضدكم. أما أن تحرض الدول الخليجية الصديقة التى وسع الله لها فى الرزق ضد شقيق عربي مسلم آخر فذلك خطأ إن لم يكن عيباً فادحاً. وبالمناسبة أنا ضد النظام الحاكم فى السودان كما يشهد بذلك الحضور بهذه القاعة، ولكن المصالح الإستراتيجية المتعلقة بمستقبل السودان وشعب السودان يهمني أمرها.)
وكان رد أبو الغيط مهذباً ولكنه خارج الموضوع، وقال فيما قال:
(الغريبة أنا قابلت وزير الخارجية السوداني علي عثمان محمد طه فى اجتماع وزاري بالجزائر وقال لي نفس الكلام الذى سمعته من هذا "الزول")، كأنما أراد أن يشير من طرف خفي إلى أنني أحمل نفس أفكار الإخوان المسلمين الحاكمين فى السودان، وتلك فتنة وإيغار آخر للصدور.
وعموماً، قابلت الأستاذ أحمد أبو الغيط بعد ذلك بعام فى معرض الكتب بالشارقة حيث دشنت كتاباً صدر لي في ذلك العام 2015 بعنوان "السودان في عام"، وشققت صف حراسه entourage وسلمت عليه وسألته إن كان يذكرني، وعلى الرغم من أني كنت متمنطقاً بجلباب سوداني وعباءة وعمامة ضخمة إلا أنه عرفني علي الفور قائلاً: (إنت القدع بتاع الخارجية، مش كده؟). فقلت له: "نعم، ولقد قضيت عامي المنصرم بعيداً عن تلك الوزارة وكتبت حزمة مقالات جمعتها فى هذا الكتاب الذى أود أن أهديك هذه النسخة منه." وناولته الكتاب، (مع ملاحظة أني لم أكتب إهداءً له ولم أمهره بتوقيعي)، وتمنيت أن يقرأالمقال الأخير"الفهم المشوش لجنوب الوادي" ص 319، الذى أوردت فيه بعضاً مما قال أبو الغيط في محاضرة وزارة الخارجية، وهو كالآتي:
(تقدم أحد الحضور بسؤال لأبو الغيط قائلاً: "هل لدي الجيش المصري إمكانية لضرب سد النهضة الإثيوبي بالطائرات؟"
(وكانت إجابة أحمد أبو الغيط:
(هذا الموضوع صعب، إلا إذا وافقت السودان على التعاون معنا، فليس لدينا طائرات حربية تستطيع أن تقطع مسافة الألفي ميل بين مصر والحدود الإثيوبية.) أي أنه من حيث المبدأ موافق علي مثل ذلك العدوان علي الجارة إثيوبيا.
وعلي هذا فإنني شخصياً أشك في حياد وموضوعية الأستاذ أحمد أبو الغيط، اللهم إلا إذا كانت الجامعة العربية مؤسسة مملوكة للحكومة المصرية. ولو جاز لي كمواطن "عربي" أن أدلي برأي في هذا الخصوص، فإنني أرى أن جامعة الدول العربية جنين لم يكتمل نموه بعد ما يقرب من القرن، وكيان بلا قيمة أو جدوى سياسية أو إقتصادية، مجرد dead wood أو خيال مآتة لا يصلح حتى لإفزاع الطير كما يفعل خيال المآتة. والحالة هذه، لا مفر من ذهاب هذه المؤسسة العاقر وأمينها العام إلى متاحف التاريخ، ولينشأ فى مكانها جسم محدد المعالم، ذو رؤية محددة وأهداف آنية متفق عليها ويمكن الوصول إليها وفق جدول زمني موسوم، استشرافاً للهدف الأسمي بعيد المدي وهو الوحدة الإقتصادية والسياسية بين كافة الدول العربية من المحيط إلى الخليج. ولنترك جانبا الشعارات الرومانسية الجوفاء والبكاء على الأطلال والنوستالجيا الخاملة وأحلام الشعراء والتمسك بالقديم فقط لأننا نخشى الجديد ونتهيب المخاطر والتحديات، ولا سبيل للتقدم الإقتصادي والاجتماعي والسياسي بدون خوض مثل هذه المخاطر والتحديات، وبدون تجديد الدماء في مؤسساتنا الشمطاء العجفاء ورفدها بالشباب النابه المتوثب، من أجل غد مشرق سعيد لمجمل الشعوب العربية، بيضها وحمرها وصفرها وسمرها.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com