ليلى أبوالعلا: رِوايةٌ رًوْح النّهْـر .. وَمٍـنَ المـاءِ كُـلُّ شَـيءٍّ حَـي
جمال محمد ابراهيم
2 May, 2024
2 May, 2024
جمــال مُحمّــد ابراهــيْـم
(1)
روح النهر العتيق . . أهوَ نهـر النيل الأبيض الذي تعلقتْ به عـينا الصبية "أكواني" بنت قبيلة الشلك في جنوبي السودان، فشبّتْ وتأجّجتْ عاطفتها نحو تاجر قدمَ من الشمال مغامراً إلى الجنوب. جاءها سباحة عكس تيار موج نهـر النيل الأبيض القادم من بحيــرات أفريقيا السوداء متجهاً في مساره الجغرافي الحتمي صوب البحر الأبيض المتوسط. .؟
أم هي وقائع جرتْ حول ذلـك النهـرالأبيض الخارج من ســواد منابعه الأفريقية إلى بياض مصــبّاته المتوسطية ، ذلك الذي عبر عليه الفتى التاجر المغامر حتى أوصلته الرحـلة الطويلة العكسية من فـوق موجــه الجنوبي ليشــقّ صحــراء العتمـور، منطلقـاً إلى شــمال السودان . .؟
أم هـوَ ذلك النهر الذي مخَـرتْ في مياهـه بواخـر الغــزاة الغرباء فحملتْ حكاماً وجنوداً وتجارا إلى الأراضي التي شـقها ذلك النهر كما السيف لتنفتح بسـاتين وحقول وثروات . .؟
أم هـوَ النيل الذي وقف قبالته رجلٌ غريبٌ إسمه غوردون باشا، يحاصره وهو على سطح قصره الأبيض أهل ذلك النهـر، يطالع عبر منظاره أمواج ذلك النهر، عسى أن تصل بواخـرٌ ينتظر قدومها من وراء الأفـق لتنقــذ حياته. . من محاصريه جنــود مهدي السودان الغريب أيضاً ؟
يعاين "غوردون" عبر منظاره إلى النهـر، لكن روح النهر لا تستجيب لعينيه اللتين تاقـتا لترى امبراطورية عجــوز شمسها قد غابت ، ويريد لبواخرها أن تهرع عكس تيار نهر النيل لنجــدته في مدينـة إسمها الخرطوم، يحاصرها ســوداني ثائـر إسمه محمد أحمد المهدي.
تلك خلفيات رواية ليلى أبوالعلا روح النهر العتيق التي صدرت مترجمة إلى العربية عن دار المصوّرات للنشر بعد أن صدر أصلها الانجليزي العام الفائت في لـنــدن .
(2)
رواية "روح النهر العتيق" لليلى أبوالعلا (2023)، رواية تسبر أغـوار التاريخ القــريب لبلاد صَعـُبتْ هوية ساكنيها على التشكّل السَّوي . بل هي أمَّـة استعصتْ عواطف أهليها على التلاقي حول مُمسكات من عقائد وعادات وتقاليد، أصولها المتناقضة في الزمان والمكان، بين فراعنة سُـمر، وأهـرامات شــيّدوها أصغرحجماً عـمّا تميّزت به أهــرامات فراعـنة الشـمال الأفريقي في الجيزة المصرية، وهي ذات أحجام أكبـر. . ثمَّ تتوالى عقـائد أهلـيـهـا بين مسـيحية وإسـلام، وتمازجُ عادات ما قبل تلك العقـائد، عـرباً وأفارقـة ، فتتقلـب في تناقضــاتها ليُكتـبَ لزمانـها تاريخٌ لا ثوابت لهُ، إلا في جغــرافـيا المـكـان ، في وادٍ يشــقّهُ نهــرٌ لهُ قـداســـة الفراديس مثل ما لهُ خلــود الأرواح.
كتب مؤرّخـون كثرٌ أســفاراً عِـدّة، حَـوَتْ موضوعات تتصل بتاريـخ تلك البقـعـة الـتي إسمها السّــودان. سـينمائيون أنتج وا أفلاما تاريخية عن تلك الحقـبة . أذكر لك شريطاً سينمائياً عنوانه "الريشات الأربع" من إخراج "الكساندر كوردا" في ثلاثينات القرن الماضي، ويمكن التحرّي عنه في "يوتيوب" لمن أراد، فهو شريط عن حروب المهدية مع الإنجليز. أمّا الشريط الأشهر عن وقائع تلك المرحلة، فهو بعنـوان "الخرطــوم" من بطولة الممثل البريطــاني الكبيـر السير "لورنس أوليفيه" ومعه "شارلتون هيستون" وهما من نجوم ستينات القرن الماضي. تلك آثار عن السودان كما صوّروا قصصه أواخر القـرن التاسع عشر وبواكير أوائل القرن العشرين.
وأشير لك هنا أن الرواية موضوع حديثنا، هي عن ســودانيين عاشوا وقائع فـي تلـك الحقـبة التاريخية، بما يُلقي ظلالا كثيفة على ما وقع لذلك البلد المنكوب لاحقاً بالصِّــرعات وبالحـروب.
وهـو ذات السّــودان الذي تدور الحرب المـاثلة أيامنـا هـذه في ربوعــه المُدمّــرة . إنّ اســـم "السّودان" ليس مقصــوداً لمدلولاته اللونية فحسب ، كإطلاقك الصِّـفة على أناس تناقض ألوان بشـراتهم اللـون الأبيـض، أوتفــارق ســـحنات وجوههم الخشــنة نعومة الوسـامة. ذلـك بُعـدٌ يسـتوجب الإلتفات إليه دون شــكّ، ولكنّـا نتجاوزه حتى وإنْ كانت له علاقـة بموضـوعنا الآنـي، وذلك تجنباً لإلتباس قد تأخذنا إليه بوصـلة رواية "روح النهر العتيق" المبهــرة إلى اتجاهات وتوجّهــات أبعــدَ مِــن موضوعنا .
(3)
وإذ أحـدّثك عن رواية "روح نهر العتيق"، أقـول لك بداية إلى أنَّ المتـرجــم الحصيف أضاف على عنوان الرواية الأصلي صِـفة إلى ذلـك النهــر الذي عنته مؤلفة الرواية ولم تكن من صنع المؤلفـة. غير أن تلك الصفة جاءتْ متسقة اتسـاقاً ذكياً لإضفاء شـيء من القداسـة على ذلـك النّهــر. وأنّي لـو خُيّـرتُ لاسـتصحبتُ للعـنـوان صفـتيـن تتصلان بنهـر الـنيـل ذاك، وأول تلك الصفات أنه "سليل الفراديس" وهي صفة صاغها شاعرالسّـودان العبقري التجانـي يوسف بشيرفي ثلاثينات القرن الماضي، أو صِفَة الخلــود لنهـرٍ هو "النهـر الخالــد" الـذي أبدعه عملاً موسيقياً مُبهراً الموسيقار المصري الـرّاحل محمد عبدالوهاب، فقد خلّد روح نهر النيل إيقـاعـاً ولحنا. غير أنّي رأيتُ أنّ ابداع الروائيـة السودانية العالمية ليـلى أبوالعلا، قـد تجـذّر فـي الجغرافيا بمثل تجـذّره في التاريخ، إذ جعلـتْ النهـرَ بطلاً حقـيقـياً في روايتـهـا البديعة، يتنفّـس روحاً وخلودا .
(4)
جـرتْ وقائع الرواية في معارضة حكم تركي سيطر على بلاد السّــودان لستة عـقــود زمانية بإسم الخلافة العثمانية في الآستانة (1820 -1885)، وهي حقبة يعرفها السّـــودانيون أهل البلاد في تاريخهم الشفاهي بـِ"التركية السّــابقة". الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها هي عمل روائي رفيع للروائية السودانية الأولى التي تعرفها الأوساط الأدبية العالمية، الأستاذة ليلى أبوالعلا. روايتها تجربة إبداعـية فيما يعرفه النقـاد بالتخييل التاريخي، أي السّـرد الروائـي الخيالي القائم على وقائع التاريخ.
أمران مهمّان ألفت النظر إليهما في تناولي لعمل ليلى ايوالعلا الأخير "روح النهر العتيق"، أولهما اللغة وثانيهما التاريخ. .
(5)
لنبدأ الحديث عـن اللغــة . .
كنتُ وأنا مقيم في لندن قد التفتُّ لنبأ فوز ليلى أبوالعلا بجائزة "البووكــر" الأولى في بريطانيا عن قصّة قصيرة لها باللغة الإنجليزية عـنوانها "المتحـف"، فعجـبتُ أول أمــري لسودانية مبدعة لا تكتب بلغة أهلها العربية ، ثم تنال كلّ هذا القدر من التقدير في عاصمة اللغة الإنجليزية، وهي القادمة من السودان. لكن ســرعان ما أدركتُ أنها سودانية باللسان والأصل والإبــداع، فهــي لأبٍ سوداني وأمٍّ من أصل مصـري. هي كاتبـة وروائيــة تكتـب بإنجلـيـزية حملــتْ بصمـتها السّودانية الخاصّة. أدركتُ يقيناً لحظتها، أنّ الأدب والابــداع هو أدب وإبداع فحسـب، وما أســاليب إخراج ذلك الابداع إلا وسائل لا تنتقص من ألق ذلك الابداع ، إن لم تزده بهاءاً وإبهـاراً. في العـالم الذي اختصر الزمان والمكان عبر تواصل واتصال، أزال بإيقاعٍ متواتر كلَّ حُجُب العزلة بين المجتمعات، وأنهى الحدود الافـتراضية بقـدر كبير. في الحقيـقة أنّ الكــون صار قرية افتراضيـة، إذ الوجــود الإنســاني مُتجـهٌ إلى اجتمــاعٍ وتوحُّـد لا إلــى تفـرّق وانعزال، وأن تجارب البشرية تماهَــتْ وتشابهَتْ وتماثلتْ، ولم تعد اللغات إلّا جسـوراً يعبـر من فـوقــها ومن تحتها الابداع الإنساني رائحاً غادياً ، في تمازج خلّاب وتلاقٍ كمثل السِّـحر. نحــن الآن في عالم تعـولم وقــد أطاحت ثورات التواصل الرقمي بكامل الجـــدران العـازلـة بين المجتمعـــات البشرية، وتهـاوت أسوارها القديمة . .
(6)
لقد عرضتْ لي بالصدفة المحضة، قصّة قصيرة لليلى أبوالعـلا، أعجبت فعـملــتُ على ترجمتها إلى العربية ، ثمّ علمـتُ من بعد، أن ليلى فازت في عاصمة اللغة الإنجليزية بجائزة "بووكر" الأدبية المرموقة. أمّا القصة التي قمت بترجمتها وسعيتُ لنشرها ، كان عـنوانها "الأيام تدور". أعجبت ليلى بالترجمة ، فتحمّستُ لنشرها في صحيفتين يوميتيـن مميّزتين تصدران في لنــدن، هما صحيفة "الحـيـاة" وصحيفة "الزمـــان"، وكان ذلك في عام 2001م.
ثم توالـت أعمال ليلى ، إبداعا روائيــاً أخذ وجهته راكزاً نحو العالمية ، ومــا ذلـك إلا لوثوقـية إبداعها، ولرصانة صوتها الأدبي القويّ، ولبراعتها في استلهام بيئة نشـأتْ فيها، فتغـذّى إبداعـها ونما وانطلق من عمق تجاربها الحياتية، إذ تجـذّر قلمها في واقع عايشته وعاشت فيه. .
نشير بداية إلى أنّ الروائبة أبوالعــلا وهي تكتب قصصاً وروايات باللغة الانجليزية ، شـــقت آفاقا عراضاً أوصلت إبداعها إلى تخـوم العالمية، أدباً روائيا لافتاً ، فكسـبتْ مكانــة مستحقة في خارطة الأدب العالمي. لم يبتعد إبداعـها عن البيـئة الاجتماعية التي نشأت فيها ، فاستقامتْ تجــربتــها الحياتيـة والإبداعية فيها، وظلتْ مصدرإلهامٍ مُهـمٍّ لأكثر أعمالها الروائية، قبولاً وانتشارا. للقاريء السوداني الذي عرف ليــلى أبوالعلا بعد أنْ التفتتْ إليها أقلام نقاد كـبار في بريطانيا وفي عموم أوروبا والأمريكتين، أن يسأل لِـمه تكتـب باللغة الانجليزية وهي سودانية نشأت في بيئة ثقافة عربية ، فما أحراها أن تبـدع بلغتها العربية لا بلغة أجنبية . . ؟
وذلك سؤال مشروع . لكن الصدفة وحدها هي التي قادتْ ليــلى لتجــد أنّ لإقامتها الطويلة التي امتدّتْ لسنوات في بيئة تسوْد فيها اللغة الإنجليزية، بل هيَ مهـد تلك اللغة تاريخاً ومكاناً، قادتها إلى الإلتفات لتنمية قدراتها الإبداعية حيث هي تقيم مع أسرتها إقامــة دائـمة. وجدت في "أبردين" باسكتلندا ، دفـئاً افتراضياً في بلادٍ تموت حيتانها من البرد، وهي قادمة من السودان بلدها الذي يكاد يموت إنسانه من حـرِّ شمس النهار. قدرات الإبـداع وإن حملتها ليـلى بتواضعٍ لم ينتقص من ثقتها بما ملكتْ منذ أيامها في الخرطــوم، ما احتاجت معــه - وهي في عاصمة البرد- تنبيهاً ولا محفزّات . عــزّزتْ ليــلى قدراتها بتدريب وصقـل وبتأهيل إبداعي، ثم من حسـن حظِّ أقـدارها أن تهيأتْ لها رعاية من أهل تلك اللغـة ، فأجـادتْ وبرعتْ .
ثم جاءت الترجمات تقرّب ليلى إلى قرائها السودانيين.
(7)
وجدتُ صديقي العزيز بدر الهاشمي، والذي امتهن الترجمة وهو عالـم ونطّـاســي مُبــدع متفوّق في مجاله طبِّ الأدوية، قد انقطع لترجمة معظم أعمال ليلى الروائية الأخيرة : وأهـمهـا "مئذنة في ريجنت بارك" و "حارة المغنى: ولى المسا" ، وغيرهما. لك أن لا تعجب إنْ رأيتَ الأستاذ الجامعي السوداني بدر الدين الهاشمي، وهو عـلّامة في تخصّصِه العـلـمــي الصّــارم، وقد امتهن الأدب والترجمـة هواية أكثر من مهنة ، فإنّ الشــيخ الرئيس ابن ســينا قد كتب في الطب كما في الفلسفة والموسيقى، بأعمق ما كتـب.
رواية ليلى "روح النهر العتيق" ترجمها الهاشمي وراجعها معه السفير الأديب خالد فرح ، فجاءت الترجمة رصينة مُرضية.
ذلك مجمل قولي حول اللغــة التي كتبت يها ليلى أبوالعلا روايتها فماذا عن التاريخ ؟
(8)
عـن التــاريـــح. .؟ أجل. . ثم ماذا
إمتدت حقبة الثورة المهدية في السودان رسمياً لنحو عقدين ، منذ بداياتها الجنينية وحتى استقامة أمورها دولة مستقلة منذ عام 1885م، ثم انقضاء أجلها على يد غُزاة آخرين في عام 1899م. قامت الدولة في ذلك الكيان الجغرافي شبه المحدّد شـمالاً وجنـوباً ، شـرقاً وغـرباً، وشكّلت وجوداً سياسياً للسودان هو الأقرب للرقعة الحالية في تخوم الشرق الأوسط المجاورة أواسط القارة الأفريقية . على تلك الخلفية جرت وقائع رواية روح النهر العتيق ولامستْ الجذور القديمة الحسّاسة في بلادٍ تنوّعتْ أعراق ساكنيها وسحناتهم وألسنتهم وعقائدهم . تلك بلاد فيها للفراعنة جذور، ولها في المسيحية تاريخ، ولها في الإسلام مئات من سنوات الرّسوخ والتمكّن. ومع كلّ ذلك التنوّع فإن الثابت هو الواقع الجغرافي وذلك النهر الذي نشأت في واديه حضارات وثقافات .
تلامس رواية ليلى أبوالعلا حساسيات التمازج شـبه المستحيل بين زيت وماء . أو قل التباس التلاقي العنيد بين أسـوَد وأبيض. أو هو البكـاء في لحظة الفرح أوالمحبّة في غِمار الكراهـية. . فهل يكون الانصهار ممكناً إزاء ذلـك الإضطراب وتلك الزعازع . .؟
لا. . لن أحـدّثك عن رواية ليلى أبوالعلا بأكثر من ذلك ، فإنها رواية تُقـرأ ولا يُحكى عنهـا . لكم أن تبحثوا عن مظانّها فأنتم ملاقـوها. .
القاهرة- 28/4/2024
jamalim@yahoo.com
(1)
روح النهر العتيق . . أهوَ نهـر النيل الأبيض الذي تعلقتْ به عـينا الصبية "أكواني" بنت قبيلة الشلك في جنوبي السودان، فشبّتْ وتأجّجتْ عاطفتها نحو تاجر قدمَ من الشمال مغامراً إلى الجنوب. جاءها سباحة عكس تيار موج نهـر النيل الأبيض القادم من بحيــرات أفريقيا السوداء متجهاً في مساره الجغرافي الحتمي صوب البحر الأبيض المتوسط. .؟
أم هي وقائع جرتْ حول ذلـك النهـرالأبيض الخارج من ســواد منابعه الأفريقية إلى بياض مصــبّاته المتوسطية ، ذلك الذي عبر عليه الفتى التاجر المغامر حتى أوصلته الرحـلة الطويلة العكسية من فـوق موجــه الجنوبي ليشــقّ صحــراء العتمـور، منطلقـاً إلى شــمال السودان . .؟
أم هـوَ ذلك النهر الذي مخَـرتْ في مياهـه بواخـر الغــزاة الغرباء فحملتْ حكاماً وجنوداً وتجارا إلى الأراضي التي شـقها ذلك النهر كما السيف لتنفتح بسـاتين وحقول وثروات . .؟
أم هـوَ النيل الذي وقف قبالته رجلٌ غريبٌ إسمه غوردون باشا، يحاصره وهو على سطح قصره الأبيض أهل ذلك النهـر، يطالع عبر منظاره أمواج ذلك النهر، عسى أن تصل بواخـرٌ ينتظر قدومها من وراء الأفـق لتنقــذ حياته. . من محاصريه جنــود مهدي السودان الغريب أيضاً ؟
يعاين "غوردون" عبر منظاره إلى النهـر، لكن روح النهر لا تستجيب لعينيه اللتين تاقـتا لترى امبراطورية عجــوز شمسها قد غابت ، ويريد لبواخرها أن تهرع عكس تيار نهر النيل لنجــدته في مدينـة إسمها الخرطوم، يحاصرها ســوداني ثائـر إسمه محمد أحمد المهدي.
تلك خلفيات رواية ليلى أبوالعلا روح النهر العتيق التي صدرت مترجمة إلى العربية عن دار المصوّرات للنشر بعد أن صدر أصلها الانجليزي العام الفائت في لـنــدن .
(2)
رواية "روح النهر العتيق" لليلى أبوالعلا (2023)، رواية تسبر أغـوار التاريخ القــريب لبلاد صَعـُبتْ هوية ساكنيها على التشكّل السَّوي . بل هي أمَّـة استعصتْ عواطف أهليها على التلاقي حول مُمسكات من عقائد وعادات وتقاليد، أصولها المتناقضة في الزمان والمكان، بين فراعنة سُـمر، وأهـرامات شــيّدوها أصغرحجماً عـمّا تميّزت به أهــرامات فراعـنة الشـمال الأفريقي في الجيزة المصرية، وهي ذات أحجام أكبـر. . ثمَّ تتوالى عقـائد أهلـيـهـا بين مسـيحية وإسـلام، وتمازجُ عادات ما قبل تلك العقـائد، عـرباً وأفارقـة ، فتتقلـب في تناقضــاتها ليُكتـبَ لزمانـها تاريخٌ لا ثوابت لهُ، إلا في جغــرافـيا المـكـان ، في وادٍ يشــقّهُ نهــرٌ لهُ قـداســـة الفراديس مثل ما لهُ خلــود الأرواح.
كتب مؤرّخـون كثرٌ أســفاراً عِـدّة، حَـوَتْ موضوعات تتصل بتاريـخ تلك البقـعـة الـتي إسمها السّــودان. سـينمائيون أنتج وا أفلاما تاريخية عن تلك الحقـبة . أذكر لك شريطاً سينمائياً عنوانه "الريشات الأربع" من إخراج "الكساندر كوردا" في ثلاثينات القرن الماضي، ويمكن التحرّي عنه في "يوتيوب" لمن أراد، فهو شريط عن حروب المهدية مع الإنجليز. أمّا الشريط الأشهر عن وقائع تلك المرحلة، فهو بعنـوان "الخرطــوم" من بطولة الممثل البريطــاني الكبيـر السير "لورنس أوليفيه" ومعه "شارلتون هيستون" وهما من نجوم ستينات القرن الماضي. تلك آثار عن السودان كما صوّروا قصصه أواخر القـرن التاسع عشر وبواكير أوائل القرن العشرين.
وأشير لك هنا أن الرواية موضوع حديثنا، هي عن ســودانيين عاشوا وقائع فـي تلـك الحقـبة التاريخية، بما يُلقي ظلالا كثيفة على ما وقع لذلك البلد المنكوب لاحقاً بالصِّــرعات وبالحـروب.
وهـو ذات السّــودان الذي تدور الحرب المـاثلة أيامنـا هـذه في ربوعــه المُدمّــرة . إنّ اســـم "السّودان" ليس مقصــوداً لمدلولاته اللونية فحسب ، كإطلاقك الصِّـفة على أناس تناقض ألوان بشـراتهم اللـون الأبيـض، أوتفــارق ســـحنات وجوههم الخشــنة نعومة الوسـامة. ذلـك بُعـدٌ يسـتوجب الإلتفات إليه دون شــكّ، ولكنّـا نتجاوزه حتى وإنْ كانت له علاقـة بموضـوعنا الآنـي، وذلك تجنباً لإلتباس قد تأخذنا إليه بوصـلة رواية "روح النهر العتيق" المبهــرة إلى اتجاهات وتوجّهــات أبعــدَ مِــن موضوعنا .
(3)
وإذ أحـدّثك عن رواية "روح نهر العتيق"، أقـول لك بداية إلى أنَّ المتـرجــم الحصيف أضاف على عنوان الرواية الأصلي صِـفة إلى ذلـك النهــر الذي عنته مؤلفة الرواية ولم تكن من صنع المؤلفـة. غير أن تلك الصفة جاءتْ متسقة اتسـاقاً ذكياً لإضفاء شـيء من القداسـة على ذلـك النّهــر. وأنّي لـو خُيّـرتُ لاسـتصحبتُ للعـنـوان صفـتيـن تتصلان بنهـر الـنيـل ذاك، وأول تلك الصفات أنه "سليل الفراديس" وهي صفة صاغها شاعرالسّـودان العبقري التجانـي يوسف بشيرفي ثلاثينات القرن الماضي، أو صِفَة الخلــود لنهـرٍ هو "النهـر الخالــد" الـذي أبدعه عملاً موسيقياً مُبهراً الموسيقار المصري الـرّاحل محمد عبدالوهاب، فقد خلّد روح نهر النيل إيقـاعـاً ولحنا. غير أنّي رأيتُ أنّ ابداع الروائيـة السودانية العالمية ليـلى أبوالعلا، قـد تجـذّر فـي الجغرافيا بمثل تجـذّره في التاريخ، إذ جعلـتْ النهـرَ بطلاً حقـيقـياً في روايتـهـا البديعة، يتنفّـس روحاً وخلودا .
(4)
جـرتْ وقائع الرواية في معارضة حكم تركي سيطر على بلاد السّــودان لستة عـقــود زمانية بإسم الخلافة العثمانية في الآستانة (1820 -1885)، وهي حقبة يعرفها السّـــودانيون أهل البلاد في تاريخهم الشفاهي بـِ"التركية السّــابقة". الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها هي عمل روائي رفيع للروائية السودانية الأولى التي تعرفها الأوساط الأدبية العالمية، الأستاذة ليلى أبوالعلا. روايتها تجربة إبداعـية فيما يعرفه النقـاد بالتخييل التاريخي، أي السّـرد الروائـي الخيالي القائم على وقائع التاريخ.
أمران مهمّان ألفت النظر إليهما في تناولي لعمل ليلى ايوالعلا الأخير "روح النهر العتيق"، أولهما اللغة وثانيهما التاريخ. .
(5)
لنبدأ الحديث عـن اللغــة . .
كنتُ وأنا مقيم في لندن قد التفتُّ لنبأ فوز ليلى أبوالعلا بجائزة "البووكــر" الأولى في بريطانيا عن قصّة قصيرة لها باللغة الإنجليزية عـنوانها "المتحـف"، فعجـبتُ أول أمــري لسودانية مبدعة لا تكتب بلغة أهلها العربية ، ثم تنال كلّ هذا القدر من التقدير في عاصمة اللغة الإنجليزية، وهي القادمة من السودان. لكن ســرعان ما أدركتُ أنها سودانية باللسان والأصل والإبــداع، فهــي لأبٍ سوداني وأمٍّ من أصل مصـري. هي كاتبـة وروائيــة تكتـب بإنجلـيـزية حملــتْ بصمـتها السّودانية الخاصّة. أدركتُ يقيناً لحظتها، أنّ الأدب والابــداع هو أدب وإبداع فحسـب، وما أســاليب إخراج ذلك الابداع إلا وسائل لا تنتقص من ألق ذلك الابداع ، إن لم تزده بهاءاً وإبهـاراً. في العـالم الذي اختصر الزمان والمكان عبر تواصل واتصال، أزال بإيقاعٍ متواتر كلَّ حُجُب العزلة بين المجتمعات، وأنهى الحدود الافـتراضية بقـدر كبير. في الحقيـقة أنّ الكــون صار قرية افتراضيـة، إذ الوجــود الإنســاني مُتجـهٌ إلى اجتمــاعٍ وتوحُّـد لا إلــى تفـرّق وانعزال، وأن تجارب البشرية تماهَــتْ وتشابهَتْ وتماثلتْ، ولم تعد اللغات إلّا جسـوراً يعبـر من فـوقــها ومن تحتها الابداع الإنساني رائحاً غادياً ، في تمازج خلّاب وتلاقٍ كمثل السِّـحر. نحــن الآن في عالم تعـولم وقــد أطاحت ثورات التواصل الرقمي بكامل الجـــدران العـازلـة بين المجتمعـــات البشرية، وتهـاوت أسوارها القديمة . .
(6)
لقد عرضتْ لي بالصدفة المحضة، قصّة قصيرة لليلى أبوالعـلا، أعجبت فعـملــتُ على ترجمتها إلى العربية ، ثمّ علمـتُ من بعد، أن ليلى فازت في عاصمة اللغة الإنجليزية بجائزة "بووكر" الأدبية المرموقة. أمّا القصة التي قمت بترجمتها وسعيتُ لنشرها ، كان عـنوانها "الأيام تدور". أعجبت ليلى بالترجمة ، فتحمّستُ لنشرها في صحيفتين يوميتيـن مميّزتين تصدران في لنــدن، هما صحيفة "الحـيـاة" وصحيفة "الزمـــان"، وكان ذلك في عام 2001م.
ثم توالـت أعمال ليلى ، إبداعا روائيــاً أخذ وجهته راكزاً نحو العالمية ، ومــا ذلـك إلا لوثوقـية إبداعها، ولرصانة صوتها الأدبي القويّ، ولبراعتها في استلهام بيئة نشـأتْ فيها، فتغـذّى إبداعـها ونما وانطلق من عمق تجاربها الحياتية، إذ تجـذّر قلمها في واقع عايشته وعاشت فيه. .
نشير بداية إلى أنّ الروائبة أبوالعــلا وهي تكتب قصصاً وروايات باللغة الانجليزية ، شـــقت آفاقا عراضاً أوصلت إبداعها إلى تخـوم العالمية، أدباً روائيا لافتاً ، فكسـبتْ مكانــة مستحقة في خارطة الأدب العالمي. لم يبتعد إبداعـها عن البيـئة الاجتماعية التي نشأت فيها ، فاستقامتْ تجــربتــها الحياتيـة والإبداعية فيها، وظلتْ مصدرإلهامٍ مُهـمٍّ لأكثر أعمالها الروائية، قبولاً وانتشارا. للقاريء السوداني الذي عرف ليــلى أبوالعلا بعد أنْ التفتتْ إليها أقلام نقاد كـبار في بريطانيا وفي عموم أوروبا والأمريكتين، أن يسأل لِـمه تكتـب باللغة الانجليزية وهي سودانية نشأت في بيئة ثقافة عربية ، فما أحراها أن تبـدع بلغتها العربية لا بلغة أجنبية . . ؟
وذلك سؤال مشروع . لكن الصدفة وحدها هي التي قادتْ ليــلى لتجــد أنّ لإقامتها الطويلة التي امتدّتْ لسنوات في بيئة تسوْد فيها اللغة الإنجليزية، بل هيَ مهـد تلك اللغة تاريخاً ومكاناً، قادتها إلى الإلتفات لتنمية قدراتها الإبداعية حيث هي تقيم مع أسرتها إقامــة دائـمة. وجدت في "أبردين" باسكتلندا ، دفـئاً افتراضياً في بلادٍ تموت حيتانها من البرد، وهي قادمة من السودان بلدها الذي يكاد يموت إنسانه من حـرِّ شمس النهار. قدرات الإبـداع وإن حملتها ليـلى بتواضعٍ لم ينتقص من ثقتها بما ملكتْ منذ أيامها في الخرطــوم، ما احتاجت معــه - وهي في عاصمة البرد- تنبيهاً ولا محفزّات . عــزّزتْ ليــلى قدراتها بتدريب وصقـل وبتأهيل إبداعي، ثم من حسـن حظِّ أقـدارها أن تهيأتْ لها رعاية من أهل تلك اللغـة ، فأجـادتْ وبرعتْ .
ثم جاءت الترجمات تقرّب ليلى إلى قرائها السودانيين.
(7)
وجدتُ صديقي العزيز بدر الهاشمي، والذي امتهن الترجمة وهو عالـم ونطّـاســي مُبــدع متفوّق في مجاله طبِّ الأدوية، قد انقطع لترجمة معظم أعمال ليلى الروائية الأخيرة : وأهـمهـا "مئذنة في ريجنت بارك" و "حارة المغنى: ولى المسا" ، وغيرهما. لك أن لا تعجب إنْ رأيتَ الأستاذ الجامعي السوداني بدر الدين الهاشمي، وهو عـلّامة في تخصّصِه العـلـمــي الصّــارم، وقد امتهن الأدب والترجمـة هواية أكثر من مهنة ، فإنّ الشــيخ الرئيس ابن ســينا قد كتب في الطب كما في الفلسفة والموسيقى، بأعمق ما كتـب.
رواية ليلى "روح النهر العتيق" ترجمها الهاشمي وراجعها معه السفير الأديب خالد فرح ، فجاءت الترجمة رصينة مُرضية.
ذلك مجمل قولي حول اللغــة التي كتبت يها ليلى أبوالعلا روايتها فماذا عن التاريخ ؟
(8)
عـن التــاريـــح. .؟ أجل. . ثم ماذا
إمتدت حقبة الثورة المهدية في السودان رسمياً لنحو عقدين ، منذ بداياتها الجنينية وحتى استقامة أمورها دولة مستقلة منذ عام 1885م، ثم انقضاء أجلها على يد غُزاة آخرين في عام 1899م. قامت الدولة في ذلك الكيان الجغرافي شبه المحدّد شـمالاً وجنـوباً ، شـرقاً وغـرباً، وشكّلت وجوداً سياسياً للسودان هو الأقرب للرقعة الحالية في تخوم الشرق الأوسط المجاورة أواسط القارة الأفريقية . على تلك الخلفية جرت وقائع رواية روح النهر العتيق ولامستْ الجذور القديمة الحسّاسة في بلادٍ تنوّعتْ أعراق ساكنيها وسحناتهم وألسنتهم وعقائدهم . تلك بلاد فيها للفراعنة جذور، ولها في المسيحية تاريخ، ولها في الإسلام مئات من سنوات الرّسوخ والتمكّن. ومع كلّ ذلك التنوّع فإن الثابت هو الواقع الجغرافي وذلك النهر الذي نشأت في واديه حضارات وثقافات .
تلامس رواية ليلى أبوالعلا حساسيات التمازج شـبه المستحيل بين زيت وماء . أو قل التباس التلاقي العنيد بين أسـوَد وأبيض. أو هو البكـاء في لحظة الفرح أوالمحبّة في غِمار الكراهـية. . فهل يكون الانصهار ممكناً إزاء ذلـك الإضطراب وتلك الزعازع . .؟
لا. . لن أحـدّثك عن رواية ليلى أبوالعلا بأكثر من ذلك ، فإنها رواية تُقـرأ ولا يُحكى عنهـا . لكم أن تبحثوا عن مظانّها فأنتم ملاقـوها. .
القاهرة- 28/4/2024
jamalim@yahoo.com