ماذا وراء التكفير؟
7 September, 2009
بسم الله الرحمن الرحيم
ralsadig@hotmail.com
حينما نزل ديننا الحنيف على محمد الحبيب وفي أيامه الأولى جاء بمكة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ). وفي السورة حوار هين لين ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ، وبالمدينة حينما أقيمت الدولة جاء (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)، وظل الحديث عن الكفر حيثما كان كحالة جزاؤها أخروي إلا للذين يحاربون الله ورسوله ردا على العدوان أو سعيا لتحقيق حرية الدعوة، وفي زمان ما من أزمنة المسلمين جاء الحديث عن كفر المرتد، بينما القرآن يذكر الذين يكفرون ويبدلون دينهم ولا يذكر لهم عقوبة دنيوية، والسيرة تذخر بالحديث عمن بدلوا دينهم ولم يقتلوا حتى ممن هاجر إلى الحبشة.. فالكافر صراحا بواحا نفسه من حقه الكفر إن أراد في هذه الدنيا ويجد حسابه العسير في الآخرة وقد قالها القرآن واضحة (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)؟ هذا عن الكفر البواح ومن قالها بوضوح أنه لا يؤمن بالله، فماذا فيمن لم يبح بكلمة الكفر ولم ينكر الديانة، وهذا السؤال ليس ترفا فكريا على نحو: إلى أين يتجه من يصلي فوق الكعبة؟ بل لأن التكفير صار سنة البعض في بلادنا: بضاعة مزدهرة فلماذا؟ من أي سوق شريناها؟ وإلى أين تقودنا.. أسئلة تمسك بعضها برقاب بعض!
أسهم التكفير تشير اليوم إلى الحزب الشيوعي، وهي أسهم لم تفارقه البتة منذ ندوة كلية التربية في ستينيات القرن الماضي والتي كان من مآلاتها حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان والأزمة التي تفاقمت حتى جاءت بانقلاب مايو بتنظيم يسمى "الضباط الأحرار" محمول على أكتاف شيوعية. حلقات شريرة كالتهميش الذي يؤدي للحرب، والتكميم الذي يؤدي للانقلاب، والجوع الذي يؤدي للكفر، والحرمان الذي يؤدي للجريمة، حلقات كلها تمسك بتلابيب بلادنا وتتهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولو أردت ألا تشغل بالك بها، فلا تسر في الشارع لكيلا تحس فقدان الأمان، ولا تذهب للمناسبات الاجتماعية تتجاذب أطراف الحديث وتسمع بوقع ما يدور، وحتى لو قبعت في دارك فربما صرت مقتولا كقتلى أغسطس المنصرم في أسباب تافهة: خلافات مالية أو سياسية أو لمجرد السرقة لقاء دنانير كنت لتعطيها عن طيب خاطر لتنقذ عنقك!
لقد وثق الأستاذ كمال الجزولي في كتابه (الشيوعيون والديمقراطية: من أجل الشراكة أم لذود الطير عن مر الثمر) لحادثة السيتنيات وأثبت كيف تبرأ الشيوعيون من قول القائل اللعين، ولكن كل ذلك لم يجد فقد كان الهياج العاطفي قد بلغ قمته ولم تعد الجماهير تفرق بين الحق والباطل. والحقيقة التي أثبتها الدكتور عبد الله علي إبراهيم في كتابه (الشريعة والحداثة) كانت تظهر بوضوح أن تلك الهجمة كانت مدفوعة بالسياسة فالأخوان المسلمون كانوا المنافسين التقليديين للشيوعيين في المدارس والجامعات، والوطني الاتحادي كان منافسهم في نيل أصوات الطبقة الوسطى في المدن، والبقية كانوا يسيرون خلف ركب التكفير ذلك مدفوعين بعاطفة دينية أججتها الشائعات المنقولة والنار التي أشعلتها شرارة قول مأفون لم يكن للشيوعيين أن يحملوا وزره وقد نبذوه، وليس ذلك كله إلا نوعا من الغرر، والتدليس، وليس من الدين في شيء.
لقد قالها البروفسور الطيب زين العابدين في لقاء أجريناه معه حول التعايش الديني في السودان أيام كنا نحرر صفحة الجمعة الجامعة بصحيفة "أجراس الحرية" قال إننا شعب متسامح والتكفير الذي يبرز بين الحين والآخر كان دائما بأسباب سياسية. ولمصالح سياسية، وهي حقيقة حق لنا أن نستصحب معها مصطلح الإمام المهدي عليه السلام: علماء السوء. آلة للسلطة تتخذها للتهويش والتهميش والتخريش حينما تريد. حينما يقوم حزب أو زعيم سياسي بما لا تهوى يهوي على رأسه فأسهم الباطش فتتخلل سمومه جسد المجتمع وتملأه حقدا وكراهية.
في ربع القرن الأخير وجهوا سهامهم يمنة ويسرة. في 1993م عقب إعلان نيروبي بين حزب الأمة والحركة الشعبية رموا الحزب وقيادته بالكفر للاتفاق على المواطنة أساسا للواجبات والحقوق في الوطن، ودارت الدائرة فإذا هم يتخذونها كذلك. وفي2003م من جديد عقب اتفاق نفس الحزبين بالإضافة للاتحادي الديمقراطي على "إعلان القاهرة"تم التكفير من جديد. وفي نفس الوقت صدر بيان من مجموعة من "العلماء" منهم بطل التكفير الجديد (محمد عبد الكريم) بعنوان: فتوى العلماء في حكم الانتماء إلى الجبهة الديمقراطية وأفعالها الكفرية وواجب المسلمين نحوها.
وفي 2006م كفروا الدكتور حسن الترابي الذي كانوا يتسابقون لمدحه يوم أمسك بزمام السلطة وقبل أن يتنكر له تلامذته الذين وإن خرجوا عليه فلم يخرجوا منه أو لم يخرج منهم فلا زلت ترى في كل صاحب ذرة من فكر لديهم لفتة أو لمحة منه. وفي 2009م من جديد هجموا على الإمام الصادق المهدي ووجهوا عليه منابر المساجد الناعقة بالفتنة، ووزعوا شرائط الكاسيت وكانت هجمة مرتبطة بنشاط سياسي كبير قام به الحزب الذي يرأسه بعقد المؤتمر العام السابع. وأخيرا وأيضا بارتباط بنشاط سياسي: هو افتتاح دار الحزب الشيوعي بالجريف غرب تم إصدار بيان بتكفير الشيوعيين وكان الصدام الدامي في دار الحزب بين منسوبيه ومهووسي التكفير في الثلث الأخير من أغسطس المنصرم.
هذه الحالة لا نود معها أن نخوض في نصوص الدين لنثبت أنه براء ولا نحاورها فكريا فهي لا تقف على قدمين أمام أدنى درجة من الورع أو اتقاء الله. إنها نوع من التدافع الكريه بين الناس حينما يوصلون الخلافات الحياتية العادية أو يخلطون فيها المنافسات الانتخابية المرجوة بمواقف حدية تهرق فيها الدماء البريئة. اختلف معي، أكفّرك الليلة وأدق عنقك غدا! لو كان الخلاف سياسيا! اختلف معي، أتوعدك الليلة، وأدق عنقك غدا! لو كان الخلاف ماليا! (حادثة المرحوم فضل الله تبيدي خير مثال)
يسير ركب الدولة في السودان غير آبه بالدوامة التي تحت أقدامنا والتي تجرنا لأغوار سحيقة. هل يمكن السير باتجاه انتخابات أي انتخابات لها أدنى نوع من الجدوى وهذا التكفير يسد مسام التنافس السليم؟ هل يمكن حقا السير باتجاه انتخابات والناس في هذا الحال المزري من الفقر والجوع وانعدام الأمن وقلة الصبر ونفاذ البصيرة؟
قال الدكتور عمر عجيمي الأستاذ بجامعة الخرطوم في ورشة (الأحزاب والحملات الانتخابية) الأسبوع الماضي إن نظرة سريعة للواقع الاجتماعي والسياسي نجده واقعا ينتظم فيه الفقر إلى حد كبيرا جدا وبمعدلات تصل إلى 80%، يتميز بعدم التوازن بين المركز والهوامش المختلفة به فقر متسع وزيادة في عدم التوازن التنموي الإقليمي، في بيئة اجتماعية هشة للغاية صارت قابلة لكل أشكال العنف وتتميز بالاستقطاب الجهوي والعرقي والإثني والديني، ويتم فيها استنفار الهويات والإثنيات وبعث القبلية حتى أصبحت إشكاليات الهوية من الواقع الحياتي اليومي للسكان، كذلك الخوف الدفين فكلنا يمشي لبيته وهو خائف على أطفاله وبيته خوفا قد لا تكون له المبررات ولكنها مخاوف نفسية أصبحت جزءا من بيئتنا الاجتماعية وهي قابلة للاشتعال بأسباب قد تكون متخيلة غير حقيقية، وهذا كله ناتج لانهيار نظم الحكم الراشد وفشل مؤسسات الدولة أن تقوم بمهامها تجاه المواطنين، وانهار العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.
إنه خوف له المبررات يا دكتور. اقرأ الدار، أو الأسطورة، أو حكايات، لا تقف كثيرا لدى أخبار الجرائم لأن الخوف قد يتحول ذعرا. بل اقرأ الصحف السياسية ذاتها ستسمع عن باد بويز (أولاد سيئين) وآوت لوز (خارجون على القانون) وغيرها من أسماء العصابات ليس في الخرطوم بل مدني البريئة أو هكذا نظن.
هذه المظاهر: أن تشهر في وجهي سكينا سواء باسم الدين أو باسم الدينار، باسم الله أو باسم اللهو، باسم الحق أو باسم الحقد، أسماء أو دوافع تتخذها أنفس مريضة في مجتمع مريض لتهرق الدماء التي حرمها الله، الدين، الحق إلا بالحق!
إنها مظاهر مرض، أعراض لمصيبة أدركتنا وخلطت الحابل بالنابل.. فلتدركنا رحمة الله.. فلتدركنا.. إنها بلاد تستحق رحمتك ولو لم تكن تستحق فرحمتك وسعت كل شيء يا رب: ألا تسعنا؟