محطات الاستراحة على “درب الأربعين” في غرب السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 




Roadside Comforts: Truck Stops on the Forty Days Road in Western Sudan
Prof Kurt Beck بروفيسور كيرت بيك
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لمقتطفات من بعض ما جاء في مقال عن محطات الاستراحة على طريق (درب) الأربعين في غرب السودان نشره بروفيسور كيرت بيك أستاذ علم الانثربولوجي في جامعة بايروث Bayreuth الألمانية في المجلة الأكاديمية العريقة "أفريقيا" في عددها رقم 83 الصادر في عام 2013م.  وتدور اهتمامات بروفيسور بيك البحثية حول البنية الاجتماعية للمجتمعات غير الصناعية، والمجتمعات الاسلامية في أفريقيا والشرق الأوسط والسودان. وكانت هذه الورقة البحثية نتاج زيارات ميدانية عديدة لغرب السودان في بداية ومنتصف الثمانينات والتسعينيات، وزيارتين أخيرتين في بدايات عامي 2011 و2012م.وزود الكاتب مقاله بصور للمركبات (اللواري) السفرية المتجهة من شمال كردفان صوب دارفور، وأخرى لمحطات التوقف في "أم بادر"، وصورة لسيدة تبيع الشاي والقهوة  في قهوتها الصغيرة في إحدى محطات التوقف على جانبي ذلك الدرب الطويل 

المترجم
**** ************ **********
يتناول هذا المقال العلاقات بين الطرق وما يدور على جوانبها (road to roadside relations) في ما يطلق عليه "درب الأربعين"، والذي يربط العاصمة السودانية بدارفور وما وراءها من الدول (تعرف موسوعة الويكيبيديا درب الأربعين بأنه: "...حالياً يبدأ من أسيوط في صعيد مصر ويمتد حتى الواحات الخارجة ثم يسير جنوباً ماراً بواحة سليمة وبئر النطرون، ويستمر حتى يصل إلى الفاشر في غرب السودان وتقطعه القوافل في أربعين يوماً. وقد ذكر المؤرخون درب الأربعين في معظم ما كتب عن مصر، فقال ابن بطوطه من حد الجنوب عند أسوان كان يمتد الطريق إلى مالي ثم سلجماسة ماراً بدنقلة وهي من البلاد الكبيرة في السودان ومنها إلى سول وهي آخر بلاد مالي ثم على قاعدة كوكو في بلاد البرتو وتمبكتو في مالي، ثم ولاته ومنها إلى كلباسة.  ومن أسيوط كان يخرج إلى السودان الغربي ماراً بالواحات الداخلة والكفرة ويتجه إلى السودان ومنها إلى غانا". المترجم). ويعد هذا الطريق محورا أساسيا للنقل، ويشكل القناة الرئيسة لنقل المواد المختلفة للأراضي الريفية الداخلية ونقل ما تصدره للخارج.
ويتناول هذا المقال تحديدا حركة المرور وتدفقات السير في درب الأربعين، ويصف محطات التوقف المؤقت على جانبيه، والنقل الآمن للبضائع والركاب من الطريق إلى تلك المحطات على جانبيه. ويقدم المقال مناقشة لهذه المواضيع تقود إلى أن محطات الاستراحة على جانبي درب الأربعين تشكل "مؤسسات رئيسة" لتنظيم التبادل والسلوك الاجتماعي (sociality)،ويمكن النظر إليها – كغيرها من المجتمعات الواقعة على الطرق -  كعوالم مصغرة (microcosms) للحياة الاجتماعية.
وتوفر المحطات التي تتوقف فيها الشاحنات والمركبات البنية التحتية (القاعدية) لحركة تدفق البضائع والركاب. فمن ناحية تعد هذه المحطات مداخل للمدن  وللريف السوداني. وهي من ناحية أخرى توفر خدمات عديدة للمسافرين العابرين ومركباتهم. وهي تهيئ بذلك  أمكنة مناسبة لعلاقات آمنة بين الركاب العابرين ومن يعيشون على جانبي الطريق، وتعمل كوسيط بين المقيمين والغرباء. وهذه الأمكنة هي ما يعتمد عليه المسافرون وسائقو المركبات مع مساعديهم في توفير الطعام والمأوي وبضع ساعات من الاسترخاء، خاصة وأنهم يصرمون أياما، بل أسابيع وهم على سفر شاق في ذلك الطريق الطويل.
ويقوم السلوك الاجتماعي بين "الطريق" و"جانبي الطريق"  على أساس بنية تحتية قوامها الضيافة وكرم المعاملة. غير أن هذه "الضيافة" لا تأتي بغير شروط ، بل لها جوانب وأغراض فيها جوانب من تكامل (integration)  وجوانب أخرى فيها فصل / عزل (segregation).إذ أن مواقف الشاحنات والمركبات تلك تعمل  كمؤسسات يقوم من خلالها مجتمع جانبي الطريق بالانفتاح مرحبا بالمسافرين الغرباء العابرين للطريق، ويقوم أيضا بحماية هؤلاء المسافرين (الغرباء) من المقيمين على جانبي الطريق (والعكس صحيح أيضا).  وهذا يتماشى مع النظرية الحديثة في علم الاجتماع والتي لا ترى في الضيافة مجرد توفير المضيف الطعام والمأوي للضيف، بل تراها امتدادا متزامنا لأبعاد السيطرة الاجتماعية والانتماء وإدارة الاختلافات. ويمكن النظر للضيافة على أنها تشمل التبادل الاجتماعي والتقاسم وانشاء أرضية مشتركة. وهي تتضمن أيضا السيطرة على الحدود، وتحديد الفروقات، وتأكيد الملكية. فالطعام يقدم إلى الضيف (عادة في "الديوان") دون أن يسمح له مثلا بدخول مكان إعداد الطعام (التكل / المطبخ) أو الخروج من "الديوان" وفي ذلك تأكيد على حدود كل من "الضيف" و"المضيف".
ويعد "درب الأربعين" أو ببساطة "الخط"  كما يطلق عليه من يعيشون على جانبيه، من أهم الطرق المؤدية من أمدرمان (على النيل) إلى  الفاشر حاضرة دارفور في غرب السودان. ويعد فرعا من الطرق المتقاطعة والتي تربط بورتسودان (على البحر الأحمر) بالمناطق الزراعية في كسلا والقضارف والنهر مع دارفور، ومن هنالك إلى ليبيا وتشاد والدول الأخرى في غرب أفريقيا. ويبلغ طول "درب الأربعين" 800 كيلومتر تقريبا، ويتميز بوعورته وكثرة التلال الرملية على جانبيه وقلة الرقابة الحكومية على امتداده (مقارنة بطرق السودان الأخرى). ويمر الطريق بمناطق شبه صحراوية تصلح للرعي وقليل من الزراعة  في شمال كردفان (حيث يعيش الكبابيش والهواويروالكواهلة  وبعض مجموعات من الزغاوة والنوبة  والكاجا) وشمال دارفور (حيث  يعيش البرتي والزيادية والميدوب). وقامت في تلك المناطق تجمعات سكانية حول الآبار، وازداد عدد سكانها فغدت مدنا صغيرة وذلك منذ عشرينيات القرن الماضي، حين اختيرت لتصبح مراكز إدارية. ورغم قلة التدخل الحكومي في إدارة شئون تلك المنطقة إلا أنها نعمت ولأوقات متفاوتة بأمن وسلام أغرى التجار (الجلابة) والمسترقين المحررين بالاستقرار بها. وشكل اولئك الجلابة مغتربين في حالة شتات وتنقل وحركة دائمة (mobile diaspora)، وامتهنوا التجارة منذ القرن التاسع عشر. ورافق أولئك الجلابة قبائل الرحل في حلهم وترحالهم مع بهائمهم، وذلك بغرض  بيعهم لهم البضائع المستوردة التي يجلبونها، وأهم من ذلك طلبا لحماية تلك القبائل الرحل. ومع توفر الأمن وتكوين مراكز إدارية  استقر أولئك الجلابة في أسواق ريفية نامية. ثم أقيمت فيها المدارس بعد الحرب العالمية الثانية ، وأنشئت بعض المستشفيات بعد عام 1970م، وتوسعت تلك المدن الصغيرة، وصارت خدماتها قريبة ومتاحة للرحل أيضا.
ومنذ الثمانينات وما بعدها صار مجتمع "السوق- المدينة" مقسما – وبصورة واضحة ومحددة وجلية- بحسب الهوية والمهنة. وكان على رأس ذلك المجتمع أبناء الجلابة، والذين كانوا يدافعون عن احتكارهم للتجارة، وهوية "الاغتراب/ الشتات" النيلية، والتي كانوا يحملونها مع الإداريين والمدرسين وغيرهم من الذين كانوا يشاركونهم في الأصل والذائقة و القناعات. وفي ذيل القائمة يقبع فقراء الرحل والمستقرين وحفدة المحررين من الرقيق السابقين.
وتعيش وتنتعش كل تلك المدن الصغيرة اليوم بسبب اتصالها  بطريق الأربعين وبالنهر، إما مباشرة ، أو بواسطة طرق صغيرة فرعية. وهي  تكون بذلك جُزْءً من تكوين مجتمعي سوداني أكبر. ويلعب طريق الأربعين في هذا التكوين المجتمعي، وبعالمه القائم على جانبيه،  دور الشريان المغذي لنقل التقنية،  وتغذية العاصمة على النيل والأراضي الداخلية في الغرب معا. وبما أن تجارة القوافل قد غربت شمسها  ومنذ سنوات، فإن اقتصاد المدن الصغيرة التي ورد ذكرها أعلاه يعتمد الآن كلية على النقل البري بالشاحنات والمركبات. وكثرت الطرق الفرعية والبديلة المؤدية للغرب، وكان سائقو الشاحنات والمركبات يفاضلون بين تلك الطرق بناء على عدد ونوعية محطات الاستراحة المتوفرة في كل طريق.
إن طريق الأربعين هو في الواقع مسار ترابي غير معبد، يمر عبر امتدادات طويلة متتالية من الطين والرمل والحصى. وهو أيضا ليس مسارا واحدا، بل يتكون من عدة مسارات تربط عددا من أسواق  المدن الصغيرة، ومن تلك المدن تتفرع تلك المسارات بحسب مقصد الركاب. وهو أيضا طريق موسمي، فقد تتوقف فيه الحركة لأسابيع عقب هطول أمطار غزيرة.
وهنالك مسارات مختلفة في ذلك الطريق لمن يرغبون في تفادي نقاط التفتيش الحكومية وتحاشي المراكز الإدارية. وكانت تلك المسارات مرغوبة جدا خاصة  في سنوات الثمانينيات والتسعينيات حين فشا تهريب السكر والبترول والدقيق، وعرفت حينها تلك المسارات بـ "درب السكر". وبعد بدء التمرد في دارفور في 2003م جعلت عمليات السلب والنهب بعض مسارات الطريق غير آمنة رغم تخصيص القوات السودانية لفرق مسلحة (من حرس الحدود الذين يتم تعيينهم من قبائل الرحل الموالية للحكومة) لمرافقة الشاحنات والمركبات.
وكان الترحال في السودان، ومن قديم، مغامرة تصاحبها كثير من المخاطر الطفيفة والكبيرة، خاصة في طريق مثل طريق الأربعين. فبالإضافة إلى ما هو متوقع في تلك البيئة القاسية المعادية، خاصة في موسم الجفاف، فإن  في طبيعة الطريق نفسها العديد من المخاطر مثل الأعطال الميكانيكية، وغرز إطارات السيارات في الرمال، والنهب المسلح ، وانقلاب السيارات والشاحنات، والموت. فعادة ما يقوم صاحب المركبة (اللوري)  وقبل أن يبدأ في تشغيلها في طريق الأربعين، بتحويلها إلى "لوري سوداني" بعمل تعديلات وتبديلات في هيكلها (الشاسية) وغير ذلك، وحمل كثير من قطع الغيار وآلات التصليح، مع كمية كبيرة من الماء والأطعمة الجافة. وبالتالي يغدو "اللوري السوداني" كسفينة  في عرض البحر بحارتها وركابها مكتفين ذاتيا، ومحطات توقفها هي موانئ يمكن التزود منها بالطعام والشراب وبعض ساعات من الراحة في الظل.
ويكتظ "اللوري السوداني" في رحلته غير الممتعة بالركاب المتلاصقين فوق (أو بين) أكوام البضائع المختلفة، والتي قد تكون قطيعا من الضأن، أو تمباكا دارفوريا  قوي الرائحة، أو جوالات من الدقيق أو السكر (وهذه تتيح قدرا من الراحة للجالسين فوقها). ولا عجب إذا أن وصف الناس هنا السفر بأنه "قطعة من النار". وهم في تلك الحالة من "العذاب" في أمس الحاجة بلا ريب إلى كل مساعدة وضيافة وحماية  يلقونها على جانبي الطريق.
ويطلق السودانيون عدة اسماء على محطات التوقف علي جانبي طريق الأربعين، فهي "الموقف" أو "المحطة" أو "القهوة". وهذه التسمية الأخيرة تشير إلى المقهى في محطة التوقف والذي يقدم الأطعمة والشاي والقهوة. وتختلف محطات التوقف كما ونوعا وأهمية. فأكبر هذه المحطات تقع في أمدرمان في "سوق  ليبيا" و"السوق الشعبي"  بالقرب من استاد الهلال. وفي تلك المحطات سماسرة "يساعدون" في عملية التفاوض بين الركاب والسائق. ويقوم السائقون ومساعدوهم باستخدام مرافق السوق العادية (مثل المحلات  والقهاوي والمطاعم والمغاسل والحمامات والمسجد) كأي فرد من مرتادي السوق. وقد يأخذون قيلولة قصيرة في ظل أحد المحلات، غير أنه لا ينامون في السوق ولا يعتمدون على ضيافة أحد من مرتادي السوق أو العاملين فيه.
أما محطات التوقف المنعزلة في الصحراء فإنها تختلف عن ما وصفناه أعلاه، فهي محطات صغيرة لا يغشاها غير الركاب العابرين للطريق. وهي تتكون في العادة من  كشك / عشة صغيرة قرب مسار المركبات في الصحراء. وتباع فيها البسكويت والسجائر، وبها ماء يتم الحصول عليه من بئر مجاورة يستخدمها الرحل. ويقدم صاحب المحل الشاي والقهوة للركاب، غير أنه لا يعد و لا يقدم لهم أي طعام، ولكنه قد يتح لهم صنعه بأنفسهم (ويقوم بتلك المهمة "مساعد اللوري" في غالب الحالات).  ومن العادة أن يقدم صاحب المحل الشاي والقهوة مجانا للسائقين، ويعدهم ضيوفا عليه وليسوا مجرد زبائن. وكرد للجميل يترك له السائقون جركن "وعاء" ماء حلو من النيل.
أما محطات التوقف في المدن الصغيرة فهي أكثر "اجتماعية" للمسافرين من محطات التوقف التي تكون على جانبي الطريق السريع، وهي تعد مداخل لتلك المدن الصغيرة. وهي أيضا تقدم البنية التحتية لتبادل تجاري آمن بين السكان والعابرين، وتمثل موقعا للممارسات المؤسسية للاتصال والنقل بين المتحركين (المسافرين) والمستقرين (سكان المدن الصغيرة)، وبين العابر المؤقت والمحلي فيها. وهي بذلك تعد "مساحات حدودية" تؤمن سلامة الجانبين.
وكما تقوم محطات التوقف بوظيفة الأمكنة التي يودع الناس فيها المسافرين ويستقبلون القادمين، والأمكنة التي يسلمون فيها ويستلمون البضائع، ويسمعون فيها الأخبار الواردة مع القادمين، فإنها تعد أيضا  أمكنة لصنع الأخبار والتعليقات الاجتماعية. فهنالك من الناس من يرصد  كل التحركات الهامة للمسئولين وعربات الجيش وشاحنات العون الغذائي، ومرور  الشاحنات التي تحمل فوقها معدات حفر الآبار، وتحركات الفريق الطبي البيطري وكبار التجار والأعيان. ومن فرط الملل يجد البعض متعة ما في معرفة من قدم للمدينة في تلك الشاحنة أو المركبة وسبب مجيئهم. وليس لأحد قادم أو مسافر أي أمل في أن يظل تحركه بعيدا عن أعين الرقباء الكثر. وعند من يعملون في محطات التوقف في تلك المدن الصغيرة  يأتيك بالأخبار من لم تزود، فتجد عندهم الأنباء المثيرة والشائعات والقيل والقال (القطيعة)، وكل ما دار أو يدور أو سيدور في المنطقة من حولهم.
ويلاحظ المرء كثيرا من مظاهر الكرم والضيافة عند من يلتقون في قهاوي أو مطاعم محطات التوقف على الطريق. فتسمع عبارات من شاكلة "اتفضل استريح" أو "مد ايدك"، وعند رفض العرض تسمع من يقول "والله أكلت قبل شوية" ، وقد يرفض الرجل  ذلك العذر فتسمع :" علي الطلاق تاكل". وهذا "التهديد" ليس جادا دائما أو مقصودا حرفيا، غير أنه من غير اللياقة أو الذوق رفض عرض من يحلف بالطلاق.
وباستثناء السيدات اللواتي يعملن في بيع القهوة والشاي، فإن محطات التوقف على الطريق هي عوالم ذكورية خالصة، إذ لا ينبغي لـ"سيدات محترمات" أن يظهرن فيها. فإن أرادت سيدة أو عدد من السيدات السفر على هذه المركبات، فسيقوم "الكموسنجي"  أو السمسار بترتب الأمر مع السائق للمرور على بيوتهن (أو بيوت قريبة من المحطة) وأخذهن منها. ويحتفظ لهن عادة  بمقاعد بقرب السائق. ويختفين عن الأنظار في الأماكن التي تباع فيها القهوة والشاي عند التوقف في المحطات الواقعة على الطريق، ويبذلن جهدا في سبيل عدم لفت النظر إليهن.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء