مديرية بربر في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي بالسودان

 


 

 

 

بيرسي أف. مارتن Percy F. Martin
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الواحد والثلاثين من كتاب (السودان في طريق التطور) The Sudan in Evolution الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، بقلم المؤلف البريطاني بيرسي أف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م).
أورد المؤلف في هذا الفصل جدولا بمديريات السودان الست عشرة، وعدد سكان كل مديرية ومساحتها وما فيها من مأموريات (أقسام).
المترجم
******* ********** *******
تقديم
قسم خديوي مصر إسماعيل السودان لمديريات، ونصب على رأس كل مديرية مديرا مسؤولا يديرها بصورة مستقلة عن الحكمدار (الحاكم العام) الذي يقيم بالخرطوم البعيدة، كما ذكر ذلك سير صمويل بيكر ذلك في كتابه المعنون (الإسماعيلية). وقُسم السودان في بداية الحكم الثنائي عام 1898م إلى 13 مديرية. وفي بدايات عام 1914م فُصلت "جبال النوبة" عن مديرية كردفان ماليا وإداريا وغدت مديرية مستقلة. وأضيفت للسودان الإنجليزي - المصري في عام 1916م سلطنة دارفور وصارت "مديرية دارفور". وبذا صار عدد مديريات السودان 15 مديرية. وتم تقسيم كل مديرية إلى أعداد مختلفة من "المأموريات"، يرأس كل واحدة منها "مأمور"، مع واحد أو أكثر من مساعدي المآمير.
مديرية بربر
تعد مديرية بربر واحدة من أكبر مديريات السودان من حيث المساحة. وكانت إحدى المديريات التي استفادت من النظام الإداري الجديد الذي أدخله إسماعيل خديوي مصر في عام 1870م. وكان مديرها، حسين باشا خليفة، إداريا ذكيا ومتميزا، وكان يوصف بأنه "شيخ عظيم من شيوخ الصحراء" لأنه كان محبوبا جدا من قبل الكثيرين من العرب واسعي النفوذ. غير أن سير ريجلاند وينجت حاكم عام السودان السابق لم يكن يعتقد بأن حسين باشا خليفة كان رجلا نزيها أو مخلصا، فقد وصف في كتابه المعنون "المهدية والسودان المصري Mahdism and the Egyptian Sudan" دفاعه عن مدينة بربر ضد هجوم المهدويين (في 26/5/1884م) بأنه كان دفاعا "فاترا يفتقر إلى الحماسة". وسقطت المدينة في أيدي المهدويين، وحُوكم حسين لاحقا في محكمة عسكرية في القاهرة (في 12/7/1885م)، خلصت إلى أنه بريء مما نُسب إليه.
وبعد سقوط بربر في عهدها التركي – المصري تولى الأمير (أو أمير الأمراء) عبد الرحمن النجومي حكمها، وكانت تلك فترة عصيبة على سكان المدينة. فقد ساد بها السلب والنهب، وكثرت مصادرات البضائع والأموال، وأوقفت التجارة مع الشمال، وطُرد الكثير من سكان المدينة إلى دنقلا وأجبروا على البقاء بها. وكانت التجارة في بربر حتى ذلك الوقت رائجة، وكانت تشمل الملح والحصائر والسلال (القُفَف) المصنوعة من جريد النخل. وكان بيع تلك البضائع من العوامل الهامة في ازدهار أحوال سكان المدينة. غير أن كل ذلك اختفى تماما عقب سقوطها على يد المهدويين، الذين أقدموا على هدم كل أبنية المدينة القديمة، وشيدوا لهم مدينة جديدة قبيحة الشكل شمال المدينة القديمة تنفيذا لأوامر المهدي. وسرعان ما عمت المجاعة المدينة فصار أردب الذرة يباع بمئة ريال.
وكان الدراويش قد استولوا في مدينة بربر عام 1884م على كل أمتعة الجنرال غردون بما تحويه من أغراض شخصية وملفات وأموال منحها له صديقه العقيد واطسون وزوجه في القاهرة. ولم يتمكن غردون من استرداد ممتلكاته تلك قط، وظل في غضون سنته (الأخيرة) التي قضاها في الخرطوم مجبرا على استخدام عملة ورقية فقط. ولم يكن غردون ليفقد أمواله وأغراضه الشخصية لو كانت السلطات البريطانية قد بعثت بها له في الخرطوم عبر كسلا (عوضا عن بربر)، كما أُمرت.
وكانت بربر هي المدينة التي تجمع فيها غالب أثرياء الخرطوم عندما بلغت الأمور في الخرطوم حدا حرجا. وسقطت الخرطوم أخيرا في أيدي الدراويش بسبب خيانة اغريقي اسمه كزي Cuzzi (أورد فريدرك توماس مؤلف كتاب Slavery & Jihad In The Sudan: A Narrative of The Slave Trade, Gordon And Mahdism
بكثير من التفصيل قصة "خيانة" الإغريقي قيسبي كزي، الذي كان يشغل منصب "قنصل بريطانيا" في بربر، وكان يبعث لمصر مع جواسيسه برسائل تصله من غردون سرا. ثم حاول النجاة بنفسه والفرار لمصر، إلا أن الأنصار قبضوا عليه وخيروه بين الدخول في الإسلام أو القتل، فأذعن وأشهر اسلامه فغيروا اسمه لـ "محمد يوسف". بعد ذلك حملوه رسالة إلى غردون بالخرطوم. غير أن غردون أَنِفَ من مقابلته بحسبانه "خائنا"، وكلف العقيد استيوارت بمقابلته. وسمح له استيوارت بالسفر للقاء المهدي في كردفان. وأخبره المهدي في الرهد بأنه سيفتح الخرطوم، ثم يتبعها بمصر وإيطاليا، ووعده بأن ينصبه أميرا عليها... المترجم).
وأزداد عدد سكان بربر العاديين بعد أن أرسل لهم غردون 2600 فردا من الخرطوم لحمايتهم، وكان يؤمل في أن يجعل بربر "ملاذ أمن وسلام ".
وبعد سقوط بربر- نتيجة للخيانة التي أتينا على ذكرها أعلاه – غدت المدينة مصدر خطر داهم على رسول غردون (العقيد استيوارت) وجنوده الباشبوزق، الذين كانوا حينها في طريقهم عبر النيل لمصر ومعهم رسائل من غردون. لذا أمطرت الباخرة الحربية (عباس) والبواخر الأخرى التي كانت تصاحبها مدينة بربر بالقذائف بعد محاولة فاشلة لاستعادتها من أيدي المهدويين.
وبعد دخول جيش سير كتشنر الظافر دوما للسودان عام 1898م، وجد أن مدينة بربر الجديدة التي أقامها الدراويش كانت في حالة شديدة من البؤس، كما هو الحال مع سائر الأمكنة التي سكنها هؤلاء، بل كانت متعفنة وغير صحية بتاتا. وكان ذلك ما دعا لواء ماكدونالد ليحول معسكره من المدينة إلى مكان مناسب يبعد عشرة أميال، ونصبوا فيه خيامهم.
مر زمان على بربر كانت تتكون فيه من ثلاث مدن – ولم يبق من اثنين منهما سوى بعض الأطلال، بينما بقيت الثالثة، وهي بربر الحديثة. وكانت المدن الثلاث تمتد لأميال عديدة موازية للنيل، على بعد نحو ميل من شاطئه. وشيدت بيوت (قطاطي) بربر الحديثة بالطين اللبن أو بالقش. ويدل ما بقي من مباني بربر القديمة التي كانت قد بنيت بالطوب الأحمر الجيد المحروق على وجود بعض الزخرفة فيها. وكانت تربة المناطق المحيطة بالمدينة غنية وخصبة. ولا بد أن تلك المناطق كانت عامرة بالزراعة، وتمد بربر بمختلف المنتجات الزراعية مثل البصل والطماطم والبطيخ والفاصوليا والكوسا وغيرها. وكانت حدائقها ومزارعها مليئة بأشجار النخيل. غير أن جنودنا وجدوا أن تلك المناطق كانت تشبه بقعة مهجورة طاف عليها الطاعون، ووجدوا مدينة بربر أشبه شيء ببَلَّاعَة حقيقية تفوح منها روائح عفنة تحمل (ميكروبات) الجدري والتيفوس. غير أن السلطات أفلحت في وقت قصير في إصلاح أوضاع المدينة، للدرجة التي جعلت السردار نفسه يقيم بها مركز رئاسته في صف واسع من الأبنية محاط بحدائق تمتد لعدد من الفدادين، ومرصع بالكثير من أشجار النخيل. صحيح أنه (وبقية الأوربيين) عانوا كثيرا من إزعاج البعوض والبراغيش الضارة المنتشرة. غير أنه كان في بالهم ما يَشْغَلُهم، وأمامهم الكثير مما ينبغي فعله بخصوص التهديد القادم مع جيش محمود ود أحمد الذي كان يبلغ عدد أفراده خمسين ألفا من المقاتلين المتعصبين. وكانت تلك الهموم لا تترك لهم مجالا للتضجر من تلك الحشرات الصغيرة.
وفي يوم 13أبريل من عام 1898م تحقق النصر للسردار، وأُسر محمود ود أحمد في معركة اتبرا الشهيرة، التي لا يزال الناس يتذكرونها ويتحدثون عنها بعد أن سمعوا بتفاصيلها من أفواه من شهدوها أو أتاهم نبأها.
ويقطن الآن (أي سنة 1919م أو نحوها. المترجم) في مديرية بربر نحو 122,000 نسمة. ويعمل الكثيرون من أهلها في مختلف ميادين التجارة فيما بينهم، وأيضا مع سكان المديريات التي تجاورهم، خاصة في مجال بيع وشراء الضأْن. وكان مركز تلك التجارة هي الدامر، حيث يصدر منها أحيانا ما يزيد على 17,000 إلى 18,000 رأسا كل شهر. وتشمل صادرات المديرية أيضا القمح والشعير والقطن وسعف النخيل والدوم والبروش وغير ذلك. وتقام بالمديرية أسواق (أسبوعية) يغشاها الكثير من الناس.
وتختلف مديرية بربر عن مديريتي حلفا أو دنقلا في أنها تحتوي على مجموعات من الأراضي المروية جيدا يمتد بعضها إلى النيل، وتتراوح مساحة بعضها ما بين 500 إلى 10,000 فدان. وخير مثال على تلك الأراضي تجده في الزيداب. وتمتلك شركة "رابطة (أو اتحاد) مزارع السودان Sudan Plantation Syndicate" مشروعا زراعيا فيها، وفي (دار مالي) الواقعة على بعد يسير من شمال اتبرا. ويملك تلك الشركة السيد نيفيل. ويقف ذلك المشروع دليلا على مزايا الزراعة المروية بالمضخات الحديثة مقارنة بري السواقي غير المجدي اقتصاديا. غير أن بعض المزارع التي أقيمت على نهر اتبرا (مثل تلك المقامة في الفاضلاب ومناوي) لم تصب أي قدر يذكر من النجاح. وربما يعزى ذلك الإخفاق إلى سوء اختيار المواقع التي أقيمت عليها، وعدم ملائمة المحاصيل التي زرعت فيها لطبيعة التربة. ويصح القول الآن - دون مبالغة – أن مستقبل تنمية وتطور مديرية بربر يعتمد على استخدام مجموعة من المضخات (الكبيرة والصغيرة) في المزارع، إذ أن استخدام السواقي للري يهدر الكثير من المياه، فهي لا تسقي من مياه النهر إلا مساحة صغيرة من الأراضي، والثيران التي تجرها قد تكون عرضة للأمراض (مثل الطاعون البقري) والنفوق. وعندما ينخفض مستوى مياه النيل يغدو من المستحيل توفير علف يكفي لتغذية هذه الحيوانات وإبقائها قادرة على العمل.
وتبقى مشكلة توفير مياه كافية للري والحصول على تصديقات للزراعة من معيقات الزراعة في هذه المديرية. وبالنظر إلى تجربة المزارع في (دار مالي بمديرية بربر، وأيضا في جزيرة توتي بالخرطوم بحري) يمكن القول بأن استخدام مضخات الديزل الصغيرة ربما كان هو الأنسب والأكثر اقتصادية هنا. ويمكن تفادي تكوين أرصفة رملية مقابلة لتلك المضخات بربطها أو وضعها على أَطْوَاف (rafts)، واستخدام أنابيب مرنة. وتعمل الحكومة الآن على توفير كميات كبيرة من الزيت ونقلها عن طريق السكة حديد للمناطق التي بها مضخات. وأجريت أولى تجارب الري بالمضخات في منطقة قريبة من بربر، حيث تتوفر كل العوامل الطبيعية المطلوبة. وبلغت مساحة تلك المنطقة 500 فدانا تملكها الحكومة، إضافة إلى 200 فدانا يملكها بعض الأهالي. وأعداد الرجال في هذه المنطقة ليس بالقليل، وكلهم فقراء في حاجة ماسة للحصول على عمل.
ووجد في مشروع زراعة القطن بالزيداب أن الإنتاج سيكون مربحا إذا وفرت المياه للأهالي بمعدل 250 قرشا للفدان الواحد، بينما كان سعر المياه للمحاصيل الأسرع نموا (ونضجا) يتراوح بين 150 و175 قرشا للفدان. ووجد أيضا في مشروعي الزيداب ودار مالي أنه من المصلحة إضافة زراعة الأعلاف (كاللوبيا والبرسيم) لما يزرع من محاصيل معدة للبيع. وكانت تلك الأعلاف تستخدم في تسمين الأغنام. وكانت تلك الحيوانات تُشترى وهي هزيلة قليلة الوزن بثمن لا يتجاوز أربعين قرشا فقط، ثم تباع بعد شهر أو شهرين في سوق الدامر بثمانين إلى مئة قرش، وتباع في مناطق أبعد (كمصر) بمئة وخمسين قرشا للنعجة أو الخروف الواحد.
ومع مرور الأيام بدا جليا أن نوع القطن الذي يزرعه الأهالي في هذه المديرية ينبغي أن يكون من النوع الأمريكي المحسن (مثل صنفي Nyassa Upland وGriffin) إذ أن هذا النوع من القطن هو أقل عرضة للضرر الذي تحدثه فترات البرد الذي تتعرض له المنطقة بين ديسمبر إلى فبرابر من كل عام. وفوق هذا، فالمحصول يأخذ وقتا أقصر ليكتمل نموه، ويحتاج جنيه لمجهود أقل، إذ أن لقطه يكون في منتصف ديسمبر إذا ما تم بذر بذوره في منتصف مايو. أما أفضل قطن مصري (من حيث النمو) يصلح للزراعة في مناطق شمال الخرطوم فهو صنف الأشموني، الذي يُزرع كثيرا في مناطق دلتا مصر، وقد لا تنجح الأصناف المصرية الأخرى غيره. (ورد في كتاب بعنوان "الزراعة المصرية" أن مصر استوردت في عام 1828م صنفا من القطن طويل التيلة هو "سي ايلاند"، وظل يزرع بها لعقد كامل. وفي 1860م ظهر صنف القطن "الأشموني" نتيجة للتهجين الطبيعي بين صنف "سي ايلاند" وصنف آخر هو "محو جوميل". ويعد "الأشموني" هو من أتت منه جميع أصناف القطن المصرية الأخرى. المترجم).
ومن الممكن أيضا القيام بفتح قنوات جديدة للري أو عمل امتدادات لقنوات قديمة من أجل الري بالحياض (basin irrigation). ويفضل أن تتولى الحكومة هذه المهمة من أجل تقليل أعداد العمالة المطلوبة، وشراء معدات جديدة وكبيرة. وهنالك بالفعل قنوات قديمة ما زالت موجودة، وبعضها يروي حوض (كلي) بالقرب من شندي الذي تبلغ مساحته نحو 7,500 فدانا. ويمكن أن يضاف له - تجريبيا وبتكلفة قليلة - مشروع أصغر مساحته 7,500 من الأفدنة (تقع كلي غرب نهر النيل مقابلة تقريبا لمنطقتي كبوشية والبجراوية. المترجم).
وبجانب القطن يمكن أيضا زراعة العديد من المحاصيل المربحة الأخرى مثل الذرة والذرة الشامية والقمح والدخن والشعير واللوبيا والبرسيم والبازِلاّء (البسلة) والفاصوليا المصرية والحناء وغيرها. وعلمت أن النية معقودة على زيادة أعداد أشجار النخيل بالمنطقة. وستدفع الحكومة منحا مالية لمن يزرع من الأهالي عددا معينا من أشجار النخيل. ويُصنف حاليا التمر المنتج من منطقة (أبو حمد) على أنه منخفض الجودة.
وليس هنالك من فرص حقيقية للتطور والنمو في مديرية بربر بخلاف الزراعة وتربية الحيوانات. وأود هنا التذكير بما سبق أن ذكرته من "سوق البهائم" بالدامر. ففي ذلك السوق تباع في غضون ستة إلى سبعة أشهر من كل عام نحو 4,000 – 5,000 من الضأن أسبوعيا، وتصدر إلى مصر بسعر يتراوح بين 75 و100 قرشا للرأس الواحد. ولا شك أنه في الإمكان زيادة أعداد الحيوانات المصدرة في المستقبل. وستزداد أيضا المراعي الغنية بحفر مزيد من الآبار في الأراضي الواقعة جنوب وشرق المديرية. وهنالك أيضا بالمديرية تجارة رائجة في الأبقار، إلا عندما يظهر في قطعانها الطاعون. ويمتلك الكثير من السكان أيضا أعدادا متوسطة من الإبل.
ويمكن أن تغدو المصنوعات اليدوية المعمولة من ألياف أشجار الدوم مصدرا لأرباح كبيرة في المناطق الشمالية. وتمد الآن تلك المناطق سكك حديد السودان بكمية كبيرة من السلال المنسوجة من أشجار الدوم أو النخيل التي تستخدم في تعبئة الفحم الحجري في اتبرا وغيرها من المحطات. وكانت السلة الواحدة تباع بسبع مِلِّيمات، وهذا سعر أقل من السلة المصرية التي يصل سعرها إلى 17 مليما. وينبغي أن تزداد الأعداد المنتجة من تلك السلال إذ أن الحكومة ستحتاجها في عمليات الإنشاءات التي تعتزم القيام بها في مشروع الري منطقة الجزيرة. وعملية نسج السلال هي من الصناعات المنزلية، وينبغي أن تظل كذلك.
وهنالك صناعة صغيرة واعدة أخرى تستخدم مادة نواة ثمرة الدوم. وهنالك الآن مصنع باتبرا يقوم بتصنيع الأزرار من هذه المادة، ويقال بأنه ناجح جدا. ولعل هذا النوع من الاستخدام يدر أرباحا تفوق ما يدره تصدير ثمار الدوم كاملة. وبلغ رجال الأهالي الذي يشتغلون في ذلك الضرب من التصنيع قدرا عاليا من المهارة، فالواحد منهم بمقدوره التعامل مع كمية كبيرة من نوى ثمر الدوم (بحد أقصى 60 قنطارا) في اليوم الواحد، ولا يتقاضى أكثر من مليمين عن كل قنطار. وينال كل عامل بهذه الصناعة ما بين 6 و8 قرشا في المتوسط يوميا. وهنالك تاجر اغريقي ببربر له مصنع يعمل بالبخار لتعبئة أوراق وحبوب السنامكي، وهما من البضائع العالية القيمة.
ومن المدن المهمة بمديرية بربر مدن شندي والدامر وبربر وأبو حمد واتبرا. واتبرا هي مركز إدارة السكة حديد، وبمدينة أبو حمد تقاطع للسكة حديد على خط الخرطوم ووادي حلفا (مصر).
وتقع شندي على الضفة اليمنى للنيل، وجنوب حلفا (التي تبعد عنها عبر النيل 471 ميلا)، و86 ميلا شمال منبع نهر اتبرا. وتبعد شندي عن الخرطوم مسافة 290 ميلا. وفي هذه المدينة أحرق الجعليون الشاب إسماعيل بن محمد علي باشا حياً انتقاما من كثير من الانتهاكات القاسية التي أوقعها عليهم. وعاقبهم لاحقا الأب الثَاكِل بقتل سكان المدينة وتدميرها تماما.
وعلى مقربة من شندي توجد القرية الحديثة كبوشية، التي تضم آثار مدينة مروي العظيمة عاصمة المملكة المروية القديمة (توجد هذه الآثار الآن في قرية البجراوية التي تبعد حوالي 6 كيلومترا الى اتجاه الشمال الشرقي من محطة كبوشية. المترجم). وهي مقر سكن "الكنداكة" ملكة مروي الشهيرة التي حاربت الرومان ببسالة منقطعة النظير، إلا أنها هُزمت في نهاية المطاف على يد بترونيوس وجنده (22 – 23م).
ولاقت شندي (مثلها مثل المتمة) الويلات على أيادي الدراويش بقيادة محمود ود أحمد. وخاضت الكتيبة المصرية 15 بقيادة الرائد تي. هيكمان معركة شرسة لاحتلال شندي في مارس من عام 1898م. ووجد هيكمان شندي محطمة تماما. وكانت تلك المدينة المزدهرة الزاخرة بالسكان خالية تقريبا من السكان سوى من بعض النسوة والأطفال وبعض المسترقين البؤساء الجوعى الذين تقطعت بهم السبل. وخرج هؤلاء التعساء من أكواخهم وكهوفهم زحفا وهم في أشد حالات الفَزَع والفرق وهم يتوقعون موتا محتوما، غير أنهم لقوا العطف والحماية. ورأى الرائد هيكمان أن يعجل بإحراق المساكن غير الصحية التي كان يحتلها جنود محمود ود أحمد بأكبر كمية من الحشائش يمكن جمعها.
وكانت شندي قد سقطت في يد المهدي عندما انسحبت القوات البريطانية من المناطق النيلية عقب سقوط الخرطوم في 26 يناير 1885م. وكان غردون قد أرسل في 30 سبتمبر 1884م ثلاث من بواخره (هي طلحوين؟ والمنصورة وصافية) لتجلب للخرطوم جنود ولسيلي البريطانيين، وكان يؤمل أنهم سيصلون إليه قبل سقوط المدينة. غير أنهم، كما عرفنا الآن، بلغوا المدينة متأخرين بيوم واحد فقط. وكانت تلك البواخر راسية على شاطئ شندي دون عمل لثلاث أشهر غالية، ولو كان غردون قد احتفظ ببواخره تلك في الخرطوم أو أم درمان لربما لم تكن الخرطوم لتسقط.
وفي فترة زمنية معينة كانت شندي (التي تقع على النيل مقابلة للمتمة) تعد أهم مركز تجاري في السودان. غير أنها غدت في المقام الثاني عندما فضل إبراهيم بن محمد علي باشا عليها مدينة الخرطوم الصغيرة كعاصمة للمديرية الجديدة. ولم تتح لغردون رؤية شندي إلا عندما ساءت فيها الأحوال وكان ذلك في يناير من عام 1878م عندما مر بها وهو في طريقه للخرطوم. وفي ذلك الوقت وصلته برقية من الخديوي إسماعيل ترجوه الرجوع للقاهرة بأعجل ما تيسر كي يساعد في حل مشاكل مصر المالية.
وعقب استعادة قوات كتشنر البريطانية – المصرية السودان في 1898م اختيرت شندي مقرا لسلاح الفرسان بالسودان نسبة لتوفر المراعي الجيدة حول المدينة، ولسطحها المستوي، ولتربتها المغطاة بالحَصَيَات. ومحطة السكة حديد بشندي هي مركز "القسم الجنوبي"، ويقيم بها مدير الحركة بالمنطقة.
أما الدامر، المدينة الرئيسة بالمديرية ومقر حكومتها منذ عام 1905م، فقد كانت في زمان مضى مركزا تعليميا مهما، وبها ما يمكن وصفه بأنه "جامعة صغيرة متواضعة". ورغم أن هذا لم يعد موجودا إلا أن هنالك العدد من البيوت الواسعة الملحقة بالمدارس ما زالت موجودة. ومعدل التعليم بالمدينة مرتفع. ولكن يلاحظ أن الأهالي في مديرية بربر يطالبون بالمزيد من الخدمات التعليمية ولكنهم يرفضون بشدة أن يدفعوا من أجل إقامتها!
وبجعل الدامر المدينة الإدارية الأولى بالمديرية لم يعد لمدينة بربر أي أهمية إدارية بالمديرية التي تحمل اسمها. وغدت الدامر مدينة مزدهرة ينعم مجتمعها بالأمن.
وأقيم للسكة حديد جسر على نهر اتبرا على بعد 8 أميال شمالا، ومن نقطة تقع شمال ذلك الجسر يتفرع خط للسكة حديد، يتجه واحد شمالا، والآخر شرقا. وهنالك 71 معدية يستخدمها الناس للتنقل عبر ذلك النهر، ويستخدمها الزراع بصورة خاصة للوصول لبعض الجزر وللشاطئ الآخر من النهر. وتدر تلك المعديات ما بين 450 و600 جنيها مصريا في العام. ويدفع كل راكب يستخدم المعديات بصورة راتبة مبلغا سنويا ثابتا يُستخدم في تشغيلها وصيانتها.
وتقع المتمة على الضفة الأخرى للنيل على بعد أربعة أميال. وكان للمدينتين (المتمة وشندي) ذكر في تاريخ الحملة الكارثية التي قادها ولسيلي في 1884 – 1885م. فقد تم بهما تجميع البواخر التي بعث بها غردون وهو ينتظر في قلق شديد حملة لإنقاذه عاجلا وممن معه. وبلغت القوات البريطانية وادي حلفا في 15 أكتوبر من عام 1884م، ووصلت إلى دنقلا في الثالث من نوفمبر، وإلى كورتي في 15 ديسمبر. وبقيت تلك القوات في كورتي حتى 30 ديسمبر قبل أن تتحرك سيرا على الأقدام إلى المتمة عبر صحراء بيوضة (لمسافة تبلغ 170 ميلا على الأقل). ولم يكن قائد حملة الإنقاذ، الفريق سير هيربرت استيوارت، حرا في اتخاذ ما يراه مناسبا فيما يخص موعد تحرك قواته، إذ كان عليه إطاعة أوامر قائده اللورد ولسيلي، الأمر الذي جعله يضيع وقتا ثمينا في الرحلة بين كورتي والمتمة. وأتاح ذلك التأخير لقوات الدراويش أن تفاجئه بقوات ضخمة. وأضاع فقدان الحملة للتنظيم المحكم وبعد النظر أي فائدة مرتجاة منها. وأخفقت قواتنا في السيطرة على المتمة بعد أن كان الدراويش قد احتلوها قبلنا. وأصيب الفريق استيوارت بجرح مميت في معركة وقعت يوم 19 يناير 1885م (لعل المعركة المقصودة هي معركة أَبُو طُلَيْح التي وقعت يوم 17 يناير 1885م، بحسب مصادر أخرى. وتلك كانت معركة كسبتها القوات البريطانية، ولكن بعد فقدان عدد كبير من أفرادها على رأسهم قائدها استيوارت. المترجم). وفي يوم 24 يناير توجه سير شارلس ويلسون بإحدى بواخر غردون متوجها للخرطوم. وبلغ المدينة في 27 يناير، متأخرا بيوم واحد فقط، حيث علم بمقتل غردون وسقوط الخرطوم (نتيجة لخيانة ذكرت تفاصيلها في موضع آخر بالكتاب). وفي يوم 26 يناير اصطدمت باخرة ويلسون بصخرة بالقرب من شلال السبلوقة بينما كان يرد على نيران كانت تطلق على باخرته. غير أن لورد شارلس بيرسفورد وكبير مهندسيه بينبو قاما، في بطولة نادرة، بإنقاذ ويلسون ومن معه من ذلك الموقف العصيب. ثم أتى الانسحاب الحزين لجيش وليسلي، والكارثة المؤسفة للواء ماكنيل بالقرب من سواكن. ومع نهاية عام 1885م غدا كل السودان تحت هيمنة حكم المهدويين المدمر. وبعد كل تلك الخيبات المثبطة التي فقدت فيها أرواح رجال بَواسِل بلا جدوى، وأهدرت ملايين الجنيهات، سيكون أمرا ملهما أن نعود لإنجازات كتشنر العظيمة في غضون سنوات حملته لـ "استعادة السودان". فقد أفلح الرجل، رغم كل العوائق الجمة والمصاعب التي ليس لها نظير، في استراد شرف بريطانيا وإنقاذ السودان من البربرية.
وفي الأول من يوليو من عام 1897م شهدت المتمة (والتي كانت مدينة مزدهرة بتجارة القوافل ويقطنها نحو 60,000 نسمة من الجعليين) مجزرة رهيبة قادها محمود ود أحمد المتعطش للدماء، ذبح فيها بعض السكان دون رحمة. ولا تزال بعض آثار تلك المدينة العامرة بالسكان باقية حتى اليوم. وكل ما حول تلك المنطقة الآن هو أراضٍ صحراوية تثير الكآبة، وهي بحق بيئة مناسبة لما وقعت بها من مأساة تراجيدية رهيبة.
ومن الأمور التي تستحق الذكر عند الكتابة عن هذه المديرية الإشارة لنمو مدينة اتبرا بحسبانها أكبر "معسكر" للسكة الحديد بالسودان. ففي غضون عقد واحد من الزمان تطورت اتبرا من مجرد مستوطنة صغيرة إلى مدينة كبيرة ومنظمة وشديدة الجاذبية. وكان تتميز بشوارع واسعة (أغلبها لم يُرصف بعد ولكنها مُسَوَّية جيدا) تمتد في اتجاهات مستطيلة، وكثير منها تحف به من الجانبين الأشجار الظليلة دائمة الخضرة التي نَمتْ ورَبتْ رغم رداءة الطقس. ووراء تلك الشوارع الفسيحة توجد منازل خاصة بها حدائق بهيجة تنم عن ذوق رفيع في تصميم الحدائق ورعايتها. وساهمت الإجراءات الصحية التي تتخذها سلطات المدينة في منع انتشار الحشرات الضارة بالمدينة، فقد فرضت تلك السلطات غرامة كبيرة على من توجد ببيته بعوضة واحدة. وكان لهذه العقوبة الشديدة ما يبررها، فقد حافظت على المدينة صحية وخالية من الأمراض التي تنقلها الحشرات. ولم تكن تلك العقوبة على الورق فقط، بل كانت تنفذ بكل صرامة على جميع السكان دون أدنى تمييز.
وبنيت بالخشب في المدينة كنيسة صغيرة لخدمة المسيحيين بالمدينة، حيث تقام فيها الصلاة مساء كل أحد على يد قسيس تم تَرْسِيمه (إن وجد)، أو أي شخص عادي. وبالكنيسة فرقة كورال من الهواة المجيدين من بين جماعة المصلين القليلين في غالب الأيام، سوى في يومي عيدي الميلاد والفصح، والمناسبات الأخرى، حين يأتي للكنيسة الصغيرة نحو 80 أو 90 فردا.

 

 

جدول رقم (1). مديريات السودان الإنجليزي – المصري (1916م)

المأموريات

المساحة (ميلا مربعا)

عدد السكان

اسم المديرية

ديم الزبير، كافيا كنجي، راجا، يامبيو، مريدي، رومبيك، واو، التونج، واو، طمبرة، شامبي، نياملل، مشرع الرك

114,100

1,000,000

بحر الغزال

أبو حمد، بربر، الدامر، شندي، ود حامد، الزيداب

97,100

122,572

بربر

أبو دليق، الكاملين، المناقل، المسلمية، رفاعة، ود مدني

12,000

192,879

النيل الأزرق

الفاشر، كتم، نيالا، أم كدادة

145,400

-

دار فور

أرقو، الدبة، دنقلا، كرمة، الخندق، كورتي، مروي

142,300

141,170

دنقلا

حلفا، المحس (دلقو)، السكوت (كوشا)

112,300

38,325

حلفا

البطانة، القلابات، القضارف، الهدندوة، كسلا، المفازة

46,000

84,000

كسلا

الجيلي، الخرطوم، الخرطوم بحري، أم درمان، الرهد

5,000

135,070

الخرطوم

أبو زبد، بارا، الأبيض، الأضية، المجلد، النهود، أم دم، أم روابة

336,589

119,000

كردفان

بور، كاجو كاجي، منقلا، الرجاف، توريت (لاتوكا)، نمولي، تومبي، ياي، لوكا، كونجور، امادي، اليه، لير، ويويرنقواس، شانوموري، دك فاديات

63,800

207,402

منقلا

الدلنج، الليري، كادقلي، رشاد، تقلي، تلودي، السُنجكاية

31,560

268,086

جبال النوبة

عقيق، محمد قول، بورتسودان، سنكات، سواكن، طوكر

27,800

34,702

البحر الأحمر

دار فونج، الدندر، كركوج، الكرمك، الروصيرص، سنار، سنجة

40,440

112,252

سنار

قامبيلا، ملكال، ملوط، الناصر، تونقا، الرنك، كدوك، أيود، لونقتاو، أبونق

36,000

303,470

أعالي النيل

الدويم، القطينة، الجبلين، الكوة، كوستي، ربك، تندلتي

14,700

155,000

النيل الأبيض

جدول رقم (2). سكان مديرية الخرطوم (إحصاء عام 1913م)

الأطفال

النساء

الرجال

مدينة الخرطوم

6,212

8,903

7,308

السودانيون

1,601

1,163

5,881

الأحباش والمصريون والهنود

171

172

771

الأوربيون

7,984

10,238

13,960

المجموع

الخرطوم بحري

7,118

11,826

9,771

السودانيون

503

503

634

الأحباش والمصريون والهنود

101

54

232

الأوربيون

7,722

12,383

10,637

المجموع

أم درمان

20,397

13,422

19,131

السودانيون

314

487

134

الأحباش والمصريون والهنود

418

212

308

الأوربيون

21,129

14,121

19,573

المجموع

الجيلي

4,580

8,254

7,562

السودانيون

1

3

9

الأحباش والمصريون والهنود

..

2

8

الأوربيون

4,581

8,259

7,579

المجموع

41,416

45,001

51,749

المجموع الكلي

عدد الرجال والنساء والأطفال من كل الجنسيات بمديرية الخرطوم = 138,166

 

يرية الخرطوم = 138,166


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء