مدينة بابكر بدري: “العميد” مُشترك .. د. بقلم: صديق امبده
"وحات بابكر نعمة حياتي "اتغديتو؟". كان هذا استفسارها المعتاد عندما يأتي معي الي منزلها العامر "رقم عشرة شارع الجمهورية" زملاء أو زميلات من الجامعة، وهو دأبها مع الكثيرين. كان ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي ، عندما كنت طالبا في جامعة الخرطوم ، وحتي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بعد أن أصبحت استاذا بها. كان منزلهما ،وزوجها العم ابراهيم قاسم مخير، مفتوحا والباب الخارجي علي مصراعية لا يغلق "خالص". يا لذلك الزمن ويالهما من مثال. هذه السيدة أفضالها عليَّ وعلي غيري لاتُعد. "من شِدَّة " معاملتها لي وحنوِّها ، كنت ، ولا زلت، اعتبر نفسي مثل أبنائها (بابكر واحمد كوريا وعلي ويوسف وعزيزة وقاسم-عليه الرحمة). وربما لست وحدي من يعتقد ذلك، فقد قالت لي آمنة محمد بدري -زوجة كوريا- ذات مرة (كنت قايلاك أخو ناس كوريا)، وعند زواجي وقبل سفري مليط والفاشر لإكمال مراسيم الزواج فوجئت بالخالة مدينة "تعمل" لي حفل زواج في منزلها قبل سفري.
أتيت من بادية "الزَيَّادية" من شمال دارفور إلي جامعة الخرطوم ( إعرابي في المدينة ، كما جاء في احد كتب الاطفال في المدرسة الاولية أيامها) وكان منزلها ملاذا، وقد كنت الألصق به من بين أهل زوجها من شمال دارفور، لكنني لم اكن وحدي ، فقد عرف المنزل قبلي الاخوة الدكتور ادريس احمد الحاج والعميد شرطة ابراهيم احمد الحاج والاستاذ ابراهيم محمد عيسي رحمه الله ، وقد أسبغت عليهم جميعا من ترحابها وحسن معاملتها الكثير، إذ كان ذلك طبعها.
عندما "خربت" المهدية قيل أن الناظر جمعة ود جادين وكان ناظر "الزيادية " حينها ، قال لمن بقي منهم بعد كرري "يا عرب غرِّبو" ، فاستجاب الكثيرون ، وكانوا يبكون شوقا لديارهم ، وبقي البعض مع الخليفة حتي موقعة "أم دبيكرات". والمعلوم أن قبائل الغرب قد تم تهجيرهم قسرا لامدرمان ، وعند مقاومتهم مات منهم في دارفور"خلق كتير" علي يد عثمان أدم "عثمان جانو" الذي ارسله الخليفة ليهجِّر القبائل لامدرمان (لحماية حكمه) وكان شابا حدثا في العشرينات من عمره وذو قساوة بالغة. بعد "الكَسرة" بقي مع الخليفة نوابه ومستشاروه ومنهم "ابراهيم ود مخيَّر" جد العم ابراهيم قاسم مخير، عميد كلية الصيدلة الأسبق بجامعة الخرطوم. وكان "ود مخير" من ضمن كبار قادة المهدية الذين تم نفيهم الي مصر، ثم سمح لهم بالعودة بعد حين، فكان من حظ أبنائه وأحفاده التعليم عن معرفة بقيمته ، ومن حسن حظ أمثالي أن لحقهم التعليم المجاني وبالصدفة قبل فوات الاوان. "كان ذلك في الأعصر البائدة" ، كما قال صلاح احمد ابراهيم في قصيدته التي يقول فيها "يحج مرار وللمسلم الحج في العمر مرة".
كان ابراهيم قاسم –حفيد ودمخير- زميلا وصديقا ليوسف بدري "العميد يوسف بدري لاحقا –عميد آل بدري وعميد الاحفاد" من أيام المدرسة الإبتدائية وحتي الدراسة الجامعية في بيروت. تلك العلاقة والصداقة التي ربطت بينهما سمحت لهما بتبادل الزيارات المنزلية. وقد نتج عنها وعن تلك الزيارات أن تزوج ابراهيم بشقيقة صديقه يوسف بعد تخرجهما وشغل ابراهيم قاسم في صيدليته. ويجدر بالذكر أن العم ابراهيم قاسم كان صاحب أول صيدلية في السودان "إجزخانة أمدرمان" بالقرب من الجامع الكبير في ام درمان-السوق، في الثلاثينيات من القرن الماضي، لكنه عندما عيُّن "كبير الصيادلة" فيما تبقي من "السودنة" في العام 1958 اوقف عمله الخاص وأحضر كل الدفاتر للبيت و" تم رشها بالجازو حرقها" ، لتضارب المصالح (كما كان الحال حينها وحتي وقت قريب).
مدينة هي اصغر بنات نفيسة بت الريف (من اصول مصرية) وقيل أن والدتها كانت رافضة الزواج من أحد أبناء الانصار لأنها شاهدت مقتل بعض أهلها علي يد الانصار عند فتح الخرطوم. ولكن بعد أن تعرفت علي صهرها عن قرب بعد زواج إبنتها كانت علاقتها معه في غاية الود. مدينة خريجة كلية المعلمات لكنها لم تعمل بالتدريس الا قليلا ثم تزوجت صغيرة. كان منزلهما المنزل رقم عشرة شارع الجمهورية (هو مكان كلية العلوم الادارية -جامعة الخرطوم حاليا) ويقابل مقر الاتحاد الاوربي حاليا (والذي كان مقرا لدار الثقافة السوفيتية وقتها). وكان المنزل "منتدي" أو "نادي" في الحقيقة ، وقد كان عامرا بالرواد –طيلة أيام الاسبوع- وغالبيتهم من آل بدري.و كانت مدينة بشهادة الكثيرين من اكثر شخصيات اسرة (آل بدري وآل مخير) تواصلا وعلاقات اجتماعية. ومن رواد النادي الذين اذكرهم في "عشرة شارع الجمهورية" ( صديق مخير-مساعد مدير البوليس الاسبق وزوجته زينب يحي الفضلي (وهو عم ابراهيم قاسم مخير)، محمد بدري وفاطمة بت العم (فاطمة عبدالكريم بدري) ، صالحة بدري وزوجها الاستاذ خالد موسي، عزيزة بدري و فاروق و الطيب شكاك (ابنيها) (واسرتيهما) ، احمد بدري وزوجته سلافة خالدموسي ، د. سلمان بدري وزوجته انيسة ، العميد يوسف بدري واسرته (ولكنه لم يكن مداوما). ومن الشباب وقتها قاسم بدري وامنة ونفيسة الصادق بدري وحسب سيده بدري والشباب الاصغروالاصغر جدا الطيب فاروق (رحمه الله) وعثمان فاروق وابراهيم وعثمان (اولاد العم) واشرف وامنة وعديلة وايمن محمد بدري وبعض الذين كانوا صغارا أصبحوا الان جدودا . ومن خارج الاسرة (احيانا) الدكتوراحمدعبد العزير وزوجته الدكتورة سيدة الدرديري واخرين كثر(ما بنعد كتير الديش) ، رحم الله من غادر هذه الدنيا الفانية و اطال الله في اعمار الباقين .
ربما لأنها الاصغرفقد حظيت بحرية اكثر، وقد تعلمت "السواقة" في حوالي عام 1960 وقد كان زوجها من اوائل من امتلك عربة من السودانيين (في اوائل الاربعينات). وقد كانت تقوم بشئون الصرف علي المنزل بتفويض كامل من عمك ابراهيم قاسم وتقوم بالتحويل لابنائها الذين يتلقون تعليمهم بالخارج. كانت تملأ المنزل بالمرح وتشعرك أنك في بيتك و تلعب الطاولة والويست مع ابنائها والضيوف من الاسرة. وتسبقها دائما ابتسامتها في الترحيب بالضيوف أيا كانوا.
يقول فاروق الطيب (الذي توفي الاسبوع قبل الماضي -رحمه الله ) إن مدينة هي مثل اخته الكبيرة إذ أنه تربي معها وعزيزة والدته هي أختها الكبري وكانت تحبها كثيرا وحزنت حقيقة عندما سبقتها في الوفاة وكانت تتمني لو كانت هي الاسبق للدار الاخرة. فاروق (الذي كان مديرا للبريد والبرق عند انقلاب هاشم العطا وقيل انه كان مرشحا للوزارة (كان صديقا لعبد الخالق ، كما أكد ذلك مؤخرا محمد محجوب في مقاله عن عبد الخالق) يتذكر أنها كانت تقوم باستضافة ضيوفه من الخواجات مثل المديرالعام لشركة فيليب عند حضوره للسودان وكانت هي التي تقول له "جيبهم أعزمهم عندي".و يستدرك فارق قائلا "لم تكن لتستطيع ذلك لو لم يكن ابراهيم قاسم نفسه كريما" وقد صدق فاروق فالبقارة أيضا يقولون "الكريم بأم عيالة"-أي لو لم يكن هنالك توافق في الكرم من الزوجة أيضا لما ظهر كرم الرجل في منزله مهما كانت رغبته في ذلك وبذله لماله. كانت من الكرم بحيث يصدق فيها قول الشاعر طه ود الشلهمة في أحد شيوخ البطاحين (الجود من فضايلك يستلف ويديَّن " الياء الاولي لاتنطق ") . ورغم علاقاتها ومعارفها الواسعة فقد كان لها شعار وهو أنه إذا اصبح أحد أصدقاء الاسرة ومعارفها وزيرا فإنها لاتزوره حتي يترك الوزارة.
أصيبت مدينة بسرطان الثدي في عام 1977 وهي في تشيكوسلوفاكيا، وهو الذي تسبب في وفاتها بعد نحو عشرة سنوات ، وكانت قد رفضت العلاج هناك وانتظرت حتي تاتي للسودان ليقوم بالعملية الدكتور احمدعبد العزيز(كبير الجراحين حينها وصديق العائلة). وقد كانت في غاية الشجاعة إذ تحملت المرض في جلد وصبر شديدين. وهي علي فراش الموت استدعت أختها عزيزة و ستنا بدري (التشكيلية المعروفة) والدة بابي (بابكر محمد عبد الكريم بدري) والذي كان موعد زواجه علي الابواب وقالت لهما "ماعافية ليكم لو اخرتوا العرس حتي لو مت والعرس في نفس اليوم". كانت عزيزة بدري شقيقتها الكبري وكما ذكر فاروق فقد كانت تحبها وتعتبرها مثل بنتها وقد كانت زعلانة/حزينة لوفاة مدينة قبلها.وعندما بتروا يدها (نتيجة مضاعفات سرطان الثدي) أثر عن عزيزة أنها قالت "ماطبعا يا شاطرة سايقة العربية ومطلعة إيدك ما لازم يسحروك".
في يوليو1971 وفي يوم فشل الانقلاب كنا في البيت ونسمع صوت الدانات وفجأة ،والباب الخارجي فاتح علي مصراعيه كالعادة، دخلت عربة مسرعة المنزل(توش) ونزل منها صاحبها وكان قادما من جهة شارع القصر بشارع الجمهورية (الشارع كان مسارين)، وكنا جميعا تحت الشجرة، اتت العربة مندفعة حتي كادت أن تصطدم بالجالسين ونزل السائق. كان رجلا في حوالي الخمسين فنزل من العربة وجلس وتنفس بعمق (دون أن يلقي بالتحية حتي) ثم بدأ يحكي أن الدانات قد هدت القصر ولم يبقي فيه شئ وذلك من ضمن اشياء اخري كثيرة. كان ذلك حوالي الرابعة أو الخامسة مساء فيما اذكروبعد فترة و"جَمَّة نَفَس" غادر الرجل الي وجهته .مكثنا تلك الليلة في المنزل وفي الصباح الباكرعندما هدأت الاحوال اقترحت الخالة مدينة ان نذهب ونشوف الحاصل. فاعتلينا عربة البيت ال"كورسير" وكانت هي السائق. ذهبنا بشارع الجمهورية ولدهشتي شخصيا وجدنا القصر في حالو الا من "ترمات" في الجنبتين (أو الناحية الشرقية) إن لم تخني الذاكرة. ومن يومها قررت الا أصدق "قول قالو". إذ يمكنك ،قبل ان تستوثق أن تنشر كلاما من نسج الخيال او فيه من المبالغة اكثر مما فيه من الواقع. وقد قيل قديما " الكضب من قِلَّة الأكيدة".
في يوم مظاهرة التأييد لانقلاب هاشم العطا كانت مع ابنها احمد "كوريا" في الميدان الذي كان أمام مبني وزارة التجارة-مكان الحديقة الحالي- ورأت عبدالخالق محجوب فقالت لاحمد: "داك عبد الخالق وديني اسلم عليه" –هي خالة نعمات مالك زوجة عبدالخالق- وبعد التحية قالت له " قلبتوها حمرا خلاص" فاجاب عبد الخالق بكلمة واحدة " "أغبياء"، وذلك كما يتذكر كوريا بوضوح.
ككل النساء كانت لها قصص في السنوات الاولي للزواج. فقد كتب بابكر مخير- في "سودانيات" في اغطس 2008 عن والدته أنها روت لهم "حماقات" الزوجية في الايام الاولي للزواج فقالت (أبوكم من أول أيام دلَّعني شديد ودا ما كنت عايشاهو في بيت أبوي، مإ نحنا عشرين . وأنا أستمرأت الحكاية دي وزوًّدتها حبتين. مرة كنا زعلانيين مع بعض وأقول لي أبوكم، وديني بيت أبويا. وهو وحاتكم، سادي دي بي طينة ودي بعجينة، لمًّن سمعت السيدة بتول (بنت الامير يعقوب وجدتي من أبوي) جات تطيِّب في الإمور، لكن دون فايدة،. آها أبوكم إستنَّى لمن وصلني بيت أبويا كالعادة وهو في طريقو للإجزخانة بدون ما يقول أي حاجة. وأنا كلمت أمي بأني زعلانة وما راجع بيتي. المساء مفروض يرجع أبوكم يسوقني نمشي البيت كالعادة. ما جاء.....وييييييييييييييين على الساعة تقريبا 11 جا يوسف أخوي وسأل: وين أبو خليل لسة ما جا؟؟
ردت أمي: لا يا شاطر، ما هي زعلانة وما راجعا بيتها.
يوسف: يعني طلَّقوها
وأنا أريتني ما رديت: لا بس أنا ماعاوزة أرجع .......................
المهم من حي الشيخ دفع الله لحدي حي الأمراء، يوسف قدَّامي وأنا أجري وراهو عشان ألحقو لمَّن وصلنا خشم الباب... أبوكم فتح الباب وقال ليوسف: أدخل
يوسف: لا أنا جيت أجيب ليك أمانتك راجعة. إحنا سرايرنا في الحوش عددنا، لو عاوز ترجعها لينا، جيبا ومعاها سرير... الإتنين ضحكو وأنا دخلت حزينة في وكتها لكني حمدت الله أنو أهلي رجعوني وعشت لمن جيتو إنتو).
حتي الايام الاخيرة واليد مبتورة وريحة الموت حايمة ، لم تفقد روحها المرحة والضحكة المجلجلة وكانت تكرر أمامنا وعمك ابراهيم قاسم موجود " انشالله يا بوقاسم اموت قبَّالك وتدفِنِّي. (صمت ثم تواصل) وتجي راجع تطُّقك عربية تدشدشك حِتَّة حِتَّة". نم تطلق ضحكة عالية. توفيت الخالة مدينة-رحمها الله- في نهاية يوليو 1985 وهذه ذكراها الثانية والثلاين تمر، وقد ظل هذا المقال معلقا علي انشوطة رغبتي في كتابته طيلة هذه المدة ، وها هو يخرج أخيرا دون أن يوفيها حقها ، فقد كانت "أنثي ولا دستة رجال" ، كما قال شاعر الشعب محجوب شريف. رحم الله مدينة بابكر بدري رحمة واسعة وأحسن إليها بقدر ما احسنت اليَّ والي أمثالي وبقدر ما أحبَّت وأكرمت واشاعت البهجة في أهلها وضيوفها الكثر، وحقَّ لها أن أقول عنها "العميد مشترك"، دون غمط لحق العميد يوسف بدري ، رحمهما لله رحمة واسعة.
صديق امبده
سبتمبر 2017
sumbadda@gmail.com