مذبحة غاريسا: “11 سبتمبر” الكينية

 


 

 



روعت كينيا من أقصاها إلى أدناها عندما حملت موجات الأثير صبيحة الثاني من أبريل الماضي أنباء الهجوم الإرهابي الذي قامت به مجموعة تابعة لتنظيم شباب المجاهدين الصومالي على جامعة غاريسا في شمال شرق البلاد. كانت حصيلة الهجوم النهائية 148  قتيلاً وعشرات الجرحى من بين طلاب وطالبات الجامعة الذين كانوا يغطون في نوم عميق مطمئنين بأن القوات التي تعسكر في مداخل جامعتهم قادرة بأن تكفيهم شر أي مفاجآت من هذا القبيل. غير أن هذه القوات لم تعجز عن حماية الطلاب الأبرياء وحسب ، بل إن اثنين من أفراد المجموعة يحملون أسلحة خفيفة تمكنوا ولعدة ساعات من وقف محاولات القوة العسكرية الإضافية التي خفت للمكان. كان هذا سبباً في أن تتعرض القوات الكينية للكثير من الانتقاد في أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ، خاصة وأنها من بين أكثر القوات الأفريقية تدريباً وخبرة في مجال محاربة الإرهاب. خلفت العملية جرحاً غائراً في النفسية الكينية مما دفع بالكثير من المعلقين لتشبيهها بالعملية الجريئة التي نفذها تنظيم القاعدة  على برج التجارة العالمية بنيويورك في خريف 2001 ، حتى أن الكثيرين أصبحوا يؤرخون بما قبل غاريسا وما بعدها.
في نهاية عام 2011 تدخلت كينيا عسكرياً في الصومال إلى جانب القوات الأفريقية "اميصوم" كرد فعل على العمليات التي نفذتها مجموعة الشباب المجاهدين الصومالية في الساحل الكيني ضد عدد من السواح وعمال الإغاثة الأوربيين. لم تكشف الحكومة الكينية عندئذٍ صراحة عن الهدف من هذا التدخل الذي وجد دعماً من المجتمع الدولي ، غير أنه نُقِلَ عن وزير الدفاع قوله أن القوات الكينية ستعمل على إقامة منطقة عازلة بحدود مائة كيلومتر بين البلدين. كما أشارت مصادر رسمية أخرى إلى أن القوات الكينية ستعمل على تحرير ميناء كسمايو واقتلاع تنظيم الشباب المجاهدين من جذوره ، وكانت ميناء كسمايو تمثل مصدر الدخل الأهم بالنسبة للتنظيم الذي كان يقوم بتصدير الفحم عبر الميناء. لم تكتف القوات الكينية بكسر شوكة التنظيم بل قامت في عام 2013 بدعم رغبات بعض السياسيين المحليين ولعبت دوراً مهماً في ميلاد ما عرف لاحقاً باسم جمهورية جوبالاند في جنوب الصومال. كان الهدف من دعم الجمهورية الوليدة هو خلق منطقة عازلة بين البلدين وإيجاد حكومة تدين بالولاء لكينيا وتعمل على تحقيق رغباتها خاصة وأن هناك العديد من أسباب النزاع بين البلدين من بينها تخطيط الحدود البحرية واستغلال النفط الذي كشف عنه في مربعات واسعة على جانبي الحدود. غير أن المشكلة الحقيقية بين البلدين تعود إلى منتصف الستينات من القرن الماضي ، وتتمثل في النزاع حول المنطقة التي كانت تعرف عندئذ في كينيا باسم مقاطعة الحدود الشمالية والتي يمثل العنصر الصومالي الغالبية العظمى من سكانها. كانت المنطقة من ضمن الأقاليم التي تدعي الحكومة الصومالية أن الاستعمار  انتزعها من الأراضي الصومالية وقام بضمها لدول الجوار ضمن جهوده لتفتيت الصومال الذي تم تقسيم أراضيه بين عدد من القوى الاستعمارية الأوربية خلال حقبة التكالب على القارة. ، كان النزاع حول الإقليم المذكور  سبباً وراء وقوع صدام عسكري بين كينيا والصومال في منتصف الستينات قاد لتدخل منظمة الوحدة الأفريقية في ذلك الوقت.
ولعل التصريحات التي أدلى بها أحد ممثلي تنظيم الشباب بعد الهجوم على جامعة غاريسا والتي قال فيها أن التنظيم يحارب على أرض صومالية يؤكد أن النزاع بين البلدين حول المنطقة يمثل وقوداً للحركة في حربها ضد الحكومة الكينية. وقد ذهب المتحدث باسم الحركة للقول بأن منطقة  الساحل بما فيها ميناء ممباسا نفسها تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الصومال. قد تصرف الحكومة الكينية هذه التصريحات على أساس أنها مجرد أحلام يعبر عنها شخص غير مسؤول ، إلا أن مسألة تبعية الساحل لكينيا سبق أن أثيرت خلال العام الماضي عندما نشطت بعض الحركات المعارضة للحكومة هناك.  أشار عدد من هؤلاء المعارضين أن المنطقة كانت تابعة لسلطان زنزبار الذي تنازل عن إدارتها للحكومة البريطانية ، وأنها لم تضم لكينيا رسمياً إلا على أيام الرئيس جومو كينياتا في الستينات من القرن الماضي. ترتبط هذه التصريحات بتطور غاية في الأهمية وهو التوتر الذي يسود من حين لآخر بين المسلمين والمسيحيين في كينيا ، وقد زادت حدة التوتر بين الطائفتين بصورة واضحة في الإعلام ومن على منابر الكنائس بعد الهجوم على جامعة غاريسا حيث أشارت الأنباء إلى أن المهاجمين كانوا يقتلون المسيحيين دون المسلمين. ويقول أحد التقارير الذي حملته مؤخراً صحيفة الغارديان البريطانية ان استهداف المسلمين بواسطة قوات الأمن يسهل من مهمة الحركات المتطرفة ومن بينها الشباب المجاهدين في تجنيد أعضاء جدد. وقد أشارت المعلومات المتوفرة أن قائد المجموعة التي قامت بتنفيذ الهجوم على الجامعة وعدد من المشاركين فيها كينيون من بينهم أحد أبناء كبار المسؤولين في الحكومة الكينية نفسها.
من جهة أخرى فإن الهجوم كان سبباً وراء بروز قضية الأقلية الصومالية في كينيا ، إذ أن الكثيرين يعتقدون أن هذه الأقلية الكبيرة تمثل حاضنة لتنظيم الشباب الصومالي. وتتكون الأقلية الصومالية من مواطنين كينيين ينتمون للإقليم الشمالي بالبلاد ، بالإضافة لمئات الآلاف من اللاجئين. في خطابه بمناسبة عيد العمال مطلع هذا الأسبوع دافع الرئيس كينياتا عن قوات الأمن وأشار إلى أن الإرهابيين يعيشون وسط الشعب ، وأن على المواطنين أن يبلغوا عن أي معلومة يمكن أن تساعد في إحباط خططهم لزعزعة الأوضاع في البلاد.  وقد تعرض سكان  المناطق التي تعتبر تجمعاً للكينيين من أصول صومالية مثل منطقة أيسلي في العاصمة نيروبي لمضايقات من جانب قوات الأمن الكينية التي ترى أن بعض أعضاء التنظيم يختبئون بين المواطنين. من ناحية أخرى فإن اللاجئين الصوماليين ظلوا يتعرضون للمعاملة الفظة من جانب السلطات مما قاد لاحتجاجات متكررة من جانب مسؤولي المفوضية الدولية لشئون اللاجئين وأدى لظهور مشكلة مستعصية بين المفوضية والحكومة الكينية التي قررت مؤخراً إغلاق أحد أكبر معسكرات إيواء اللاجئين الصوماليين. ومع أن الحكومة تراجعت لاحقاً عن قرارها بسبب الضغوط الدولية التي مورست عليها ، إلا أن العلاقات مع المفوضية لا زالت تمر بحالة من التوتر ، كما أن اللاجئين الصوماليين في البلاد لا زالوا يعيشون أوضاعاً مأساوية.
أثار موضوع الهجوم على جامعة غاريسا العديد من القضايا الأخرى لعل أهمها ما أشرنا لطرف منه أعلاه وهو العجز الواضح لقوات الأمن الكينية أمام موجة العنف  التي تشهدها البلاد. بل إن الأمر تعدى عجز القوات العسكرية ليشمل ضعفاً واضحاً في جانب التقدير الأمني الصحيح للخطر الذي يمكن أن يشكله تنظيم الشباب المجاهدين. فبالرغم من العملية الجريئة التي قام بها التنظيم قبل عامين على متجر ويست قيت في العاصمة الكينية والتي راح ضحية لها ما يقارب السبعين قتيلاً ، وبالرغم من العمليات العديدة التي نفذها التنظيم في مختلف المدن وبصفة خاصة العاصمة نيروبي والميناء الرئيس ممباسا ، إلا أن السلطات تعاملت بالكثير من اللامبالاة مع المعلومات الأمنية التي توفرت لها قبيل الهجوم على جامعة غاريسا مما قاد لانتقاد واضح للحكومة وللمسئولين عن أمن البلاد. وقد اعترف وزير الداخلية أمام البرلمان أن معلومات عن هجوم وشيك توفرت للمسؤول الأمني الأول في المنطقة إلا أنه لم يتخذ الاحتياطات اللازمة ، واعترف الوزير أن الشخص المعني تم نقله إلى غاريسا لنفس السبب حيث تعامل بالكثير من اللامبالاة مع معلومات مشابهة عندما كان مسؤولا عن الأمن في مدينة لامو. من ناحية أخرى اعترف الوزير بأن هناك عجز واضح في التنسيق بين الأجهزة الأمنية المختلفة خاصة فيما يتعلق بتبادل المعلومات
في ظل هذه الظروف الأمنية الصعبة وصل إلى نيروبي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وسط ترتيبات أمنية غير مسبوقة ، وتجئ زيارة الوزير تمهيداً لزيارة يقوم بها لاحقاً الرئيس الأمريكي باراك أوباما للبلاد. ومع أن هناك الكثير من القضايا التي تشغل بال الوزير كيري والإدارة الأمريكية وعلى رأسها البرود الذي اعترى العلاقات بين البلدين خلال الفترة الأخير ، إلا أن الملف الأمنى لن يكون بعيداً عن اهتمامات الوزير. وقد صرح مسؤول في الخارجية الأمريكية بأن الوزير سيلتقي الرئيس كينياتا ، ويبحث التعاون الأمني بين البلدين. ويشمل برنامج الوزير كيري زيارة للنصب التذكاري لضحايا الهجوم الإرهابي على السفارة الامريكية بنيروبي في عام 1998. من الواضح أن الحكومة الأمريكية تتابع بقلق شديد نشاط تنظيم الشباب المجاهدين ولا يستبعد المراقبون أن يعمل الوزير على بحث فكرة تكوين تحالف اقليمي لمواجهة التنظيم وهو أمر سيجد دعم وتأييد عدد من الدول بالمنطقة.
لا شك أن الهجوم على جامعة غاريسا و العدد الكبير من الضحايا الذي تمخض عنه ليس حدثاً عادياً يمكن أن يمر مثله مثل الأحداث الأخرى ، ويرى الكثير من المراقبين أن كينيا لن تعود كما كانت قبل هذا الحادث المؤلم. غير أنه من الطبيعي أن تتباين ردود الأفعال بين الدعوة للانتقام أو التسامح.  ويُخشى أن تنعكس الأحداث على التعايش بين الطائفيتن الاسلامية والمسيحية بالبلاد خاصة وأن بعض الإرهاصات بدأت تبرز للوجود ، وقد لوحظ أن الأمر أصبح مثار اهتمام الكنيسة ، تناول بعض القساوسة مؤخراً مسألة استهداف المسيحين دون غيرهم بواسطة شباب المجاهدين ، حيث أشار  أحدهم في خطبة الأحد إلى قول المسيح عليه السلام بشأن إدارة الخد الأيسر إذا صفع الانسان على خده الأيمن قائلاً: " لم يعد لنا خدود يمكن أن نديرها". من جانب آخر ، تحدث الكثيرون على مستوى الكنيسة والمساجد والمجتمع عامة عن ضرورة التسامح والعمل على تجاوز المحنة وهزيمة المحاولات للتفريق بين مكونات المجتمع. وقد تقدم مجلس حكماء الكيكويو للحكومة بمقترح للاستفادة من تجربة المجلس في مواجهة ظروف مشابهة عندما تمكنوا بالأسلوب الحكيم والهادئ من نزع سلاح عصابات "مونقيكي" المكونة من شباب القبيلة والتي روعت البلاد لفترة طويلة وبصفة خاصة في أعقاب الأزمة السياسية التي نتجت عن انتخابات عام 2007.

mahjoub.basha@gmail.com
///////

 

آراء