مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي ود. أحمد عثمان .. شروط أوسع جبهة لإيقاف الحرب حتي يظل الوطن (3/3)

 


 

 

١١ نوفمبر ٢٠٢٣

"العنف (الثوري) قابلة كل مجتمع قديم (كليبتوقراطي) حامل بمجتمع (ثوري جذري) جديد"

ماركس، راس المال، الأقواس من إضافاتي. وأضيف أنه لن تكون هناك ثورة إذا لم توطّن بين سيروراتها التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، ولأن تكون هناك تنمية ودولة ذات سيادة أو لا تكونان، يتحتّم أن يحتفظ الوطن (جهاز الدولة) بقدرته على التحكّم في الشروط المادية لإعادة إنتاج مجتمعه ومواطنيه.

مقدمة سياقية للمقال الختامي:

هذا هو مقالي الثالث (الختامي) حول مساهمتي النقدية لخطاب د. صديق الزيلعي في مجمل الحوارية مع د. أحمد عثمان. جوهر هذه المقالات هي أن الخلاف بين قوي التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي..
أزعم عبر هذه المقالات أن جوهر خطاب قحت هو مداهنة الدولة العميقة "النظام القديم" الذي مازال فاعلاً علي المستوي الاقتصادي الاجتماعي وعلي مستوي التشريعات والقوانين والخدمة المدنية، رغم أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ هزمته سياسياً، لكنه ما انفك يحاول بعدة طرق أن يعيد إنتاج أشباحهه وظلاله وروحه الشريرة الدموية عبر نخب ومؤسسات سياسية فوقية لا يختلف خطابها في جوهره منها، اللهم إلا من حيث الشكل لا المحتوي. يتبع ذلك الزعم طبيعياً وصف خطاب قحت بأنه تسووي وتفاوضي مع الدولة العميقة والشراكة مع لجنتها الأمنية حتي يهبط معها ناعماً دون خشونة ثورية، فهو خطاب جوهره إصلاحي توفيقي غير ثوري ولا علاقة له بمطالب ثورة ديسمبر. لذلك تجلي الخطاب في سياسات وممارسات واستراتيجيات عديدة قصدت من هذه المقالات الثلاثة تفكيكها عبر تناول وتفكيك خطاب صديق الزيلعي.
لقد ذكرت في المقالين السالفين أنه من السذاجة وضيق الأفق ضمن نقد خطاب قحت أن نتحدث عن "تخوين" لها، اللهم الا من باب الطفولية الفكرية السياسية. نقد خطاب قحت والأحزاب التي تنشط في قيادتها لا تعني أن التحالف معها مستحيل وإنما يعريها أمام مجموع عضويتها الثورية التي لا مصلحة لها في توجهات قادة أحزابها، لأنها ذات الجماهير التي خرجت وشاركت في الثورة وقدمت الشهداء في سبيل التغيير ولن تنفك تقدمهم لأن الصراع الطبقي في السودان ظل دموياً وأن تاريخ السودان هو تاريخ حروب طبقية عبثاً يحاول البعض إختزالها الي نزاعات إثنية محضة لاعلاقة لها بالثروات والموارد. ولأن خطاب قحت يتعايش مع مفاهيم الدولة العميقة، نراه لا يتمسك بشعارات الثورة والشرعية الثورية بحبل من مسد وبثبات متّسق ومتناغم، وسرعان ما يتركها خلفه. وذكرت أنه إزاء هذا السقف الثوري العالي الذي ظلت مقاومات الشعوب السودانية تعليه لم تتخلّق نخب سياسية علي قدر المقام، نخب تمتلك جرأة الفعل السياسي، كونها تقف علي إنجازات ثورية ضخمة، ولا تشعر بالرهبة من جنرالات اللجنة الأمنية حتي وهبتها طواعيةً مفاتيح أهم ملفيْن هما السلام والإقتصاد؛ أو جعلت قبلتها نحو دول الإقليم (السعودية، الأمارات ومصر وقطر) فتعجّلت الركوض وراءها؛ وزياراتها الدورية المريبة لترد من مائها كدراً وطيناً.
وحين نذكر الجوهر الطبقي للصراع الدموي في البال إجتماعات قادة قحت السرية التي تتسرّب في مدينة لا تعرف الأسرار في منازل رجال الأعمال وكبار الملاك وتضم رجالات الدولة العميقة، لحسم الأمور الجسيمة والإختلافات الأساسية بين اللجنة الأمنية وقحت!. وقلت أننا لا نصدر من هرجلة يسارية طفولية و"تخوين" طفيلي، أو تشفّي آيدلوجي مراهق غشيم في نقد مجمل خطاب (مفاهيم وممارسات) قحت، وإنما نصدر من مسؤولية ناقدة لكل أشكال تسويف مطالب ثورة ديسمبر وتطفيفها بذرائع التدرج في إزالة تمكين الدولة العميقة ببصر وبصيرة ثوريتين.
قررت في البدء أن أكتب مقالين فقط ولكن خطورة تهافت مقال الزيلعي الرابع حول الإندماج في الخارج ودعم البنك الدولي وصندوق النقد جعلني استطرد فكرياً وتاريخياً بمقالٍ ثانٍ حول التدخل الخارجي الامبريالي وروشتة الصندوق القاتلة التي عافاها وفككها منظروها من عتاة الاقتصاد النيوكلاسيكي المعاصر في عقر داره، حيث أشرت الي نقد جوزيف استلغتز الحائز علي جائزة نوبل، والذي شغل منصب نائب الرئيس الأول وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي.

أولوية وضرورة تكوين أوسع جبهة لإيقاف الحرب

أعلق نقدياً هنا على مقال صديق السادس الموسوم "أولوية وضرورة تكوين أوسع جبهة لإيقاف الحرب"، مع محطات نقدية مهمة من طرف نص أحمد عثمان .
تمخّض منهج أحمد عثمان علي أمهات الأمور كون "هناك تناقض جوهري بين مشروع وبرنامج قوى التغيير الجذري و مشروع وبرنامج (قحت)، فالأولى برنامجها ثوري، والثانية برنامجها اصلاحي. والبرنامج الثوري هو برنامج التفكيك والانتقال من دولة التمكين الى دولة كل المواطنين، والبرنامج الاصلاحي هو ابقاء على التمكين مع العمل على اصلاحه وهو غير قابل للإصلاح (هذا هو الهبوط الناعم)". وأن "شعار “لا للحرب”، مرتبط ارتباطا لا فكاك منه مع ما يكمله من تصور لما بعد الحرب، حيث لا يمكن فصل ايقاف الحرب عن كيفية ايقافها وانتاج بديلها. وقوى التغيير الجذري تكمل الشعار ليصبح “لا للحرب، نعم للثورة”، و (قحت) تجعله “لا للحرب، نعم للإصلاح “. كما أن قحت تنادي "علنا بالعودة الى العملية السياسية (استكمال الاتفاق الإطاري المفروض على شعبنا بواسطة الدول الاستعمارية)، اي بالعودة لشراكة الدم، وبدمج الجنجويد في الجيش بدلا من حل هذه المليشيا المجرمة. وهذا يعني ان (قحت) مازالت راغبة في مشاركة طرفي اللجنة الامنية للإنقاذ حتى بعد انقسامها في السلطة!! فكيف يمكن ان تتحالف مع من يرفض شراكة الدم ويطالب بدولة مدنية خالصة؟َ".
أما جبل منهج الزيلعي تمخض فأراً، ثم ترك فيل التمكين وطعن ظله من ورش الزينة والرتينة. هاك يا صديقي إقرأ كتاب من كبار أمور التمكين التي تحاشتها نخب قحت ومجلس وزرائها. ماذا فعلت قحت ومجلس وزرائها في حجارة أساس التمكين التالية:
١. شركات المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيا التي تم وهبها من القطاع العام؟
٢. مبيعات وأرباح تلك الشركات وتهريبها الذهب وكل ذلك خارج ولاية وزارة المالية؟
٣. الإ بقاءعلي قانون النقابات؟
٤. ترك وزارة الإعلام بدون تطهير؟
٥. إلإبقاء علي التمكين في وزارة الصحة، ومقاومة برنامج وزير الصحة أكرم على التوم، وإجباره علي الإستقالة؟
٦. إلإبقاء علي التمكين في وزارة التربية والتعليم وجلوس حمدوك مع عتاة وغلاة رجالات دين الدولة العميقة (مع إعطاء ظهره للثوار وعمليات قمع مظاهراتهم السلمية أمام مكتبه)، وعدم الجلوس مع وزير التربية والتعليم محمد الأمين التوم وعمر القرأي رغم مضيهم خطوات في إصلاح المقررات التعليمية (راجع مقابلة محمد الأمين التوم الذي قال فيها انه حتى الآن لم يرد حمدوك على خطابه!!).
٧. تسليم ملفيْ السلام والإقتصاد الي قائد مليشيا الجنجويد لترسيخ التمكين.
٨. القبول ببرنامج صندوق النقد والبنك وفي قلبه برامج التكيّف الهيكلي من الخصخصة التي راكمت نهب القطاع العام، وبرنامج التقشف، وجميعها تقع موقع القلب من برامج التمكين، والتي ظلّت تفجر المظاهرات منذ نهاية سبعينات القرن الماضي حين فرضها الدكتاتور نميري.
وبدلا من ذلك طفقت الورشة المذكورة تتحدث عن اصلاح " مفوضية الاختيار للخدمة العامة" و" الإعلان عن الوظائف العامة عبر مفوضية الاختيار للخدمة العامة سواء لملء الفراغ الوظيفي الخ". و" منح فرص متساوية لشغل الوظائف العامة اعمالا لمبادئ تكافؤ الفرص والعدالة، والنزاهة، والشفافية، والاستقامة"!!.
يا صديقي أنه ذات المنهج واللاتاريخانية اللتان تعلي بهما من شأن الثانوي والتكتيكي وطق الحنك وحلاوة اللسان في الورش الحالمة التي"ستعبر" و شراكة (بين عساكر نهبوا كل الموارد ومكون أمني لا يملك شرْوى نقير فقير، ثم ترك أعز ما يملك من ثوار)، زعموا أن هكذا شراكة ستدرس في جامعات ومراكز بحوث الشمال الكوني!!. لا غرو أن ذات المنهج دفعك دفعاً لتذكر مساوئ ورشة قحت من "أسلوب عرض المسودة وتهميش بقية أعضاء لجنة النقابة، وكذلك منهج قحت في العمل الفوقي وعدم الحوار مع الاخرين"، ثم تنسي حجارة زاوية عرش التمكين المذكورة أعلاه. وذات المنهج يدفعك نحو الزعم بأن برنامج قحت غير "مفروض على شعبنا من القوى الاستعمارية". تركت يا صديقي كل ارث فكر ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار وما بعد البنيوية، والإقتصاد السياسي المعاصر، وسمير أمين وشومسكي (من كتبه: ماذا يريد العم سام، و النظم العالمية: القديم والجديد) وأدب النظرية النقدية وتوماس بيكيتي، وغياتري اسبيفاك في نقدها للعقل (المنطق) ما بعد الكولولنيالي... تترك كل ذلك خلفك وتزحف على عجل نحو خطاب اللبرالية الجديدة وبرامج التحرير الاقتصادي والسياسي!!. حتى مدارس الاقتصاد النيو كلاسيكي في عقر دارها شنأت سياسات وممارسات البنك الدولي، دعك من صندوق النقد، حتى جوزف ستغلتز حامل جائزة نوبل عرّي جوهر تلك المؤسسات النيولبرالي التي تعبدها نخب قحت ومجلس وزرائها. قمت بتعرية كل ذلك في مقالي (٢ من ٣).
ثم تطلب من الثوار ونخبها "العمل بجدية لتأسيس منهج الحوار العقلاني"!! ذات المنهج جعلك "تؤمن جازما، بان الأسباب التي قدمت لرفض التحالف مع قحت لإنهاء الحرب، هي أسباب غير مقنعة، والرفض هو امتداد طبيعي للخط اليساري الذي صار الخطاب السياسي المهيمن للجذريين". تتوهدب ليه يا سيد الديار الشيوعية؟.
أكتفي بذلك لأراجع ما بين يدينا من نص احمد عثمان حول مزاعم صديق الزيلعي في المقال السادس:
عنون أحمد عثمان مقاله بخلاصة تأكيدية "نعم لجبهة قاعدية واسعة، تبنى على أساس برنامج الثورة، وترفض الشراكة "نعم لتفكيك التمكين، لا للشراكة معه و إصلاحه". ثم ذكر احمد عثمان أن أفكار صديق خاصة في مقاله السادس "غير مقنعة وهي تهزم نفسها بنفسها".
ذكر أحمد أن لجنة إزالة التمكين إصلاحية من أساسها كونها "مكونة إستناداً إلى قانون شرع بموجب الوثيقة الدستورية المعيبة، التي أسست لشراكة كاملة مع التمكين وذراعه الضاربة اللجنة الأمنية للإنقاذ، وأعطتها اليد العليا وأخرجتها من سلطة الحكومة شبه المدنية، مما يجعل أي كلمات واردة بالقانون نفسه أو حتى بالوثيقة الدستورية مجرد كلمات لا أثر لها في أرض الواقع والتجربة أثبتت ذلك".
كلما فعلته لجنة إزالة التمكين مسحه "القضاء المسيس غير المستقل التابع للإنقاذ، والذي لم تتمكن لجنة التفكيك من إصلاحه ناهيك عن تفكيك التمكين".
أمّن أحمد أن الإتفاق الإطاري مفروض على شعبنا من القوى الاستعمارية، كونه " إتفاق سبقته مسودة الدستور المنسوب للجنة تسيير نقابة المحامين والذي نص على الكثير من النصوص التي وردت لاحقاً بالإتفاق، وتم الإثنان برعاية الآلية الدولية برئاسة فولكر ولم يتما عبر نقاش شعبي جماهيري أو بمشاركة الحركة الجماهيرية. وهو مفروض حتى على اللجنة الأمنية للإنقاذ التي إضطر فصيل منها لإشعال الحرب لتفادي الإتفاق الأخير الناتج عنه وشهادة قائد الجنجويد على إصرار الدول الإستعمارية عليه بعد الإنقلاب الأخير توضح من هو وراء هذا الإتفاق. فوق ذلك، هذا الإتفاق ناهضته جماهير واسعة بقيادة لجان المقاومة التي تمثل الثورة، وسعت الآلية الدولية للدول الإستعمارية المهيمنة على مجلس الأمن على تمريره وفرضه، مثلما سعى الأمين العام لفرض إتفاق برهان/ حمدوك المشرعِن للإنقلاب الأخير عبر مباركته علناً".
كذلك أكّد أحمد أن الإتفاق الإطاري نفسه نصّ على "جسم دستوري غريب هو مجلس الأمن والدفاع، يرأسه رئيس مجلس الوزراء المدني ويخضع لقراراته حتماً، وهو مجلس سلطاته غامضة، تهيمن عليه اللجنة الأمنية للإنقاذ وحلفائها، ويمثل أصل الشراكة المستمرة ومركز السلطة الفعلي بموجب هذا الإتفاق". وأن "من كان يريد فرض هذا الإتفاق المشرعن للجنجويد و المؤسس لشراكة دم جديدة على شعبنا، (قحت) واللجنة الأمنية للإنقاذ وحدهما تم بضغط ورعاية وتوجيه الدول الإستعمارية؟".
وحسب أحمد أن رؤية قوى التغيير الجذري حول الجبهة القاعدية المطلوبة لإيقاف الحرب هي أن "العامل الاساس في ايقاف الحرب ، هو الرفض الجماهيري لها ، وتحويل هذا الرفض الى وعي متكامل ومنظم ، تبنى على اساسه جبهة قاعدية واسعة ، ببرنامح يقصي الطرفين المتحاربين ، ويرفض مشاركتهما في الخارطة السياسية ، وتقديم بديل ثوري مبني على مشروع ثورة ديسمبر المجيدة ، يهزم الدعاية التي تجيش للحرب ونصرة طرف على آخر. وحتى لا يفهم من ذلك ان المقصود هو لملمة المدنيين كيفما اتفق".
أضيف الي أطروحة أحمد حول الجبهة القاعدية العريضة أن "البحث عن الاعتراف الدولي" بالجبهة القاعدية العريضة لابد أن يقوم علي رؤى ومفاهيم السيادة الوطنية ويجب أن يتم بشروط ومتطلبات ثورة ديسمبر وشعاراتها حرية حقيقية، سلام اجتماعي شامل، عدالة إجتماعية تسترد كلما نهبته جنرالات المؤسسات العسكرية التي تقود الرأسمالية الطفيلية وتشطب كل اتفاقيات سلب الأراضي السودانية. أتفق تماماً مع أحمد حول المطلوب وهو "ضرورة التحرك الآن لا انتظار الحرب ان تنتهي او ان يفرض المجتمع الدولي وقف إطلاق نار على الطرفين المتحاربين، لأن الانتظار يعني ان يفرض وقف إطلاق النار مع شروط سياسية دولية، ستجعل من الطرفين جزءاً اصيلاً من المعادلة السياسية، بعد ان تجلب الذين ينادون بالعودة للعملية السياسية من التسوويين، للاتفاق على شراكة دم جديدة. وهذا يعني ان بناء الجبهة القاعدية يحقق هدفين، هما طرد الطرفين المتحاربين من العملية السياسية، ومنع التسوويين من الدخول معهما في شراكة جديدة تمكنهما من حماية تمكينهما، والإفلات من العقاب".

سنفقد الوطن حين يكون مشروع التغيير إصلاحياً وتوفيقياً لا يمس الدولة العميقة الكليبتوقراطية

أقدم هنا مساهمة نقدية حول مقال صديق الختامي الموسوم "ما قيمة أي مشروع مستقبلي للتغيير عندما نفقد الوطن" ورد أحمد عثمان عليه.
ختم الزيلعي مقاله الأخير بهذا السؤال العاطفي التراجيدي القياموي العدمي اللامعقول: المشروع الإصلاحي الذي نتفاوض فيه مع النظام البائد الذي دحرته ثورة ديسمبر ولكنه عاد من جديد ولن نهزمه مرة أخرى عبر مشروع تسووي توفيقي ونضع شعارات ومطالب ثورة ديسمبر خلفنا ، لأن طائر العنقاء الخرافي ذو الاجنحة الأربع التي تقود الرأسمالية الطفيلية (الإسلاميون والمؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيا) سيخرج من الرماد ثانية ويحول الحرب الي "حرب أهلية شاملة على أساس الهوية والانتماء الاثني"... نعم لقد هزمناهم من قبل في ديسمبر ٢٠١٨ وهم كتلة واحدة، لكن الآن هم كتلتان... لو توحدت قوانا "سندخل المفاوضات ونفرض حلا سلمياً" فيها... وهنا تنبثق آلاف التناقضات و الأسئلة. ألم ندخل مع هؤلاء في تفاوضات، وتم رفضها وتجميدها، وتم سحل المتظاهرين السلميين وتمت مذابح في بورتسودان، ودارفور والعاصمة، ومذبحة فض الاعتصام ، وتم تجميد العلاقة مع قحت ثم تمت عدة إنقلابات من هذا الثالوث وهم جسد واحد في أبريل ٢٠١٩، ثم إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ؟. لم يتم ذلك السيناريو الدموي منذ ١٩٨٩، ثم استمر بعيد الثورة عبثاً، وإنما هناك مصالح طبقية ملموسة تراكمت عبر أكثر من ثلاثة عقود في قطاعات رأس المال المصرفي الإسلامي وتم تدشين شريعة إسلامية على مقاس حماية المصارف الإسلامية وبرع عنف دولة الإسلام السياسي الدموي في المذابح في الجنوب حتى وقف العالم المسيحي واليهودي وحكومات الشمال الكوني لإيقاف الحرب، وكان ثمن إيقاف تلك الحرب الأهلية هو فصل الجنوب وهزيمة مشروع الوحدة العاطفي. ثم عبر مشروع الخصخصة الذي من لدن البنك الدولي والصندوق تم نهب جميع موارد الدولة التنموية والصحية والتعليمية، وتم نهب النفط والذهب لصالح راسمالية الأخوان المسلمين الطفيلية. ولأن عقد المؤسسة العسكرية والأمنية المهني والوطني قد إنفرط لجأت تلك المؤسسة الي صناعة المليشيات منذ المراحيل لتقاتل معارضيها حملة السلاح وتغتصب وتشرّد وتقتل المدنيين المعارضين في أماكن العمل والمدارس والأحياء لتضمن سطوتها وسيادتها عبر المذابح والعنف الدموي. نحن اذا نواجه بنية نازية فاشية واستغلال مطلق، لذلك إخترعت له آيدلوجيا الدين المطلقة لكنها لم تعصمها من نار و وطوفان المقاومات. حالم غافل فطير من يظن أن تلك البنية ستذهب طواعية وتترك سلطانها وسلطتها وأموالها طواعية، ودون محاكمات وتذهب للثكنات راضية مرضية عبر مشروع تفاوضي إصلاحي. كما أن جميعنا يعلم أن تلك البنية باعت للدول الإقليمية والدولية موارد البلاد عبر اتفاقيات "استلاب الأرض" موثقة بفضائحيتها. كل سجل المرحلة الإنتقالية وثق لتلك البنية وهي متماسكة، فكيف لها أن عادت وأوقفت الحرب لتقسم الخيرات الباقيات من ثروات حيوانية وذهب ويورانيوم وجبايات بينها، ثم تواصل محاصصات سلام جوبا للحركات المسلحة التي تعرف كيف يرتزق قادتها وبعض ضباطها من الاستوزار، ودونكم فعايل وممارسات جبريل ابراهيم في وزارة المالية ومبارك أردول المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية منذ أبريل ٢٠٢٠. تلك منظومة فاسدة متسلطة فاشية جربناها، أما جماعة قحت أيضاً جربناها حين أدارت ظهرها للثوار.
تعقّد المشهد بأن الحرب أصبحت الآن بين مليشيا الجنجويد ومليشيات الاخوان المسلمين، والأخيرة تآمرت وسطت كعادتها علي المؤسسة العسكرية والأمنية؛ أما الجنجويد فقد أخذوا حصتهم أيضا من قيادات الاخوان المسلمين.
لن يتم دحر تلك البنية المحلية وحلفائها الاقليميين (مالكو عقود استلاب الأرض) عبر تفاوض ممثلين من قحت وقوي مدنية تجتمع سرياً وتتعامل مع الآخرين بفوقية كما ذكر صديق الزيلعي في نقده العابر الشكلي أعلاه. وفي الختام يصر صديق بعد احتطاب كل دفوعاته الضعيفة والتي تم تفكيكها ضمن هذه الحوارية أن "الجذريين يصرون على رفض قيام الجبهة الواسعة ، بالشكل المتعارف عليه مع القوى السياسية والنقابية والمدنية ، ويقترحون جبهة قاعدية ، مجهولة الهوية ، في إصرار عنيد على ابعاد مكونات الحرية والتغيير".
يغفل صديق الزيلعي تماماً عن تاريخ النخب السودانية الجديد منذ دعاوي ودفوعات مشروع الوحدة الذي للحركة الشعبية المسلحة، ثم نخب انتخابات ٢٠٢٠، وحوارالوثبة، والهبوط الناعم بكل تجلياته وأشباح بعاعيته التي كانت تردد ذات مفاهيم صديق وهي التفاوض مع الدولة العميقة الكليبتوقراطية السائدة الدموية لأن الثورة ضدها ستقّسم السودان، وتدفعنا نحو الحرب الأهلية وكأننا لم نستهل فجر استقلالنا بمذبحة عنبر جودة .... وحرب أهلية طويلة المدى في جنوب السودان وفي الضعين والجبلين و حروب أهلية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق حيث تخوم المقاومات المسلحة ... أما في شمال السودان فحدّث ولا حرج من اغتيالات وتشريد العمالة المعارضة، وشهداء رمضان القديم والجديد. ظلت الشعوب السودانية تقاوم من أجل ذلك "الوطن" ودفعت الثمن ولن تنفك. لقد ولدت بنيات جديدة من رحم القديم المقاوم في ٢٠١٣ وتراكمت في ٢٠١٨، ولن تنفك تقاوم وتدفع الثمن. هل كان ذلك الفضاء الدموي القياموي وطن؟ وكم مرة فقدنا ذلك الوطن بالتقسيط لأن مثل هذه المزاعم والمفاهيم تود أن تفاوض قتلة ومرتزقة وقطاع طرق استقطعوا (مع حكومات ملكية مطلقة ودكتاتورية اقليمية) ثرواتنا فوق الأرض وتحتها؟!. مشاريع التغيير التي تقاوم ولا تساوم ولا تفاوض ستحقق وتنجز وطن عاتي، وطن خير ديمقراطي. في الحقيقة سنفقد الوطن حين نتبني مشروع تسووي قحت يمهد لترسيخ دائرة شريرة جديدة حرب - إنقلاب - حرب.

أخترت الإقتباسات التالية من رد أحمد عثمان:
أصاب صديقنا أحمد عثمان بضرب المسمار على راسه حين كتب "المستقبل لا يمكن فصله ميكانيكياً عن الحاضر، وإيقاف الحرب يتم على أساس خط وبرنامج سياسي؛ ولن يوجد وطن في ظل بقاء الشراكة وشرعنة أطراف اللجنة الأمنية للإنقاذ". طرح أحمد عثمان أسئلة المليار دولار بأفق سياسي عالي السقف الفكري الاستراتيجي "الخروج من الحرب سيتم حتماً وفقاً لخط سياسي وبرنامج سياسي، يجاوب على أسئلة لا تحتمل التأجيل مثل: هل سيتم وقف الحرب بالإعتراف بطرفيها وقبولهم في المعادلة السياسية المستقبلية أم لا؟ هل ستتم على أساس مشاركتهم في السلطة عبر إستكمال الإتفاق الإطاري أم بإبعادهم تماماً وتجاوز ذلك الإتفاق الذي قبرته الحرب؟ هل ستكون هناك شراكة من أي نوع معهما أو مع طرف منهما أم لا؟ هل ستتم محاسبة المجرمين من الطرفين أم سيتم السماح لهم بالإفلات من العقاب مجدداً؟......... وكيف ستتعامل مع مؤسسات التمويل الدولية من مواقع التبعية أم السيادة الوطنية؟. هذه الأسئلة ليست مؤجلة كما يظن دعاة التحالف من أجل إيقاف الحرب للحفاظ على الوطن، لأنها بطبيعتها آنية تحدد كيف سيكون حاضر ومستقبل الوطن". أسئلة أحمد الجوهرية الإيحائية أعلاه تحمل على متنها الإجابات الشافيات. وختمها بالقول الفصل : "أن وقف الحرب إذا إعتبرناه تكتيكاً، يجب ألا يتم فصله عن الإنتقال من دولة اللجنة الأمنية "الإنقاذ" إلى دولة السودانيين المدنية الإنتقالية، التي تؤسس للتحول الديمقراطي. والقول بغير ذلك يعني فصلاً متعسفاً بين التكتيكي "إيقاف الحرب" والإستراتيجي "الإنتقال" ، وتغليب الأول على الثاني، وهذه هي الإنتهازية السياسية في أبهى صورها، التي تقود حتماً إلى تقويض الإستراتيجي ومنع الإنتقال".
يعيد احمد عثمان تأكيد أطروحاته كما يلي: " (قحت) ليس مطلوب منها نقد الشراكة، بل مغادرة الشراكة، وهو ما لم تفعله حتى الآن. فهل المطلوب من الجذريين أن يغادروا هذه المحطة قبل أن تغادرها الجهة المعنية أم ماذا؟". و يخلص أحمد عثمان إلى أن "الخلاف بين قوى التغيير الجذري و (قحت) خلاف استراتيجي
يمنع التحالف بينها، أساسه عدم الإتفاق على العدو، الذي يؤسس لقبول (قحت) شراكات الدم مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، وهي غير راغبة في تجاوز ذلك ومستمرة في الدفاع عن الشراكة تحت مسمى العملية السياسية، وهذه العملية التي تقوم على التسوية عبر التفاوض تؤدي حتماً إلى شراكة وإقتسام للسلطة، حتى و إن كانت واجهة هذا الإقتسام (حكومة سلطة تنفيذية) مدنية كاملة، طالما أن أدوات إستخدام العنف (جيش، جنجويد وقوات نظامية)، تبقى خارج سلطة الحكومة الإنتقالية وفي يد اللجنة الأمنية للإنقاذ، وطالما أن هناك مجلس أمن ودفاع قراراته ملزمة لرئيس الوزراء مسيطر عليه من قبل هذه اللجنة أو أحد أطرافها. هذه التسوية والشراكة تمثل إمتداداً لمشروع الهبوط الناعم، الذي يقوم على عدم الثقة في إرادة الجماهير، وعلى تعويم سلطة الإنقاذ وإشراك معارضتها في السلطة من مواقع الهزيمة بناءً على توازن الضعف. لذلك البديل يتقوّم في جبهة قاعدية تقودها لجان المقاومة في تحالف مع القوى النقابية والمدنية الأخرى التي أنجزت الثورة، وبدعم من الأحزاب الوطنية، في تحالف تنسيقي يقوم على برنامج الثورة ويقصي اللجنة الأمنية للإنقاذ ويسعى لإسقاطها، سلاحه الإضراب السياسي العام والعصيان المدني، وإرادته إرادة الجماهير، وبرنامجه يقوم على سلطة الجماهير وسيادتها، وتعامله مع مؤسسات التمويل الدولية يقوم على التعامل من مواقع السيادة لا التبعية، في إدراك تام لتوازن القوى في حال الصعود الجماهيري ولطبيعة العدو، وعدم سحب لتجارب الماضي لتطبيقها حرفياً على حاضر مغاير، وفهم لمدى الترابط الديالكتيكي بين الحاضر والمستقبل والتكتيكي والإستراتيجي حتى لا يسقط في براثن الإنتهازية والتفكير الميكانيكي في ظل واقع متحرك تترابط ظواهره وتؤثر في بعضها بعضاً".

زبدة القول الختامي:
أطروحة صديق الزيلعي وغيره من النخب التي تيبع الماء في حارة السقايين (السقاة) تدّعي قراءة التاريخ ولكنها تقرأه إنتقائياً. مرّ السودان بتجربة شبيهة بتجربة الحكومة الإنتقالية ولكن لم تقرأها النخب العجولة نقدياً وبألمعية جذرية، حتي لا ندخل في شبهة جحر ضب التخوين المجاني. روّجت نخب واسعة وعريضة من قبل في ٢٠٠٥- ٢٠١١ لمشروع مساومة وتسوية فوقية قادتها قوي محلية وإقليمية وعالمية بقيادة الحركة الشعبية (وفي معيته أحزاب المعارضة السودانية جمعاء) من جانب والمؤتمر الوطني الحاكم من جانب آخر ؛ وكانت حصيلتها اتفاقية سلام غير شامل وفشلت ذريعاً فى ترسيخ التحوّل الديمقراطي ، بل أسفرت عن سقوط المشروع الوحدوي وانفصال جنوب السودان ، ثم حروب أهلية دموية فى الجنوب وأخري فى السودان الشمالي وترسيخ مشروع عنف ونهب الاسلام السياسي فى الشمال ومواصلته إبادة مواطنيه لمدة تقارب العقد من الزمان. ثم جاء حين آخر من الدهر القريب جدا هو تكالب ذات القوي المحلية-الإقليمية-العالمية لتبيعنا ذات الماء العكر عبْر حزمة الحكم الإنتقالي السياسية الاقتصادية (٢٠١٩-٢٠٢١). ثم يصر الزيلعي علي التبشير بذلك الغثاء. نعم غثاء، حيث يزعم ويراهن ذلك المفهوم علي تأبّط جزء أصيل من منظومة الاسلام السياسي (المؤتمر الشعبي) علي المشاركة فى السلطة والثروة. حملت النخب في ٢٠٠٥-٢٠١١ وفي خديعة انتخابات 2020 إلتباساً مفهومياً ساهم فى تأخير ثورة ديسمبر ٢٠١٨ حيث باركت مفهوم ومشروع تسووي ساهم فى تسويق تلك الخديعة الكبرى. لقد طفّف مشروع الهبوط الناعم الطبيعة الفاشية لمشروع الاسلام السياسي ، فتحالف مع المؤتمر الشعبي الذي كان مشاركاً في سلطة الإسلام السياسي في عقدها الأول.
قادت مشروع الهبوط الناعم قوي النضال المسلح (الحركات المسلحة المرتزقة) و نخب من المجتمع المدني سحرها عطاء المجتمع الدولي الزائف وربيبه الاتحاد الافريقي والدول العربية الأربعة التي تتبضّع فى اختراع تسوية تسمح لرأس المال العالمي والإقليمي ضمان تسويق استراتيجيته فى مشروعات الاستيلاء على الأرض والموارد السودانية من ماء وكلأ ومعادن.
لقد نبه من قبل د. البطحاني بأننا "لا نحتاج للتأكيد على أن المرحلة الانتقالية تأتي هذه المرة والبلاد لا تحتمل تكرار تجربة الانتقالات - يكفى الرصيد منها" (راجع كتاب إشكالية الإنتقال السياسي فى السودان" سبتمبر ٢٠١٩ ، ص ١٢) .
لا تري نخب الإنتقال الحالية (قحت) ضرورة مقاطعة خطاب الدولة العميقة ،مفهومياً ومشروعاً، الذي تمكن من السيطرة المركزية على السلطة بمعية مشروع تجاري طفيلي مركزي ليس من استهدافاته بناء دولة مواطنة وإنعتاق وتنمية متساوية متوازنة وانما مشروع خصخصة شاملة مكّن لجماعة سياسية واحدة بالعنف والإبادات ومشروع ثقافي عربسلامي مركزي لطبقة سياسية فاشية عاجزة. لابد من تسمية ذلك المشروع والخطاب بأنه إبن شرعي لحركة الاسلام السياسي (الإخوان المسلمين)، وليس المؤتمر الوطني وحده الذي يلهجون بأنه سيكون خارج مرحلة الإنتقال سياسوياً فقط. بمعني آخر فان قحت مطالبة برفض الدولة العميقة جملة وتفصيلا وضمنها ليس رفض المؤتمر الشعبي وحده، بل دعاة خصخصة الدولة العميقة الذين يتكالبون علي صندوق النقد. لا يحق للمرء أن يحترم نخب قحت ومجلس وزرائها الذي لم يقم بأبسط ما يمكن فعله وهو إلغاء قانون نقابة المنشأة والعودة لقانون 1987 لحين إجازة القانون الجديد.
وبذكر د. البطحاني أود تنبيه النخب التقدمية أن تتحري الثورية والعمق، حيث فوجئتُ أن د. البطحاني زعم أن المجلس العسكري "ساند الحراك الشعبي وكان موقفه حاسماً فى وضع حد للنظام" ( نفس المرجع ، ص ١٥). وهنا يجب ذكر عقد الصادق المهدي الاجتماعي الذي يزعم بأن "المكون العسكري انحاز للثورة" ، دون أن يذكر لتقويض الثورة من داخلها ، كما دعا الصادق المهدي الى مسخ تجمع المهنيين بتحويله "الى حزب سياسي أو نقابة مفتوحة لجميع المهنيين" بما فيهم نقابات النظام البائد. كما اقترح العقد تحول منظمات المجتمع المدني الى أحزاب سياسية، وأن تتحول قحت إلى جبهة ميثاقها العقد الإجتماعي الجديد. ذكرت هاتين المثالين للتأمل في مدي الإرتباك المفهومي لدي كثير من النخب حول عدم رفض الدولة العميقة حتي قبل انقلاب الحرب ( أو حرب الإنقلاب) في ١٥ ابريل ٢٠٢٢.
لا أود هنا التجنّي علي إقحام منطلقات د. البطحاني في أطروحة الزيلعي الإصلاحية ، لكنني لاحظت أن البطحاني ينطلق من إطار نظري فحواه أننا إزاء "انتقال وليست ثورات كبري" وكأن هناك تلميح الي نهاية التاريخ و نهاية الثورات ( الثورة الفرنسية والروسية الخ ) ؛ وحسب البطحاني فان هناك دول فاشلة ودول ناجحة و دول هجين بينهما ، وكأن عبارة ثورة أصبحت سبة فى خطاب النخب المعاصر. زعم البطحاني فى موضع آخر أن ثورة ديسمبر "تحققت عبر حراك ثوري شعبي ناجح، وحسمها الجيش بالتدخل والانحياز لقوى الثورة" (ص ٧٦) وهذا بلا شك إستنتاج خاطئ. علي كل حال نبهنا البطحاني الي عوامل تؤثر سلبا على التحول والانتقال وتلك علي العين والرأس كما يقولون ، وضمنها (ضعف القيم الديمقراطية وإصرار المحافظين علي ابعاد "اليسار" من السلطة السياسية) كما فعل ساسة الدولة العميقة في طرد الحزب الشيوعي
من البرلمان. ورغم ذلك أستغرب لعدم حساسية وجفاء عبارة الزيلعي في إعادة استخدام مصطلح "اليسار" بخفة مريبة حيث استخدمه البطحاني بحساسية إيجابية ثورية مستحقة. ونبهنا البطحاني الي عوامل تؤثر علي الإنتقال منها انهيار القانون والنظام بسبب الإرهاب وأعمال العصيان والتمرد (ليبيا ، السودان، تشاد، اثيوبيا، ارتريا، الصومال).. مع احتمال غزو أجنبي.
وحتي نزيل غباش العيون أننا لسنا بصدد قراءة اليد والفناجيل ولا نضرب الرمل ونقول ببساطة واقعية ضرورة وجود ديموقراطية وطنية محلية قاعدية شعبوية جذرية تدير وتحكم صراع العمل وراس المال علي أسس حضارية، وأن قوي ثورة ديسمبر أسست لذلك الخطاب. لابد من توازن قوي طبقي جذري من مفهوم واضح قوامه أن سيطرة راس المال (ونفوذه الاجتماعي السياسي والديني) ستسعي الي أن تمسخ الديمقراطية الي عملية قانونية-شكلية والتحدي هو تحويلها الي ديمقراطية ذات مضمون اجتماعي حقيقي ومناخ لمراقبة ومساءلة الحكام من قبل المحكومين. هذا يعني أن تتوفر شروط اقتصادية إجتماعية وحريات أساسية تتيح للطبقات الشعبية والنقابات ومنظمات الشباب والمرأة والقوميات المضطهدة أن تكون حرة فى تكوين تنظيمات مستقلة عن قهر راس المال وعن سيطرة القومية الحاكمة ونفوذ الجماعات الطائفية والقبلية والعشائرية والدينية.
ومن وحي استقراء كتابة البطحاني يجب ضرورة التنبيه الي أن الثوار يهدفون الي مفهوم ومضمون طبقي لإنتقال جذري ينقل البلاد نحو "إتجاه المجري الموضوعي لحركة التاريخ السائرة للامام - حتى وإن لم تلبي كل مطلوبات الثورة" (ص 41). إذن يجب أن ننقب فى سلطة الدولة وهيكل السلطة ومؤسساتها وقوانينها وتوجهاتها وثوابتها.
هناك مشروع هبوط ناعم يستهدف ايقاف الحرب بمشاركة المنتصر فيها وبإنتخابات مخجوجة سريعة إجرائية تحافظ على جزء من النظام القديم القائم ووراثته. وبالضفة الأخرى مشروع جذري يبحث عن عقد اجتماعي يمس مؤسسات الدولة القائمة والراسمالية الطفيلية وقواها ويقوم على دولة المواطنة والعدل الاجتماعي والتعدد الثقافي والاجتماعي؛ بمعني تصفية النظام الابوي الذكوري والتحرر اقتصادياً من سيطرة الراسمالية الطفيلية القديمة والجديدة، وسياسياً من تغوّل الإسلام السياسي وتسلط كهنوت رجالات الإدارة الأهلية.
من شروط مفهوم التحول الجذري في بنية السلطة هو تحرير مفهوم وبنية السلطة من مضمونها القسري القائم علي القهر المادي (سيطرة القوي العسكرية على مفاصل السلطة) والمعنوي (القانوني، الثقافي، الإثني، والذكوري) . و إلغاء دور الراسمالية التجارية الطفيلية وراسمالية المحاسيب اللصوصية التي تعتمد على هبات الدولة وسرقتها وشركات المؤسسة العسكرية والأمنية والمليشيا.
لا بد من محاصرة قوي الهبوط الناعم حول رفض الإنخراط فى نادي العولمة ومنظمة التجارة العالمية والصندوق والبنك ومشاريع الخصخصة واقتصاد السوق المطلق الذي يؤثر سلبياً علي مستقبل السودان. ثم رفض مشاريع المصالح الإقليمية والعالمية ورهانهما على الإبقاء علي سياسات النظام البائد :عقود الأرض ، البترول والذهب ، والماء ، ورفض الكمبرادورية الإسلامية التي ترسخ مصالح بيوتات المال الاسلامي الإقليمي والعالمي والاعتماد على رؤوس الأموال الإسلامية (البنوك الإسلامية) لتمويل حماية الدولة العميقة.
لم يستثمر المشروع الناعم الانتقالي قوة دفع طاقة ثورة ديسمبر ليحفر عميقا مجرى للإنتقال الديموقراطي نحو مشروع استنارة سودانوي. لذلك لم يحفل بقوي الثورة من تجمع مهني وشباب ومرأة في لجان المقاومة لتشكيل حاضنة سياسية اقتصادية إجتماعية فعالة تقود مرحلة انتقال ناجحة باستثمار زخم الطاقة الثورية والوعي رغم بطء وتلكؤ الشق المدني وتجاوز الشق العسكري للوثيقة الدستورية وهيمنته. لقد هيمنت نخب منبتّة قوامها مشروع التسوية ومنها العقد الاجتماعي الذي دعا له الامام كونه يقوى عناصر الدولة العميقة ويمنحها شيك على بياض. مشروع التسوية هو العدو الحقيقي الذي تربص بهذه الطاقة الثورية وهو تحالف قوي المحافظة المحلية والإقليمية والعالمية التي تستثمر وتستخدم مخالب وأسنان رؤية واستراتيجية اللبرالية الجديدة. ماذا يعني أن تكون ميزانياتنا العامة منذ ٢٠١٤ هي ميزانيات تجهّز للحروب بمعني أن نصيب الدفاع والأمن والشرطة والقطاع السيادي في تلك الميزانية كان ٧٧٪ ، أما ميزانية حكومة حمدوك كانت أكثر سوءاً.
مراجع:
د. عطا الحسن البطحاني "إشكالية الإنتقال السياسي فى السودان" ، سبتمبر ٢٠١٩.
موقع مقالات د. صديق الزيلعي حول مقال د. أحمد عثمان:
https://www.alrakoba.net/author/d-s-alzailaie/

elsharief@gmail.com

 

آراء