مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي ود. أحمد عثمان

 


 

 

مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي ود. أحمد عثمان
جدل وحيثيات التحالف والشراكة والهبوط الناعم والحل السياسي
(1-2)
الفاضل الهاشمي
٨ أكتوبر ٢٠٢٣

أرى ما أريد من الحرب..
إني أرى سواعدَ أجدادنا تعصرُ النبعَ فى حَجَر أخضرا
وآباءنا يرِثُون المياه ولا يُورثو، فأغمض عينيّ:
إن البلاد التي بين كفيَّ من صُنْع كَفّىّ

أرى ما أريد من الدم: إنى رأيتُ القتيلْ
يخاطِب قاتِلَهُ مذ أضاءت رصاصتُه قلبَه: أنت لا تستطيعْ
من الآن أن تتذكّر غيري. قتلتُك سهواً، ولن تستطيعْ
من الآن أن تتذكّر غيري.. وأن تتحمّل وردَ الربيعْ

أرى ما أريد من المسرحِ العبثيِّ: الوحوشّ
قضاةَ المحاكم، قبّعةَ الإمبراطور، أقنعة العصر،
لونَ السماء القديمة، راقصةَ القصر، فوضي الجيوش
فأنسي الجميع، ولا أتذكّر إلا الضحية خلف الستار

أرى ما أريد من الفجر في الفجر.. إني أري
شعوباً تفتّش عن خبزها بين خبز الشعوبْ
هو الخبز، ينسُلُنا من حرير النعاس، ومن قطن أحلامنا
أمِنْ حبّة القمح يبزغُ فجرُ الحياةِ .. وفجرُ الحروب؟

محمود درويش، "رباعيات" من ديوان "أري ما أريد".

مقدمة حول الحوارية وتعريف خطاب الحرية والتغيير:
أقدّم هنا مساهمة نقدية لخطاب د. صديق الزيلعي في مجمل الحوارية مع د. أحمد عثمان. لقد استهل د. صديق الزيلعي حواراً ناقداً لمقال د. احمد عثمان عمر بعنوان: " الخلاف بين قوى التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي". يدعو د. صديق الزيلعي الي "حوار جاد وعقلاني" وكأنما يوحي بأن ما يطرحه د. احمد عثمان، أو دعاة التغيير الجذري غير جاد وغير عقلاني.
هذه الكتابة نقد وتفكيك مباشر لنصوص الصديق د. صديق الزيلعي، وحيث اورد نصوص أحمد عثمان فانني أتناولها من اقتباسات صديق الزيلعي. هذا التنبيه مهم، حيث انني على إتصال فكري وثيق وخاص بكتابات ومساهمات د. أحمد عثمان، ولكنني فضلت هنا أن أحاور وجهة نظر صديق الزيلعي عبر تناوله مقال احمد عثمان. غنيٌ عن القول أن موقفي الفكري والإستراتيجي والمنهجي لا يختلف كثيراً عن مساهمة صديقي أحمد عثمان لذلك أخترت أن أفكك خطاب صديق الزيلعي أولاً ثم أقتبس ما أراه مناسباً من نصوص د. أحمد عثمان، وأحمد وشخصي نلتقي ونتكامل فكرياً وإستراتيجياً في هذه الحوارية.
افادة محورية فى تعريف الخطاب:
لا يطيب المقام الوجودي ، المالي والاجتماعي والسياسي، للبرجوازية عموماً وخاصة برجوازية الجنوب الكوني الطفيلية وهي خارج جهاز الدولة. بمعني آخر، لا توجد فى المشهد الطبقى برجوازية عزيزة ومكرّمة خارج جهاز الدولة، أقصد برجوازية تستغني عن جهاز الدولة وتبقي علي قيد الحياة دون أن تلتحم به عضوياً. غنيٌ عن القول ان الصيرورة الاقتصادية بحاجة الي بنيات سياسية مطيعة تفعل ما تريد الصيرورة ؛ وفى نهاية المطاف وبدايته الدائرية تكون شركات الاحتكارات الكبرى وحلفاؤها فى المراكز الراسمالية والجنوب الكوني هى من يملك القرارين معاً.
الخطاب هو "مجموع التعابير الخاصة التي تتحدد بوظائفها الاجتماعية ومشروعها الأيديولوجي" (سعد علوش). وهذه التعابير ذات احتمالات استراتيجية وعلاقات تنشأ بين الافادات" (عبد الله علي إبراهيم). إن انتاج الخطاب فى كل مجتمع يخضع لرقابة ولاصطفاء ولتنظيم ومن ثمّ لاعادة توزيع وفقا لتدابير تهدف الى تحاشى سلطة واخطار الخطاب واستبعاد اثر الاحداث عليه وتجنب ماديته الثقيلة (ماركس/انجلز الايدولوجيا الالمانيه). يقول ميشيل فوكو (فى نظام الخطاب) ان الخطاب قد يبدو فى الظاهر "قليل الخطر ، و لكن المحظورات التى تحيط به تكشف بسرعة عن علاقات الخطاب نفسه مع الرغبة و السلطة..... انه بحد ذاته موضوع لصراعات الانسان". والخطاب هو مجموعة التصورات التي تشكل الفضاء المعرفي لفرد أو مجموعة بشرية فى سياق تاريخي واجتماعي وسياسي محدد.

خطاب قوي الحرية والتغيير (قحت):
أزعم هنا أن جوهر خطاب قحت هو مداهنة الدولة العميقة "النظام القديم" الذي مازال فاعلاً علي المستوي الاقتصادي الاجتماعي وعلي مستوي التشريعات والقوانين والخدمة المدنية، رغم أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ هزمته سياسياً، لكنه ما انفك يحاول بعدة طرق أن يعيد إنتاج أشباححه وظلاله وروحه الشريرة الدموية عبر نخب ومؤسسات سياسية فوقية لا يختلف خطابها في جوهره منها، اللهم إلا من حيث الشكل لا المحتوي. يتبع ذلك الزعم طبيعياً وصف خطاب قحت بأنه تسووي وتفاوضي مع الدولة العميقة والشراكة مع لجنتها الأمنية حتي يهبط معها ناعماً دون خشونة ثورية، فهو خطاب جوهره إصلاحي توفيقي غير ثوري كما تتبدّي مطالب ثورة ديسمبر. لذلك تجلي الخطاب في سياسات وممارسات واستراتيجيات عديدة سنتعرض لتفكيكها عبر تناول الحوارية التي ابتدرها د. صديق الزيلعي في تناوله الي مقال د. أحمد عثمان، الذي قطع شوطاً كبيراً في حوار أطروحات د. صديق الزيلعي. ومن السذاجة وضيق الأفق ضمن نقد خطاب قحت أن نتحدث عن "تخوين" لها، اللهم من باب الطفولية الفكرية السياسية. نقد خطاب قحت والأحزاب التي تنشط فيها من حزب أمة ومؤتمر سوداني واتحادي ديمقراطي لا يعني أن التحالف معها مستحيل وإنما يعريها أمام مجموع عضويتها الثورية التي لا مصلحة لها في سياسات أحزابها، ذات الجماهير التي خرجت وشاركت في الثورة وقدمت الشهداء في سبيل التغيير. ولأن خطاب قحت يتعايش مع مفاهيم الدولة العميقة، نراه لا يتمسك بشعارات الثورة والشرعية الثورية بحبل من مسد وبثبات متّسق ومتناغم، وسرعان ما يتركها خلفه.
نحن إزاء نقد صارم، علي مقاس وسقف ثورة ديسمبر ٢٠١٨، نقد يُعلي من شأن المبدأ الثوري وهو أن تكون الثورة أو لا تكون. ننطلق من قوي ثورية تخاطب الجذور وتعاف القشور. وبهذا النقد الحازم نود أن نعيد للثورة صوتها الثوري العالي وأن شعوبها التي ثارت ضد آيدلوجيا طاغوت الإسلام السياسي المطلق ونهبه وعنفه المطلقيْن فأسقطه كم مرة منذ ديسمبر ٢٠١٨ وفي ابريل ٢٠١٩ وفي ملاحم وتركة وإرث ومآثر إعتصام القيادة العامة ومجزرة في ٣ يونيو ٢٠١٩، وفي هبة العواصم في ٣٠ يونيو ٢٠١٩. وإزاء هذا السقف العالي لم تتخلّق نخب سياسية علي قدر المقام، نخب تمتلك جرأة الفعل السياسي، كونها تقف علي إنجازات ثورية ضخمة، ولا تشعر بالرهبة من جنرالات اللجنة الأمنية حتي وهبتها طواعيةً مفاتيح أهم ملفيْن هما السلام والإقتصاد؛ أو الدونية من دول الإقليم الثلاثة (السعودية، الأمارات ومصر) فتعجّل الجري وراءها؛ وزياراتها الدورية المريبة لترد من مائها كدراً وطيناً. ولا ننسي إجتماعات قادة قحت السرية التي تتسرّب في مدينة لا تعرف الأسرار في منازل رجال الأعمال وكبار الملاك وتضم رجالات الدولة العميقة، لحسم الأمور الجسيمة والإختلافات الأساسية بين اللجنة الأمنية وقحت!. ذلك كان بعض خطاب قحت الدبلوماسي المتراخي "الخيخة". إذن نحن لا نصدر من هرجلة يسارية طفولية و"تخوين" طفيلي، أو تشفّي آيدلوجي مراهق غشيم في نقد مجمل خطاب (مفاهيم وممارسات) قحت، وإنما نصدر من مسؤولية ناقدة لكل أشكال تسويف مطالب ثورة ديسمبر وتطفيفها بذرائع التدرج في إزالة تمكين الدولة العميقة ببصر وبصيرة ثوريتين.
حين أتناول سياسات وممارسات د. عبد الله حمدوك ضمن خطاب قحت لا أنوي دمج بنيتين (رئاسة الوزراء ومجلس الوزراء من جهة وقحت من جهة أخري) ولكن بغية توضيح أن خطابهما واحد من حيث العلاقة بمطالب وشعارات القوي الثورية التي كانت تسوق التغيير نحو مآلات تتعلق بمطالب ثورة ديسمبر.
سأتناول في مقالين تفكيك خطاب صديق الزيلعي عبر مقالاته السبع. المقال الأول يغطي أربع مقالات، الأولي، الثاني، الثالثة والخامسة. وفي المقال الثاني سأتعرض للمقال السادس والسابع، ثم أختم بالرابع. ربما عدت في مقال ثالث الي التعليق حول مقالات د. أحمد عثمان. من هنا ولاحقاً سأكتب صديق الزيلعي وأحمد عثمان باسميهما دون استخدام عبارة دكتور، والإحترام والمقامات محفوظة في ثقافة ثورية معاصرة تخاطب عظماء مفكرين في قامة نعوم شومسكي وسمير أمين و توماس بيكيتي بأسمائهم المحضة دون تقديمهم بالمفكر أو العالم أو البروف كما نفعل في الشرق الأوسط. بالمناسبة ثلاثتنا أصدقاء منذ قديم الأزمان، وبالطبع هجير هذه الحوارية لن يذهب بالمودة الرفاقية التي رعيناها فكرياً وإنسانياً ضمن ممارسات ولقاءآت وحوارات عديدة.

آن أوان تفكيك خطاب التسوية والتوفيقية
نتناول أدناه تحليل مقال صديق الثاني الموسوم "حيثيات رفض التحالف مع قحت " وتعليق علي رد أحمد عثمان.
أستهل مساهمتي في الحوارية بتناول مقال صديق الأول. يزعم صديق انه بصدد "نقد اطروحات دعاة التغيير الجذري، لان الدكتور أحمد عثمان هو أبرز منظريهم" ويتناول صديق في مقالاته مفاهيم " العدو الاستراتيجي" و" قضية الشراكة" و" الهبوط الناعم" وقضية "الاقتصاد والموقف من البنك الدولي ومؤسساته" الخ.
تبدأ الربكة المفهومية عند صديق حينما يحدد أنه يود فتح "حوار أوسع، مع دعاة التغيير الجذري، وما يطرحونه من آراء، وهو موقف واضح ومتماسك، منذ فترة الحكومات الانتقالية". دعني افترض هنا أنني فهمت من هذا أن أطروحة التغيير الجذري ذات "موقف واضح ومتماسك" حسب صديق. يكتب صديق بإهمال أن التغيير الجذري "خطاب يساري" دون أن يعرف الخطاب و"يساريته"، كون عبارة اليسار مشحونة بإلتباس مفهمومي معاصر خاصة فيما يتعلق بالسودان. اعتقد أن الالتباس مقصود للسخرية وتطفيش خطاب تلك القوي الذي دعا الي ترسيخ رؤية ومفهوم مطلوبات التغيير الجذري للخروج من الدائرة الشريرة التي يدفعنا نحوها خطاب نخب لم تنتبه الي خطاب الرأسمالية الطفيلية وقادتها الجدد في المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيات، كحلفاء محليين لرؤوس الأموال المالية الإقليمية والعالمية ومؤسساتها.
وفي غمرة الضبابية والشطط في تسمية "الخطاب اليساري" بدأ صديق الهتاف المكرور عندما كتب "هذا الخطاب اليساري، مطروح ومعلن، منذ، الأيام الأولي للحكومة الانتقالية، واستمر وتواصل، طوال الفترة السابقة. تأتي دعوة العداء لقحت، وتخوينها، امتدادا منطقيا، لهذا الخط السياسي، الذي، يتعامى عن حقائق الواقع السوداني، ويغفل، سماته البارزة. فارق هذا، الخط اليساري، كل ارث الحزب الشيوعي، حول العمل الجبهوي، وحول القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وفي أسبقية وأولوية، النضال من أجل الديمقراطية بل حدد موقفا، واضحا ومعلنا وصريحا، منذ أغسطس 1977، أيمانه بالديمقراطية التعددية، بل تبنيه لها. وهي الديمقراطية التعددية، المعروفة عالميا، ولم يلجأ لاستخدام مصطلحات ولغة، تأتي تعبيراً، عن مقولات وفكر دعاة الحزب الواحد، تحت مسميات الديمقراطية الشعبية، أو الجديدة، أو القاعدية". حزمة من الضبابية أولها الخطاب اليساري الذي يشمل الحزب الشيوعي رغم غموض عبارة " فارق هذا، الخط اليساري، كل ارث الحزب الشيوعي"!!. ثم لا أدري ما الذي زج بمفهوم" الديمقراطية التعددية" اطلاقا في هذا النقاش، كون الموضوع يتعلق بمرحلة انتقالية محضة!... وكذلك تضمين عبارات الحزب الواحد والديمقراطية الشعبية، أو الجديدة، أو القاعدية.
نلاحظ هنا إنزلاق نحو الهتاف الجورنالي العاطفي من شاكلة استخدام عبارة مثل" العداء لقحت وتخوينها" وكأن المجلس المركزي لقحت بنية صّمَدة صافية لسان حال وقلب وعقل وممثل المحتوى الثوري والطبقي للثورة. اذا كانت لجان المقاومة والتجمع المهني قبل إنقسامه بنيات ثورية مهنية صماء صلدة نقية تمثل الثورة السودانية، هي أيضاً ليست خارج النقد، لكن البنية التي تضم المؤتمر الشعبي وغيره كفئة سياسية معروفة لولائها الأصيل للدولة العميقة وكانت حتي ١٩٩٩ جزءاً أصيلاً من طغمة الإسلام السياسي. تبنت أطروحة صديق خطاب قحت بصرف النظر عن بنيتها الجدلية وتطورها وتاريخانية تطور قواها الرئيسية واحزابها وممارساتها منذ د. عبد الله حمدوك الذي هو جزء منها، ثم خذلها وعاد الي تقنين انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١. صديق الزيلعي يطرح هنا مؤسسة قحت كخطاب وبنية دينية تمثل الثورة وتقودها الي فضاء خارج النقد الذي يسميه ب"التخوين". تلك إحدى هفوات نص صديق الزيلعي وخطابه هنا. وحول تخوين قحت المزعوم يورد صديق أن ذلك بدأ ب "الانشغال بالحديث عن الهبوط الناعم، ثم تحول الخطاب نحو ما سميت بقوى التسوية، حتى موقفها من إيقاف الحرب ثم تصنيفه، بأنه: لا للحرب نعم للإصلاح".... نعم أن خط قحت هو الهبوط الناعم والتسوية مع المنظومة التي قصدت الثورة هزيمتها... ولأن الشينة منكورة سرعان ما نفي صديق أنه" لاينتمي الي قحت ولايدافع عن خطها السياسي وممارساتها"... وذلك حين ذكر أهم سمة من سمات قحت وهي الهبوط الناعم والتسوية. وذات رومانسية سماها "قوى وطنية تسعي من اجل الانتقال الديمقراطي، وأنها حليف لكل قوى الثورة. دورنا ان نتحاور معها، بجدية وندية، حول مواقفها، استهدافا للوصول الي ما يجمعنا".
في معرض رد صديق على أحمد عثمان ذكر أهمية العامل الثانوي و"ضرورة وجود حلفاء، لا يتفقون مع كامل طرحنا، ولكنهم يعملون من أجل أو يساندون أو يدعمون، العديد من الأهداف، التي نسعى لها. وهذا من ابجديات أي عملية تحالف وأي معرفة بالواقع السوداني، بتعدديته، وتنوعه، وتناقضاته، وسيرة تشكّل، أنماط انتاجه التاريخية، مما أنتج ما يسمى بالتطور غير المتكافئ للمجتمع السوداني". لا حظ أن تعدد وتنوّع تناقضات الواقع السوداني دفعت صديق دفعاً الي التمسك المجاني بالعامل الثانوي على حساب الهدف الأساسي الاستراتيجي كون الثانوي هنا يعني فيما يعنيه تسوية مع الدولة العميقة ومنظومة تغازل الإسلام السياسي و شِقّه الموجود أصلاً داخل قحت، ليكيل الرماد حماد. والأهم في جدل الأساسي والثانوي هو وضع إعتبار لما نحن بصدده هنا وهو تحالف فوقي غيّب التجمع المهني وعمل علي إنقسامه كما ظل يغيّب لجان المقاومة منذ بداية المرحلة الانتقالية. الأهم هنا أن أطروحات صديقنا صديق الزيلعي لاتاريخانية كونها تتعامي عن تاريخ القوى الأساسية المكونة لقحت. وهنا نذكّر الجميع أن المؤتمر السوداني قد فتح جدلاً مباشراً على الهواء بين تيارين داخله وكانت مناظرة تطرح بوضوح الموقف المبدئي و الاستراتيجي لقادة هذا الحزب الذي يتوسّم الوسطية والحياد، وكلاهما موت حين يتعلق الأمر بالموقف من منظومة الإسلام السياسي والتشكيك في استراتيجية إسقاط ذلك النظام. كانت المناظرة حول خيارات انتخابات ٢٠٢٠ بين خيار منازلة الإسلام السياسي انتخابياً بعد ثلاثين عام من الدم والفساد والنهب، وكان يقودها هذا التيار التسووي مع الدولة الدموية العميقة خالد عمر يوسف (سلك)، ويقود خيار مقاطعة الانتخابات (وبالتالي خط دعم ثورة لإسقاطه) عادل بخيت وكان ذلك بتاريخ ٨ مايو ٢٠١٨ بدار حزب المؤتمر السوداني بشمبات!! الأدهي والأمر ان ذلك كان قبل سبعة أشهر فقط من ثورة ديسمبر. ماذا نفعل مع هكذا حزب، ثم بقية الأحزاب والنخب التي كانت تفاوض نظام الفلول حتى شهر ثورة ديسمبر ذات نفسه. كان ثوار السودان حينئذ يطرحون بوضوح شعار إسقاط النظام. ونظّم الحزب الشيوعي في ١٦ يناير ٢٠١٨ مظاهرة عارمة في العاصمة زلزلت النظام وهيأت الثوار للقادم بعد هبة ٢٠١٣. لو استصحب صديق الزيلعي هذا الواقع سيدرك المغزى الثوري لضرورة تاريخانية بنية قحت ودور حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي في الصراع ضد منظومة الإسلام السياسي ومغازلتها في آن، لأن الحزب يتشكل من قواعد تخرج هادرة للشوارع رافعةً شعار إسقاط النظام رغم قرار حزبهم وهو بعيد عن مطالبهم حول غلاء المعيشة والخصخصة ورفع الدعم عن السلع الأساسية.
أزعم هنا أنه ما من منهج وتحليل لا يستصحب أو يقرأ الواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي السوداني كونه يقف على "تراكم راسمالي بدائي" طفيلي كليبتوقراطي فاسد ودموي بقيادة نخب جنرالات الجيش والمليشيا والفلول أو نخب براغماتية سياسية بدأت تخرج من قفاطين بعض الأحزاب وتدّعي الوطنية والعقلانية الذرائعية. هذا النادي الطفيلي امتلك الثروة والسلطة وسيحميها بالحروب وظل ينهب ولم ينفك يسرق أكثر من ٩٠٪ من موارد الشعوب السودانية فوق الأرض وتحتها وأكثر من ٧٠٪ من الميزانية السنوية؛ منهج وتحليل لا ينطلقان من ذلك المعطي لا يعدو أن يكون تحليلاً رغبوياً رغائبياً عاطفياً حالماً لاعلاقة له بالعقلانية والأدلة مهما ادّعي ذلك وهتف باستصحابهما. يبدو أنه آن الأوان أن تنأي النخب التي تتصدي للعمل العام عن ترديد أن الدائرة الشريرة هي عسكرية - ديمقراطية - عسكرية، وإنما انقلاب عسكري - حرب أهلية- انقلاب عسكري. لقد رسّخت مطالب ثورة ديسمبر جذرية تستشرف تفكيك وهزيمة هذا النادي وهذه الدائرة الشريرة مرة والي الأبد. هذا النادي سيتنادي تحت رعاية السلطات الإقليمية والدولية ومؤسساتها التي لم ير نخبنا عوراتها وفسادها.
يكتب صديق الزيلعي أن "كل ادبيات الحزب الشيوعي، منذ تأسيسه، اشتملت، على توصيف محدد، للمرحلة الراهنة، من تطور المجتمع السوداني، بأنها المرحلة الوطنية الديمقراطية، وحدد أهدافها، وغاياتها، وقواها. فقد حدد، عدد من القوى الاجتماعية، وسماها صاحبة المصلحة، في انجاز أهداف، هذه المرحلة. ولم ينطق بتاتا، بأن قوى اجتماعية، واحدة، هي التي ستنجز تلك الأهداف. بل أشار صراحة، لأن تلك القوى الاجتماعية، المختلفة، تجمعها، مصالح مشتركة في انجاز مهام هذه المرحلة، رغم وجود تناقضات بينها." هذا نص ذرائعي بإمتياز يستهدف تكبير كوم الممثلين السياسيين الذين نصبوا أنفسهم وعينوا ذواتهم كمتحدثين رسميين باسم ثوار ديسمبر وهم" قوى اجتماعية مختلفة تجمعها مصالح مشتركة" حسب هذا النص، ثم استدرك النص بعبارة خجولة هي" رغم وجود تناقضات بينها" لإخفاء طبيعة هذه التناقضات موضع النزاع هنا، أهي تناقضات ثانوية، أم أساسية وجوهرية. إن خطل الاستهداف الرغبوي الذي ينشده صديق هنا هو أننا نتكلم عن "قوى اجتماعية واحدة ستنجز الأهداف". الواقع هو عكس ذلك تماما حيث تمثّل قحت قوى اجتماعية واحدة ترى في التسوية ومشاركة النادي القديم والدولة العميقة مخرجاّ من أزمة السلطة الدموية التي اختارت الحرب لحسم صراعها حول الثروة والسلطة، رغم إدعائها الرغائبي بأن هؤلاء سيذهبون الي الثكنات، طبعاً عبر واقعية ظلوا يرددونها خارج التصريحات الرسمية وهي أن نضمن للجنرالات السلامة، بعد أن يرجّعوا المال المنهوب الي الشعب طواعية وهم غير صاغرين، الي آخر الرومانسيات السياسية المبذولة في جميع أسواق النخاسة علي مسارح الزمكان المتاح، دون حجاب وتحت حجاب رمزي من البلاغة والتوريات.
نلاحظ أن صديق قد زجّ بعبارة "المرحلة الوطنية الديمقراطية"، مع العلم أن المرحلة الإنتقالية، ثم انقلاب الشاطر والمشطور وبينهما طازج (الطازج هنا يمكن أن يكون حمدوك الذي قنن الإنقلاب أو الفلول من وراء حجاب شفّاف)، ثم انقلاب/حرب الفلول والجيش من جهة علي إبنهم المدلل (الجنجويد ، المدلع محلياً وإقليمياً وعالمياً بالدعم السريع) ؛ لاعلاقة لها جميعا بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، حيث تم تغييب الوطنية من حيث التدخل الأقليمي والدولي السافر، ومن حيث أنها مرحلة إنتقالية مناط بها منطقياً تهيئة السودان الي مرحلة ديمقراطية.

رد أحمد عثمان علي مقال صديق الأول:
أتفق تماماً مع مداخلة أحمد عثمان حول مقال صديق الأول وأكتفي بالإقتباس الفكري المهم المطوّل التالي المتماسك من أحمد عثمان لأهميته الفكرية والمفهومية القصوي حول مجمل هذا الجدل :"الحقيقة هي أنني لم أهمل التناقض الثانوي، لأن التناقض الثانوي لا يمكن أن يوجد إلا بعد تحديد التناقض الرئيسي صاحب الأولوية كما اتفق معي د. صديق. وفي حال عدم الاتفاق على التناقض الرئيسي، من المستحيل الحديث عن تناقضات ثانوية. فالقانون هو وجوب تحديد التناقض الرئيسي أولاً والتوافق حوله بصورة مستدامة، حتى تنسب له التناقضات الثانوية التبعية بطبيعتها. والخلاف بين قوى التغيير الجذري و (قحت) خلاف حول التناقض الرئيسي، وهو خلاف يستعصي معه الحديث عن تناقضات ثانوية تتيح فرصة للتحالف، لذلك هو إستراتيجي وهو يمنع قيام التحالف. فعند تأسيس قوى الحرية والتغيير، كان الطرفان متفقان على أن العدو هو دولة الإنقاذ التي لابد من إسقاطها (تحديد التناقض الرئيسي)، وهذا جعل التحالف ممكناً لأن كل التناقضات الأخرى تناقضات ثانوية بالنسبة لهذا التناقض، ووضع على إثر ذلك برنامج الحد الأدنى (إعلان الحرية والتغيير) ومن ثم البرنامج الإسعافي. ولكن تحديد (قحت) للتناقض الرئيس تغير من إعتبار كامل دولة الإنقاذ عدو واجب الإسقاط، إلى إعتبار اللجنة الأمنية للإنقاذ – وهي الذراع الضاربة للإنقاذ وجوهر سلطتها- شريكاً في الثورة يمكن إنجاز شراكة معه تؤسس لتقاسم للسلطة، في حين تمسكت قوى التغيير الجذري بإعتبار الإنقاذ كلها بما فيها لجنتها الأمنية هي العدو، والتناقض الرئيسي معها. أي أن (قحت) غيرت العدو، ولم تعد تصوب نحو نفس المرمى، فأصبح اللعب معها كفريق واحد لإحراز الأهداف مستحيلاً.
والسؤال الذي يطرح نفسه بصورة ملحة: ماهي التناقضات الثانوية في هذه الحالة والطرفان غير متفقين على التناقض الرئيسي؟ وإلى أي تناقض رئيسي تنسب هذه التناقضات الثانوية؟ وكيف يمكن التحالف على أساس تناقضات ثانوية أسقطها عدم الاتفاق والتوافق على التناقض الرئيسي؟ وكيف يمكن وضع برنامج حد أدنى مع قوى أصبحت شريكاً للعدو الذي يجب إسقاطه وتفكيك دولته؟ وكيف يمكن التوافق على تفكيك هذه الدولة وأحد الطرفين يرى أن يشارك من يجب تفكيكه ليسمح له بالتفكيك؟".

جوهر مفهوم الشراكة وسياقها الفكري وسياسات وممارسات ملموسة تم تطبيقها في الفترة الإنتقالية:
نتناول هنا المقال الثاني لصديق الموسوم "الجذريون والوقوف عند محطة الشراكة" ومقتطفات من رد أحمد عثمان.
كتب صديق الزيلعي "كما كتبت، قبل انقلاب 25 أكتوبر، بان المكون المدني (في السيادي والحكومة) يتحمل كامل المسؤولية عن تعطيل أهداف الثورة، والسماح للعسكر بتسيير الوطن حسب مخططهم المعادي للثورة. هذا يعني ان قطاع واسع كان ينقد ويحذر قوى قحت من مالات ما يتم آنذاك. لكن في نفس الوقت لا نعتقد انها متآمرة مع العسكر ضد الثورة. يمكننا وصفها بالضعف، أو التكويش وابعاد قوى ثورية مؤثرة وتكبير الكوم، أو أن أحزاب لا وزن جماهيري لها صارت مسيطرة على مفاصل السلطة، أو التعجل للانفراد بالسلطة. ولا نزال ننقد في ممارسات قوى الحرية والتغيير حتى الآن، وندعو للتعلم من كل تلك الأخطاء الكارثية، والعمل على تخطيها، لان ما يهمنا، أولا وأخيرا وطننا وثورتنا". إذا سلمنا بمنطق أن تلك "الأحزاب لا وزن لها"، بل "ارتكبت أخطاء كارثية" حسب قناعتك، لِمَ نترك خط من له وزن جماهيري قاعدي ونتعلّق بقشة الثانوي؟!.
ذات البنية الطبقية مازالت هي هي، بعد انقلاب/حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣، بل إزداد أوار السَعَر الطبقي بفعل" إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية ودمج المليشيا" حيث لمست تلك القرارات جوهر السلطة والثروة وقضايا الحصانات والإفلات من العقاب. وهذا ما ظلت تردده تلميحات قادة قوى الحرية والتغيير والقوي الإقليمية والدولية.
دعنا نقرأ تعقيب الأستاذة سارة عبد الرحمن حول ورشة تقييم تجربة المرحلة الإنتقالية في يوليو ٢٠٢٢، وأثناء إنقلاب أكتوبر ٢٠٢١:
" لقد تناولت الورقة أكبر خطأين جوهرين في الوثيقة نتجا عن ذهنية معيبة على انها نتاج للعجلة، فالعجلة لا تبرر أخطاء جوهرية. السبب هو الخلل المنهجي في الصناعة الدستورية لوثيقة تؤسس للتحول الديمقراطي، لكنها تتخذ إجراءات غير ديمقراطية ولا شفافة ولم يشارك فيها كل الفاعلين".
لماذا العجلة والأخطاء الجوهرية والخلل المنهجي في صناعة أهم وثيقة تؤسس للتحول الديمقراطي؟ ذلك تم وسيتم لأن هناك خطاب ومفاهيم وممارسات عجولة تحركها مصالح وتناقضات جوهرية بين نخب جديدة ورجال أعمال معروفين بالاسم كانوا يعقدون اجتماعات سرية مع نخب قوى الحرية والتغيير وجنرالات الدولة العميقة لتهيئة فضاء تسووي عنوانه "عش ودعهم يعيشون... ودعم يمرون". ذلك الفضاء العجول أساسه إبعاد قوى الثورة الحية وبعض الأحزاب من تلك الاجتماعات التي تمت في الظلام. جوهر المسألة يا صديقي ليس أن فلان أو علان نقد المرحلة والممارسات التي تمت في الظلام، وإنما انها تمت بعيدا عن قوى الثورة. وأن ما سيتم سيكون أيضاً في الظلام، مثلما تم في اتفاقية جوبا للسلام تحت أعين ذات القوى التي تصرّح الآن. لماذا لم تحمّل الورشة المسؤولية لأولئك الفئات التي كانت تقرر وتمرر وثائق قاتلة فى الظلام؟ هذا هو النقد الذاتي الشافي الذي لم نسمعه، وأتي خجولاً في التعقيب وليس متن الورشة. وهذه طبطبة وتطبيب لجرح لم تسع تلك القوى لعلاجه جذرياً.
قوى الحرية والتغيير يا صديقي أدارت ظهرها لقوي الثورة طأطأت رؤوسها لمنظومة اللجنة الأمنية، مثلها مثل حمدوك، لذلك تمت مجزرة القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩ تحت مسامعهم وأبصارهم فأصبحوا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهم لا يرجعون، وصمّم حمدوك لجنة تحقيق صماء بكماء مثلها مثل سردية تسليم حكومتهم الانتقالية ملفيْ السلام والإقتصاد الي حميدتي. كما أن حمدوك وعمر الدقير رفضا مشاركة التحقيق الدولي في المجزرة. ليتك تدافع يا صديقي عن منظومة متماسكة ذات مفاهيم وممارسات وطيدة الصلة بمطالب الثورة، هؤلاء أشخاص ماانفكو يسمعون وصايا الأحلاف الإقليمية العشر، ويتحاومون بين العواصم الأفريقية وغير الأفريقية بها فيهم حمدوك نفسه، ذات الأشخاص الذين جربناهم دون سواهم. صناعة التبجيل العجول لن تبني وطن خيّر وطن عاتي بنحلم بيهو يوماتي.
جرَّبناكَ جرَّبناكَ
من أَعطاك هذا اللُّغز؟
من سَمَّاكَ؟
من أَعلاك فوق جراحنا ليراكَ؟
ما زال ذات الأشخاص يهرولون لسماع الفضاء الاقليمي والدولي وطاعته مرة أخرى، لذلك آن أوان النقد الحارق.
ثم يعلّق صديق الزيلعي أن" المؤلم اننا، جميعا، لم نتعلم من دروس تلك الورشة"، وكأن المسألة هي ورشة وطق حنك خارج سردية واقع دموي عاشه ثوار ديسمبر، ومنظومة سياسية قادت مرحلة إنتقالية لاعلاقة لها برخم ثورة.
ضعف الإرادة السياسية للحكومة الإنتقالية نبحث عنه في ثلاث نقاط اوردهما صديق الزيلعي (نشكره على ذلك) من ورقة اللواء (م) كمال إسماعيل أحمد ورقة بعنوان: (الإصلاح الأمني والعسكري خلال الفترة الانتقالية: الطموحات والواقع والاخفاقات):
"ترك عملية اصلاح المؤسسات العسكرية للمكون العسكري وحده بدون وجود أجهزة دستورية تتولى متابعة تنفيذ إجراءات الإصلاح. ومواصلة الانسحاب من عملية الإصلاح بعد اتفاقية جوبا وترك الامر كله للمكون العسكري"... أما ضعف الإرادة السياسية والنظرة الإصلاحية لطاقم مدني وضع ظهره للثوار كتبه اللواء (م) وهو "غض النظر عن استيلاء القوات المسلحة على الشركات الاقتصادية التابعة لجهاز الامن او حزب المؤتمر الوطني". لن نمل تكرار تسليم ملفيْ السلام والإقتصاد الي الجنرالات.
لاحظ أن الزيت (كما يقول السودانيون) في النقد تُرك حبله على غارب بعير التعقيبات كتمومة جرتق على سبيل الفهلوة والنقد السطحي الطاؤوسي العابر. لاحظ عبارتيْ "عملية الإصلاح" و"النظرة الإصلاحية" تشر الي ذات الخطاب في تناقضه مع ثورة تغيير جذري وليس إصلاحي.
أيضا أسباب فشل الحكومة الانتقالية التي ذكره المعقّب السيد عمر محمد عثمان يكمن في مفاهيم ومنهج وممارسات ذات طاقم الحكومة الإنتقالية من قحت الذين يعقدون الإجتماعات الآن لتجهيز الفضاء السياسي للعودة، هم بذات لحمهم ودمهم وفرثهم. دعني أعلى من شأن ثلاث نقاط من تعقيبه علي
"الوثيقة الدستورية المعيبة والمختلة" وحين إنتقد الحزب الشيوعي ذلك، ثم خرج من قحت تم ردمه بالتخوين:
تتم "مقاومة التغيير من قوى نافذة داخل الأجهزة الأمنية" لأنها بطبيعتها الطبقية تحفر لمطالب الثورة كونها تمثل الدولة العميقة الفاسدة النهّابة، فلماذا نراهن أصلاً على شراكتها.
"المكون العسكري لم يبد الحماس واتسم تحركه بالبطء والتلكؤ"، طبعاً ما لم يقال هو أن د. حمدوك نفسه راهن على "الشراكة" بين المؤسسة العسكرية (التي نهبت شركات القطاع العام) والمدنيين ورفع عقيرته عالياً مبشّراً جامعات أوروبا وامريكا بأنها ستدرّس نموذج الشراكة لطلابها وباحثيها!!. فعلاً أن "الإرادة السياسية للمكون المدني اما غائبة او ضعيفة تجاه اصلاح أجهزة الامن وتفكيك التمكين داخلها". إن المكون المدني غائب وضعيف ومتردد معاً تجاه كل أجهزة الدولة لغاية لجنة التحقيق في مجزرة القيادة.
أما مفردات من شاكلة "مكافحة الفساد وإرساء مبادئ الشفافية والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، وان
السلطة الانتقالية ستكون سلطة مدنية ديمقراطية كاملة دون مشاركة القوات النظامية"، ستظل شعراً رومانسياً خالصاً ما دام هنالك شركات تتبع للمؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيا تدر أموالاً خارج ميزانية الدولة وتهرب الذهب والفضة؛ وما انفكت محاصصة اتفاقية سلام جوبا غائبة عن الشطب.
مقتطفات ثاقبة النظر من رد أحمد عثمان:
لقد وطّن احمد عثمان بألمعية في رده على المقال الثاني خطاب الشراكة و"أصاب المسمار من ساسه لرأسه" وكفى الباحثين شر القتال، وأن "قحت لم تغادر محطة الشراكة، ولم تنتج خطاً سياسياً بديلاً لها"، مما يعني أن الخطاب لم يبرح زمكانه قط. وأن نقد الورشة "لم يؤثر على خط (قحت) السياسي، التي واصلت مسلسل الشراكة ومازالت تواصله حتى الآن وستستمر فيه، حتى تعلن خطاً سياسياً واضحاً برفض الشراكة بشكل مؤسسي وبإسم تحالفها السياسي وعبر منابره، لا في ورش تقييمية لا يعرف أين ذهبت مخرجاتها، وهل كان ما قدم فيها مبادرات فردية أم رؤية لبعض التنظيمات المنتسبة ل (قحت)." وأكّد احمد أن "الخطاب الإعلامي ل (قحت) ، يحاول أن يقصر الشراكة على السلطة التنفيذية فقط (الحكومة). والشراكة حتماً هي الشراكة في السلطة، والسلطة هي فرض الإرادة على الجميع ومظهرها الرئيس إحتكار إستخدام العنف، وهذا يشمل إصدار الوثائق المؤسسة للسلطة والمكرسة لسلطاتها. وبهذا الفهم للشراكة ، (قحت) غارقة حتى أذنيها في شراكة مع اللجنة الأمنية للإنقاذ". كما أوضح أحمد عثمان أن" الإتفاق الإطاري مثله مثل الوثيقة الدستورية المعيبة، أخرج أدوات العنف (الجيش والجنجويد) من سلطة الحكومة والتبعية الكاملة المباشرة لها، وترك مهمة إصلاحها لها لتصلح نفسها بنفسها. وبذلك أخرج مظهر السلطة الأساسي من يد السلطة التنفيذية، وجعلها سلطة شكلية وعاجزة، لا سبيل لها لفرض إرادتها إلا عبر شراكة مع هذه الأدوات التي لا تخضع لسلطانها، فهل هذه شراكة أم لا؟".
نبهنا أحمد أنها شراكة تسيطر فيها اللجنة الأمنية "على إستخدام العنف وأدواته سيطرة كاملة" كما أن "أن اللجنة الأمنية للإنقاذ تبقى شريكة مع (قحت) في السلطات الثلاث، فكيف تكون (قحت) قد أجمعت مع معظم القوى على التخلي عن الشراكة وهذا هو خطها السياسي وإتفاقاتها السياسية؟". وعملياً، بعد اندلاع الحرب نادت (قحت) "بوقف الحرب والعودة للعملية السياسية على لسان الناطق الرسمي بإسمها، ولسان الناطق الرسمي بإسم العملية السياسية، وشاركت مع رئيس الوزراء المنقلب عليه في لقاءات تشاورية على هامش إجتماع رؤساء الإيقاد القائم على العودة إلى العملية السياسية"..... "وعقدت إجتماعها في القاهرة، وشاركت في إجتماع القوى المدنية الموقعة على الإتفاق الإطاري، ولم تقل ولو تعريضاً في كل هذه الفعاليات إنها ضد الشراكة مع طرفي الحرب، ولم تطالب علناً بإبعادهما من المعادلة السياسية بصورة شاملة"......"وحتى تعلن (قحت) بشكل مؤسسي وبوثيقة أو تصريح من الناطق الرسمي بأنها لن تعود للشراكة بأي صورة من الصور، وأنها لن تقبل إشراك الطرفين المتحاربين في المعادلة السياسية، وأنها لن تشاركهما في صنع وتحديد هياكل الدولة ومؤسساتها وسلطاتها وتقديم دستور المنحة الإنتقالي، وأنها لن تقبل بأقل من خضوعهما خضوعاً كاملاً للحكومة المدنية الخالصة، تظل (قحت) في موقع الشراكة"...." وحين تغادر (قحت) محطة الشراكة، وتترك الشراكة مع العدو، وتعود للتوافق على التناقض الرئيسي معه، الجذريون حاضرون للتحالف معها وقبول التناقضات الثانوية التابعة لذلك التناقض الرئيسي، على أساس برنامج حد أدنى هو برنامج الشارع الثائر لا برنامج الشراكة مع العدو".
فعلا وكما ذكر صديق الزيلعي، فان أحمد عثمان منظّر عالي السقف الفكري المفهومي الثوري والعملي، وأدعو الجميع الي قراءة هذا المقالات في المراجع أدناه، لأن الكلام حلو من خشم سيدو. أهنئ صديقي أحمد عثمان علي هذا الإنتاج وأشد على يديه بقوة.
سبّة خطاب الهبوط الناعم مفهومياً وطبقياً واستراتيجياً وثورياً:
نتناول هنا المقال الثالث لصديق الموسوم "استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟".
تنطوي حزمة مصطلح سياسات الهبوط الناعم قانونياً وإقتصادياً وسياسياً ليس"على الانتهازية السياسية، والركوع امام السلطة ليصبح جزءا منها، ويتم دمجه في النظام، وتبقي مؤسسات وأجهزة الحكم كما هي" وحسب كما ذكر د. أحمد عثمان وإنما أيضاً تنكّر ونكران لمطالب ثورة ديسمبر وشعارها الأصيل وهو "إسقاط النظام" مقابل شعار تعرّي وذهبت ريحه وهو معاشرة النظام المدحور والنوم معه في سرير الدولة العميقة وتجلي على عدة مراحل أولها برنامج الوثبة، ثم انتخابات ٢٠٢٠ لمباراة الدولة العميقة انتخابياً، وما انفكت سُبة عدم إسقاط الدولة الكيزانية تتخلّق كل مرة تحت مسميات الشينة المنكورة ومن تحت حجاب او بدونه، حسب سياقات المنبر والبنبر والعنبر والدلكة والفِركة. دعنا نقتبس خطاب حول ذلك المصطلح بذريعة أن "الاختلاف الفكري" ليس مشكلة مع إسلاميين كانوا في سلطة الإسلام السياسي حتى ١٩٩٨، أي بعد أسوأ أول عشر سنوات. قال "الناطق الرسمي باسم العملية السياسية خالد عمر يوسف إن الحرية والتغيير ليس على عداء او خلاف مع الحركة الإسلامية او التيارات الاسلامية كافة وأن الخلاف الفكري لا ينبغي أن يصبح مشكلة في البلد" ثم أضاف: نحن نختلف ونقف ضد المؤتمر الوطني من منطلق الجرائم التي ارتكبها في فترة حكمه وأن الخلاف الفكري لا يعتبر مشكلة". ذكر ذلك في سياق "مشاركة المؤتمر الشعبي والاتحادي الأصل في العملية السياسية والتوقيع على الإطاري". ثم لاحظ المعايير في المحاصصات الوزارية التكنوقراطية التي لاعلاقة لها بمطالب ثورة ديسمبر حيث يجب أن يكون أولها الالتزام بها، وإنما تتعلق فقط بمعايير تكنوقراطية في قوله "مؤكدا عملهم على وضع آلية ومعايير صارمة لاختيار أفضل الكفاءات لشغل المواقع تمتلك الأفق السياسي والإداري والخبرات العملية والعلمية". سياق العنبر الطاغي هنا لاعلاقة له بمطالب الثورة وأولها ما فعلته حكومتهم حيث وضعت في الزبالة البرنامج الإقتصادي المطروح من اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير والبرنامج الإسعافي حتى يتم تبني روشتة صندوق النقد (ابراهيم بدوي وحمدوك). تلك الروشتة لمن لا يعلم ذات علاقة بالدولة العميقة والهبوط الناعم إقتصادياً حيث استمرت، كما دولة لإسلام السياسي، في خصخصة الصندوق وفي بيع الأرض (landgrabbing)، بمعنى أن مشاكلنا ستحلها الليبرالية الجديدة من خصخصة وبيع الأرض. لم يكن خطاب الهبوط الناعم أصلاً يهتم بقوي الثورة الحية من تكوين النقابات وتغيير قانون انتخاباتها القديم والاهتمام بلجان المقاومة، ومواصلة خطاب الإضراب السياسي والعصيان المدني فهو جدير بتصفية الدولة العميقة، لذلك أعطت تلك المنظومة لهذا الخطاب ظهرها. أما جماعة قحت كانت على مستوى السلام تتبع مخططات جنرالات اللجنة الأمنية لأن ملف السلام اهتم بمنهج الدولة العميقة من محاصصات لاعلاقة لها بالنازحين، وحول ذاك قطع خالد عمر "بأن تقويم وتقييم اتفاق سلام جوبا الذي يجري عبر ورشة العمل هذه الأيام ليست بغرض الغاء الاتفاقية وإنما بهدف تنفيذ الاتفاق بشكل فعلي على ارض الواقع وعدم حصره في المشاركة السياسية فقط." (راجع نص خالد سلك في ٣ فبراير ٢٠٢٣، بعنوان خالد سلك: الحرية والتغيير ليست على عداء مع الإسلاميين).
رغم أن مفهوم مصطلح الهبوط الناعم كان وليد "لحظة تاريخية معرفة، وفي إطار تصور مقصور لحل مشاكل السودان" كما ذكر صديق الا أن جوهره ظل يتجدد وهو معايشة الدولة العميقة وليس إسقاطها كما طالب شعار الثورة، وأن مفهوم الهبوط الناعم ظل يتخلّق من جديد حسب كل مرحلة. لذلك فإن اجتماعات اديس ابابا في ديسمبر ٢٠١٨ مع النظام القديم كانت محاولة للهبوط الناعم رفضها النظام القديم قبل أندحاره، كما رفضها الثوار منذ ٢٠١٣، وفي مظاهرة الحزب الشيوعي في يناير ٢٠١٨، ثم في سيادة شعار "إسقاط النظام" في ديسمبر ٢٠١٨ لغاية انقلابات فبراير ٢٠١٩. اذن ظل مفهوم الهبوط الناعم يعيد إنتاج نفسه عبر عدة استراتيجيات وممارسات بسياقات تاريخية مختلفة وبحربائية غابت عن عدسة صديق الزيلعي، ولم تستوعبها أدواته التحليلية التي لم تهتم بتفكيك تلك السياقات بعد استيعاب جوهرها الطبقي الأوحد وهو إعادة إنتاج النظام القديم بشكل طفيلي مفضوح غاب تماما عن تحليل صديق الذي يصر أن يتحرّي منظر الأشجار دون مشهد الغابة. لذلك تعسّر على صديق الزيلعي استيعاب تحليل احمد عثمان حين كتب "ومفاد ما تقدم، هو ان هناك تناقض جوهري بين مشروع وبرنامج قوى التغيير الجذري ومشروع وبرنامج (قحت)، فالأولى برنامجها ثوري، والثانية برنامجها اصلاحي. والبرنامج الثوري هو برنامج التفكيك والانتقال من دولة التمكين الى دولة كل المواطنين، والبرنامج الاصلاحي هو ابقاء على التمكين مع العمل على اصلاحه وهو غير قابل للإصلاح (هذا هو الهبوط الناعم)". أزعم هنا أن منطلقات صديق الجدلية لم تهتم بنقد الخطاب الطفيلي ضمن سياقاته اللولبية لإعادة إنتاج ذاته وهو يلتف على الثوري والجوهري لصالح الشكلي وهو المصالح الطبقية لتلك القوي من جنرالات (نظامية او مليشيا) نهبوا القطاع العام وراسمالية طفيلية إسلامية ريعية، جميعهم رضعوا من أثداء ثروات السودان (أراضي، وذهب ويورانيوم ، وماء، وثروات حيوانية الخ ) عبر استراتيجيات خصخصة القطاع العام حسب برنامج البنك الدولي وصندوق النقد الذي يحبه الجميع من أخوان مسلمين لغاية حمدوك والبدوي والدول الإقليمية التي ظلت ترفد الحرب. لماذا تغيب عنك تلك البداهة يا صديقي؟. عبارة "الإصلاحية" ذكرها برينستون ليمان في المقتطف الذي أتيت به حوالي ٢٠١٣ حين كتب "لقد حان الوقت لان يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي وعملية إصلاحية تؤدي الى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة وديمقراطية وقادرة على السعي نحو مصالحة مجدية بين السودانيين". ثم يواصل "يتمثل السبب في الإخفاقات المستمرة (لعمليات التفاوض) التي أجريت في السودان في الماضي انها غالبا ما كانت تتضمن المتحاربين فقط، أي الحكومة والثوار المسلحين، ولضمان نجاح أي حوار وطني ينبغي اشراك أحزاب المعارضة السياسية التقليدية والمجتمع المدني بطريقة جادة"... وضعت عبارة عمليات التفاوض بين قوسين لأن ذات العبارة تعني التفاوض مع الدولة العميقة، في خطاب مضاد لخطاب الثورة وهو" إسقاط النظام" ذلك كان سياق الدعوة لإنتخابات ٢٠٢٠. وكانت انتخابات ٢٠١٠ وكانت الإجابة في هبة ٢٠١٣. ثم كانت انتخابات ٢٠١٥ المخجوجة. ثم هاك من إقتباسك ذاته لنتعرف على جوهر مفهوم/استراتيجية الهبوط الناعم المتواضع والإصلاحي جداً قوله "ومع ان فرص نجاح عملية الحوار والإصلاح الوطني الشامل قد تكون متواضعة فإنها تعد أفضل مسارات التقدم للأمام لدولة لا تجد امامها خيارات جيدة وبدون هذه العملية لن تسنح للسودان فرصة التغلب على دوامة عدم الاستقرار الهدامة". ثم ردت ثورة ديسمبر برفض التفاوض. كان جوهر الهبوط أكثر من إستراتيجية، أنه مفهوم النوم مع الدولة العميقة يا صديقي، وظل حتى يوم الناس هذا يلبس سراويل "لكل مقام مقال". ثم ختمت أنت تلك الفقرة بعبارة ملتبسة "ومثل نجاح اتفاقية السلام الشامل في السودان، وتجربة جنوب أفريقيا"، تلك عبارة تحتاج إلى إعادة تصويب نقدية خارج فضاء هذه الحوارية. ثم تختم بعبارة "ورد في دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (أغسطس 1977)، عندما تم طرح المصالحة الوطنية بين نميري والأحزاب اليمينية، نقدا للطريقة التي تمت بها، وعن أهدافها ومراميها، ولكن لم يرفض مبدأ المصالحة كأسلوب للحل السياسي". يا صديقي السودان منذ ١٩٨٩ ليس له علاقة بعام ١٩٧٧. لقد مرات عواصف كثيرة وتدفقت دماء ومذابح وجينوصايد وأنفصل الجنوب، وحكّم الإسلام السياسي سيفه فوق الرقاب حتى خصخص التنمية والصحة والتعليم ونهب النفط واستوى لنهب الذهب وباع الأراضي للجميع تحت عنوان الرأسمالية الطفيلية الإسلامية النهّابة الدموية، لذلك أسقط الثوار في ٢٠١٣ و ٢٠١٨ "المصالحة كأسلوب للحل السياسي" كما تردد أنت وجميع الإصلاحيين حول هذا المفهوم/الاستراتيجية.

نورد هنا مقتبس مهم من رد أحمد عثمان علي مقال صديق الثالث:
يؤكد أحمد عثمان إن إستراتيجية الهبوط الناعم جوهرها الحفاظ على التمكين، وكل من يدعو إليها يحافظ عليه وإن حسنت نواياه ، وإن الجذريين ينتقدون التسوية ويرفضونها "مع اللجنة الأمنية للإنقاذ تحديداً ولما يلي من أسباب:
١- أن اللجنة الأمنية للإنقاذ هي الذراع الضاربة للتمكين، ولا يمكن تفكيك نظامها بالدخول معها في تسوية، وهي تمثل نظام الرأسمالية الطفيلية الذي لا يمكن الدخول في تسوية معه بل يجب إزالته.
٢- أن التسوية تجهض أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وتمنع من تحقيقها وتعوم النظام وتحقق إستراتيجية الهبوط الناعم.
٣- أن هذه التسوية تتم في حالة نهوض جماهيري قادر على هزيمة اللجنة الأمنية للإنقاذ وثورة عظيمة، وهي ضد رغبة الجماهير وجبراً عليها ومن مواقع وصاية تتجاوز شعارات الجماهير وتقود ثورتها للإحتواء ومن ثم التصفية."
نتناول أدناه مقال صديق الخامس الموسوم "الحل السياسي هو أحد أدوات شعبنا لتحقيق أهدافه"
أجد هذا المقال مرتبكاً من حيث المنهج وغير متماسك تاريخياً، حيث يتناول المقال مواقف فكرية واستراتيجيات تمت في سياقات تاريخية مختلفة؛ ثم في إستخدام عبارتين "العملية السياسية" و"الحل السياسي". لجأ صديق الزيلعي الي إقحام مواقف لاعلاقة لها بذلك، حيث اقتيس مواقف الحزب الشيوعي حول الحل السياسي في ١٩٩٩ ضمن أطروحة وسياق تحالف عسكري بين (حركة/جيش تحرير السودان) والاحزاب السياسية السودانية؛ وكان متن ذلك الطرح انتفاضة سلمية في الداخل مدعومة عسكريا من الخارج. ولم تتم من جانب الحزب الشيوعي حينئذٍ موضعة وتقعيد أطروحة فكرية نظرية حول ضرورة "النضال المسلح"، الذي دعا له أصلاً الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة، ثم إنضم الحزب الشيوعي الي دعوة النضال المسلح، وهذا موضوع معقد آخر خارج مجال وفضاء هذه الحوارية. على كل حال، إنبري صديق الزيلعي بذات حماسه الإيجابي التوثيقي المعهود نحو نقد تلك المواقف، خاصة مواقف الحزب الشيوعي حينئذ حيث ساهم في تحرير كتاب بعنوان "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني" جمع فيه مقالات بحثية ناقدة في سياق فترة غطّت ما قبل عام ٢٠١٦، وكان مقال د. احمد عثمان هو فاتحة الكتاب. لقد ساهمت في ذلك الكتاب بمقال نقدي حول تبنّي الحزب الشيوعي مفهوم واستراتيجية "النضال المسلح" بذريعة التحالف مع "الكتيرة" المعارضة دون أن يطرحه فكرياً ونظرياً ضمن الواقع السوداني، رغم أن هناك أحزاب شيوعية، على قلتها تبنت، ذات سياق ما، النضال المسلح ؛ ولقد ساهمت بذلك المقال في المؤتمر الخامس للحزب. لقد زعمت في ذلك المقال أن براغماتية المنتج الصغير سبقت المعرفة والتنظير المعرفي بضرورة النضال المسلح، وفجأة دخلنا مع الطائفية في جحر ضبٍ مريب، حيث تخلّت في خواتيمه الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان عن تحرير السودان ومشروع الوحدة الذي تسابق إليه شباب ثوار السودان من الشمال الجغرافي وتمسكّت بمشروع الوحدة بإ نضمامها الي الحركة، ثم "حدس ما حدس" وخدش ذلك تجربة حركة تحرر وطني جيوسياسية سودانية ثورية في قلبها النابض، وتلك محطة ساهمت في نضج وعي أطروحات ثورة ديسمبر ٢٠١٨ كحل سياسي سلمي تحت شعار "حرية، سلام وعدالة". على كل حال هذه موضوعة خارج هذه الحوارية بشكل مباشر.
دعوني أرجع الي الربكة الفكرية والعملية في المقال الخامس عبر هذه الاقتباسات التي تتناول مواقف وسياقات ملتبسة حول الحل السياسي كذريعة تاريخية دعمها وتبناها الحزب الشيوعي من قبل في ظروف وسياقات تاريخية مختلفة، وضرورة الحل السياسي حتى لو أدى إلى تفاوض مع الدولة العميقة تدعمه قحت أو غيرها. تأملوا معي اقتباسات صديق هنا حول ضرورة الحل السياسي:
١. كتب "تكرر، نفس الطرح حول الحل السياسي والعملية السياسية، من كافة قادة ومناصري قوى التغيير الجذري، في بياناتهم وخطبهم وكتاباتهم، الرفض التام والمطلق للحل السياسي كأحد خيارات شعبنا لتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة".
٢. وكتب "أعتقد ان للحزب الشيوعي موقف واضح من الحل السياسي، كأحد اشكال النضال، وليس الشكل الوحيد أو المنفرد، لتحقيق اهداف شعبنا. وسأقتطف من بعض مواقف الحزب الشيوعي حول دعوة الحل السياسي خلال صراع التجمع الوطني الديمقراطي ضد نظام الاسلامويين".
٣. ثم اقتيس صديق الزيلعي مذكرة الحزب الشيوعي الى قيادة التجمع الوطني الديمقراطي بتاريخ 11 نوفمبر 1999 وتحت عنوان (مبادئ الحل السياسي الشامل والموقف التفاوضي للتجمع) ما يلي:
"نؤكد قناعتنا بان الحل السياسي الشامل يدخل أيضا ضمن الخط الاستراتيجي للتجمع، لكن في موقعه الصحيح بالنسبة لأولويات تكتيكات العمل المعارض، بحيث يأتي هذا الحق متوجا لخط هجومي متصاعد قوامه دعم توجهات الانتفاضة في الداخل وتصعيد العمل العسكري في الخارج".
"من جانبنا نعتمد الحل السياسي كخيار له، مثل خياري الانتفاضة والعمل المسلح، كل مقومات وأساليب العمل النضالي، ويمكن ان تشارك فيه أوسع القوى السياسية والشعبية وتخوض به معارك، وفق شروط معينة، الى تحقيق اهداف مؤقتة او بعيدة المدي، تكتيكية او استراتيجية. هذا يتطلب الوضوح الكامل والحاسم في تحديد الأهداف".
٤. كما ارفق الحزب الشيوعي ورقة تفصيلية حول الحل السياسي قدمت لاجتماع هيئة قيادة التجمع الذي انعقد في كمبالا في نوفمبر 1999، اقتطف منها ما يلي:
" حددت الأهداف التي تسعى لتحقيقها بالحل السياسي (تصفية الانقلاب، محاسبة قادته، واستعادة الديمقراطية، إعادة بناء الدولة السودانية على أساس مقررات اسمرا 1995".
رأي الحزب في ١٩٩٩:
"مطالبة النظام بتهيئة المناخ بتوفير جو ملائم ومشجع للحوار وذلك وفق تدابير محددة ومعلنة اتفق الراي العام الداخلي والخارجي على مشروعيتها ومعقوليتها".
"ترحيب الحزب بالمبادرات الإقليمية والدولية الجادة والتي تهدف الى تحقيق السلام والوحدة والاستقرار والديمقراطية في السودان".
"مطلب تهيئة المناخ الملائم للحوار فهو مطلب مشروع لان من حق شعبنا في الداخل (بجماهيره وقيادته على السواء) ان يشارك مشاركة حقيقية وكاملة في أي حوار يتعلق بمستقبله ومصيره وان يتابع بعيون وآذان مفتوحة أي تفاوض من هذا النوع)".
أمامنا اذن دعوة مفتوحة مربكة للحل السياسي والتفاوض مع المبادرات الإقليمية والدولية وتهيئة المناخ الملائم للحوار على سبيل قوى الحرية والتغيير، وتناول سياق تاريخي لاعلاقة له بالسياق الدموي المعاصر والجينوصايد والمذابح الخ. مصدر الربكة يأتي من أن سياقات الحل السياسي السابقة قد أدت الي فشل مشروع الوحدة ، فتم فصل الجنوب ، ثم تم إعطاء نظام الإسلام السياسي عقد كامل للإستمرار في حكمه الدموي والبطش بجميع من ساهم في الحل السياسي والعملية السياسية معاً، وتعرّت حركة التحرر الوطني في نسختها السودانية ، مثلما نعرّت نسخة جنوب أفريقيا وغيرها ؛ وهذا تحدّيٍ كبير يحتاج الي نقد وتفكيك حول هل يمكن أن تنجح حركة تحرر وطني مسلّح ضمن شروط العولمة المعاصرة ، حيث لابد من بيعها قيمنا ومفاهيمنا ومواردنا وسيادتنا الوطنية مقابل دعم الحركة بالسلاح الخ ... وهذا موضوع ذو علاقة بالحل السياسي والعملية السياسية التي تحفها الآن مخاطر وسموم العولمة إقليمياً وعالمياً ، وعلينا ألا نتعجل ونبيع سراويلنا مرة أخري بأن نقوّي صوتنا الوطني وهو رأسمالنا الوحيد.
مقتطف من تعليق أحمد عثمان علي مقال صديق الخامس:
في مقاله الخامس في الرد على صديق يؤمّن أحمد عثمان علي أن "التسوية والشراكة مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، تعني إحتواء الثورة بهدف تصفيتها"، وحول ربكة ولا تاريخانية مقال صديق الزيلعي الخامس كتب أحمد عثمان أن "الظروف التي أعقبت ثورة ديسمبر المجيدة، مختلفة جذرياً، حيث أن سلطة الأمر الواقع هي الجناح العسكري الأمني للإنقاذ "اللجنة الأمنية"، والحركة الجماهيرية في حالة ثورة ونهوض أعطتها اليد العليا والقدرة على فرض إرادتها، والسلطة الإنقلابية أضعف بسقوط جناحها المدني ومشروعها السياسي وإنحشارها في خانة الدفاع بمستوى ألزمها بالقيام بإنقلاب قصر للمحافظة على سلطتها، وتوازن القوى لمصلحة حركة الجماهير التي حققت إنتصارات كبيرة بنشاطها السلمي، فكيف يستقيم الطلب من جماهير الثورة أن تقدم تنازلات للعدو السياسي وتلتحق بتسوية سياسية معه من مواقع التبعية تحت دعاوى قبول مبدأ "الحل السياسي" دون النظر لشروطه التاريخية؟".
وينبّه أحمد عثمان صديق إلى أن الحل السياسي يظل "معطى تاريخي لا مبدأ مجرداً خارج سياق الصراع الإجتماعي. ويجب حين يتم إستخدامه توضيح أسباب الإستخدام ، وتوفر شروط ذلك الإستخدام في اللحظة التاريخية المعينة، وميزات هذا الإستخدام ومآلاته، وأثره على مصالح شعبنا وحقوقه. وعلى الحزب الشيوعي وغيره من القوى السياسية في حال المناداة بالحل السياسي، توضيح أسس التسوية المطلوبة، والتنازلات التي يجب تقديمها للعدو، و الأهداف التي يمكن تحقيقها وما لا يمكن تحقيقه ويجب إسقاطه من برنامج حركة الجماهير، وإقناع الجماهير بذلك الإستخدام لا فرضه عليها". كما يختم أحمد مقاله الراشد "وبالنظر إلى ما ورد أعلاه، نجد أن طرح "الحل السياسي" أو إن شئنا الدقة "التسوية التفاوضية وشراكة الدم" في ظروف ما بعد ثورة ديسمبر وتسوية وشراكة الإتفاق الإطاري، هي النقيض المباشر لشعارات الشارع الثائر و لاءاته الثلاثة "لاتفاوض، لا شراكة، لا شرعية"، وتهديم مباشر لها، بالرغم من إنسجامها مع أهداف الثورة وضرورات مرحلة الإنتقال، دون تقديم ردود واضحة على الأسئلة المثبتة أعلاه التي تطرحها الوقائع العيانية البادية لكل ذي عينين. لذلك أبقى مع رفض "التسوية التفاوضية وشراكة الدم (الحل السياسي)" مع اللجنة الأمنية للإنقاذ بطرفيها المتحاربين، ومع طردهما معاً من خارطة العمل السياسي "العسكر للثكنات والجنجويد ينحل"، وبناء سلطة مدنية إنتقالية خالصة، تفتح الطريق أمام تحول ديمقراطي".
نواصل الحوار
مراجع:

د. سعد علوش "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة" ، الدار البيضاء، سوشير سن ١٩٨٥، ص ٨٣. ضمن حبيب مال الله ابراهيم "مفهوم الخطاب وسماته"
http://www.freemediawatch.org/majalah/document/docmajla4-200605/arabic/P%2048%20-53KHITAB.htm

عبدالله على ابراهيم "الثقافة والديمقراطية فى السودان" دار الأمين ١٩٩٦، ص ٦٧-٨٣. وردت ضِمن مصطفى بحيرى "نقد خطاب الجنوبة" مجلة الطريق ، نشرت ايضاً بصحيفة الميدان عدد 2282، 21 اكتوبر 2010.

مرجع كتابات د. صديق الزيلعي التي تمت الإشارة لها في هذه الحوارية:
https://www.alrakoba.net/author/d-s-alzailaie/
مقال د. أحمد عثمان عمر الأول التي تمت الإشارة له في هذه الحوارية:
https://sudanile.com/رفض-التحالف-مع-قحت-مجدداً-بقلم-د-أحمد-ع/

د. أحمد عثمان عمر "قحت لم تغادر محطة الشراكة، ولم تنتج خطاً سياسياً بديلاً لها
- في الرد على المقال الثاني للدكتور صديق الزيلعي"، الراكوبة، ٥ سبتمبر ٢٠٢٣:
https://www.alrakoba.net/31850127/%D9%82%D8%AD%D8%AA-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%BA%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%A9%D8%8C-%D9%88%D9%84%D9%85-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D8%AC-%D8%AE%D8%B7%D8%A7/
د. أحمد عثمان عمر "إستراتيجية الهبوط الناعم جوهرها الحفاظ على التمكين، وكل من يدعو إليها يحافظ عليه وإن حسنت نواياه !! - في الرد على المقال الثالث للدكتور صديق الزيلعي "، الراكوبة ، ٩ سبتمبر ٢٠٢٣:
https://www.alrakoba.net/31850768/إستراتيجية-الهبوط-الناعم-جوهرها-الحف/

خالد سلك، "الحرية والتغيير ليست على عداء مع الإسلاميين"
https://sudanplatform.net/5400/
مقال د. احمد عثمان عمر " التسوية والشراكة مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، تعني إحتواء الثورة بهدف تصفيتها - في الرد على صديق الزيلعي" (المقال الخامس) ، سودانايل ، ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٣:
https://sudanile.com/التسوية-والشراكة-مع-اللجنة-الأمنية-لل/

elsharief@gmail.com

 

آراء