معاوية محمد نور بعين أستاذه إداورد عطيّة (1 من 3)
صلاح حسن أحمد
5 October, 2023
5 October, 2023
تقديم
ثلاث شموس سطعت في سماء تاريخنا الثفافي الوسيط وهي (بالترتيب الزمني): معاوية محمد نور والتيجاني يوسف بشير وإدريس جماع. ولكن، يخطئ خطأ عظيما من ظن أن أصحاب هذه الأسماء هنئوا بهذه المكانة السامية. ذلك أن نورهم كان يسطع وأغلبية أهل البلاد ترزح في الأمية ولا تجد منفذا من هذا التفق المظلم إلا على ضوء الخلاوي الخافت، ولذا لم يجد أي منهم الجمهور المقدِّر الذي يطمئنه إلى جدوى إبداعه ويربت على ظهره استحسانا وعرفانا. فماذا يحدث لغريب في وطنه غير وقوعه بين فكين مفترسين يعودان إما لليأس أو الاكتئاب أو الجنون أو هذه الوحوش الثلاثة مجتمعة؟ للأسف فهذا هو بالضبط ما حدث لنور وبشير وجمّاع... كان كل منهم سابقا لعصره، نبيّا غريبا في وطنه وبلا كرامة. ولذا عانى معاوية حتى لفظ نفسه الأخير في سن الثانية والثلاثين، والتيجاني في الخامسة والعشرين، وقاوم إدريس جماع قليلا فانتظر إلى الثامنة والخمسين. والذي يعنينا في هذه السلسلة هو معاوية نور الذي أنقل هنا ترجمة لسيرته كما وردت في كتاب An Arab Tells His Story الصادر في 1946 لمؤلفه اللبناني الانجليزي ادوارد سليم عطية الذي درّس معاوية في كلية غردون التذكارية. وهو يسرد في هذه السلسة المقتطفة من كتابه صداقته مع معاوية بفيض واسع وعميق من الإعجاب والحب والحسرة على مآله.
مختصر سيرة معاوية هو أنه ولد في 1909 بأم درمان عام في عائلة ميسورة. وخاله هو الدرديري محمد عثمان، أول سوداني يتقلد منصب قاض بالمحكمة العليا وعضو مجلس السيادة بعيد الاستقلال. وقد تربى معاوية في كنف خاله هذا بعد وفاة والده وهو في سن العاشرة. تلقى في النصف الأول من العشرينات تعليمه في كلية غردون تحت جناح استاذه ادوارد عطيّة ورفض لاحقا (في 1926) مقعدا دراسيا في مدرسة كتشنر الطبية بسبب رغبته الجارفة في دراسة الأدب الانجليزي، وهو ما تهيأ له بالتحاقه بالجامعة الأمريكية، بيروت. وفي حياته القصيرة التي أتت إلى ختام في ديسمبر 1941 اشتهر على مستوى العالم العربي قاصا وصحافيا ولكن بشكل خاص ناقدا بصوت متفرّد في هذه الرقعة من العالم. انظر مختصر سيرة حياته (بالعربية) هنا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9_%D9%86%D9%88%D8%B1
أما إدوارد عطية (1903 – 1964)، فقد كان ناشطا سياسيا وكاتبا تلقى تعليمه بكلية فكتوريا، الاسكندرية، ثم جامعة اوكسفورد التي التقى فيها بزوجته الاسكتلندية جين ليفينز. وقد ظل يتردد على السودان مع ابويه منذ طفولته وأمضى فيه 20 عاما من حياته المهنية (1925 – 1945). واشتغل بتدريس التاريخ في كلية غردون وكان جسرا بين السودانيين والمستعمر ومجسّا للنبض السوداني خاصة وسط المتعلمين لموظِفيه البريطانيين. بين أهم مؤلفاته العديدة An Arab Tells His Story (1946) وThe Arabs (1955). وفي 1952 نشر رواية Black Vanguard التي راج في بعض الأوساط أنها ألهمت الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال". وقد يكون في هذا الزعم شيء من الحقيقة لأن الواضح في رواية عطية أنه استلهم سيرة بطله من شخصية معاوية نور إذ صوّره عبقريا فريدا في عصره. وربما وجد الطيب صالح في هذا إلهاما له في شخصية مصطفى سعيد – إن قرأ رواية عطية في المقام الأول وهو ما لم يرد على لسان الطيب وتالياً فلا أحد يستطيع إثباته بشكل أو آخر. ولكن، إذا صحّت هذه المعلومات فهي تعني أن شخصية مصطفى سعيد مستلهمة من معاوية وإن جاء الإلهام عبر وسيط.
توفي عطية في 1964 وهو يشارك في ندوة باتحاد طلاب اوكسفورد عن العلاقات العربية – الإسرائيلية.
انظر مختصر سيرة حياته (بالانجليزية) هنا:
https://en.wikipedia.org/wiki/Edward_Atiyah
الحلقة الأولى
جئت إلى كلية غردون مصمماً على إقامة علاقات شخصية حميمة مع طلابي، وعلى تفعيل مُثل التدريس والتعامل الإنساني التي اكتسبتها خلال فترة تعليمي أنا. ووجدت في الوضع القائم هناك حافزا جديدا للمضي على هذا الدرب إذ كان الجو السائد عسكريا في طبيعته، لكنه شحذ تصميمي على مواجهته برقة الحاشية والاحترام المتبادل. وفي مواجهة استعلاء المعلمين البريطانيين ونفورهم، وجدتني أسعى حثيثا للالتصاق بالسودانيين. وقد منحتني معاملتي لطلابي على النحو الصحيح وعياً بالتفوق الأخلاقي الذي يعزز الثقة بالنفس والاحترام الذاتي. وفي اعتقادي أن التقرّب إلى عقول طلابي واكتساب ثقتهم وصداقتهم ومنحهم الشعور بأنني صديق إضافة إلى كوني معلما هي سبيلي إلى الحصول على التأثير عليهم بشكل يتفوق كثيرا في محصلته النهائية على أسلوب المعلمين البريطانيين وإن أحاطته هالة السلطان، وكان في هذا وحده أفضل تعويض لي على المقام المهني الخفيض الذي وضعني فيه الطاقم البريطاني بالكلية.
بين سائر طلابي، كان هذا الفتى هو الأكثر وعدا، وكان مستقبله هو الأكثر جدارة بالذكر والتدوين قبل أن تغرب شمسه إلى ظلام الفشل والمأساوية. اسمه معاوية نور، في الثامنة عشرة من عمره وكان طالبا بالسنة النهائية، نحيلا وذا ملامح مَسَرة للعين. لفت نظري منذ اليوم الأول باستعارته أقوالا لجورج بيرنارد شو وأناتولي فرانس. وفي البدء كنت أظنه يسعى للتباهي بقشور العلم، فجعلت أسبر عمق معارفه. وكانت المفاجأة السارة هي أنني وجدتها موغلة في العمق وأنها تستند إلى العقل المدرك للمعاني ومضامينها.
كان معاوية سلسل أسرة عربية معروفة. فقد كان جده من الشخصيات البارزة في عهد المهدي، وخاله قاضيا في حكومة السودان. ولأنه كان أحد ألمع أبناء جيله من الطلاب السودانيين، فقد فتح مجلس الكلية أمامه، ضمن قلّة متميّزة، الأبواب إلى دراسة الطب وأسبغ عليه منحة إلى مدرسة (كلية) كتشنر الطبية. ورغم ان المهنة الطبية كانت هي أقصى ما يمكن أن يطمح إليه سوداني في أروقة الحكومة، فقد كانت المفاجأة المدوّية هي أن معاوية قابل هذا العرض بالعزوف لأن ميوله الطبيعية كانت أدبية. وبهذا صار الوحيد وسط أبناء جيله الذي لم يعتبر التعليم وسيلة إلى الخدمة المدنية وإنما غاية في حد ذاته. فلم يرغب في ان يصبح طبيبا لأنه كان يريد دراسة الأدب. على أن المشكلة هي ان السودان كان خاليا من الجامعات ومؤسسات الدراسات العليا، فأصبحت كلية غردون هي نهاية الدرب بالنسبة له.
هكذا صار خياران أمام معاوية بعد إكماله الكلية هما: إما ان يقبل المنحة لدراسة الطب أو ان يصبح كاتبا في دواوين الحكومة. وكان هناك خيار ثالث هو أن يصبح ناظرا مدرسيا لكن مجلسها رأي أنه لا يصلح حقيقة لهذه المهنة. فصار الطب هو الطريق الوحيد أمامه لكنه رفضه. وكان طبيعيا أن أهله لم يفهموا أن يلفظ أحد فرصة نادرة كهذه لتعلم الطب مجانياً ويضمن لنفسه وظيفة سامية في السلم الحكومي. كانوا يعلمون أن هذا شيئ لا سابقة له في تاريخ البلاد ولذا أيقنوا أن مساً من الجنون أصاب ابنهم الواعد. وفي نهاية المطاف لم يكن أمام معاوية إلا الرضوخ، فرضي بأن يجرّب الدراسة في كلية الطب وإن كان ذلك علي النقيض من رغبته. وعندما فعل ذلك كان كشخص تعين عليه ان يتقبل تغيير كيانه وطبيعته وفي محيط لا يمنحه أي بديل آخر.
ربما تقبّل معاوية انخراطه في صفوف الطامحين إلى تعلّم الطب. لكنه قلبه كان في واد آخر... واد في ربوع الغرب ساقه إليه الأدب الانجليزي وكأنه ساحر استولى على حواسه بالكامل. وفي الأدب الانجليزي وجد معاوية وطنه الروحي، وهو الفتى العربي القادم من شمال أفريقيا والذي لم يحدث له ان عبر الحدود خارج موطنه السودان، والعائش في منزل لا تعرف نساؤه القراءة والكتابة حتى باللغة العربية. وأكثر من أي حالة أخرى شبيهة، كانت الهوّة بالنسبة له هائلة بين بين موطنه الحقيقي وموطنه الروحي، وبين البلاد والعائلة والتقاليد التي ينتمي إليها من جهة، والعالم الخفي القصي الذي أراد بلوغه بنوع اللوعة والشوق اللذيْن يظللان كل هيام جديد.
كان مسلما وكان أسود، ولم يكن عربيا وحسب بل افريقياً في بلاد لم تعرف أي ثقافة غير شكل ضامر وضيق من التقاليد الإسلامية. وإليك صورة تظهر التباين في عالمه وحجم الهوة التي كان يخطو إليها: تخيّله في حضن أسرته بأمدرمان، محاطا بأمه وإخواته وخالاته وبنات عمومته... نساء يعشن في عزلة مغلقة على الغرباء وفي أمّية لا تحوي داخلها شيئا أبعد من حقائق الحياة الأساسية البسيطة المتعلقة بالعيش المنزلي... من الولادة والختان والزواج والحمل والطلاق والموت والحداد إلى الطبخ والزينة الشخصية. ثم تخيله يقرأ جين اوستين واولدس هكسلي في غرفة جلوس انجليزية عتيقة تبرق بلمعان أثاثها، ويتنفس هواء القرن العشرين في بلومزبري.
كنت أشعر تجاهه بتعاطف هائل أحس هو به وردّه في شكل ثقة وإعجاب لا يتأتيان إلا من شاب يافع يبحث عن اليد التي تقوده. كان لقاؤنا يتم على أرض الأدب الانجليزي العظيم وكل منا قد أتى إليها بطريقته الخاصة مسافرا من بقعة مختلفة على الكوكب. كنت أنا مقيما منذ زمن، وكان هو وافدا جديدا من مناخ في غاية الاختلاف عن ذلك الآتي إليه.
بالنسبة لي، كان التأقلم سهلا وكان بوسعي العيش راضيا سعيدا في هذه الربوع إلى الأبد. فإذا تحتم عليّ الرجوع والعيش على أرضي، فعلت ذلك بدون مشقة وإن كان بمستوى أقل من التفاعل. ولكن ماذا عن ذلك الغريب الذي يتنشق هذا الهواء الجديد حتى بمسام جسده؟ ماذا سيكون من أمره؟
ـــــــــــــــــــــــ
معاوية محمد نور بعين أستاذه إداورد عطيّة (2 من 3)
الحلقة الثانية
بعد أشهر قلائل من دخوله كلية الطبجاء معاوية لرؤيتي ذات يوم. وجّه لي العديد من الأسئلة عن جامعات الخارج: مؤهلات الالتحاق بها ورسوم الدراسة فيها... إلى آخره. وبعد اسبوع على هذا اللقاء سمعت أنه هرب إلى مصر، الأمر الذي أصاب عائلته بصدمة وقلق عميقين، خاصة أن مصر في تلك الفترة كانت "منطقة محرّمة" في نظر حكومة الخرطوم. وعليه فقد كان في هروب طالب إليها مدعاة للاعتقاد أنه لاجئ سياسي وإن كان مسعاه الحقيقي هو الدراسة العليا لا أكثر. وأضف إلى هذا أن معاوية بهجره كلية طب الخرطوم وطلبه العلم بالخارج كان يتخلى عن حقه في وظيفة حكومية مرموقة بعد تخرّجه. ولهذا وقف خاله أمام مدير التعليم وأدان "جنون" ابن اخته وتنكّره للمعروف، ووعد بالسفر إلى القاهرة لإعادته بالقوة إذا تطلب الأمر. فوعد المدير من جهته بأن يحفظ لمعاوية مقعده في الكلية إلى حين عودته مع خاله الذي توجه فوراإلى القاهرة. وهنا، حصل على مساعدة وزارة الداخلية المصرية في العثور على ابن اخته القاصر الهارب. فاعتقلت الشرطة معاوية الذي قضى ليلة في الحبس بزنزانة في أحد مراكزها، وفي صباح اليوم التالي سُلّم إلى خاله الذي اقتاده إلى محطة السكة الحديد ليبدآ رحلة العودة إلى الخرطوم. ومع كل ذلك أعلن معاوية صراحة أنه لن يعود إلى كلية الطب ولن يقبل بوظيفة كاتب في أي موقع حكومي وأن رغبته هي دراسة الأدب الانجليزي على مستوى الجامعة.
عندها قرر خاله أن يطلب إليَّ التوسط في الأمر لمعرفته أنني مهتم كثيرا بأحوال ابن اخته وأن بوسعي بعض التأثير عليه. وفي غرفتي اجتمع ثلاثتنا، الفتى والخال وشخصي، في لقاء كثيف الظلال لأنه كان يتعلق بمستقبل معاوية نفسه. فأعرب هذا الأخير عن رغبته في الدراسة بالجامعة الأمريكية، بيروت، وقال إن أسرته الميسورة الحال قادرة على تمويل دراسته فيها. ورد الخال بأن المشكلة ليست في التمويل وإنما في حقيقة أن الدراسة بالخارج ستحرم صاحبها من وظيفة حكومية مضمونة. فقال معاوية إنه لا يأبه بضمان الوظيفة وإنه قادر على تدبير عيشه بشكل أو آخر بعد نيله شهادته الجامعية. وكان في استدارة الخال إليَّ طلب غير منطوق بإصدار الحكم.
تملكني إحساس بأنني، في شخص معاوية، أعيش مجددا تجربتي الشخصية فرأيت نفس الحلم في عينيه وهما تتعلقان بالأفق البعيد وشعرت بما كان يشعر به في تلك اللحظة لأنني تذوقت طعم هذا الاضطرام من قبل.. وكان خاله، الذي لم يكن قاسي القلب أو ضيق الأفق بل رجلا عاقلا عمليا يقيس الأشياء كلا منها بقيمته مقارنة بالأخرى، يزن فرص التوظيف ومترتبات المهنة وكسب العيش. ولكن بالنسبة لمعاوية المملوك بالكامل لرغبته، لم يكن ثمة ما يجب أن يُخضع للميزان إذ كان هناك اعتبار واحد مطلق وغاية واحدة يتعين الوصول إليها لأجلها هي بغض النظر عن المترتبات، وهي تنوير عقله وترقية شخصيته داخل حدود رغبته. كان يريد أن يحقق حلمه ووجوده قبل أن يفكر في لقمة عيشه ومسكنه وملبسه. فلم يكن أمامي إلا ان انحاز إلى جانبه، وبعد أسابيع قلائل غادر بالفعل بلاده إلى بيروت.
(...)
وسط أصدقائي السودانيين ظل تلميذي القديم معاوية هو الأقرب إليَّ. فقد كنت على اتصال وثيق به خلال سنواته الثلاث بالجامعة الامريكية حيث نال شهادته في الأدب الانجليزي. وكنا نلتقي كل صيف إما في سوريا أو السودان فيمتلئ قلبي بالبهجة وأنا أراه يحقق حلمه ويضيف الكثير إلى متانة كيانه سنة بعد الأخرى. وبعد إكماله دراسته في بيروت، توجه إلى مصر بأمل أن يكسب عيشه من العمل الحر في الصحافة الأدبية. وهكذا صار لهذا الفتى الأمدرماني اليافع ان يحقق طموحه الكبير بنيله بكالوريوس الآداب من بيروت وهو في سن الحادية والعشرين، بالعيش على النحو الذي اختاره في قاهرة أحلامه التي دفعته للتخلي عن دراسة الطب في الخرطوم ضد رغبته وحطّمت الأغلال التي كانت تكبله: اعتراض العائلة والأمر والنهي وبريق الخدمة الحكومية المزيّف. كانت بوهيميا خياله تنتظره بغرفها العلوية ومقاهيها، بأحيائها اللاتينية وطرقاتها التي يذرعها زولا وجونسون ودستيوفسكي، بتمجيدها لدروب العقل واستصغارها لمتاهات الحياة المادية.
وكان معاوية، بشبابه الغض وجلدته الداكنة وبريق الإلهام في عينيه وسحر الابتسام في بياض أسنانه ومثاليته وعشقه العميق للأدب وقراءاته الواسعة وخياله الجامح، شيئا جديدا على دوائر القاهرة الأدبية. فلفت نظر الكاتب المصري المرموق عباس محمود العقاد الذي رحب به في مجلسه الأدبي مما أكسبه مكانة عالية. وفوق ذلك فقد عادت عليه مقالاته النقدية المسلحة بمدافع النقد الأدبي الأوروبي بشهرة وشعبية حدت بكبار الكتّاب المصريين للسعي إلى أخذ رأيه ومشورته.
لفترة من الزمن عاش معاوية حياة حلوة بالقاهرة سعد فيها بانتصاراته الروحية التي أحالت عالمه المادي شيئا بلا قيمة حقيقية. كان يعيش في غرفة صغيرة في هليوبوليس بالقدر الأقل من الأثاث والأكبر من الكتب والأوراق المبعثرة كحال العائشين على غذا ء العقل والروح. وبالفعل، كانت وجباته قليلة ومتباعدة إذا كان يعيش لأيام على الخبز والجبن، ولكن يبد أن نومه جائعا كان يمنحه نشوة خاصة، ففي آخر المطاف ألم يقاسي إميل زولا جراح الجوع؟ هكذا كان معاوية يعيش كما عاش أصحاب الأقلام العظيمة من قبله: بانتصار العقل عبر آلام الجسد.
لكن الجسد المهمل بدأ يتمرد فتدهورت صحة معاوية بسبب ضعف تغذيته، المتأتي يدوره من أن المال الذي كان يكسبه لم يكن كافيا لإطعامه كما ينبغي. وهذا وضع ما كان ليتغير إلى الأفضل فقط بسبب أن الكتابة الصحفية الأدبية وحدها في مصر لم تكن ابدا مصدرا للرزق. فأمضي اياما وأياما مريضا طريح الفراش بدون شخص يعنى بأمره. وأصابه هذا الوضع نفسه بالاكتئاب وصار يرى بهيمياه تفقد لمعانها وبريقها وهو يتأملها عبر نافذة غرفته الضيقة. ولفترة أشهر بعد ذلك ضاقت به سبل العيش فلجأ للاقتراض من أصدقائه مضافا اليه القليل الذي استطاع ان يحصل عليه من اسرته. وفي نهاية الأمر أُجبر على الرضوخ لإلحاح خاله عليه بالرجوع إلى السودان والعمل في دواوين الحكومة. ولم يجد معاوية الكثير الذي يمكن أن يستند إليه في اعتراضه على هذه الحال لأنه حقق طموحه بإكمال تعليمه الأدبي وبالنحو الذي رسمه لنفسه. وأضف لهذا أنه خريج جامعي ذو عقل مدرَّب ويستطيع بسهولة أن يشغل وظيفة تعليمية أو إدارية تسمح له بمزاولة اهتماماته الأدبية جزئيا على الأقل خاصة أن الوظيفة الحكومية ستمنحه الوقت الكافي لذلك وفي الوقت نفسه تؤمن له الرزق المنتظم.
معاوية محمد نور بعين أستاذه إداورد عطيّة (3 من 3)
صلاح حسن أحمد
الحلقة الثالثة
عاد معاوية إلى السودان على ظهر تلك الآمال وقضى بضعة أشهر يبحث عن وظيفة. وخلال هذه الفترة التقيت به عدة مرات وكان انطباعي عنه إيجابيا للغاية لأنه أظهر نضجا وموضوعية عالييْن في تفكيره. وكان وطنيا ولكن من طراز جديد من الوطنيين في السودان ومن معدن في غاية الندرة في عموم الشرق الأدنى. فقد كان وطنيا ناقدا لنفسه قبل كل شيء، ووطنيا عقلانيا بنّاءً لم يلفظ العداء العاطفي الأعمى للغرب وحسب، وإنما رفض أيضا التوق التائه عديم الغرض للاستقلال كغاية في حد نفسه. فقد كان يؤمن بكل وجدانه بأن التبرير الوحيد للوطنية هو مسيرة الشعب إلى شيء يستحق التعبير عنه في حد ذاته وكإسهام منه في الحضارة الإنسانية. وكان يؤمن أيضا بأن الاستقلال ما هو إلا الوسيلة إلى الغاية، وأن الغاية نفسها إذا افتقرت إلى جو الوطنية المعافاة الخلاقة، صار الاستقلال شيئا لا يُستحق وإذا تحقق أصبح بلا قيمة. وكان يريد للوطنية أن تبدأ خلقا داخليا وتسير على درب التنمية الاقتصادية والثقافية والإصلاح الاجتماعي قبل أن تتحول إلى تمرد على الهيمنة الخارجية. ولذا لم يضمر الكراهية للبريطانيين، بل كان ينظر، بعين لا تعميها العاطفة، إلى خصالهم والعمل الحسن الذي كانوا يؤدونه في السودان ويقدّر ذلك تقديرا مصحوبا في الوقت نفسه بالنقد الموضوعي لأخطائهم. ذلك أنه كان مقتنعا بأن انجلترا، بأفكارها وثقافتها ومؤسساتها، لديها شيء قيّم تقدمه إلى الشرق وأن الحري ببلاده أن تحصل عليه.
وفي مكتبي، حيث كان يزورني كثيرا في الصباح، كان يتحدث إلى ما لا نهاية عن هذه الأمور فيحلل مضامين الامبريالية والوطنية ويستعير الأقوال من لوغارد وجوليان هكسلي وتبرق أسنانه البيضاء وهو يضحك ملء شدقيه. فقد كان يوازن كفة الجد والحماسة بكفة الهزل وروح الدعابة التي ما فتئت تكشف له المضحك حتى في أفكاره. فكان وهو في معمعة الجد ينفجر بالضحك على موضوع حديثه أو على نفسه إذا رأي موقفا كوميديا في أي منهما.
فشل معاوية في الحصول على نوع الوظيفة التي تناسبه. فقد رأت فيه الحكومة ما يقلق منامها، ورفضته وزارة التعليم باعتباره غير صالح للتدريس. وكانت معاينته لوظيفة تقدم لها مع بيروقراطي رفيع المستوى بيده الأمر والنهي شيئا من ضربة حظ سيئ. فقد ذهب معاوية إلى المعاينة مرتديا ربطة عنق صفراء فاقعة، فأحدث هذا أثرا سلبيا في نفس البيروقراطي المحافظ في طبعه. ثم قادهما الحديث بينهما إلى سيرة الكاتب صمويل جونسون(جامع قاموس اللغة الانجليزية - المترجم) الذي كان معاوية يعرف عنه الكثير على عكس محادثه البيروقراطي في ما يبدو. ولكي يغطي هذا الأخير على جهله بجونسون، قرر أن يلجأ إلى "كليشيه" ظن أنه يضمن له السلامة. فقال إنه "وُلد قبل زمانه". وأحدثت هذه العبارة في نفس معاوية صدمة مساوية للصدمة التي أحدثتها ربطة عنقه الصفراء في نفس محادثه، وهكذا انتهت المعاينة بأثر سالب فطارت الوظيفة من يد معاوية. وفي وقت لاحق قُدمت له وظيفة صغيرة بوزارة المالية لا تناسب طبيعته ولا تتناسب مع شهادته الجامعية.
فرفضها وعاد مجددا إلى القاهرة وفي نفسه ضغينة إزاء الحكومة السودانية لرفضها تعيينه في وظيفة توفر له العيش في وطنه وتناسب منجزاته ومقدراته. وبدافع الغضب، أكثر من القناعة،ومن أجل لقمة عيشه كتب عددا من المقالات ينتقد فيها الرجل الأبيض الجالس تحت شمس تميل للغروب في حدائق الخرطوم الخضراء وقطع الثلج تتلألأ في كوبه، فوجدت فيها الصحافة المصرية المعادية لبريطانيا ما تبحث عنه، بديلا للمقالات الأدبية، وأجزلت له العطاء.
وصحيح أن عودة معاوية إلى مصر كانت مدفوعة في الظاهر بفشله في الحصول على وظيفة حكومية، لكن باطن أسبابه يتعلق بأنه وجد نفسه غريبا في وطنه، وروحا تشكو الوحدة وسط الناس بمن فيهم أفراد أسرته. وهكذا يمكن القول إن معاوية - وليس جونسون - هو الذي ولد قبل زمانه لأن الهوة بين حياته الفكرية والجو المحيط بها كانت هائلة. فضاع منه الحبل الذي يربطه بالحياة السودانية، وكانت المأساة هي انه لم يجد الحبل الذي يمكن ان يربطه إلى أي حياة غيرها. فقد كانت بوهيمية القاهرة مجرد مرحلة عابرة وفّرت له اكتفاء فكريا ولكن بمستوى سطحي من الإثارة وبدون تربة يغرس فيها جذوره. ولذا أحس في مصر بغياب الانتماء في كل الأشياء الحميمية في حياته. كان رحّالة لا بيت حقيقيا له إلا في عالمه الأدبي الأجنبي المتخيّل، فعاش حياته فقط وسط شخصيات دستيوفسكي وتوماس هاردي ود. هـ. لورنس وأولدس هكسلي.
بالطبع، ربما كانت هناك محركات نفسية أخرى تعتمل داخل عقل معاوية، لكن الذي لا شك فيه هو أن لتشرّده الروحي ذاك يد ثقيلة في نهايته المأساوية. وذات يوم بعد سفره لمصر بأشهر قليلة،بلغني أنه عانى من انهيار عصبي نُقل على اثره لمستشفى عقلي بالقاهرة. وبعد أسابيع تعافى فيها قليلا من صدمة هذا التطور نفسه، عاد إلى أم درمان للمرة الأخيرة ليعيش وسط أفراد اسرته الذين وهبوه - رغم الفارق الفكري الكبير – الرعاية التي لم يكن لأي شخص في مصر أن يقدمها له.
وكان معاوية مثل روح تبعث على الشفقة لأنها عادت جريحة منكسرة وخائفة من مغامرة جريئة فاشلة. ولفترة ما عاش حياته بشكل بدا طبيعيا في مظهره. ثم أتى لزيارتي ذات يوم كعادته، وللوهلة الأولى لم أر أي تغير فيه، لكنني لاحظت أن جيبه منتفخ بشيء ما وعندما سألته عنه فاجأني بأنه المصحف، وقال لي إنه يجد فيه راحة عميقة ومعاني لم يفهمها من قبل. ثم راح يتحدث بايحاءات غامضة مثل شخص رُفع له الغطاء عن شيء ذي مغزى عميق. وكان هذا مصدر صدمة لي لأنني خبرت أعراضا (دينية) مشابهة في حالات الانهيار العصبي وعلى الفور أدركت ما يقف وراء كلمات معاوية والطريقة التي كان يلقيها بها. لكن الأشهر القليلة التالية أتت لي بصدمة أكبر. كانت السنة 1935 وكان موسوليني يقلق راحة الامبراطورية البريطانية. فسألني معاوية بنظرة ذات معنى في عينيه عما إن كانت المخاوف تسيطر علـي البريطانيين في السودان. ثم، لدهشتي البالغة،مضي بنفس الرنة ذات الإيحاءات المستترة، ليحدثني عن رابط سرّي بينه وبين القرآن وموسوليني وانهيار وشيك للامبراطورية البريطانية، وألقى تلميحات إلى أن ثمة قوى ماورائية خفية تعمل عملها في ما يحدث على الساحة الدولية، وقال إن موسوليني أداة في غرض كبير ذي علاقة وثيقة برغبات معاوية نفسه. فانعقد لساني وأنا نظر إلى هذا الشخص الهش المدر للشفقة وهو يجلس أمامي وأتأمل نوع الفنظاريا التي ينسجها العقل البشري المهزوم على يد الواقع الملموس. وكانت أوهام معاوية هذه رداً على قوة الامبراطورية البريطانية وثأرا لسيطرتها على السودان وانتقاما من الحكومة البريطانية التي حرمته الوظيفة التي يستحقها.
ثم مرت فترة طويلة لم أره فيها. انقطعت زياراته وسمعت أنه يمضي جل وقته داخل البيت بدون رغبة في رؤية أحد. وذات يوم وصلتني رسالة يسألني فيها زيارته، فذهبت اليه وصدمتني الحالة التي وجدته فيها. ومع ذلك فقد كان في لحظات صفو نسبي، لكن هذا نفسه شحذ من حدة ما رأيت وسمعت. كان هو يعلم أن ثمة خللا في حالته العقلية وكان يبحث عن علاج لها. فوضع نفسه بين يدي "فكي"، أي انه ترك مصيره لمخادع جاهل يجمع بين قشور الدين والطب المزيّف يعالجه بالتعاويذ و"المحاية" وبقوى خارقة ليست أكثر من دجل في الواقع.
تخلى معاوية عن مظهره المعتاد وعاد إلى الجلابية وكأنها تعبير عن تبدل شخصيته وانهيار عالمه القديم قطعة تلو الأخرى. لم يعالجه الفكي بالطبع، وخطوة فخطوة في شتات عقله، اكتمل جنونه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
ثلاث شموس سطعت في سماء تاريخنا الثفافي الوسيط وهي (بالترتيب الزمني): معاوية محمد نور والتيجاني يوسف بشير وإدريس جماع. ولكن، يخطئ خطأ عظيما من ظن أن أصحاب هذه الأسماء هنئوا بهذه المكانة السامية. ذلك أن نورهم كان يسطع وأغلبية أهل البلاد ترزح في الأمية ولا تجد منفذا من هذا التفق المظلم إلا على ضوء الخلاوي الخافت، ولذا لم يجد أي منهم الجمهور المقدِّر الذي يطمئنه إلى جدوى إبداعه ويربت على ظهره استحسانا وعرفانا. فماذا يحدث لغريب في وطنه غير وقوعه بين فكين مفترسين يعودان إما لليأس أو الاكتئاب أو الجنون أو هذه الوحوش الثلاثة مجتمعة؟ للأسف فهذا هو بالضبط ما حدث لنور وبشير وجمّاع... كان كل منهم سابقا لعصره، نبيّا غريبا في وطنه وبلا كرامة. ولذا عانى معاوية حتى لفظ نفسه الأخير في سن الثانية والثلاثين، والتيجاني في الخامسة والعشرين، وقاوم إدريس جماع قليلا فانتظر إلى الثامنة والخمسين. والذي يعنينا في هذه السلسلة هو معاوية نور الذي أنقل هنا ترجمة لسيرته كما وردت في كتاب An Arab Tells His Story الصادر في 1946 لمؤلفه اللبناني الانجليزي ادوارد سليم عطية الذي درّس معاوية في كلية غردون التذكارية. وهو يسرد في هذه السلسة المقتطفة من كتابه صداقته مع معاوية بفيض واسع وعميق من الإعجاب والحب والحسرة على مآله.
مختصر سيرة معاوية هو أنه ولد في 1909 بأم درمان عام في عائلة ميسورة. وخاله هو الدرديري محمد عثمان، أول سوداني يتقلد منصب قاض بالمحكمة العليا وعضو مجلس السيادة بعيد الاستقلال. وقد تربى معاوية في كنف خاله هذا بعد وفاة والده وهو في سن العاشرة. تلقى في النصف الأول من العشرينات تعليمه في كلية غردون تحت جناح استاذه ادوارد عطيّة ورفض لاحقا (في 1926) مقعدا دراسيا في مدرسة كتشنر الطبية بسبب رغبته الجارفة في دراسة الأدب الانجليزي، وهو ما تهيأ له بالتحاقه بالجامعة الأمريكية، بيروت. وفي حياته القصيرة التي أتت إلى ختام في ديسمبر 1941 اشتهر على مستوى العالم العربي قاصا وصحافيا ولكن بشكل خاص ناقدا بصوت متفرّد في هذه الرقعة من العالم. انظر مختصر سيرة حياته (بالعربية) هنا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9_%D9%86%D9%88%D8%B1
أما إدوارد عطية (1903 – 1964)، فقد كان ناشطا سياسيا وكاتبا تلقى تعليمه بكلية فكتوريا، الاسكندرية، ثم جامعة اوكسفورد التي التقى فيها بزوجته الاسكتلندية جين ليفينز. وقد ظل يتردد على السودان مع ابويه منذ طفولته وأمضى فيه 20 عاما من حياته المهنية (1925 – 1945). واشتغل بتدريس التاريخ في كلية غردون وكان جسرا بين السودانيين والمستعمر ومجسّا للنبض السوداني خاصة وسط المتعلمين لموظِفيه البريطانيين. بين أهم مؤلفاته العديدة An Arab Tells His Story (1946) وThe Arabs (1955). وفي 1952 نشر رواية Black Vanguard التي راج في بعض الأوساط أنها ألهمت الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال". وقد يكون في هذا الزعم شيء من الحقيقة لأن الواضح في رواية عطية أنه استلهم سيرة بطله من شخصية معاوية نور إذ صوّره عبقريا فريدا في عصره. وربما وجد الطيب صالح في هذا إلهاما له في شخصية مصطفى سعيد – إن قرأ رواية عطية في المقام الأول وهو ما لم يرد على لسان الطيب وتالياً فلا أحد يستطيع إثباته بشكل أو آخر. ولكن، إذا صحّت هذه المعلومات فهي تعني أن شخصية مصطفى سعيد مستلهمة من معاوية وإن جاء الإلهام عبر وسيط.
توفي عطية في 1964 وهو يشارك في ندوة باتحاد طلاب اوكسفورد عن العلاقات العربية – الإسرائيلية.
انظر مختصر سيرة حياته (بالانجليزية) هنا:
https://en.wikipedia.org/wiki/Edward_Atiyah
الحلقة الأولى
جئت إلى كلية غردون مصمماً على إقامة علاقات شخصية حميمة مع طلابي، وعلى تفعيل مُثل التدريس والتعامل الإنساني التي اكتسبتها خلال فترة تعليمي أنا. ووجدت في الوضع القائم هناك حافزا جديدا للمضي على هذا الدرب إذ كان الجو السائد عسكريا في طبيعته، لكنه شحذ تصميمي على مواجهته برقة الحاشية والاحترام المتبادل. وفي مواجهة استعلاء المعلمين البريطانيين ونفورهم، وجدتني أسعى حثيثا للالتصاق بالسودانيين. وقد منحتني معاملتي لطلابي على النحو الصحيح وعياً بالتفوق الأخلاقي الذي يعزز الثقة بالنفس والاحترام الذاتي. وفي اعتقادي أن التقرّب إلى عقول طلابي واكتساب ثقتهم وصداقتهم ومنحهم الشعور بأنني صديق إضافة إلى كوني معلما هي سبيلي إلى الحصول على التأثير عليهم بشكل يتفوق كثيرا في محصلته النهائية على أسلوب المعلمين البريطانيين وإن أحاطته هالة السلطان، وكان في هذا وحده أفضل تعويض لي على المقام المهني الخفيض الذي وضعني فيه الطاقم البريطاني بالكلية.
بين سائر طلابي، كان هذا الفتى هو الأكثر وعدا، وكان مستقبله هو الأكثر جدارة بالذكر والتدوين قبل أن تغرب شمسه إلى ظلام الفشل والمأساوية. اسمه معاوية نور، في الثامنة عشرة من عمره وكان طالبا بالسنة النهائية، نحيلا وذا ملامح مَسَرة للعين. لفت نظري منذ اليوم الأول باستعارته أقوالا لجورج بيرنارد شو وأناتولي فرانس. وفي البدء كنت أظنه يسعى للتباهي بقشور العلم، فجعلت أسبر عمق معارفه. وكانت المفاجأة السارة هي أنني وجدتها موغلة في العمق وأنها تستند إلى العقل المدرك للمعاني ومضامينها.
كان معاوية سلسل أسرة عربية معروفة. فقد كان جده من الشخصيات البارزة في عهد المهدي، وخاله قاضيا في حكومة السودان. ولأنه كان أحد ألمع أبناء جيله من الطلاب السودانيين، فقد فتح مجلس الكلية أمامه، ضمن قلّة متميّزة، الأبواب إلى دراسة الطب وأسبغ عليه منحة إلى مدرسة (كلية) كتشنر الطبية. ورغم ان المهنة الطبية كانت هي أقصى ما يمكن أن يطمح إليه سوداني في أروقة الحكومة، فقد كانت المفاجأة المدوّية هي أن معاوية قابل هذا العرض بالعزوف لأن ميوله الطبيعية كانت أدبية. وبهذا صار الوحيد وسط أبناء جيله الذي لم يعتبر التعليم وسيلة إلى الخدمة المدنية وإنما غاية في حد ذاته. فلم يرغب في ان يصبح طبيبا لأنه كان يريد دراسة الأدب. على أن المشكلة هي ان السودان كان خاليا من الجامعات ومؤسسات الدراسات العليا، فأصبحت كلية غردون هي نهاية الدرب بالنسبة له.
هكذا صار خياران أمام معاوية بعد إكماله الكلية هما: إما ان يقبل المنحة لدراسة الطب أو ان يصبح كاتبا في دواوين الحكومة. وكان هناك خيار ثالث هو أن يصبح ناظرا مدرسيا لكن مجلسها رأي أنه لا يصلح حقيقة لهذه المهنة. فصار الطب هو الطريق الوحيد أمامه لكنه رفضه. وكان طبيعيا أن أهله لم يفهموا أن يلفظ أحد فرصة نادرة كهذه لتعلم الطب مجانياً ويضمن لنفسه وظيفة سامية في السلم الحكومي. كانوا يعلمون أن هذا شيئ لا سابقة له في تاريخ البلاد ولذا أيقنوا أن مساً من الجنون أصاب ابنهم الواعد. وفي نهاية المطاف لم يكن أمام معاوية إلا الرضوخ، فرضي بأن يجرّب الدراسة في كلية الطب وإن كان ذلك علي النقيض من رغبته. وعندما فعل ذلك كان كشخص تعين عليه ان يتقبل تغيير كيانه وطبيعته وفي محيط لا يمنحه أي بديل آخر.
ربما تقبّل معاوية انخراطه في صفوف الطامحين إلى تعلّم الطب. لكنه قلبه كان في واد آخر... واد في ربوع الغرب ساقه إليه الأدب الانجليزي وكأنه ساحر استولى على حواسه بالكامل. وفي الأدب الانجليزي وجد معاوية وطنه الروحي، وهو الفتى العربي القادم من شمال أفريقيا والذي لم يحدث له ان عبر الحدود خارج موطنه السودان، والعائش في منزل لا تعرف نساؤه القراءة والكتابة حتى باللغة العربية. وأكثر من أي حالة أخرى شبيهة، كانت الهوّة بالنسبة له هائلة بين بين موطنه الحقيقي وموطنه الروحي، وبين البلاد والعائلة والتقاليد التي ينتمي إليها من جهة، والعالم الخفي القصي الذي أراد بلوغه بنوع اللوعة والشوق اللذيْن يظللان كل هيام جديد.
كان مسلما وكان أسود، ولم يكن عربيا وحسب بل افريقياً في بلاد لم تعرف أي ثقافة غير شكل ضامر وضيق من التقاليد الإسلامية. وإليك صورة تظهر التباين في عالمه وحجم الهوة التي كان يخطو إليها: تخيّله في حضن أسرته بأمدرمان، محاطا بأمه وإخواته وخالاته وبنات عمومته... نساء يعشن في عزلة مغلقة على الغرباء وفي أمّية لا تحوي داخلها شيئا أبعد من حقائق الحياة الأساسية البسيطة المتعلقة بالعيش المنزلي... من الولادة والختان والزواج والحمل والطلاق والموت والحداد إلى الطبخ والزينة الشخصية. ثم تخيله يقرأ جين اوستين واولدس هكسلي في غرفة جلوس انجليزية عتيقة تبرق بلمعان أثاثها، ويتنفس هواء القرن العشرين في بلومزبري.
كنت أشعر تجاهه بتعاطف هائل أحس هو به وردّه في شكل ثقة وإعجاب لا يتأتيان إلا من شاب يافع يبحث عن اليد التي تقوده. كان لقاؤنا يتم على أرض الأدب الانجليزي العظيم وكل منا قد أتى إليها بطريقته الخاصة مسافرا من بقعة مختلفة على الكوكب. كنت أنا مقيما منذ زمن، وكان هو وافدا جديدا من مناخ في غاية الاختلاف عن ذلك الآتي إليه.
بالنسبة لي، كان التأقلم سهلا وكان بوسعي العيش راضيا سعيدا في هذه الربوع إلى الأبد. فإذا تحتم عليّ الرجوع والعيش على أرضي، فعلت ذلك بدون مشقة وإن كان بمستوى أقل من التفاعل. ولكن ماذا عن ذلك الغريب الذي يتنشق هذا الهواء الجديد حتى بمسام جسده؟ ماذا سيكون من أمره؟
ـــــــــــــــــــــــ
معاوية محمد نور بعين أستاذه إداورد عطيّة (2 من 3)
الحلقة الثانية
بعد أشهر قلائل من دخوله كلية الطبجاء معاوية لرؤيتي ذات يوم. وجّه لي العديد من الأسئلة عن جامعات الخارج: مؤهلات الالتحاق بها ورسوم الدراسة فيها... إلى آخره. وبعد اسبوع على هذا اللقاء سمعت أنه هرب إلى مصر، الأمر الذي أصاب عائلته بصدمة وقلق عميقين، خاصة أن مصر في تلك الفترة كانت "منطقة محرّمة" في نظر حكومة الخرطوم. وعليه فقد كان في هروب طالب إليها مدعاة للاعتقاد أنه لاجئ سياسي وإن كان مسعاه الحقيقي هو الدراسة العليا لا أكثر. وأضف إلى هذا أن معاوية بهجره كلية طب الخرطوم وطلبه العلم بالخارج كان يتخلى عن حقه في وظيفة حكومية مرموقة بعد تخرّجه. ولهذا وقف خاله أمام مدير التعليم وأدان "جنون" ابن اخته وتنكّره للمعروف، ووعد بالسفر إلى القاهرة لإعادته بالقوة إذا تطلب الأمر. فوعد المدير من جهته بأن يحفظ لمعاوية مقعده في الكلية إلى حين عودته مع خاله الذي توجه فوراإلى القاهرة. وهنا، حصل على مساعدة وزارة الداخلية المصرية في العثور على ابن اخته القاصر الهارب. فاعتقلت الشرطة معاوية الذي قضى ليلة في الحبس بزنزانة في أحد مراكزها، وفي صباح اليوم التالي سُلّم إلى خاله الذي اقتاده إلى محطة السكة الحديد ليبدآ رحلة العودة إلى الخرطوم. ومع كل ذلك أعلن معاوية صراحة أنه لن يعود إلى كلية الطب ولن يقبل بوظيفة كاتب في أي موقع حكومي وأن رغبته هي دراسة الأدب الانجليزي على مستوى الجامعة.
عندها قرر خاله أن يطلب إليَّ التوسط في الأمر لمعرفته أنني مهتم كثيرا بأحوال ابن اخته وأن بوسعي بعض التأثير عليه. وفي غرفتي اجتمع ثلاثتنا، الفتى والخال وشخصي، في لقاء كثيف الظلال لأنه كان يتعلق بمستقبل معاوية نفسه. فأعرب هذا الأخير عن رغبته في الدراسة بالجامعة الأمريكية، بيروت، وقال إن أسرته الميسورة الحال قادرة على تمويل دراسته فيها. ورد الخال بأن المشكلة ليست في التمويل وإنما في حقيقة أن الدراسة بالخارج ستحرم صاحبها من وظيفة حكومية مضمونة. فقال معاوية إنه لا يأبه بضمان الوظيفة وإنه قادر على تدبير عيشه بشكل أو آخر بعد نيله شهادته الجامعية. وكان في استدارة الخال إليَّ طلب غير منطوق بإصدار الحكم.
تملكني إحساس بأنني، في شخص معاوية، أعيش مجددا تجربتي الشخصية فرأيت نفس الحلم في عينيه وهما تتعلقان بالأفق البعيد وشعرت بما كان يشعر به في تلك اللحظة لأنني تذوقت طعم هذا الاضطرام من قبل.. وكان خاله، الذي لم يكن قاسي القلب أو ضيق الأفق بل رجلا عاقلا عمليا يقيس الأشياء كلا منها بقيمته مقارنة بالأخرى، يزن فرص التوظيف ومترتبات المهنة وكسب العيش. ولكن بالنسبة لمعاوية المملوك بالكامل لرغبته، لم يكن ثمة ما يجب أن يُخضع للميزان إذ كان هناك اعتبار واحد مطلق وغاية واحدة يتعين الوصول إليها لأجلها هي بغض النظر عن المترتبات، وهي تنوير عقله وترقية شخصيته داخل حدود رغبته. كان يريد أن يحقق حلمه ووجوده قبل أن يفكر في لقمة عيشه ومسكنه وملبسه. فلم يكن أمامي إلا ان انحاز إلى جانبه، وبعد أسابيع قلائل غادر بالفعل بلاده إلى بيروت.
(...)
وسط أصدقائي السودانيين ظل تلميذي القديم معاوية هو الأقرب إليَّ. فقد كنت على اتصال وثيق به خلال سنواته الثلاث بالجامعة الامريكية حيث نال شهادته في الأدب الانجليزي. وكنا نلتقي كل صيف إما في سوريا أو السودان فيمتلئ قلبي بالبهجة وأنا أراه يحقق حلمه ويضيف الكثير إلى متانة كيانه سنة بعد الأخرى. وبعد إكماله دراسته في بيروت، توجه إلى مصر بأمل أن يكسب عيشه من العمل الحر في الصحافة الأدبية. وهكذا صار لهذا الفتى الأمدرماني اليافع ان يحقق طموحه الكبير بنيله بكالوريوس الآداب من بيروت وهو في سن الحادية والعشرين، بالعيش على النحو الذي اختاره في قاهرة أحلامه التي دفعته للتخلي عن دراسة الطب في الخرطوم ضد رغبته وحطّمت الأغلال التي كانت تكبله: اعتراض العائلة والأمر والنهي وبريق الخدمة الحكومية المزيّف. كانت بوهيميا خياله تنتظره بغرفها العلوية ومقاهيها، بأحيائها اللاتينية وطرقاتها التي يذرعها زولا وجونسون ودستيوفسكي، بتمجيدها لدروب العقل واستصغارها لمتاهات الحياة المادية.
وكان معاوية، بشبابه الغض وجلدته الداكنة وبريق الإلهام في عينيه وسحر الابتسام في بياض أسنانه ومثاليته وعشقه العميق للأدب وقراءاته الواسعة وخياله الجامح، شيئا جديدا على دوائر القاهرة الأدبية. فلفت نظر الكاتب المصري المرموق عباس محمود العقاد الذي رحب به في مجلسه الأدبي مما أكسبه مكانة عالية. وفوق ذلك فقد عادت عليه مقالاته النقدية المسلحة بمدافع النقد الأدبي الأوروبي بشهرة وشعبية حدت بكبار الكتّاب المصريين للسعي إلى أخذ رأيه ومشورته.
لفترة من الزمن عاش معاوية حياة حلوة بالقاهرة سعد فيها بانتصاراته الروحية التي أحالت عالمه المادي شيئا بلا قيمة حقيقية. كان يعيش في غرفة صغيرة في هليوبوليس بالقدر الأقل من الأثاث والأكبر من الكتب والأوراق المبعثرة كحال العائشين على غذا ء العقل والروح. وبالفعل، كانت وجباته قليلة ومتباعدة إذا كان يعيش لأيام على الخبز والجبن، ولكن يبد أن نومه جائعا كان يمنحه نشوة خاصة، ففي آخر المطاف ألم يقاسي إميل زولا جراح الجوع؟ هكذا كان معاوية يعيش كما عاش أصحاب الأقلام العظيمة من قبله: بانتصار العقل عبر آلام الجسد.
لكن الجسد المهمل بدأ يتمرد فتدهورت صحة معاوية بسبب ضعف تغذيته، المتأتي يدوره من أن المال الذي كان يكسبه لم يكن كافيا لإطعامه كما ينبغي. وهذا وضع ما كان ليتغير إلى الأفضل فقط بسبب أن الكتابة الصحفية الأدبية وحدها في مصر لم تكن ابدا مصدرا للرزق. فأمضي اياما وأياما مريضا طريح الفراش بدون شخص يعنى بأمره. وأصابه هذا الوضع نفسه بالاكتئاب وصار يرى بهيمياه تفقد لمعانها وبريقها وهو يتأملها عبر نافذة غرفته الضيقة. ولفترة أشهر بعد ذلك ضاقت به سبل العيش فلجأ للاقتراض من أصدقائه مضافا اليه القليل الذي استطاع ان يحصل عليه من اسرته. وفي نهاية الأمر أُجبر على الرضوخ لإلحاح خاله عليه بالرجوع إلى السودان والعمل في دواوين الحكومة. ولم يجد معاوية الكثير الذي يمكن أن يستند إليه في اعتراضه على هذه الحال لأنه حقق طموحه بإكمال تعليمه الأدبي وبالنحو الذي رسمه لنفسه. وأضف لهذا أنه خريج جامعي ذو عقل مدرَّب ويستطيع بسهولة أن يشغل وظيفة تعليمية أو إدارية تسمح له بمزاولة اهتماماته الأدبية جزئيا على الأقل خاصة أن الوظيفة الحكومية ستمنحه الوقت الكافي لذلك وفي الوقت نفسه تؤمن له الرزق المنتظم.
معاوية محمد نور بعين أستاذه إداورد عطيّة (3 من 3)
صلاح حسن أحمد
الحلقة الثالثة
عاد معاوية إلى السودان على ظهر تلك الآمال وقضى بضعة أشهر يبحث عن وظيفة. وخلال هذه الفترة التقيت به عدة مرات وكان انطباعي عنه إيجابيا للغاية لأنه أظهر نضجا وموضوعية عالييْن في تفكيره. وكان وطنيا ولكن من طراز جديد من الوطنيين في السودان ومن معدن في غاية الندرة في عموم الشرق الأدنى. فقد كان وطنيا ناقدا لنفسه قبل كل شيء، ووطنيا عقلانيا بنّاءً لم يلفظ العداء العاطفي الأعمى للغرب وحسب، وإنما رفض أيضا التوق التائه عديم الغرض للاستقلال كغاية في حد نفسه. فقد كان يؤمن بكل وجدانه بأن التبرير الوحيد للوطنية هو مسيرة الشعب إلى شيء يستحق التعبير عنه في حد ذاته وكإسهام منه في الحضارة الإنسانية. وكان يؤمن أيضا بأن الاستقلال ما هو إلا الوسيلة إلى الغاية، وأن الغاية نفسها إذا افتقرت إلى جو الوطنية المعافاة الخلاقة، صار الاستقلال شيئا لا يُستحق وإذا تحقق أصبح بلا قيمة. وكان يريد للوطنية أن تبدأ خلقا داخليا وتسير على درب التنمية الاقتصادية والثقافية والإصلاح الاجتماعي قبل أن تتحول إلى تمرد على الهيمنة الخارجية. ولذا لم يضمر الكراهية للبريطانيين، بل كان ينظر، بعين لا تعميها العاطفة، إلى خصالهم والعمل الحسن الذي كانوا يؤدونه في السودان ويقدّر ذلك تقديرا مصحوبا في الوقت نفسه بالنقد الموضوعي لأخطائهم. ذلك أنه كان مقتنعا بأن انجلترا، بأفكارها وثقافتها ومؤسساتها، لديها شيء قيّم تقدمه إلى الشرق وأن الحري ببلاده أن تحصل عليه.
وفي مكتبي، حيث كان يزورني كثيرا في الصباح، كان يتحدث إلى ما لا نهاية عن هذه الأمور فيحلل مضامين الامبريالية والوطنية ويستعير الأقوال من لوغارد وجوليان هكسلي وتبرق أسنانه البيضاء وهو يضحك ملء شدقيه. فقد كان يوازن كفة الجد والحماسة بكفة الهزل وروح الدعابة التي ما فتئت تكشف له المضحك حتى في أفكاره. فكان وهو في معمعة الجد ينفجر بالضحك على موضوع حديثه أو على نفسه إذا رأي موقفا كوميديا في أي منهما.
فشل معاوية في الحصول على نوع الوظيفة التي تناسبه. فقد رأت فيه الحكومة ما يقلق منامها، ورفضته وزارة التعليم باعتباره غير صالح للتدريس. وكانت معاينته لوظيفة تقدم لها مع بيروقراطي رفيع المستوى بيده الأمر والنهي شيئا من ضربة حظ سيئ. فقد ذهب معاوية إلى المعاينة مرتديا ربطة عنق صفراء فاقعة، فأحدث هذا أثرا سلبيا في نفس البيروقراطي المحافظ في طبعه. ثم قادهما الحديث بينهما إلى سيرة الكاتب صمويل جونسون(جامع قاموس اللغة الانجليزية - المترجم) الذي كان معاوية يعرف عنه الكثير على عكس محادثه البيروقراطي في ما يبدو. ولكي يغطي هذا الأخير على جهله بجونسون، قرر أن يلجأ إلى "كليشيه" ظن أنه يضمن له السلامة. فقال إنه "وُلد قبل زمانه". وأحدثت هذه العبارة في نفس معاوية صدمة مساوية للصدمة التي أحدثتها ربطة عنقه الصفراء في نفس محادثه، وهكذا انتهت المعاينة بأثر سالب فطارت الوظيفة من يد معاوية. وفي وقت لاحق قُدمت له وظيفة صغيرة بوزارة المالية لا تناسب طبيعته ولا تتناسب مع شهادته الجامعية.
فرفضها وعاد مجددا إلى القاهرة وفي نفسه ضغينة إزاء الحكومة السودانية لرفضها تعيينه في وظيفة توفر له العيش في وطنه وتناسب منجزاته ومقدراته. وبدافع الغضب، أكثر من القناعة،ومن أجل لقمة عيشه كتب عددا من المقالات ينتقد فيها الرجل الأبيض الجالس تحت شمس تميل للغروب في حدائق الخرطوم الخضراء وقطع الثلج تتلألأ في كوبه، فوجدت فيها الصحافة المصرية المعادية لبريطانيا ما تبحث عنه، بديلا للمقالات الأدبية، وأجزلت له العطاء.
وصحيح أن عودة معاوية إلى مصر كانت مدفوعة في الظاهر بفشله في الحصول على وظيفة حكومية، لكن باطن أسبابه يتعلق بأنه وجد نفسه غريبا في وطنه، وروحا تشكو الوحدة وسط الناس بمن فيهم أفراد أسرته. وهكذا يمكن القول إن معاوية - وليس جونسون - هو الذي ولد قبل زمانه لأن الهوة بين حياته الفكرية والجو المحيط بها كانت هائلة. فضاع منه الحبل الذي يربطه بالحياة السودانية، وكانت المأساة هي انه لم يجد الحبل الذي يمكن ان يربطه إلى أي حياة غيرها. فقد كانت بوهيمية القاهرة مجرد مرحلة عابرة وفّرت له اكتفاء فكريا ولكن بمستوى سطحي من الإثارة وبدون تربة يغرس فيها جذوره. ولذا أحس في مصر بغياب الانتماء في كل الأشياء الحميمية في حياته. كان رحّالة لا بيت حقيقيا له إلا في عالمه الأدبي الأجنبي المتخيّل، فعاش حياته فقط وسط شخصيات دستيوفسكي وتوماس هاردي ود. هـ. لورنس وأولدس هكسلي.
بالطبع، ربما كانت هناك محركات نفسية أخرى تعتمل داخل عقل معاوية، لكن الذي لا شك فيه هو أن لتشرّده الروحي ذاك يد ثقيلة في نهايته المأساوية. وذات يوم بعد سفره لمصر بأشهر قليلة،بلغني أنه عانى من انهيار عصبي نُقل على اثره لمستشفى عقلي بالقاهرة. وبعد أسابيع تعافى فيها قليلا من صدمة هذا التطور نفسه، عاد إلى أم درمان للمرة الأخيرة ليعيش وسط أفراد اسرته الذين وهبوه - رغم الفارق الفكري الكبير – الرعاية التي لم يكن لأي شخص في مصر أن يقدمها له.
وكان معاوية مثل روح تبعث على الشفقة لأنها عادت جريحة منكسرة وخائفة من مغامرة جريئة فاشلة. ولفترة ما عاش حياته بشكل بدا طبيعيا في مظهره. ثم أتى لزيارتي ذات يوم كعادته، وللوهلة الأولى لم أر أي تغير فيه، لكنني لاحظت أن جيبه منتفخ بشيء ما وعندما سألته عنه فاجأني بأنه المصحف، وقال لي إنه يجد فيه راحة عميقة ومعاني لم يفهمها من قبل. ثم راح يتحدث بايحاءات غامضة مثل شخص رُفع له الغطاء عن شيء ذي مغزى عميق. وكان هذا مصدر صدمة لي لأنني خبرت أعراضا (دينية) مشابهة في حالات الانهيار العصبي وعلى الفور أدركت ما يقف وراء كلمات معاوية والطريقة التي كان يلقيها بها. لكن الأشهر القليلة التالية أتت لي بصدمة أكبر. كانت السنة 1935 وكان موسوليني يقلق راحة الامبراطورية البريطانية. فسألني معاوية بنظرة ذات معنى في عينيه عما إن كانت المخاوف تسيطر علـي البريطانيين في السودان. ثم، لدهشتي البالغة،مضي بنفس الرنة ذات الإيحاءات المستترة، ليحدثني عن رابط سرّي بينه وبين القرآن وموسوليني وانهيار وشيك للامبراطورية البريطانية، وألقى تلميحات إلى أن ثمة قوى ماورائية خفية تعمل عملها في ما يحدث على الساحة الدولية، وقال إن موسوليني أداة في غرض كبير ذي علاقة وثيقة برغبات معاوية نفسه. فانعقد لساني وأنا نظر إلى هذا الشخص الهش المدر للشفقة وهو يجلس أمامي وأتأمل نوع الفنظاريا التي ينسجها العقل البشري المهزوم على يد الواقع الملموس. وكانت أوهام معاوية هذه رداً على قوة الامبراطورية البريطانية وثأرا لسيطرتها على السودان وانتقاما من الحكومة البريطانية التي حرمته الوظيفة التي يستحقها.
ثم مرت فترة طويلة لم أره فيها. انقطعت زياراته وسمعت أنه يمضي جل وقته داخل البيت بدون رغبة في رؤية أحد. وذات يوم وصلتني رسالة يسألني فيها زيارته، فذهبت اليه وصدمتني الحالة التي وجدته فيها. ومع ذلك فقد كان في لحظات صفو نسبي، لكن هذا نفسه شحذ من حدة ما رأيت وسمعت. كان هو يعلم أن ثمة خللا في حالته العقلية وكان يبحث عن علاج لها. فوضع نفسه بين يدي "فكي"، أي انه ترك مصيره لمخادع جاهل يجمع بين قشور الدين والطب المزيّف يعالجه بالتعاويذ و"المحاية" وبقوى خارقة ليست أكثر من دجل في الواقع.
تخلى معاوية عن مظهره المعتاد وعاد إلى الجلابية وكأنها تعبير عن تبدل شخصيته وانهيار عالمه القديم قطعة تلو الأخرى. لم يعالجه الفكي بالطبع، وخطوة فخطوة في شتات عقله، اكتمل جنونه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.