مغالطات عابدونية 5-6 … بقلم: رباح الصادق
28 June, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
اعتقال السيد الصادق المهدي
ألحقنا المغالطات العابدونية هذه بالشطحات الهيكلية في سلسلة واحدة لأن موضوعهما واحد وهو الأحداث التي جرت بالجزيرة أبا في مطلع السبعينات. في الحلقتين الأولى حتى الرابعة ذكرنا ما قاله هيكل وناقشناه حول أحداث أبا ومقتل الإمام الشهيد، ونواصل اليوم وفي المرة القادمة بإذن الله حول أحداث سبقت مجزرة أبا بنحو تسعة أشهر ومباشرة بعد قيام الانقلاب المايوي.
في الحلقة التلفزيونية بقناة النيل الأزرق التي هدفت لإكمال الصورة التي بثها هيكل في قناة الجزيرة استضيف السيد الفاتح عابدون (مع كل من الأستاذ هاني رسلان الصحفي المصري، والدكتور الصادق الهادي، والأستاذ إدريس حسن) ليدلي بشهادته حول حادثة هامة في سياق أحداث أبا وهي اعتقال السيد الصادق المهدي في 4/6/1969م بالرغم من أنه –أي السيد الصادق- استدعي للتفاوض وبالأمان المغلظ، ما شكل غضبا متناميا لدى الأنصار وإمامهم من النظام وغدره وكان سببا في تصاعد الأحداث نحو المواجهة كما رأى د الصادق الهادي المهدي.
قال عابدون -ومهد لحديثه بأنه سيلقي معلومة يفرج عنها للمرة الأولى- بأنه ذهب للجزيرة أبا ظاهريا كمرسل من قادة الانقلاب ولكنه في الحقيقة ذهب بدعوة من الصادق نفسه، وأمام دهشة الحضور من هذا الكلام (الخطير) شرح عابدون أن والده استدعاه منزعجا وأطلعه على رسالة من الصادق المهدي يقول فيها له إذا كانت له أية علاقة مع القائمين بالانقلاب فإنه يريد أن يفاوضهم! وأنه مدفوعا بذلك الطلب العزيز (وقد كان يعتبر نفسه من حيران الصادق المهدي حينها كما قال) ولصلته بالزمالة مع عدد من قادة الانقلاب توجه لصديقه فاروق عثمان حمد الله وزير الداخلية حينها وسأله لماذا لا يفاوضوا القوى السياسية المعارضة فقال له الأخير إنه لو كان هناك من يمكن مفاوضته فهو الصادق المهدي ولكنهم لم يعثروا عليه، فقال له إنه يستطيع أن يحضره ولكنه يطلب فقط الأمان فأعطاه له فاروق ثم توجه للجزيرة أبا برفقة السيد إسماعيل عبد الله المهدي وبسيارته وبقي بالجزيرة أبا ثلاثة أيام يحاول فيها إقناع الإمام الهادي بأن يذهب الصادق معه للتفاوض، وقال إن انطباعه أن الإمام لم يكن يريد للصادق أن يفاوض باسم الأنصار لأنه قبل أسبوع فقط كان بينه وبين الصادق خلاف! وقال إنه بعد أن أحضر الصادق لقادة الانقلاب دار لقاء ثنائي بين الصادق والنميري، ثم علم بعد ذلك أن الصادق اعتقل، فغضب من نقض فاروق والنميري للوعد ولكنه اقتنع بتبريرهما أن الصادق حينما اجتمع بالنميري أكد له أنه كانت له مساع داخل الجيش للانقلاب كما أنه رفض تأييد النظام المايوي وهذا ما لم يرض عنه بقية أعضاء "مجلس الثورة" وكانوا يريدون الفتك به ولكنه لحمايته أبعده في منزله بجبيت.
يذكر كتاب المصالحة الوطنية الأحداث كالتالي (باختصار وتصرف): كان الإمام الهادي حين قيام الانقلاب بالجزيرة أبا، وكان السيد الصادق المهدي بأم درمان، ولاحظ الرأي العام السوداني أن الحركة الجديدة رفعت شعارات شيوعية وعينت تسعة وزراء من قادة الحزب الشيوعي السوداني وتحدثت بإقصائية لكافة القوى الأخرى، فاتجه لمعارضتها، وتجمع في منزل السيد الصادق المهدي عدد من القيادات من مشارب مختلفة يعبرون عن استنكارهم لذلك الاتجاه. فأرسلت لهم قوة عبارة عن سرية وأربعة مدرعات بقيادة الرائدين محجوب برير محمد نور وحسين أبو شيبة فحاصرت المنزل ودخل القائدان للتفاكر وتحدثا مع السيد الصادق المهدي فدار حوار أكد فيه الموفدان أن سلطتهم (الثورية) الجديدة لا تقبل المعارضة وستواجه بالقوة كل من يعارضها. رد السيد الصادق بأن الأوضاع السياسية الفائتة لا يمكن الدفاع عنها ولكن الذي تستنكره القوى السياسية أن تحل جميع الأحزاب ويترك حزب وحيد لفرض رؤاه بالقوة، وهو ما سيظل موضع رفض لهذه القوى.
كما أرسل السيد الصادق هذا المضمون لعدد من ضباط القوات السودانية المسلحة للإطلاع علي حقيقة موقف المعارضة. وتوجه السيد الصادق بعد ذلك للجزيرة أبا للقاء الإمام الهادي هناك والتفاكر في الأمر ووصلها صبيحة يوم الثلاثاء 27 مايو. وهناك عقد اجتماع برئاسة الإمام الهادي المهدي حضره السادة الصادق المهدي وعبد الله نقد الله وحسين الهندي وتداولوا الرأي حول ما ينبغي أن يفعلوا في الموقف الجديد؟
وكان السيد عبد الله نقد الله قد روي للاجتماع ما دار بينه وبين مجلس (الثورة) الجديد وكان يستحسن أن يجري معهم حوار فقد بادروا هم بالاتصال به. وبعد النظر في الأمر تقرر أن يوضع أساس للاتفاق معهم وأن ينتدب أحد المجتمعين لحوارهم وينتدب السيد حسين الهندي لخارج السودان لتسريب سلاح للجزيرة استعدادا، فإن نجح الحوار كان بها وإلا تكون المقاومة. وبينما كان الاجتماع منعقدا في الجزيرة أبا وصل إليها الرائد (طيار) الفاتح عابدون برسالة الرائد المرحوم فاروق حمد الله يؤكد فيها رغبة مجلس قيادة الثورة أن يجري حوارا مع المعارضة ورغبته أن يحضر السيد الصادق المهدي لإجراء ذلك الحوار مغلظاً الأمان بشرفه العسكري. بناء على ذلك وافق الإمام الهادي على أن يصطحب السيد الصادق السيد الفاتح عابدون إلي الخرطوم لإجراء الحوار. (انتهى تلخيص الأحداث من الكتاب)
الرسالة التي أرسلها السيد الصادق المهدي والتي تحدث عنها السيد عابدون أشير لها في الكتاب، وقد أرسلت له ولغيره (أرسلت الرسالة لنحو عشرة ضباط منهم إضافة للسيد الفاتح عابدون المرحوم محمد البنا والسيد صديق حمد والسيد محمود من سلاح المهندسين وغيرهم ممن عدهم السيد الصادق ضباط داخل القوات المسلحة تربطه بهم علاقة) وكان مضمون الرسالة واضحا وهو رفض استيلاء حزب أقلية على السلطة وفرض رؤاه على الآخرين بالقوة. حرّض السيد الصادق الضباط المرسل إليهم للتحرك لدرك البلاد من الاختطاف الشيوعي لقيادة القوات المسلحة، قال لهم في الخطاب: البلد في محنة، فماذا أنتم فاعلون؟ ربما رأى السيد عابدون أن دوره في ذلك هو إجراء تفاوض، وربما فهم أن الخطاب دعوة للتفاوض مع ضباط الانقلاب لتلافي الاختطاف الشيوعي، وفي الحقيقة فإننا لن ندرك حقيقة الأمر ما لم نجد نسخة من تلك الرسالة المرسلة لكثيرين والتي نرجو أن يكون أحدهم قد احتفظ بها، أما السيد عابدون الذي أعادها لصاحبها فلن يفهم ذلك الصاحب حينها إلا أن عابدون أشفق مما فيها من شبهة الجلوس أو الاستماع (للرجعية المستحقة البطش)!
وفي كتاب المصالحة أيضا تفاصيل اللقاء الذي دار يوم 3/6/1969م لثلاثة ساعات (وليس ستة ساعات كما قال السيد عابدون حيث قال إن اللقاء استمر من الثامنة مساء وحتى الثانية صباحا). قال نميري إنهم قاموا بالثورة لحاجة البلاد لها وعرض بحث الوسائل ليتعاون الصادق معهم لأنهم يعلمون أن أفكاره تقدمية. وأكد الصادق أن الوضع البائد مدان ولكن لكي يمكن التعاون لا بد من القيام ببرنامج للإنقاذ من دستة نقاط. قال السيد الصادق إنه يلتزم بتأييده وتأييد الإمام الهادي والسيد إسماعيل الأزهري وغيرهم من القادة السياسيين السودانيين وذلك في حالة تحول مايو لشكل قومي وطني لا شيوعي أو متحالفة مع الشيوعيين كما هي حينذاك. البرنامج البديل الذي طرحه هو:
1. تكملة الاستقلال الاقتصادي بتأميم وسودنه الشركات الأجنبية.
2. تأمين سيطرة القطاع العام علي الاقتصاد الوطني بتأميم المصارف إلا البنك التجاري السوداني لأنه شركة سودانية عامة؛
3. حل سياسي لمشكلة جنوب السوداني علي هدى توصيات لجنة الإثني عشر ومؤتمر الأحزاب؛
4. تحقيق الإصلاح الزراعي لتصبح المشروعات الزراعية ملكية تعاونية لمزارعيها ولينعم مشروع الجزيرة بعلاقات إنتاج جديدة.
5. حل اتحاد نقابات عمال السودان وتكوين تنظيم العمال في نقابات شاملة وديمقراطية يضمها تنظيم عمالي قومي موحد؛
6. حل اتحاد الشباب السوداني وتكوين تنظيم قومي ديمقراطي للشباب السوداني؛
7. حل الاتحاد النسائي وتكوين تنظيم نسوي قومي ديمقراطي يقوم باستنهاض المرأة السودانية؛
8. انتهاج سياسية خارجية يمارس السودان بموجبها دوره العربي الرائد والأفريقي القائد والعربي الأفريقي الرابط والدولي المحايد بين المعسكرين العالميين؛
9. محاسبة الفاسدين في العمل السياسي وإقامة محكمة شعب لمحاكمة الذين أثروا علي حساب الشعب والذين ارتكبوا المفاسد السياسية؛
10. تطبيق توصيات لجنة إصلاح الخدمة المدينة وتطهير الخدمة المدينة على أساس عادل؛
11. المحافظة علي كيان القوات السودانية المسلحة درعا حاميا للوطن ومشاركا في مسيرته، ومراجعة قرارات إبعاد الضباط الأكفاء أمثال الباقر ومزمل والشفيع ما داموا أكفاء والجيش محتاج للكفاءات.
12. التعامل مع كل الكفاءات الوطنية واتخاذ موقف موحد من الأحزاب السياسية لضمان قومية نهج الثورة السودانية.
وعد النميري ببحث المسألة مع زملائه في مجلس قيادة الثورة على أن يفيد السيد الصادق بالقرار الذي سيتخذ، وبدلا عن إعلامه بالقرار الذي كان ينتظره، تم إرسال ضابطين له في مساء يوم 4/6/1969م ليذهب لرئاسة القوات السودانية في الخرطوم لمواصلة الحوار وهناك أحتجز وأعتقل وأرسل إلي جبيت بشرق السودان. وفي اليوم التالي أعلن السيد فاروق أبو عيسى الناطق الرسمي باسم الحكومة حينها في مؤتمر صحفي أن الثورة لم ولن تفاوض أحدا!
وزبدة ما نريد قوله هنا إن إفادة السيد عابدون لا تخرج كثيرا عما دار بالفعل وإن شابها لبس نعتقد أنه بسبب طول المدة، ولكن الأمر الحاسم في النهاية هو ظهور أية نسخة من تلك الخطابات التي أرسلها السيد الصادق لأي من العسكريين الذين خاطبهم ومن ضمنهم عابدون، ومع أن الفرق ليس كبيرا من ناحية أن الاتجاه نحو التفاوض لم يكن أمرا مستهجنا في عرف الصادق أو الإمام أو غيره من قادة الكيان، إلا أن الحقيقة أولى أن تظهر بدقائقها لمصلحة التاريخ في المقام الأول.
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا