مغامرات شارب خمر التمر “وعاصر خمر تمره الميّت في بلدة الموتى”

 


 

 

أموس تيوتيولا
Amos Tutuola
ترجمة: إبراهيم جعفر
صدر الكتاب، للمرة الأولى، بالإنجليزيّة عن دار "فيبر آند فيبر". أعيد إصدار طبعة شعبيّة منه "فيبر للطبعات الشعبيّة-1961". ثمّ نُسخت منه طبعاتٌ في 1963، 1969، 1971، 1974، 1980، 1985.
صمّمت الغلاف دار بينتقرام Pentagram للتصميم الفنّيّ. رسمُ الغلاف بريشة جون كليمينتسون.John Clementson صورة الغلاف الخلفيّة من تصوير كارولين فوربس.

نبذة عن حياة المؤلف:-
أموس تيوتيولا، كاتبٌ نيجيريٌّ ولد في بلدة "أبيوكوتا" وتلقّى تعليمه في مدرسة لمنظّمة جيش الخلاص المسيحيّة. ثمّ، مؤخّراً، عمل مدرّساً في مدرسة لاغوس الثانوية العليا. وكتابه الموسوم شارب خمر التّمر... الخ [ذاتٌ المؤلّف الذي ترجمتٌه هنا إلى العربيّة]، الذي هو أكثر مؤلفاته شهرةً، قد كٌتِبَ في لهجة إنجليزيّة- نيجيريّة عاميّة وتناول مغامرات بطله وسط "الموتى"، أي أرواح الرّاحلين. من مؤلّفاته الأخرى حكاية موسومة بـ"مٌسغب، صيّاحة وخبيث (1987)" ومجموعة قصص قصيرة موسومة بـ"امرأة الرّيش الغابيّة".

يستلهم أموس تيوتيولا مؤلفاته من أساطير وخرافات قبيلة اليوروبا النيجيرية. فهو قد خلّق من هاتيك فانتازيات (متخيّلات) حيّة يتعايش، في جنابها، الواقعيّ (الطبيعيّ) وما فوق الطّبيعيّ.
............
[من:- 1. قاموس جامبارس للبيوغرافيا، النسخة القرنيّة، تحرير مالاني باري (طبعة 1997).
2. موسوعة ماكميلان (طبعة 1997)].

حكايات أخرى للمؤلّف:-
* حياتي في غابة الأشباح My Life In The Bush of The Ghosts
* إمرأة الريش الساكنةَ الغابة The Feather Woman of The Jungle
* أجايي وفقره الموروث Ajaiye And His Inherited Poverty

قيل عن هذه الرواية:-

"موجزة، محتشدة، مرعبة وآسرة ... كتبها، بالإنجليزيّة، "غربُ-إفريقيّ" ... لا شيء معجز جداً أو تافه جدّاً على أن يُسلك في مجرى هذه الرواية المولعة بالمبالغات الشديدة أو
اللا يُصدّق من الأشياء".

ديلان توماس
"صحيفة الأوبزيرفر البريطانيّة".

إهداء هذه الترجمة:-
* إلى الأستاذ الفاضل كبّاشي الذي أمتعني قديماً، بمجلّة "الإذاعة والتلفزيون والمسرح" السودانيّة، وبملاحق شتّى الصحف السودانيّة الثقافيّة، بترجماته الممتازة لكثيرٍ من الأدب الإفريقيّ ومقالاته وهوامشه على ذلك.
* إلى الصديق الفاتح فضل، عارف الأدب الإفريقيّ الصّامت عن الخوضِ الهشِّ فيه!

إبراهيم جعفر
***
أنا شارب خمر تمر منذ أن كنتُ صبياً في العاشرةِ من عمري. ما استغرقتني مشغلةٌ أخرى سوى شرب خمر التمر. في تلك الأيام ما عرفنا مالاً سوى "المحار"، لذا كان كلّ شيء رخيصاً، وكان أبي أغنى رجلٍ في بلدتنا. ولد أبي ثمانية أطفال وكنتُ أنا أكبرهم. جميعهم كانوا عاملين مجدّين. لكنني- أنا نفسي- كنتُ خبيراً في شرب خمر التمر. شارباً لخمر التمر، كنتُ، من الصباح حتى الليل، ومن الليل حتى الصباح. في ذلك الوقت ما استطعت أن اشرب الماء العادي قطّ- فقط شربت خمر التمر. عليه حينما لاحظ أبي أنني غير مستطيع القيام بأيّ عملٍ سوى الشرب استأجر عاصر خمرٍ خبيرٍ من أجلي ما كان له عملٌ آخر سوى أن يعصر خمر التمر كلّ يومٍ.

وهكذا وهبني أبي مزرعةَ شجرِ نخيلٍ مساحتها تسعة أميالٍ مربعة وضامة لخمسمائة وستين ألفاً (560،000) من الشجر. وكان العاصرُ يهصرُ منها مائة وخمسين زقَّ (دنَّ) خمرِ تمرٍ كلّ صباحٍ. لكننّي، قبل الساعة الثانية ظهراً، كنتُ أغدو شارباً لكلّ ذلك فيشرع الرّجل في عصرِ مقدارِ خمسة وسبعين زقّاً أُخر في المساء أشربهم جميعاً بحلول الصباح. لهذا بات أصدقائي لا يُحصون في ذلك الوقت، وكانوا يشربون معي خمر التمر منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من الليل. لكن، عندما أكمل عاصر خمر تمري مدة خمسةَ عشر عاماً وهو يعصر خمر التمر لي، مات أبي فجأةً. بعد ستّةِ أشهرٍ من موتِ أبي ذهب العاصر إلى مزرعةِ شجر النخيل في أحدِ أمسياتِ يوم الأحد ليعصر خمر التمر لي. حينما بلغ المزرعة تسلّق إحدى أعلى أشجار النّخيل هناك ليفعل ذلك لكنه، فيما هو منهمكُ في هصر التمر، خرّ صريعاً بصورةٍ غير متوقّعة ومات تحت الشجرة تلك متأثّراً بإصاباته. ولأنّني انتظرته ليأتيني بخمر التمر ورأيتُ أنه لم يُوافني بها في الحين الموعود- فهو لم يُبقِني، من قبل، منتظراً طويلاً هكذا- دعوت اثنين من أصدقائي ليصحباني إلى المزرعة:- حينما وصلنا إليها ابتدأنا في تفحص كلّ شجرة نخيل. بعد برهةٍ وجدناه تحت شجرة النخيل التي سقط عندها ومات.

أول شيء فعلته إذ رأيته ميّتاً هناك هو أنني تسلّقت شجرة نخيل أخرى قرب ذات البقعة فعصرتُ منها خمر تمرٍ وشربتها حتّى الارتواء قبل نزولي، مرّةً أخرى، إلى البقعة تلك. ثم حفرت، أنا وصاحبَيَّ، حفرةً تحت شجرة النخيل التي سقط أسفلها وسوَّيتُ قبراً ودفنّاه هناك وعدنا إلى البلدةِ.

في الصباح الباكر من اليوم التالي ما عادت لديّ أيّ خمر تمرٍ لأشربها. خلال كلّ ذلك اليوم شعرتُ بأنّي لستُ سعيداً كما أنا قبلاً- كنتُ جالساً بتجهُّمٍ في ديواني. وحينما أتى اليوم الثالث وأنا ما ظفرتُ قطّ بخمرِ تمرٍ كفّ جميع أصدقائي عن المجيء إلى منزلي مرةً أخرى؛ تركوني هناك وحدي لأنه ما بقيت لهم خمر تمر ليشربوها. لكنّني، حين قضيتُ أسبوعاً في منزلي دون خمرِ تمرٍ، مضيتُ خارجاً منه فرأيتُ أحدهم في البلدة. حيّيته فأجاب، بيد أنه لم يُخاطبني ومضى بعيداً على عجل.

شرعتُ في البحثِ عن عاصر خمرِ تمرٍ آخرٍ، لكنّني ما استطعتَ عثوراً على أحدٍ يمكنه عصر خمر التمر هذه كما أبغي. وإذ لم أجد عندي خمر تمر لأشربها مضيت شارباً الماء العادي الذي ما تمكّنت، في الماضي، من تذوُّقِهِ، لكنّه لم يُشف غليلي كخمرِ التمر.

حين رأيتُ أنني لستُ بواجدٍ خمر تمرٍ مرةً ثانيةً، وأنّ ليس ثمة امرئ بمستطاعه أن يعصرها لي فكّرت، في سريرتي، بقول الناس العجائز إن جميع من ماتوا في هذا العالم ما ذهبوا، مباشرةً، إلى السماء، بل كانوا يعيشون في مكانٍ ما، في جهةٍ ما، من هذا العالم... هكذا، إذاً، أنا قلتُ لنفسي إنني سأجد المكان الذي كان فيه عاصر خمر تمري الذي مات.

ذات صباحٍ لطيفٍ أخذت معي "الجُّوجُوات"* البلدية الخاصة بي وأيضاً "جُوجُوات" أبي وغادرت بلدة أبي الأصليّة عساي أجد الجهة التي ذهب إليها عاصر خمري الذي مات [* لفظ "الجّوجُوات" هو جمعٌ نحتّه للكلمة النيجيرية- والغرب إفريقيّة- القديمة "جُوجُو" التي تعني- مجملاً- عُدّة سحريّة يستعملها ممارس السحر لوقاية نفسه من الأخطار المادية والروحيّة التي تواجهه في حياته عموماً وفي أسفاره وتنقّلاته خاصة. هو (الجّوجُو)، كما تؤمن ديانات إفريقيا القديمة "الوثنيّة"، يهب المرءَ المُسخَّرَ له قدرات سحريّة خارقة ليس أقلّها القدرة على التحوّل "أو الانمساخ" من حالةٍ إلى أخرى أو كائنٍ إلى آخرٍ- كأن يُصبح طيراً، هواءاً، ماءأً، أو أيَّ كائنٍ حيٍّ أو غير حيّ "غير عضويّ" آخر. قد يقارب معنى "الجّوجُو" هنا معنى "الكِجُور" أو "العَمَل"، كما يُفهَمَان في بعض ثقافات أهل السّودان القديمة، إفريقيّةً كانت أو عَرَبسلاميّة (أعتذر للمبدع السّوداني الظّريف حسن موسى على إعطائي لنفسي حقَّ "الطّبع" في استعمال "براءة" اختراعه لتلك الكلمة- المصطلح (عربسلاميّة) في سبيل هامش إيضاحي هذا- عفواً لي وعرفاناً له حتّى يرضى...)...].

في تلك الأيام كانت هنالك حيوانات متوحّشة كثيرة وكلّ مكانٍ كان مغطّىً بأدغالٍ كثيفةٍ وغابات. أيضاً كانت البلدات والقرى ليست قريبة من بعضها كما هي في هذه الأيام. وكنتُ، فيما أنا مرتحلٌ من أدغالٍ إلى أدغالٍ ومن غاباتٍ إلى غاباتٍ أنام في جوفها أياماً عديدةً وشهوراً، أنام على فروع الأشجار لأنّ الأرواح... إلخ همو تماماً كالشّركاء، ولأنّ عليّ أن أصون حياتي منهم... وأيضاً كنتُ، كذلك، أُقضي شهرين أو ثلاثة قبل وصولي إلى قريةٍ أو بلدةٍ ما. آن ما بلغتُ قريةً أو بلدةً قد أقيم بها ما يقرب من أربعةِ شهورٍ علّني أعثر على عاصرِ خمرِ تمري بين سكّانها. وإذا ما استبان لي أنه لم يصل إليها قد أُغادرها وأواصل رحلتي إلى بلدةٍ أو قريةٍ أخرى. بعد سبعة أشهر من خروجي من بلدتي الأصليّة مررتُ ببلدةٍ ما وذهبت، بها، إلى رجلٍ عجوزٍ. هذا الرّجل العجوز ما كان، في حقيقته، رجلاً؛ إنه كان إلهاً، وقد كان يتناول الطّعام مع زوجته حين وصلت إلى بيته. عندما دخلتُ ذلك البيت حيّيتهُما معاً فأجاباني بإحسانٍ. ذلك رغم أنه ليس من الصحيح- عرفيّاً- لأيّ شخصٍ أن يدخل إلى منزله هكذا، بسببِ كونه إلهاً. لكنّني أنا نفسي كنتُ إلهاً وكنتُ ساحراً ذا "جُوجُو". أخبرت الإنسان العجوز-الإله أنني أبحث عن عاصر خمر تمري الذي مات ببلدتي قبل زمانٍ. ما أجابني عمّا استفسرتُهُ عنه، بل سألني، أوّلاً، عن اسمي. رددتُ عليه بأن اسمي هو "أب الآلهة" الذي باستطاعته أن يفعلَ أيَّ شيءٍ في هذا العالم. حينئذٍ قال: "هل هذا صحيح؟". قلتُ له: "بلى". بعد ذلك أخبرني أنّ عليّ الذّهاب إلى حدّاده البلديِّ الذي كان يُقيم في مكانٍ مجهولٍ بالنّسبةِ لي، أو في بلدةٍ أخرى، وأن آتِهِ بـ"الشّيء الصحيح" الذي طلب من ذلك الحدّاد أن يصنعه له. قال لي إنّني إذا استطعت الإتيان له بذاك
"الشّيء الصّحيح" فهو سيؤمن بأنّني "أب الآلهة الذي باستطاعته فعلَ أيِّ شيءٍ في هذا العالم" ومن ثمّ سيُطلعُني على مكانِ عاصرِ خمرِ تمري الميت. ما أن أخبرني، أو وعدني، ذلك الرجل العجوز بذلك حتى مضيتُ بعيداً. لكنّني، بعد ما يقارب ميلاً من الترحال بعيداً، استعملتُ واحداً من "الجّوجُوات" التي لديَّ فتحوّلتُ، في الحال، إلى طائرٍ كبيرٍ جدّاً وطرتُ عائداً إلى سقف منزل الرجل العجوز. لكنّني، حينما كنتُ واقفاً على ذلك السقف، رآني الكثيرون من الناس فجاءوا قريباً ونظروا إلىَّ وأنا هناك. حينما لاحظ الرجل العجوز أنّ عديداً من الناس قد أحاطوا بمنزله وأنّهم ناظرون إلى السقف خرج، مصحوباً بزوجته، من المنزل. وعندما رآني (أي رأى الطائر) على السقف أخبر زوجته أنّه إن لم يكُن قد أرسلني إلى حدّاده لجلب الجّرس الذي طلب منه أن يصنعه له لأبلغني أنّ عليَّ أن أذكر له اسم ذلك الطائر الكبير. طبعاً علمتُ، آنذاك، ما الذي يريده من الحدّاد فطرتُ بعيداً قاصداً الأخير. إثر وصولي إلى هناك أخبرتُ الحدّاد أنّ الرجل العجوز (الإله) أوصاني أن أجلب له الجّرس الذي سبق وطلب منه أن يصنعه له. أعطاني الحدّاد الجّرس- إذأً- فعدتُ به إلى الرجل العجوز. وحينما رآه معي دُهشَ ودُهِشَت زوجته وأيضاً صُعقَا في تلك اللحظة.

بعد ذلك أوصى الرجل العجوز (الإله) زوجته أن تُعطيني طعاماً. لكنّه، عقب تناولي الطّعام، أخبرني، كرّةً أخرى، أنّ هناك عملٌ مدهشٌ آخرٌ تبقّى لي كي أفعله له قبل أن يُطلعني على الجهة التي ذهب إليها عاصر خمر تمري الميّت. حين بلغت الساعة السادسة والنصف من صباح اليوم التالي استيقظ الرجل العجوز (الإله) وأعطاني شبكةً عريضةً وقويّةً كان لها ذات لون أرض تلك البلدة. ثمّ سألني- بعد- أن أذهب وآتي له معي بـ"الموت "، من منزله، مقبوضاً عليه في الشّبكة إيّاها. وعندما تركتُ منزل العجوز، أو البلدة، ورائي بمسافةِ ميلٍ تقريباً رأيتُ هناك تقاطعَ طرقٍ فغدوتُ شاكّاً في أيِّ الطّرق أسلُك، فأنا ما دريتُ ما طريق "الموت " من بين هذه الطرق. حينها فكّرتُ، في سرّي، بأنه ما دام ذاك اليوم كان "يوم السّوق" فإنّ كلّ المتسوّقين سيرجعون، عاجلاً، من السّوق فتمدّدتُ في منتصف تقاطع الطّرق ووضعتُ رأسي باتّجاه إحدى الطّرق، ويدي اليُسرى باتّجاه طريقٍ أخرى، ويدي اليُمنى باتّجاه طريقٍ ثالثة، وقدميّ معاً باتجاه ما تبقّى من الطّرق، ثمّ تظاهرتُ بأنّني قد نمتُ هناك. وعندما عاد المتسوّقون جميعهم من السوق رأوني متمدّداً هناك فصاحوا: "من هي أُمُّ هذا الولد الطّريف؟ فهو قد رقد فوق الطّرق وصوّب رأسه ناحيةَ طريق "الموت"... "

إثر ذلك بدأت الترحال على طريق " الموت " فأنفقت حواليّ ثمان ساعاتٍ كي أصل إلى مسكنه. لكنّني، لدهشتي، ما قابلتُ أيَّ شخصٍ على ذلك الطّريق حتّى بلوغي هناك- كنتُ خائفاً بسببِ ذلك. حينما وصلتُ إلى مسكنِ "الموت" تبيّنتُ أنه لم يكن موجوداً هناك آنذاك، فهو كان قد ذهب إلى جِنَيْنَة "اليام" الخاصّة به والقريبة جدّاً من منزله. عندها "قابلتُ" طبلاً صغيراً متدحرجاً في شرفته فضربتُ عليه مُرسِلاً إشارةً عنيتُ بها أن أُحيِّيه. لكن "الموت"، حينما سمع صوت الطّبل، تحدّث هكذا: "هل ذلك الإنسان ما يزالُ حياً أم هو قد مات؟"، فأجبتُهُ: " أنا ما أزالُ رجلاً حيّاً ولستُ بميّتٍ".

لكن... في ذات الوقت الذي سمعني فيه "الموت" أتفوّه بذلك انزعج انزعاجاً شديداً وأمر الطّبل، بطبقةِ صوتٍ خاصّةٍ، أن يلُفّني بأوتاره حيثما كنتُ. وقد حدث ذلك فعلاً إذ التفّت أوتار الطّبل تلك حولي بإحكامٍ ما استطعتَ معه أن أتنفّس إلاّ بصعوبةٍ.

حينما شعرتُ أنّ الأوتار إياها منعتني من التّنفّس، وكذلك أن كلّ جزءٍ من جسدي كان ينزفُ بغزارةٍ أمرتُ، أنا نفسي، حبال "اليام" في جِنينتِهِ أن تربطه هناك، كما وأمرتُ "اليام" في جِنينتِهِ أيضاً بذلك، فضلاً عن أمري- كذلك- أوتاد "اليام" أن تضربه. ما أن نطقت بهذه الأوامر حتّى أوثَقَتْهُ كلُّ حبال "اليام" في جِنينَتِهِ بشدّةٍ وشرعت أوتاده في ضربه بلا هوادةٍ. وإذ رأى ذلك منّي ورأى أنّ الأوتاد تلك لا تكفّ عن ضربه أمر أوتار الطبل التي كانت تربطني أن تفُكّني ففكّتني عنها في ذاتِ الوقتِ. وعندما رأيتُ أنّني قد أُطلقَ سراحي أمرتُ، بدوري، حبال اليام أن تُطلقه عنها وأوتاد اليام أن تتوقّف عن ضربه فتمّ منها ذلك كلّه على الفور. وبعد أن تحرّر من حبال اليام ومن ضرب أوتاده له جاءني بمنزله وقابلني في الشّرفة فتصافحنا بالأيدي ودعاني إلى أن أدخل المنزل، ثمّ هيأ لي إحدى الغرف لأقيم بها. إثر ذلك بوهلةٍ أتى لي بطعامٍ وأكلنا معاً ثم ابتدرنا أحاديثاً جرت كالتّالي:- سألني "الموت": من أينَ أتيت؟ أجبته بأنّني من بلدةٍ بعينها لا تبعد كثيراً عن حيثُ يُقيم. ثمّ سألني:- لماذا جئتَ إلى هنا؟ أخبرتُه أنّي قد كنتُ سامعاً عنه في بلدتي وفي كلِّ العالم ففكّرتُ، بيني ونفسي، بأنّني ينبغي لي، ذاتَ يومٍ، أن آتي إليه وأزوره أو أتعرّف عليه شخصيّاً. بعد ذلك أنبأني "الموت" أنّ عمله هو فقط قتل سكّان هذا العالم، ثمّ نهض وأشار عليّ بأن أُرافقه إلى حيثُ هو ذاهبٌ ففعلتُ.

دار بي حول منزله وحول جِنينة يامهِ أيضاً. أراني أيضاً عظامَ هياكلٍ عظميّةٍ لبشرٍ قتلهم منذ قرنٍ مضى. كما وأراني أيضاً أشياءَ أخرى، لكنّني لاحظتُ، آنذاك، أنه كان يستعمل عظام الهياكل البشريّة وقوداً له والحطب ورؤوس الجّماجم البشريّة حياضاً يغتسلُ فيها، والصحون والآنية.... الخ.... الخ....

لم يكن هنالك أحدٌ يعيشُ معه أو بجواره. كان يعيشُ وحده. حتى حيوانات الغابة والطّيور كانت بعيدةً جدّاً عن مسكنه.... حينما أردتُ أن أنام، في اللّيل، أعطاني غطاءاً أسوداً عريضاً وهيّأ لي حجرةً منفصلةً لأنام بداخلها. لكنّني عندما دخلتُ الحجرةَ شاهدتُ سريراً قُدَّ من عظامِ كائناتٍ أُنسيّةٍ. وبما أنّ ذلك السّرير كان مرعباً في مرآه، أو مفزعاً لمن قد ينام عليه، رقدتُ تحته- كنتُ قد عرفتُ خُدعة "الموت". ما استطعتُ النوم تحت ذلك السّرير الرّهيب حقاً فرقدتُ هناكَ يقظاً ومرتعداً فَرَقَاً من عظامه البشريّة. لدهشتي، حينما جاءت السّاعة الثانية بعد منتصف اللّيل رأيتُ شخصاً يدخلُ حجرتي بحذرٍ وهو يقبضُ على عصىً ضخمةٍ (نبُّوتٍ ضخمٍ) بكلتا يديه ويقتربُ من السّرير الذي أوصاني "الموت" بالرقاد عليه ثمّ ينهالُ عليه ضرباً بكلِّ قوّته. ثمّ يُوسعُ ذلك الشخص- الذي أدركتُ أنّه "الموت" عينه- من بعد ذلك قلب السّرير ضرباً صاعقاً لثلاثةِ مرّاتٍ يخرجُ بعدها من الحجرةِ حذراً- قد ظنّ أنّني نمتُ على ذلك السّرير وأنّه- حينذاك- قد قتلني.

لكن حين بلغت الساعة السادسة صباحاً استيقظتُ قبله وذهبتُ إلى الحجرةِ التي كان ينامُ فيها وأيقظتُهُ. أصابهُ فزعٌ عندما سمع صوتي وما استطاعَ مطلقاً أن يُحيِّيني آن نهوضهِ عن سريره، فهو قد ظنّ بأنه قتلني في الليلة الماضية.

بتُّ ليلةً ثانيةً في ذات الحجرة. لكن "الموت"، هذه المرة، لم يحاول أن يفعل لي أيَّ شيءٍ. استيقظتُ في الثانية صباحاً وذهبتُ إلى الطّريق الذي يجب أن أتّبع إلى البلدة وارتحلتُ عليه مسافةَ ربعِ ميلٍ من منزله حيثُ توقّفتُ وحفرتُ حفرةً بحجمه تقريباً في مركزِ ذلك الطّريق. بعد ذلك نشرت، فوق الحفرة، الشّبكة التي أعطانيها الرجل العجوز لأعود إليه بـ"الموت" فيها ورجعتُ إلى منزل الأخير فوجدتُ أنه ما استيقظ أثناء تدبيري للحيلة التي وصفت.

حينما حانت الساعة السادسة صباحاً ذهبتُ إلى بابه وأيقظته كالمعتاد. ثمّ أخبرته أنّني أريد العودة إلى بلدتي هذا الصباح وأنّني أرغب في أن يقودني على الطريق إليها لمسافةٍ قصيرةٍ. حينذاك نهض عن سريره وبدأ في فعل ما طلبته منه. حين وصلنا إلى المكان الذي حفرتُ الحفرةَ فيه دعوته أن يجلس وجلستُ أنا على جانب الطّريق. لكنّه ما أن جلس على الشّبكة حتى وقع في الحفرة فلففتُ، بلا أدنى تردّد، الشّبكة حوله ووضعته على رأسي، ثمّ شرعتُ في الذّهاب إلى منزل الرجل العجوز الذي كان قد أخبرني بأن أذهب وآتي له بـ"الموت".

وبينما كنتُ حامله على الطّريق كان "الموت" يبذل كلّ ما أوتي من جهد ليهرب منّي أو يقتلني، لكنّني لم أعطه فرصةً لفعل ذلك. وبعد ما ارتحلتُ حوالي ثمان ساعات وصلتُ إلى البلدة التي أقصد وذهبتُ رأساً إلى منزل العجوز الذي كان قد طلب منّي جلب "الموت" إلى منزله. عندما وصلتُ إلى المنزل إياه كان العجوز بداخل حجرته الخاصّة فناديتُهُ وأعلمتُهُ أنّني قد أتيتُ له بـ"الموت" الذي أوصاني أن أجيء به إليه. وحال سماعه منّي هذا النّبأ ورؤيتهِ لـ"الموت" محمولاً فوقَ رأسي ركبهُ فزعٌ شديدٌ وارتفع صوتُهُ منذراً لي بأنّه ما ظنّ قطّ أنّ أحداً بمستطاعه أن يذهب ويرجع بـ"الموت" إلى منزله (أو أيّ مكانٍ آخرٍ). ثمّ أخبرني، من بعد، بأن أحمل "الموت" وأعود به إلى منزله في الحال وشرع في إغلاقِ كلِّ أبوابه وشبابيكه. لكنّني، قبل أن يتمكّن من إغلاقِ اثنين أو ثلاثة من شبابيكه، قذفتُ بـ"الموتِ" أسفل باب منزله فمزّق ذاك، في ذاتِ اللحظة التي قذفتهُ فيها أرضاً، الشّبكة إلى نُتَفٍ وانطلقَ خارجاً منها.

بعد ذلك هرب الرجل العجوز وزوجته من منزلهما عبر النوافذ، كما وفرّ من البلدة كلُّ أهلها ناجينَ بحيواتهم وتاركين ممتلكاتهم وراءهم (قد ظنّ الرجل العجوز أنّ "الموت" سيقتلني إن ذهبتُ إلى مسكنه. ذلك لأنّ لا أحد بقادرٍ على أن يصل إلى مسكن "الموت" ويعود منه سالماً. لكنّني كنتُ قد أدركتُ خُدعة الرجل العجوز).

هكذا ما عاد لـ"الموت"، منذ اليوم الذي أخرجته فيه من مسكنه، مكاناً دائماً يقطنُ أو يقرُّ فيه فغدونا نسمع اسمه ويُذكر في مختلفِ أنحاء العالم... تلك كانت قصّة كيف أنّني أتيتُ بـ"الموت" للرّجل العجوز الذي اشترطَ عليّ أن أذهب وأجيء له به قبل يطلعني على مكان عاصر خمر تمري الذي كنتُ أبحثُ عنهُ قبل وصولي إلى البلدة تلك ولقائي الرّجل العجوز. ولكن الرجل العجوز- كما استبان القارئ- ما استطاع الإيفاء بوعده لي بأن يطلعني على مكان العاصر الراحل إن تمكّنت أنا من جلب "الموت" إليه في منزله، فهو ما كان بقادرٍ على الانتظار حتّى يحقّق ذلك الوعد لأنه- هو نفسه- وزوجته قد نجيا- بصعوبة- من "الموت" حين فرّا من بلدتهما تلك. وهكذا غادرتُها أنا دون أن اعرف أين ذهبَ عاصر خمر تمري الميّت وبدأتُ رحلةً أخرى جديدة.

في الشهر الخامس من ارتحالي هذا وصلت إلى بلدةٍ أخرى لم تكن كبيرةً جدّاً، رغم أنّ بها سوقاً ضخماً وشهيراً. في ذاتِ الوقتِ الذي دخلتُ فيه إلى هناك مضيتُ إلى منزلِ رأسِ البلدةِ الذي استقبلني بحفاوةٍ ودعاني للدخول إلى منزله. بعد برهةٍ قصيرةٍ أوصى إحدى زوجاته بأن تُقدّم لي طعاماً. أكلتُ الطّعام فدعا زوجته بأن تُقدّم لي، أيضاً، خمر تمر. شربتُ الخمرَ بإسرافٍ مثلما كنتُ أفعل حينما كنتُ في بلدتي أو حينما كان عاصرُ خمرِ تمري حيّاً. ذلك لأنّني عندما أكلتُ ذلك الطّعام وتذوّقتُ تلك الخمر قلتُ لنفسي إنّني قد وجدتُ مُنيتِي هنا. امتلأتُ- إذاً- بالطعام والخمر لحدِّ الشّبع والارتواء. ثمّ سألني مضيفي عن اسمي فأخبرته أن اسمي هو "أب الآلهة الذي بمستطاعه فعل أيّ شيءٍ في هذا العالم". حينما سمع منّي ذلك أُغميَ عليه، في الحال، من الخوفِ. ثم سألني- بعد- عمّا جئتُ أسعى إليه عنده. أجبتُهُ أنني في سبيل بحثي عن عاصر خمر تمري الذي مات في بلدتي منذ عهدٍ مضى فأنبأني بأنّه عالمٌ بالمكان الذي ذهبَ إليه ذلك العاصر.

ثم اشترط الرجل عليّ، كي يدلّني على الجهة التي ذهب إليها عاصر خمر تمري الرّاحل، أن أُساعده في العثور على ابنته التي أسرها مخلوقٌ عجيبٌ من سوقِ بلدته وأن آتي بها إليه. ختاماً قال لي الرّجل إنني ما دمتُ أسمّي نفسي "أب الآلهة الذي بمستطاعه فعل أيّ شيء في هذا العالم" فسيكون سهلاً جداً عليّ أن أتكفّل بفعل ما دعاني إلي فعله- هكذا قال، وما كنتُ أدري أنّ ابنته قد ساقها معه بعيداً مخلوقٌ عجيبٌ التقتهُ في السّوق.
كنتُ على وشك رفض الذّهاب والبحث عن ابنته التي أخذها المخلوق العجيب من عند السّوق، لكنّني حينما تذكّرتُ اسمي خجلتُ من ذلك. لذا وافقتُ على البحث عن ابنته.

هنالك سوقٌ كبيرٌ في البلدة أُسرت منهُ ابنة ذلك الرجل يومُهُ كان يأتي مرّةً كلّ خمسةِ أيّامٍ. كان يحضرُ إلى ذاك السّوق كلّ قاطني البلدة والقرى المجاورة لها، كما وكانت تؤمّه أقوامٌ من الأرواح ومخلوقاتٌ عجيبةٌ من مختلف الأدغال والغابات يبيعون ويشترون لوازمهم منه. عند الرابعة مساءاً كان يومُ السّوق ينتهي فيؤوبُ الجميع- من بشر وغير بشر- إلى حيثُ يقيمون أو إلى الجّهات التي أتوا منها.

كانت ابنةُ رأس البلدة- قبل أسرها- بائعةً صغيرةً في السّوق، وكانت على وشك أن تُزَوَّج. فقبل ما حدث كان أباها يوصيها بأن تتزوّج رجلاً معيّناً، لكنّها ما كانت مصغيةً إليه. وقد اختار لها أباها ذلك الرّجل زوجاً عندما أحسّ منها لامبالاةً بالزواج من هذا أو ذاكَ من الرّجال، لكنّها رفضت تماماً من اختاره أباها لها فتركها أباها وحالها.

كانت السيّدةُ تلك جميلةً كملاك لكن ليس هنالك من رجلٍ استطاع إقناعها بأن تتزوّجه. وهكذا ذهبت، ذات يومٍ، إلى السّوق، في يوم السّوقِ، كما كانت تفعل دوماً، كي تبيع معروضاتها، كالعادة. وفي يوم السّوقِ ذلك رأت مخلوقاً غريباً في السّوق، رجلاً ما درت من أين أتى وما كانت تعرفه مطلقاً من قبل.

وصفُ المخلوقِ الغريب:-

كان المخلوق الغريب متخذاً هيئة رجل كامل التهذيب والتشذيب (جنتلمان). كان يرتدي أرقى الملابس وأعلاها سعراً. كلّ أجزاء جسده كانت مكمّلة. كان طويلاً، لكنه قويّ البنية. وإذا حسبناهُ "شيئاً" للبيع أو حيواناً جيء به إلى السوق في ذلك اليوم فإنه لن يُباع بأقلّ من ألفى جنيهاً إسترلينياً (2000).

بما أن ذلك الرجل كامل التهذيب والتشذيب جاء إلى السوق في اليوم إياه، وبما أن ابنة رأس البلدة قد رأته فإنها، في ذات الوقت الذي رأته فيه، ما فعلت شيئاً سوى أن سألته عن حيثُ يعيش، لكنّه امتنع عن الإجابة على سؤالها، بل ولم يُحادثها مطلقاً. وعندما رأت منه ذلك وأدركت أنّ ذاكَ الرجل الجنتلمان الكامل ما كان مصغياً إليها تخلّت عن أشيائها وبدأت تُراقب حركته حوالي السوق فبقيت بضاعتها غير مباعة في ذلك اليوم.

شيئاً فشيئاً غادر البائعون السوق وأغلقوه لذلك اليوم. ثمّ مضى عنه- كذلك- إلى مساكنهم وقراهم.... الخ.. الخ كلّ الناس الذين كانوا جائلين في أنحائه. وشأنه شأن الآخرين بدأ الجنتلمان الكامل، أيضاً، في العودة إلى الجهة التي أتى منها. ولمّا كانت السيّدة إياها متابعةً له في أرجاء السوق كلّ الوقت فإنّها قد رأته وهو يؤوب إلى حيثُ كان، تماماً كالآخرين، فانطلقت في إثره إلى مكانٍ مجهولٍ. أثناء مضيّها على الطريق في إثر الجنتلمان الكامل كان الجنتلمان الكامل يحثّها على العودة إلى بلدتها أو على ألاّ تتّبعه، لكنّها لم تصغ إلى ما كان يقوله لها. ولما تعب الجنتلمان الكامل من حضّها على ألاّ تروح في أعقابه تركها وشأنها.

لا تتبعي جمال رجلٍ مجهولٍ

عندما ارتحلا بعيداً عن السّوق لمسافةٍ تقارب اثني عشر ميلاً تركا الطريق الذي كانا سالكيه وشرعا في التوغل إلى جوف غابةٍ لا تنتهي ولا ساكنينَ لها إلاّ أقوامٌ من جميع المخلوقات المفزعة.

"إعادة أجزاء الجّسد إلى مالكيها، أو أجزاءٌ مؤجّرةٌ من جسدِ الجنتلمان الكامل تُعادُ إلى مالكيها"...

وفيما هما مسافران عبر الغابة اللانهائية بدأ الجنتلمان الكامل [أو "المُكمَّل"- كما يقولون في عاميّة بعض أهل السّودان- المترجم]، الذي تابعته السيّدة في كلّ حركةٍ له منذ أن رأته في السوق، في إرجاع الأجزاء المستعارة من جسده إلى مالكيها، وكان يدفع لهؤلاء مال إيجارها. حين وصل إلى حيثُ أجّر القدم اليُسرى نزعها خارجاً وأعطاها إلى مالكها ودفع له ثمنها، ثمّ مضى في سيره والسيّدة في إثره. وحينما وصلا إلى حيثُ أجّر القدم اليمنى نزعها عنه وأعطاها إلى مالكها ودفع ثمنها. الآن عادت القدمان كلاهما إلى مالكيهما فبدأ يزحفُ حثيثاً فوق الأرض. في ذلك الوقت أرادت السيّدة العودة إلى بلدتها وإلى أبيها، لكن المخلوق المفزع العجيب، أو الجنتلمان الكامل، لم يسمح لها بالإيّاب أو الرجوع، مرةً أخرى، إلى بلدتها أو أبيها وقال لها ما يلي:- "قد حدّثتُكِ ألاّ تتبعيني قبل أن نعرج على هذه الغابة اللانهائية الغير مأهولة بمخلوقاتٍ سوى كائناتٍ مفزعةٍ وعجيبةٍ. لكنّني عندما صرتُ "جنتلماناً" ناقص الجّسد إلى النصف أردتِ العودةَ. هذا ليس في استطاعتكِ فعله الآن- إنّكِ قد غُلِبْتِ على أمرك. كذلك هنالك أشياء لم تخبريها أبداً من قبل في حياتِك وهي، بعد، في انتظارك، فقط اتبعيني".

عندما توغلا أكثر في الغابة وصلا إلى حيثُ أجّر المخلوق العجيب (أو الجنتلمان الكامل سابقاً) بطنه، ضلوعه، صدره... الخ... الخ، فنزع كلّ أولئك عن جسده وأعطاهم إلى مالكهم ودفع له ثمن الإيجار.

ما تبقّى لهذا المخلوق العجيب، من هيئة الإنسان، كان، حينذاك، الرأس فقط والذراعين و الرقبة. آنذاك ما عاد قادراً، كما كان، على الزحف، بل فقط مضى متقافزاً كضفدعٍ ضخمٍ فلم تتمالك السيّدة، حينها، نفسها وأُغمي عليها من مرأى هذا المخلوق المفزع الذي هي ماضيةً في إثره. فالآن قد رأت أنّ كلّ جزءٍ مما كان، في سوق بلدتها، جنتلماناً "مكمّلاً" لم يكن إلا شيئاً مستعاراً أو مؤجّراً، كما وقد رأته وهو يرجع هذه الأجزاء (أو الأعضاء) إلى مالكيها الأصليّين. وهذا ما دعاها إلى البدء في بذل كلّ جهودها في سبيل العودة إلى بلدةِ أبيها، لكن هيهات! فهذا المخلوق العجيب ما سمح لها بذلك مطلقاً.

عندما وصلا إلى المكان الذي اجّر منه الذراعين نزعهما وأعطاهما إلى مالكهما ودفع ثمنهما. ثمّ استمرّا في المسير خلال الغابة اللانهائيّة إلى أن وصلا إلى حيثُ أجّر الرّقبة فنزعها عن جسده وأعطاها إلى مالكها ودفع ثمنها له أيضاً.

"جنتلمان كامل الجّسد والأعضاء يُردُّ إلى رأسٍ فقط!"

الآن قد تقلص الجنتلمان، الذي كان كامل الهيئة، إلى رأسٍ فقط! ثم عندما وصل اثنينهما إلى حيثُ أجّر الجلد واللحم الذين كانا كاسيين للرأس أعادهما إلى مالكهما ودفع له ثمن الإيجار. الآن ردّ من كان جنتلماناً كاملاً في سوق بلدة السيّدة إلى "جُمجُمة" فبقيت السيدة إياها بصحبةِ "جُمجُمة" فقط. عندما رأت السيّدة أنّ رفيقها ليس سوى "جمجُمة" بدأت تقول إنّ أباها كان قد أوصاها بأن تتزوّج رجلاً معيناً، لكنّها ما أصغت إليه وما آمنت بوصيّته.

لما رأت السيدة أن الجنتلمان قد صار إلى "جُمجُمة" تداركها الإغماء مرةً أخرى. ولكن "الرجل-الجّمجُمة" أخبرها بأنها إن كان لها أن تموت فلها أن تموت، فهي، في كلّ الأحوال، مرغمةً على اتّباعه إلى منزله. في الوقت الذي كان فيه "الرجل-الجّمجمة" يقول ذلك كان يدندن بصوتٍ مرعبٍ- وأيضاً يغدو، تدريجياً، مستوحشاً جداً- بحيث أنه لو اتّفق لشخصٍ ما أن يكون على مبعدة ميلين منه فلن يحتاج إلى الإصغاء حتى يسمعه. بدأت السيّدة- إذاً- في الجري بعيداً في جوف الغابة تلك ناشدةً النجاة بحياتها، لكن "الرجل-الجّمجمة" طاردها وأمسكَ بها على مسافة يارداتٍ قليلةٍ. ذلك لأنه كان أريباً جداً وبارعاً، فهو ليس سوى "جمجمةً-رجلاً"، فظيعاً وقادراً على القفز ميلاً فميلاً دون أن ينزل إلى الأرض. هكذا- إذاً- قبض "المخلوق-الجُّمجُمة " على السيدة:- حينما كانت السيدة مولّيةً بعيداً ناجيةً بحياتها عاجل هو باستباق خطواتها وجثم قُدّامها ككتلةِ خشبٍ فأوقفها.

شيئاً فشيئاً تبعت السيّدة المخلوق-الجمجمة إلى منزله الذي كان حفرةً كائنةً تحت الأرض. عندما وصلا إلى هناك دخلا معاً الحفرة. لكن كلّ الكائنات العائشة بالحفرة لم تكن إلا "جماجماً". ما أن صارا بداخل الحفرة حتى ربط المخلوق-الجمجمة "محارةً" حول عنقها بنوعٍ ما من أنواعِ الحبال. بعد ذلك أعطاها ضفدعةً كبيرةً لتجلس فوقها كمقعدٍ، ثمّ أطلقَ صُفّارةً مناديةً لـ"جمجمةٍ" من نوعه كي تراقبها مراقبةً يقظةً ولصيقةً لئلا تهرب، فهو قد عرف مسبقاً أنّها ستحاول الهربَ بعيداً عن الحفرة. بعد أن انتهى من كلّ ذلك ذهب المخلوق-الجّمجمة إلى الساحة الخلفيّة من المنزل حيثُ تقيم عائلته منذ انبلاج شمس اليوم حتى ليله.

ذات يوم حاولت السيدة الهرب من الجحر فأطلقت "الجمجمة" الحارسة لها، في ذات اللحظة، صفارة إنذار للبقية الذين كانوا في الساحة الخلفية للمنزل فهرعوا جميعهم، متدحرجينَ على الأرض وكأنّهم ألف طبلٍ بتروليٍّ مندفعين على طولِ طريقٍ وعر، إلى حيثُ تجلس السيّدة فوق الضفدع الضخم... وهكذا أمسكوا بها. بعد القبض عليها أعادتها الجماجم إلى مقعدها الضّفدعيّ المعتاد. أحياناً كانت السيدة تحاول استغلال فرصة نوم "الجّمجمة" كي تهرب بعيداً. لكنّها، كلما اتَّفق لها فعل ذلك، كانت "المحارة" المربوطة حول عنقها تطلق صوت إنذارٍ رهيبٍ في ضجيجه فتستيقظ "الجّمجمة" الحارسة لها في الحال. ثم تندفع بقيّة الجماجم "عائلتها" من خلف المنزل إليها آلافاً لتسألها عما حدا بها إلى إرسال ذلك الصوت المفزع الغريب. لكن السيدة ما كانت- آنذاك- بقادرةً مطلقاً على التكلّم. فالمحارة المربوطة حول عنقها قد صيّرتها، في ذاتِ لحظةِ ربطها هناك، خرساء.

يجب على أب الآلهة أن يجد المكان الذي كانت فيه ابنةُ رأسِ البلدة

أذكّر القارئ أنّ أب السيدة قد سألني، أولاً، عن اسمي فأخبرته أنّه "أب الآلهة الذي بمستطاعه فعل أيّ شيء في هذا العالم"، ثم قال لي، إثر ذلك، إنني إن عرفت الجهة التي كانت بها ابنته، ومن ثم رددتها إليه، فهو سيطلعني على حيثُ ذهب عاصر خمر تمري الميّت. كنتُ، حين قال لي ذلك، قد تقافزتُ مسروراً بوعده لي بأنه سيخبرني بمكان عاصر خمر تمري الميت- ذلك بصرف النظر عن ماهية شروط الوعد ذاك- فوافقتُ على ما قاله. ما عرف والديَّ السيدة مطلقاً مكان ابنتهما، لكنهما كانا على علم بأنها ذهبت في إثر جنتلمان "مُكَمَّل" رأته في السوق وبما أنني كنتُ "أب الآلهة الذي بمستطاعه فعل أيّ شيء في هذا العالم" فقد ضحيّتُ بمعزة لـ"الجّوجُو" الخاص بي حينما حلّ الليل.

عندما جاء الصباح أرسلتُ، باكراً، في طلب أربعين زقّاً (دنّاً) من خمرِ التمرِ وبعد أن شربتها كلّها شرعتُ في التّحرّي عن المكان الذي كانت به السيّدة. وبما أن اليوم كان يوم السوق ابتدأت التحرّي من هناك. حين بلغت الساعة التاسعة صباحاً، بالضبط، جاء إلى السوق، مرّةً أخرى، نفس الرجل الجّنتلمان الكامل الذي تبعته السيّدة. وفي ذات الوقت الذي رأيته فيه عرفتُ أنه مخلوقٌ غريبٌ ومفزع.

"ليس للسيدة أن تُلام لاتّباعها الجّمجمة المتخذة هيئة جنتلمان كامل"

لا أستطيع مطلقاً أن ألوم السيّدة لاتّباعها الجّمجمة-الرجل الجنتلمان إلى بيته. فأنا إن كنتُ سيدة كنتُ سأتبعه، بلا شكّ، إلى حيثما سيذهب. ثم كون أنّي رجل يجعلني أغير منه أكثر من هذا؛ فهو لو ذهب إلى ميدان المعركة فسوف لا يقتله العدوّ أو يأسره، وإن رآه قاصفون لبلدةٍ قُدّر لها أن تُقصف أو تُرمى بالقنابل فسوف لا يقذفون قنابلاً في حضرته، وحتى لو فعلوا ذلك فإن القذيفة قد لا تنفجر إلا بعد مغادرته البلدة تلك- ذلك بسبب جماله. منذ ذلك الحين الذي رأيتُ فيه ذاك الجنتلمان الكامل في السوق في ذلك اليوم ما فعلتُ شيئاً سوى متابعته في أرجائه. بعد أن نظرتُ إليه لساعات عديدة جريتُ إلى ركنٍ في السّوق وبكيتُ لبضع دقائق، فلقد فكّرتُ، في سرّي، عما لماذا لم أُخلق جميلاً كذاك الجنتلمان. لكنني حينما تذكّرتُ أنه ليس سوى جمجمة فقط شكرت الله على انه خلقني بلا جمال، ثم عدتُ إلى اقتفاء أثره حوالي السوق وكنتُ ما أزالُ- رغم كلّ شيء- مجذوباً بجماله. وعندما أُغلق السوق في منتهى ذلك اليوم ورجع كلّ كائنٍ (أو كائنة) إلى الجهة التي أتى (أتت) منها رجع ذاك الجنتلمان، أيضاً، إلى حيثُ كان فتبعته لأعرف مكان إقامته.

"التحرّي يقود إلى منزل عائلة المخلوق-الجّمجمة"

بعد ارتحالي من السوق، في إثر الجنتلمان الكامل، لمسافة تقارب اثني عشرة ميلاً ترك الجنتلمان الكامل الطريق الذي كنا مسافرين عليه وانثنى إلى بطن غابةٍ لانهائيّة تبعته إليها. كنتُ لا أريده أن يُلاحظ أنني متابع له فاستعملت واحداً من "الجّوجوات" التي بحوزتي وحوّلتُ نفسي إلى ضبٍّ ومضيتُ في إثره. لكنه، بعد ارتحالي معه في غياهب الغابة لمسافة خمسة وعشرين ميلاً تقريباً، بدأ ينزع عنه، عضواً فعضواً، كلّ أجزاء جسده ويعيدها إلى مالكيها، ثمّ يدفع لهم ثمنها.

بعد مسيري وراءه، في باطن الغابة، لمسافة خمسين ميلاً أخرى وصل إلى منزله ودخله فدخلته أنا معه أيضاً إذ أنّني كنتُ ضبّاً. أول شيء فعله، حين دخوله الجحر (المنزل)، هو ذهابه مباشرةً إلى المكان الذي كانت به السيدة فرأيتها أنا جالسةً على ضفدعٍ ضخمٍ ومحارةً واحدةً مربوطةً على رقبتها، ثمّ رأيتُ الجمجمة الحارسة لهل واقفةً خلفها. بعد أن استيقن المخلوق-الجمجمة من وجود السيدة هناك ذهب إلى فناء المنزل الخلفيّ حيثُ تعمل وتعيش عائلته كلّها.
"عمل المحقّق المدهش في منزل عائلة الجّمجمة.."

حينما رأيتُ السيّدة تلك انتظرتُ حتى غادر المخلوق-الجمجمة، الذي أتى بها إلى الحفرة، إلى ساحة المنزل الخلفيّة. عندها حوّلتُ نفسي إلى رجلٍ كما كنتُ سابقاً. ثمّ تحدّثتُ إلى السيّدة. لكنها ما استطاعت أن أبداً أن تُبادلني حديثاً بحديثٍ. فقط هي "أظهرت" لي أنها كانت في وضعيّةٍ خطيرةٍ. في ذلك الوقت كانت الجمجمة الحارسة للسيدة بصفارتها نائمةً.

ساعدتُ السيدة على النهوض عن الضفدع الذي كانت جالسةً فوقه. لكن، لدهشتي، أصدرت المحارة المربوطة حول رقبتها، في الحال، ضجّةً غريبةً فسمعتها الجمجمة المراقبة لها واستيقظت، ثمّ أطلقت الصفّارة منذرةً الباقين. هرع الجميع إلى المكان وأحاطوا بالسيدة وبي. وفي ذات اللحظة التي رأوني فيها هناك جرى أحدهم إلى حفرةٍ ليست بعيدةً عن ذاك الموقع. كانت الحفرةُ تلك مليئةً بالمحار. التقط محارةً منها وركض باتّجاهي فحذت حذوه كلّ الجماجم إذ انطلقت على إثري ساعيةً لربط المحارة حول رقبتي أنا أيضاً. لكنني، قبل أن يتمكنوا من فعل ذلك، حوّلتُ نفسي إلى هواء فما عادوا قادرين على تقفّي أثري مرةً أخرى، في حين أنّي كنتُ قادراً على النّظر إليهم. حينذاك اعتقدتُ أنّ المحارات الموجودة في تلك الحفرة هي قوّتهم وأنهم يستعملونها ليُنقصوا قوّة أيّ كائن إنسانيّ حالما يتمّ لهم ربطها حول عنقه وأيضاً الإنسان أخرساً.

بعد ساعةٍ من ذوباني في الهواء رجعت الجماجم تلك إلى الساحة الخلفيّة وبقيت الجمجمة الحارسة للسيدة حيثُ كانت. آنذاك حوّلتُ نفسي إلى رجلٍ، كالمعتاد، وحملتُ السيدة من فوق الضفدع. ولكن، في ذات اللحظة التي مسستها فيها، بدأت المحارة المربوطة حول رقبتها في الصراخ. كان ذلك الصراخ من القوة بحيثُ لو كان هناك إنسانٌ على مبعدة أربعة أميال منها لسمعها دون أن يُصغي إليها. سمعت الجمجمة الرقيبة عليها الضجّة في الحال ورأتني حين أخذتُ السيدة من فوق ذاك الضفدع فأطلقت صفّارتها المعتادة منبّهة الباقين الذين كانوا في خلفيّة المنزل (الحفرة). حالاً سمعت بقية الجماجم الصفارة المطلقة إليها فأسرعت إلى المكان. وقبل أن يصلوا إليه وإلىَّ كنتُ قد تركتُ حفرتهم إلى الغابة. أدركوني، من بعد ذلك، قبل أن أتمكن من الارتحال مسافة مائة ياردة داخل الغابة. كانوا قد اندفعوا خارج حفرتهم وانثنوا إلى داخل الغابة فيما كنتُ أنا والسيدة ما نزالُ راكضين بعيداً. أثناء مطاردة هؤلاء الجماجم لي (والسيّدة) حوالي الغابة كانوا يتحرجون على الأرض كحجارة ضخمة ويدمدمون بضجّة مروّعة. حين رأيتُ أنهم كادوا أن يقبضوا عليّ، أو أنهم، لا محالة، سيقبضون عليَّ عاجلاً إن استمررتُ في الجري بعيداً هكذا حوّلتُ السيّدة إلى فرخٍ ووضعتها داخل جيبي، ثمّ حوّلتُ نفسي إلى طائرٍ صغيرٍ جداً أستطيع أن أصفه، في اللغة الإنجليزية، بأنه sparrow [هو، في اللغة العربية، العصفور الدّوريّ- المترجم].
طرتُ بعيداً، لكن المحارة المربوطة حول رقبة تلك السيدة ما زالت، فيما أنا طائرٌ في السماء، تحدثُ ضجّةً بذلتُ أقصى ما أقدر عليه من جهدٍ في سبيل إسكاتها، لكن مُني كلّ جهدي بالفشل. عندما وصلتُ، برفقةِ السيدة، إلى بيت أبيها حوّلتها إلى سيدةٍ كما كانت قبلاً، كما وحوّلتُ نفسي أيضاً إلى رجلٍ كما كنتُ في السابق. حينما رأى أباها أنني قد أعدتُ ابنته إلى البيت أصبح مفرط السرور وقال لي ما يلي:- "أنتَ- حقاً- ’أب الآلهة‘ كما أخبرتني من قبل".

ورغم أنّ السيدة الآن بالمنزل إلا أنّ المحارة المعلّقة حول رقبتها ما كفت عن إرسال ضجتها الرهيبة ولو للحظةٍ، ثمّ أنها- أيضاً- ظلّت غير قادرة على التحدّث إلى أيّ أحدٍ. فقط هي أبدت ملامحاً مسرورةً بأوبتها البيت... وهكذا أرجعتُ أنا، حينذاك، السيدة إلى مسكن أبيها، لكنها ما زالت لا تتحدّث، لا تأكل ولا تستطيع فكّ المحارة من حول رقبتها، كما وظلّت ضجّة المحارة الرهيبة لا تُسمح، مطلقاً، لأيّ أحدٍ بالراحة أو النّوم.

"... وتظلّ هناك مهمّات أعظم تنتظرني ..."

بدأت في قطع حبل المحارة من حول رقبة السيدة عساي أجعلها تتحدث وتأكل، لكن كلّ جهودي ذهبت سدىً. ثم، بعد محاولات مستميتة في هذا السبيل، أفلحتُ فقط في إيقاف ضجّة المحارة، لكنني عجزتُ عن حلّ الحبل.

عندما رأى أباها منّي كلّ ذلك التعب شكرني كثيراً ثمّ كرر، مرةً أخرى، قوله إنني، إذ أسمّي نفسي "أب الآلهة الذي بمقدوره فعل أيّ شيء في هذا العالم"، ينبغي لي أن أتمّ بقيّة عملي. أشعرني قوله هذا بالخجل الشديد ففكرتُ، بيني وبين نفسي، بأنني إن رجعت إلى جحر الجماجم أو منزلهم فقد يقتلوني. كما وتمثّلت في خيالي أيضاً الخطورة الدائمة للترحال في جوف الغابة. بجانب كلّ ذلك استبان لي أنني لستُ بقادرٍ على الذهاب مباشرةً إلى الجماجم في داخل جحرهم وسؤالهم عن سرّ نزع المحارة بعيداً عن عنق السيّدة حتّى تستطيع أن تتحدّث وتأكل.

"العودة إلى منزل عائلة الجّماجم"

بعد اليوم التالي من إرجاعي السيدة إلى منزل أبيها عدتُ إلى الغابة اللانهائية ساعياً وراء تحرٍّ أوسع. وإذ بقي ميلٌ واحدٌ تقريباً لوصولي إلى جحر أولئك الجماجم رأيتُ هناك نفس المخلوق-الجمجمة الذي تبعته السيدة من السوق- حيثُ تهيأ لها في صورة جنتلمان كامل- إلى جحر منزل عائلته. في ذات اللحظة التي رأيته فيها حوّلت نفسي إلى ضبٍّ وتسلّقتُ شجرةً قريبةً منه.

قطع المخلوق-الجمجمة ورقةً مفردةً من أحد نباتين وقف إزاءهما (كانت الورقة إياها محاذية للنبات الآخر المقابل للأول). ثم أمسك بها في يده اليمنى ومضى قائلاً:- "بما أن السيدة تلك قد أُخذَت منّي فإنها ستظل خرساء إلى الأبد ما لم تُعطى هذه الورقة عينها، من هذا النبات، المحاذية للنبات الآخر المقابل له، لتأكلها".

بعد ذلك رمى المخلوق-الجمجمة ورقة النبات على الأرض. ثمّ قطع ورقةَ نبات أخرى مفردة وذات شعب من نباتٍ ذي شعب كان نامياً على نفس رقعة الأرض التي نما عليها النبات المقابل للنبات الأول. حمل المخلوق الجمجمة الورقة ذات الشعب بيده اليسرى وقال:- "إن لم تُعط نفسُ هذه الورقةُ ذات الشعب لتلك السيدة لتأكلها فلن تحلّ عنها، أبداً، المحارة التي حول رقبتها ولسوف تطلّ محدثةً ضجّةً رهيبةً إلى الأبد".

بعد أن قال المخلوق- الجمجمة ذلك رمى صفقة النبات الثانية على ذات البقعة من الأرض التي رمى عليها الورقة الأولى وقفز بعيداً. انتظرته حتى وثب مسافةً طويلةً، ثمّ حوّلتَ نفسي إلى رجلٍ كما كنتُ سابقاً وذهبتُ إلى المكان الذي رمى المخلوق-الجمجمة فيه ورقتي النبات. التقطتهما وعدتُ حالاً إلى المنزل (من حسن الحظ أننّي كنتُ حاضراً حينما قام المخلوق-الجمجمة بكلّ الأفعال التي وصفت، وإلاّ ما تمكنت من رؤية المكان الذي رمى فيه الصفقتين النباتيتين، كلٌّ على حدة).

ما أن وصلت إلى المنزل حتى طبختُ الورقتين، كلٌّ على انفراد، وأعطيتُ إحداهما إلى السيدة كي تأكلها. لدهشتي بدأت السيدة الكلام في الحال. ثم أعطيتها الورقة الثانية ذات الشّعب كي تأكلها أيضاً، فأكلتها تواً وانفرطت المحارة المربوطة حول عنقها منحلّةً من تلقاء نفسها، بيد أنها اختفت في ذات الوقت. وإذ رأى والد السيدة ووالدتها العمل المدهش الذي قمتُ به لأجلهم جلبوا إليّ خمسين زقّاً من خمرِ التمر ووهبوا لي السيّدة زوجةً، كما وأعدّا لي حجرتين في منزلهما ذاكَ حتى أبقى عايشاً بينهم... وهكذا أنقذتُ السيّدة، التي أصبحت زوجتي منذ ذلك اليوم، من الجنتلمان الكامل الذي رأته في السوق واتّبعته فرُدّ، فيما بعد، إلى مخلوقٍ-جمجمة حبسها في جحره. تلك هي الكيفية التي صار بها عندي زوجةً.

مضت ستة أشهر منذ عقد قراني على السيدة إياها قضيتها معها في بيت والديها. ثم تذكرت عاصر خمر تمري الذي مات ببلدتي قبل عهدٍ مضى من الزمان فسألت والد زوجتي أن يبرّ بوعده ويطلعني على المكان الذي ذهب إليه، لكنه استمهلني بعضاً من الزمان. ذلك لأنه علم أنني إن عرفت ذلك المكان في ذاك الوقت فسوف اترك وزوجتي البلدة فيصير ما بينه وبين ابنته إلى فراقٍ وبعد لا رغبةَ له فيهما.

أكملتُ ثلاثة أعوامٍ معهم في تلك البلدة. لكنني، أثناء الفترة تلك، كنتُ أعصرُ خمرَ التمر بنفسي. طبعاً ما كنتُ بقادرٍ على عصر الخمر تلك بكميةٍ تفي بحاجتي للشرب. زوجتي أيضاً كانت تعينني في حملها من المزرعة إلى البلدة. ثلاثة أعوام ونصف انقضت وأنا ما زلتُ في البلدة. حينذاك لاحظتُ أنّ إبهام يد زوجتي اليسرى كان متورماً وكأنه علامةٌ هاديةٌ للمراكب، لكنه ما كان مؤلماً لها. ذات يومٍ تبعتني إلى المزرعة التي أعصر بها خمر التمر. ولدهشتي انفجر إبهامها المتورم فجأةً ما أن مشت على شوكةُ شجرة نخيل فرأينا طفلاً ذكراً خرج منها وبدأ في التحدّث إلينا حال خروجه من هناك وكأنه قد بلغ العاشرة من عمره.

في خلال ساعةٍ من نزوله إلينا من داخل الإبهام نما الطفل ذاك فبلغ حوالي ثلاثة أقدام وبضع بوصات في طوله وغدا صوته جهورياً وكأنه طرقُ امرئٍ لسندانٍ بمطرقةٍ معدنيّة. أول شيء فعله آنذاك هو سؤاله لأمّه:- "هل تعرفين اسمي؟" "لا"، أجابته أمه فأمال وجهه ناحيتي وسألني نفس السؤال فأجبته، أيضاً، بلا. عند ذلك قال لنا إن اسمه هو زُرْرْجر ZURRJIR، وهو يعني، كما شرحه لنا، "ابنٌ سيحوّل نفسه إلى شيءٍ آخرٍ، قريباً جدّاً..". فزعتُ فزعاً عظيماً حينما ذكر لنا ذاك الاسم ومعناه، فهو اسمٌ فظيعٌ، ثم إنه (أي الطفل)، خلال كلّ الحين الذي تحدث فيه إلينا، كان يشرب خمر التمر التي أكملت عصرها فأتى، في خمس دقائق، على مقدار ثلاثة دنان (زِقاق) منها من مجموع أربعة. كنتُ، آنذاك، أقلّبُ في عقلي أفكاراً حول الوسيلة التي يمكن لنا بها أن نزوغ من هذا الطفل فنتركه في المزرعة ونهرب إلى البلدة. ذلك بسبب أنه رغم أن الكلّ ما رأوا من زوجتي سوى أن إبهام يدها اليسرى قد تورّم إلا أنهم، على كلّ حال، أدركوا أنها لم تحمل في الجزء " الصحيح " من جسمها كما تفعل بقيّة النساء. لمصيبتي، أثناء انشغالي بالتفكير على هذا النحو أخذ الطفل الدّن (الزّقّ) الأخير من خمر التمر وشربه خلال أيسر رأسه، ثم مضى، مباشرةً، على الطريق المؤدي إلى البلدة، رغم أن لا أحد دلّه عليه!

وقفنا- أنا وزوجتي- نراقبه سوياً وهو ذاهبٌ إلى هناك. ثمّ، بعد لحظاتٍ قليلة، تبعناه، لكننا ما رأيناه على الطريق قبل وصولنا إلى البلدة. لدهشتنا دخل الطفل المنزل الذي نعيش فيه دون أن يُعلِمه أحدٌ بمكانه. هنالك حيّا جميع من قابلهم وكأنه قد عرفهم من قبل وسألهم، في ذات الوقت، أن يعطوه طعاماً فأعطوه إياه وأكله. بعدها دخل، بنفسه، إلى المطبخ وبدأ، كذلك، في أكلِ كلّ الطعام الذي وقعت عليه عيناه (ويداه!) هناك. رآه أحد الرجال وهو يأكل بقية طعام المطبخ والذي أُعدّ لليل فسأله أن يغادر المطبخ (كان، لحسن الحظ، لم يُهلِكْ، آنذاكَ، ذلك الطعام بتمامه وكماله، لكن، للأسف، ما دام الحال طويلاً على حسنه وبات حبلُ الحظّ قصيراً كما سنرى...!..)... لم يستجب الطفل الرهيب لما دعاه إليه الرجل، بل بادر، بدلاً عن ذلك، بقتاله وجلده جلداً مبرحاً إلى حدّ أنه ما عاد قادراً على الرؤية بوضوح قبل أن يولّي الأدبار هارباً من المطبخ بعيداً، بعيداً. ظلّ الطفل المدهش، من بعد ذلك، قابعاً في المطبخ.

حينما رأى جميع الناس الآخرين بالمنزل ما فعله الطفل بذاك الرجل تضامنوا كلهم في قتاله. في عراكه معهم كان يُهشّم ويحطم كلّ شيءٍ وحيٍّ يراه على الأرض إلى نُثاراتٍ وجُذاذاتٍ حتى أن الحيوانات الأليفة جميعها ما سلمت من الموت على يديه. ورغم كل ذاك العراك والقتال ظلّ الناس جميعهم غير قادرين على هزيمته- فقط سلموا من الموت على يديه. بعد مضيّ بعض الوقت على ما حدث وصلنا من المزرعة إلى البيت. في نفس اللحظة التي رآنا فيها انصرف عن جميع من كان يحاربهم والتقانا، حين دخولنا البيت، قائلاً إنني وزوجتي أبوه وأمه. وبما أنه أكل كلّ طعامنا الذي أعددناه لليل فإننا بدأنا في طبخ طعام آخرٍ. لكن ما أن حان ميعاد إنزال ذاك الطعام من النار حتى أنزله بنفسه لنفسه وابتدأ، في ذات الحين، في أكله أيضاً وهو في أوج لهيبه أو حرارته الشديدة جداً. وقبل أن نتمكن من إيقافه كان قد قضى عليه كله، فجميع محاولاتنا المستميتة لإبعاده عنه ما استطاعت مطلقاً أن تفلح في ذلك.

كان ذلك الطفل عجيبةً من عجائب الدنيا. فلو كان لمائة رجل أن يحاربوه فإنه سيجلدهم جميعاً حتى يولّوا هاربين. وإن جلس على كرسي فليس بمستطاعنا أن ندفعه عنه بعيداً. كان قوياً كالحديد وكان، إذا وقف بموقعٍ، فليس بمقدورِ كائنٍ من كان أن يُزحزحُهُ عنه. صار، وقتذاك، حاكماً على بيتنا. فأحياناً كان يقول إننا ينبغي علينا ألا نأكل حتى حلول الليل. وأحياناً كان يسوقنا بعيداً عن البيت في منتصف الليل. كما وأحياناً أُخر كان يُطالبُنا بالاستلقاء على أقفيتنا أمامه لزمنٍ يزيد على الساعتين.

ولما كان ذلك الطفل أقوى من أيّ شخصٍ آخرٍ في تلك البلدة فإنه مضى مقتحماً أرجاءها فحرق منازل رؤسائها وحوّلها رماداً. وحينما رأى أهل البلدة سوء أخلاقه وما عاث فيها من خراب دعوني أنا (أبيه) للتفاكر حول وسيلة نستطيع بها أن ننفيه عن البلدة فقلتُ لهم إنني أعرف كيف سأُنفيه بعيداً عن البلدة.

في الساعة الواحدة من بعد منتصف إحدى الليالي تحيّنتُ فرصة نومه داخل إحدى الغرف فوضعتُ بنزيناً حوالي المنزل وعلى سقفه- كان المنزل معروشاً بصفق الشجر وكان الموسم موسم الجفاف. ثم أشعلتُ المنزل بالنار وأغلقتُ كلّ الشبابيك والأبواب التي لم يغلقها الطفل الفظيع قبل أن ينام. التهبت النار عظيمةً فأكلت المنزل وسقفه قبل أن يستيقظ من نومه. ضيّق الدخانُ عليه أنفاسه وما سمح له بالنجاة فاحترق، هو والمنزل، وصارا رماداً أغبرا.
حينما رأى أهلُ البلدة، في الصبح، أنّ ذاك الطفل الرهيب قد احترق وبات رماداً غدوا مسرورين جداً ونعمت بلدتهم بالسلام. وحينما أنا، بدوري، رأيتُ أنني قد شهدتُ- بالفعل- نهاية الطفل الفظيع ضغطتُ على أبِ زوجتي (نسيبي) حتى يخبرني بمكان عاصر خمر تمري الميّت فأخبرني به.

"في الطّريق إلى مكانٍ مجهولٍ"

في ذات اليوم الذي أخبرني فيه والد زوجتي بالمكان الذي فيه عاصر خمر تمري الميت طلبتُ من زوجتي أن تحزم كلّ مقتنياتنا ففعلت ذلك. ثمّ استيقظنا، في الصباح الباكر، وشرعنا في الرحيل إلى مكانٍ مجهولٍ. بعد رحيلنا لمسافة ميلين من البلدة قالت زوجتي إنها نسيت قلادتها الذهبيّة في داخل المنزل الذي أحرقتُهُ وصيّرتُهُ رماداً؛ قالت إنها نسيت أن تأخذها من المنزل المحترق قبل تحوّله إلى رمادٍ. ثمّ قالت، أيضاً، إنها ستعود إلى هناك وتأخذها، لكنني قلتُ لها إنها- وقتذاك- ستكون قد احترقت وباتت رماداً مع سائر المنزل. ردّت عليّ بقولها إن القلادة تلك قلادة معدنيّة، لذا فهي ليست قابلة للاحتراق والتحوّل إلى رمادٍ، ثم كررت عزمها على العودة إلى المنزل المحترق للإتيان بها. توسّلتُ إليها ألا تفعل ذلك، لكنها رفضت كلياً أن تستجيب لي فما كان منّي إلا أن رافقتها في رحلة إيابها تلك. عندما وصلنا إلى هناك التقطت زوجتي عوداً وبدأت تخربش الرماد به فرأيتُ مركز الرماد ينهض فجأةً ويظهر، من خلاله، في ذات الوقت، طفلٌ بنصفِ جسدٍ. كان- ذاك الطفل- يتكلم بصوتٍ خفيضٍ كصوت متحدّثٍ هادئٍ على هاتفٍ.

ما أن رأينا الرماد ينهض ويتحول إلى طفل بنصفِ جسدٍ يتحدث بصوتٍ خفيضٍ حتى شرعنا في الابتعاد عن المكان. حينذاك كان الطفل ذاك يطلب من زوجتي أن تأخذه معنا في سفرنا؛ أن تنتظر وتأخذه. لكننا لم نتوقّف ولم نأخذه معنا فأصدر أمراً يقضي بأن تعمى عيوننا فعميت عيوننا في نفس لحظة أمره. حتّى من بعد هذا ما رجعنا إليه وما أخذناه معنا، بل ظللنا ماضيين في طريقنا. وحينما رأى عدم احتفالنا بالعودة إليه وأخذه معنا أمر أمراً آخرَ بان تتوقف أنفاسنا. صدقاً وحقاً توقفت أنفاسنا من بعد أمره فما استطعنا- آنذاك- شهيقاً ولا زفيراً مما اضّطرّنا للعودة إليه وأخذه معنا في سفرنا. وفيما نحن ماشيان على الطريق طلب من زوجتي أن تحمله فوق رأسها. وبينما هو فوق رأس زوجتي كان يطلق صفيراً كأنما هو لأربعين إنساناً. وصلنا إلى إحدى القرى فتوقفنا واشترينا طعاماً من بائعة طعام كي نأكله، فنحن كنا جوعانين جداً قبل وصولنا إلى هناك. لكن حين بتنا على وشك أن نتناول ذاك الطعام أبى الطفل ذو نصف الجسد علينا أن نأكله، بل، بدلاً عن ذلك، أخذه وابتلعه كما يبتلع الإنسان حبّة دواء. وإذ رأته بائعةُ الطعام يفعل ذلك أطلقت ساقيها للريح وتركت طعامها وراءها فما كان منه إلا أن زحف إلى الطعام الذي هجرته صاحبته واتهمه كما التهم الذي من قبله.
هكذا- إذاً- لم يسمح لنا الطفل ذو نصف الجسد بان نأكل الطعام فما تذوقناه أبداً. وحينما رأى أهل القرية ذلك الطفل العجيب معنا دفعونا بعيداً عن قريتهم فبدأنا، من جديد، في الارتحال حتى وصلنا، بعد مسافة ما يقرب من سبعة أميال، إلى إحدى البلدات. توقفنا هناك كما توقفنا في القرية السالفة. اشترينا طعاماً آخر، لكن الطفل ذا نصف الجسد أبى علينا، مرةً أخرى، أن نأكله. ساءنا ذلك كثيراً فأردنا أن نأخذ منه الطعام بالقوة ونأكله، إلا أنه تفوه بأمرٍ ما، كما فعل في السابق، فصرنا إلى ما أمر به وتركناه يبتلع طعامنا.

عندما رأى أهلُ البلدة الطفل ذا نصف الجسد وهو معنا استعملوا "الجّوجو" كي يسوقوننا بعيداً عن بلدتهم وقالوا عنّا إنّنا نحمل معنا "روحاً" ونطوف بها الآفاق، ثمّ قالوا أيضاً إنهم لا يرغبون في وجود "روح" في بلدتهم. من بعد ذلك ما دخلنا من بلدةً أو قريةٍ كي نأكل أو ننام بها إلا تمّ سوقنا بعيداً عنها في الحال، فقد حُمِلَت أخبارنا إلى كلّ البلدات والقرى وما عاد بمقدورنا السفر على الطريق وبتنا ننتقل من دغلٍ إلى دغلٍ. ذلك لأنّ كلّ الناس قد سمعوا أنباءَ ما انفكّت تردد أن هنالك رجلاً وامرأةً يحملون طفلاً بنصفِ جسدٍ، (أو "روحاً") يطوفون به (بها) الآفاق باحثين عن مكان يضعونه (يضعونها) فيه ويهربون بعيداً.

آنذاك كنا جوعانين جداً لذا بذلنا، فيما نحن مسافران في داخل الغابة، كلّ جهودنا كي نرمي الطفل العجيب في مكانس ما ونولّي هاربين. لكنّا غَلِبْنا معه كلَّ حيلةٍ وفشلنا في ذلك. ثمّ فكّرنا، من بعد، انه ربّما سينام ذات ليلة، لكنّه ما نام الليل قطّ. الأسوأ من ذلك أنه لم يدع زوجتي تنزله أسفلاً، ولو لمرةٍ واحدةٍ، منذ أن حملته فوق رأسها. كنّا تائقين إلى النوم العميق، لكنه ما ترك لنا من سبيل إلى فعل شيء سوى حمله معنا قدماً. كلّ الوقت الذي كان فيه قابعاً على رأسِ زوجتي كانت بطنه تنتفخ كأنبوبٍ ضخمٍ جداً، فهو قد أكل كثيراً من الطعام فما شبع منه في أيّ حينٍ من الأحيان وما زال. يبدو أن باستطاعته التهام طعام هذه الدنيا كلّها دون أن يشبع. شعرت زوجتي، أثناء ارتحالنا من بقعةٍ إلى أخرى في بطن الغابة، بأنها قد ناءت بثقل ذاك الطفل الذي لو وضعناه على ميزان حينذاك فسوف يزن ثمانية وعشرين رطلاً على الأقل. وعندما رأيتُ ما خلّفه ذاك الحمل الباهظ عليها من تعب بلغ حدّ عدم قدرتها على احتماله لأيّ لحظةٍ أخرى حملتُهُ عنها. لكنّني، قبل أن أتمكن من حمله لمسافة ربع ميلٍ تقريباً، ما عدتُ قادراً على التحرّك ثانيةً وتصبّب عرقي عليَّ وكأنّني مستحمٌّ في مياهٍ من شدّةِ رهقي بثقله. مع ذلك ما أباح لنا ذاك الطفل ذو نصف الجسد أن نضعه أرضاً ونرتاح.... أُفٌّ! كيف لنا أن نتخلّص من الطفل ذي نصف الجسد؟ لكن الله طيّبٌ جداً. فبينما نحنُ حاملوه، ليلاً، بين هذا المكان وذاك في داخل الغابة سمعنا شيئاً كعزفِ موسيقى منبعثاً من مكانٍ ما في تلك الغابة. حينها أراد لنا الطّفلُ إيّاه أن نحمله إلى حيثُ سمعنا الموسيقى وهي تُعزفُ. وصلنا إلى هناك قبل مضيّ ساعةٍ.

"ثلاثةُ كائناتٍ طيّبةٍ حملت عنا بليّتنا- هم:- "طبلٌ"، "غناءٌ" و"رقصٌ":-

حملنا الطفل إلى مكان الموسيقى فقابلنا هناك، شخصياً، الكائنات الثلاثة الذين سميناهم طبل، غناءٌ ورقص، فهؤلاء الكائنات كانوا مخلوقات حية مثلنا. في ذات وقت وصولنا إلى هناك نزل الطفل ذو نصف الجسد من فوق رأسي فحمدنا- أنا وزوجتي- الله على ذلك. ما أن تدلى ذاك الطفل إلى الأرض حتى انضمّ، في الحال، إلى الكائنات الثلاثة.

حين بدأ طبل في ضرب نفسه غدا وكأنّ خمسين رجلاً قد ضربوه. وحين شرع غناء في الغناء بدا وكأن مائة من الناس كانوا يغنون معاً. وحين اندمج رقصٌ في الرقص انسجم معه فيه، أيضاً، الطفل ذو نصف الجسد، ثم زوجتي وأنا، " الأرواح "... الخ.. الخ.. كما وليس هناك من مخلوق سمع أو رأى هؤلاء الرفاق الثلاثة إلا وتبعهم إلى أينما كانوا ذاهبين. وهكذا صرنا، جميعاً، في إثر الرفاق الثلاثة وراقصين معهم متى ما رقصوا. بقينا، والرفاق الثلاثة، سائرون معاً في سبيلٍ واحدٍ ونحنُ نرقصُ حتى انقضت خمسة أيام، بتمامها وكمالها، علينا دون أن نأكل أو نتوقّف، ولو لمرة واحدة. ثمّ وصلنا إلى مبني طيني جعلته تلك المخلوقات (الكائنات) على هيئةِ مسكنٍ.

كان هنالك جنديان واقفان أمام واجهة ذلك المبنى. لكننا حين وصلنا إليه (وأعني زوجتي وأنا... الخ... الخ...)، بصحبة أولئك الرفاق الثلاثة، ووقفنا عند مدخله دخله فقط الرفاق الثلاثة و"طفلنا" ذو نصف الجسد فلم نرهم، من بعد، أبداً (ملحوظة:- لم نُرد أن نتابعهم إلى ذاك المكان، لكننا ما استطعنا أن نسيطر على أنفسنا عندما كنّا مندمجين في الرقص معهم).

كما قلتُ، قبل زمانٍ، ليس ثمة شخص قادر على ضرب الطبل كما يضربه طبلٌ نفسه، وليس ثمةُ شخصٍ قادرٍ على الرقص كما ترقص رقص نفسها، ثمّ ليس ثمة شخص قادر على الغناء كما يغنّي غناء نفسه. تركنا تلك المخلوقات الثلاثة الرائعة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. ثمّ، إثر افتراقنا عنهم وعن الطفل ذي نصف الجسد، ابتدرنا رحلةً جديدةً فانقضى يومان ونحن على سفرٍ قبل وصولنا إلى بلدةٍ توقفنا عندها واسترحنا ليومين آخرين. كنا مفلسين تماماً قبل بلوغنا تلك البلدة، ثم فكرتُ أنا، في سرّي، عن كيف يمكن لنا أن نجمع مالاً نفي به حاجات طعامنا وشرابنا.... الخ... الخ. بعد وهلةٍ تذكّرتُ أنّ اسمي هو "أب الآلهة الذي بمستطاعه فعل أيّ شيء في هذا العالم". ولما كان هنالك نهرٌ عريضٌ متعارضٌ مع الطريق الرئيسي لتلك البلدة فإنني سألت زوجتي أن تتبعني إليه. حينما وصلنا إلى هناك قطعتُ شجرةً وسويّتها على هيئة مجدافٍ، ثم أعطيتها لزوجتي وسألتها أن تدخل معي النهر. حين دخلنا النهر أمرتُ "جوجواً"، وهبته لي روح رحيمة كانت صديقتي، أن يبدّلني إلى مركبٍ كبير فتم لي ما أردت في الحال. ثم مضت زوجتي إلى جوف المركب وهي ممسكةً بالمجداف وبدأت تُجدّفه. استعملت زوجتي ذلكم المركب كـ"عبّارة" أو "مَعَدِّيّة" لنقل المسافرين عبر النهر. وكانت تأخذ من كلّ راشدٍ (أو راشدة) ثلاث بنسات "قروش"، ومن كلّ طفل بنساً ونصف، مقابل ذلك. عندما حلّ المساء حوّلتُ نفسي إلى رجل كما كنتُ قبلاً فحسبنا المال الذي جمعته زوجتي في ذاك اليوم ووجدناه قد بلغ ما مقداره سبع جنيهات إسترلينية وخمسة قروش وثلاثة سنتيمات. بعد ذلك عدنا إلى البلدة واشترينا كل حاجياتنا.

في الصباح التالي ذهبنا إلى النهر في الساعة الرابعة صباحاً مستبقين إليه سكان البلدة تلك قبل أن يستيقظوا لئلا يعرفوا سرنا. عندما وصلنا إلى هناك فعلتُ نفس ما فعلته بالأمس فواصلت زوجتي عملها كالمعتاد. في ذلك اليوم عدنا على البلدة في الساعة السابعة مساءاً. مكثنا، من بعدٍ، في تلك البلدة لمدة شهرٍ ونحنُ نمارسُ ذاتَ العمل خلال أيامه كلّها. حينما حسبنا المال الذي جمعناه في ذاك الشهر وجدناه قد بلغ ما يعادل ستة وخمسين جنيهاً إسترلينياً وإحدى عشرةَ قرشاً وتسعةَ مليمات (سنتيمات).

غادرنا تلك البلدة ونحن في غاية السرور. ثمّ واصلنا السفر، مرةً أخرى. بعد ارتحالٍ لمسافةِ ثمانين ميلاً تقريباً من هناك بتنا نُواجه بعصاباتِ قطاعِ طرقٍ سبّبت لنا متاعبَ عديدةً جداً. لكنني، حينما تفكّرتُ في أمرِ ذلك الخطر الذي كان ماثلاً أمامنا في طريقنا، وقع في خاطري أنه قد يؤدّي ليس إلى فقداننا لمالنا، فحسب، بل، ربما، لفقداننا لمالنا وأرواحنا معاً. عليه فقد دخلنا الغابة. لكنّ السّفر داخل الغابة له، أيضاً، مخاطره الشديدة، فهنالك الحيوانات المتوحشة، كما وأنّ الحيّات الضّخام الفاتكات بضحاياهنّ طوياً وليّاً عددهُنَّ هناك كعددِ الرّمال.

"الرّحيلُ على الهواء"

ثمّ أشرتُ على زوجتي بأن تقفز على ظهري ومعها أمتعتنا وأمرتُ، في ذات الوقت، "الجّوجو" الخاص بي- والذي منحته لي "امرأةٌ-روحٌ مائيّةٌ" في "غابة الأشباح" (ظهرت قصة تلك المرأة كاملة في كتاب قصص الصياد الوحشي المضمّن في كتابي غابة الأشباح... [يشير المؤلّف هنا إلى كتابه "حياتي في غابة الأشباح"- المترجم]...)- أن يحوّلني إلى طائرٍ كبيرٍ كطائرةٍ فأصبحتُ كذلك وطرتُ بعيداً بزوجتي. طرتُ بها خمس ساعات قبل نزولي، ثانيةً، إلى الأرض. بعد أن خلّفت المنطقة الخطرة ورائي تابعتُ وزوجتي بقيّة الرحلة على الأرض أو بالأقدام. ذلك رغم أن الوقت كان، حينذاك، الرابعةَ صباحاً. عند الثامنة من ليل ذلك اليوم وصلنا إلى البلدة التي أخبرني والد زوجتي أنّ عاصر خمر تمري الذي مات في بلدتي قبل زمانٍ موجودٌ بها.

سألتُ أهلَ تلك البلدة عن عاصر خمر تمريَ الراحل فأخبروني أنه قد غادر بلدتهم منذ أكثر من عامين. استحلفتهم أن يذكروا لي، إن استطاعوا، اسم البلدة التي كان بها حينذاك فقالوا لي إنه- آنذاك- كان موجوداً في "بلدة الموتى". كما وقالوا لي أيضاً إن البلدة إياها بعيدةً بُعداً شديداً جداً وإنّ الموتى فقط يعيشون فيها.

" الآن نحنُ لا نستطيع الرجوع إلى حيثُ كنّا (أي إلى بلدةِ أبِ زوجتي)؛ ينبغي علينا أن نذهب إلى "بلدة الموتى"...". هكذا خاطبتُ نفسي في ذلك الوقت. مكثنا في البلدةِ تلكَ ثلاثةَ أيامٍ وغادرناها، في اليوم الرابع، إلى "بلدة الموتى". ما كان هنالك طريقٌ سفريٌّ، أو دربٌ حتّى، للسفر عليه بين البلدة التي تركناها و"بلدة الموتى". فالناسُ الأحياء ما كانوا أبداً يذهبونَ إلى هناك.

"لا طريق"- "يجب علينا أن نرتحل من غابةٍ إلى غابةٍ حتى "بلدة الموتى"..."

في نفس اليوم الذي غادرنا فيه البلدة ارتحلنا حوالي أربعين ميلاً في داخل الغابة. وعندما كانت الساعة السادسة والنصف مساءاً وصلنا إلى دغلٍ كثيفٍ جداً. كان ذاك الدغل شديد الكثافة لحدّ أن ثعباناً ليس بمقدوره أن يمرّ عبره دون خدشٍ أو أذىً. توقفنا هناك لأننا ما عدنا مستطيعين أن نرى جيداً- كان المكان مظلماً. نمنا في ذلك الدغل. لكن حين بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل رأينا مخلوقاً، قد يكون "روحاً" أو مخلوقاً آخراً مؤذياً- ذلك ليس بإمكاننا الإنباء به. كان قادماً نحونا بطلعته البيضاء كأنها ضُربت بطلاءٍ أبيضٍ. أبيضاً كان هو من قدمه حتى قمة جسده العليا. وفاقداً للرأس والأقدام كان هو أيضاً فهو، على خلاف الكائنات البشرية، بلا أطراف ولا حواسّ كالتي لدي أولئك؛ فقط هو كان ذو عين واحدة كبيرة عند أعلاه. وطويلا، طويلاً لما يقارب "مسافة" ربع الميل كان هو. ثمّ أن "قُطر دائرته" كان ستة أقدام في الغالب- كان يمثل اسطوانةً بيضاء. في ذات الوقت الذي رأيته فيه سائراً نحونا فكرتُ فيما أنا فاعلٌ لإيقافه فتذكّرتُ تعويذةً "وهبني" إياها أبي قبل موته. "عمل" التعويذة تلك كان كما يلي:- "إذا قابلتُ أنا "روحاً" أو أيّ مخلوقٍ آخرٍ مؤذٍ، في الليل، وسخّرتُ ضدّه هذه التّعويذة فسوف تحوّلني إلى نار عظيمة ودخان فلا تقدر المخلوقات المؤذية على مباشرتي أنا النار". استعملنا التعويذةَ تلك فأحرقنا المخلوق الأبيض. لكن قبل أن تُحوّله "نارنا" إلى رمادٍ رأينا حوالي تسعين مخلوقاً من نفس نوع ذلك المخلوق الطويل الأبيض وكلّهم كانوا ساعين نحونا (أي نحو "النار"). حين وصلوا إلى النار (إلينا) أحاطوا بها جميعهم وانحنوا أو تقوّسوا نحوها. بعد ذلك صاحوا جميعاً:- "البرد! البرد! البرد!"... الخ... الخ، ثم ما عادوا راغبين في مغادرة مواقعهم المُسوِّرة للنار رغم أنّهم ليس بمقدورهم فعل أيّ شيء لها (أي لنا). كانوا فقط يدفئون أنفسهم من النار، وكانوا مفرطين في الرضا بها ما دامت باقيةً لهم هناك. طبعاً أنا قد اعتقدتُ بأننا سنسلم منهم إن تحولنا إلى نارٍ، لكن ذلك لم يفلح معهم أبداً. عندها تدبّرت وسيلةً أخرى نفلت بها منهم فخطر لي أننا لو بدأنا التحرك فربما يتركوننا وشأننا بعد أن بقوا معنا منذ الساعة الواحدة من بعد منتصف ذلك الليل وحتى العاشرة من صباحه وهم لا ينفكّون يتدفئون من نارنا (أي "منّا") ولا يبذلون أيّ محاولة للعودة إلى المكان الذي أتوا منه أو حتى للذهاب إلى حيثُ يأكلوا مثلاً (طبعاً أنا لا أستطيع الجّزم بما إذا كانوا مخلوقات آكلة (للطعام) أم لا).

ليس لك- أيها القارئ- أن تظنّ بأننا ما دمنا قد تحولنا إلى نارٍ فإننا يجب ألاّ نشعر بالجوع. فنحن كنا شاعرين بجوعٍ شديدٍ رغم أننا كنّا "ناراً". وإن هيئ لنا، حينها، أن أن نعاد، في الحال، إلى شخصين بشريين فتلك المخلوقات البيضاء ستجد فرصةً لقتلنا أو أذيّتنا.

بدأنا التحرك إذاً. لكن المخلوقات البيضاء تحركت معنا (أي مع "النار") أيضاً. وحينما أدى بنا سيرنا الحثيث إلى مغادرة الغابة الكثيفة ومن ثم الدخول في حقلٍ كبيرٍ عادت المخلوقات إياها إلى غابتها الكثيفة. فتلك المخلوقات البيضاء الطويلة، وإن لم نكن عالمين بذلك، كانت مقيدةً بألاّ لا تتعدى على دغلٍ (أو حقلٍ) ينتمي لغيرهم، لذا هم لم يدخلوا ذاك الحقل أبداً رغم أنهم كانوا مستكينين إلى النار. مخلوقات الحقل ايضاً مكا كان ينبغي لها أن تدخل دغلهم (أو غابتهم). هكذا- إذاً- انفلتنا بعيداً عن المخلوقات البيضاء الطويلة.

إثر تحررنا من أولئك المخلوقات بادرنا بالارتحال داخل الحقل. ما كانت بالحقل أشجار- سواء كانت أشجار نخيل أو غيرها. كان العشب الخلوي الطويل فقط هو ما نما هناك، وكله قد ماثل نباتات الذرة في حواف اوراقه المشعرة والحادة كنصال الموسى. ارتحلنا هناك حتى الساعة الخامسة مساءاً، ثم ابتدأنا في البحث عن محلّ مناسب للنوم حتى الصباح.

وبينما كنا نتطلع إلى مثل ذاك المحل رأينا أمامنا "منزل سوسة" ماثلَ مظلةً طولها ثلاثة أقدامٍ وقِشديّة (لبنيّةَ) اللون. وضعنا أثقالنا تحتها وارتحنا هناك لدقائق، ثم فكرنا في إيقاد نارٍ عندها كي نطبخ عليها طعامنا، فقد كنا جائعين. لم تكن هنالك أعوادٌ يابسةٌ بالجوار فوقفنا على أقدامنا وذهبنا متوغلين في الغابة عسانا نلقاها ونجمعها لنوقد نارنا. وفيما نحن ماضيان في سعينا هذا قابلنا "هيئةً" راكعةً. كان لها شكل أنثى وكانت، أيضاً، قِشديّةَ (لَبَنِيّةَ) اللون. بعد جمعنا الأعواد أُبنا إلى "منزل السّوسة" فأشعلنا ناراً وطبخنا طعامنا وأكلناه. عندما صارت الساعة الثامنة ليلاً تقريباً رقدنا أسفل "منزل السّوسة". لكنا، لخوفنا، ما استطعنا النوم. وحين حانت الساعة الحادية عشرة ليلاً بدأنا نسمع جلبةً وكأنّنا في قلبِ سوقٍ. أرهفنا السمع جيداً، ثم تهيأنا لرفع رأسينا فإذا بنا في مركزِ سوقٍ فعلاً. حقاً قد كنا غافلينَ عن حقيقةِ أنّنا قد وضعنا أثقالنا "على" مالك السوق وأشعلنا ناراً ونمنا تحته، فقد ظنّنا أنّ ذاك "منزل سوسةٍ" ليس إلاّ وكنّا خاطئين.

شرعنا، في الحال، في جمع أثقالنا كي نغادر المكان. وكنّا نعتقد أنّنا ربما سنسلم بذلك الفعل. لكن، فيما نحنُ نحزمُ أمتعتنا، أحاطت بنا مخلوقات الحقل وألقت، كرجل بوليس، القبض علينا. تبعناهم إلى حيثُ ساقونا وكان من بينهم "منزل السّوسة" (مالك السوق) الذي نمنا تحته. كان مالك السوق، في حين متابعته لنا، يقفز، فهو لا قدم له ولا عضو خلا رأسه الصغير جداً كرأسِ رضيعٍ عمره شهراً واحداً. حين وصلنا إلى المكان الذي كانت فيه "الهيئة" الأنثويّة راكعةً وقفت تلك "الهيئةُ" وتبعتنا أيضاً.

بعد رحيلٍ استغرق عشرين دقيقةً تقريباً وصلنا إلى قصر ملكهم الذي ما كان، آنذاك، موجوداً هناك.

... كان القصر مغطّىً، تقريباً، بالنفايات. كان خشناً جداً ومماثلاً، في ذلك، لمنزلٍ قديمٍ مهدّمٍ. عندما رأت مخلوقات الحقل أنّ ملكها ليس موجوداً في مسكنه انتظرت لنصف ساعةٍ قبل أن يجيء. رأيتُ وزوجتي الملك حين قدم وكان هو نفسه "نفايةً". ذلك لأنه كان مغطىً تقريباً بأوراقِ شجرٍ يابسةٍ وغيرِ يابسةٍ بحيثُ أننا كنّا لا نستطيع رؤية أقدامه، وجهه... الخ. دخل القصر وتقدّم، في الحال، إلى "نفايةٍ" وجلسَ عليها. أمام "نفايته" تلك (أو، إن شئتَ، "عرش" نفايته ذاك) قُدِّمنا إليه بتوسّط رعاياه الذين قيّدوا عنده شكوى ضدنا تتهمنا بالتعدي على أراضي بلدتهم. عندما أخبروه بذلك سألهم ملكهم عمّن يكون أولئك الغبيَّين (أي أنا وزوجتي) فأجابوه بأنهم لا يستطيعون مطلقاً أن يصفوهما، فهم ما رأوا من قبل أمثالهما. ولأنني وزوجتي لم ننبس بكلمةٍ واحدةٍ في ذلك الوقت اعتقدت هذه المخلوقات أننا غير قادرين على الكلام. ثمّ أعطى الملك أحدهم عوداً لينخسنا به عسانا نتحدّث أو نشعر بالألم. فعل ذلك المخلوق ما أشار عليه به الملك. عليه حين تحسَّسَنا بذلك العود دون رحمةٍ شعرنا بالألم وتحدّثنا. لكن عندما سمع الجميع أصواتنا ضحكوا علينا ضحكاً كانفجارِ القنابل. في تلك الليلة عرفنا "الضّحك" شخصياً. فحين كفّ أيّ شخصٍ آخرٍ عن الضحك علينا ما كفّ الضّحكُ نفسه عن الضحك لساعتين كاملتين. ولأنّ الضحك نفسه قد ضحك علينا في تلك الليلة فإننا نسينا آلامنا وضحكنا معه- كان يضحك بأصواتٍ غريبةٍ ما سمعناها من قبل في حياتنا. ما كنّا عارفين بالوقت الذي وقعنا فيه أسرى لضحكته، لكنا كنّا فقط نضحك على ضحكةِ الضّحك، فما من أحدٍ سوف لا يضحك إذا سمعه وهو يضحك. وإن استمرّ امرئ ما في الضحك مع الضّحك نفسه فهو سوف يموت أو يُغمى عليه من شدة وطول الضحك، فالضّحك هو مهنة الضّحك وهو يتغذّى عليه. بدأت مخلوقات الحقل في التوسّل إلى الضّحك أن يكفّ عن الضحك، لكنه لم يستطع. ثمّ أشار الملك، الذي ما دري أن رعاياه ما رأوا قطّ إنساناً من قبل، إلى المخلوقات إياها بأن تأخذنا إلى "آلهة الحرب" عندهم. وحينما سمعتُ منه ذلك غدوتُ مسروراً جداً، فأنا كنتُ "أب الآلهة".

ساقتنا المخلوقات إياها إلى "آلهة الحرب" عندهم، كما أوصاها ملكها، لكنها لم تقترب من "إله الحرب الأكبر" لأنّ ليس هناك من يفعل ذلك ويعودُ حياً. رجعوا، إذاً، من بعد دفعنا إلى "إله الحرب الأكبر"، إلى السوق. وبما أن الإله كان إلهاً متكلّماً وأنا نفسي كنتُ "أب الآلهة" العالم بكلّ أسرارِ الآلهة فإنني تحدّثتُ إليه بصوتٍ ذي نبرةٍ خاصّةٍ فما أذانا، بل قادنا خارج ذاك الحقل. بقي لي أن أقول إنّ ملك المخلوقات إياها كان، عندما يتحدّث، ينطلقُ بخارٌ حارٌّ من أنفه وفمه وكأنّه منطلقٌ من غلاّيةٍ كبيرةٍ، كما وكان يتنفّسُ مرةً كلّ خمس دقائق. تلكَ كانت قصةَ خلاصنا من مخلوقاتِ الحقلِ ومن حقلهم.

""يتبع"

 

khalifa618@yahoo.co.uk

 

آراء