مفهوم الدولة القوية لدى النظام
د. محمد الشريف سليمان
22 August, 2011
22 August, 2011
جاءت في مقدمة لطلال سلمان حول ثورات الربيع العربي: لقد قرعت أجراس التغير في المنطقة العربية، بعدما طال دهر الركود وتعاظمت خيبة الأمل في أنظمة أتت بها ثورات ناقصة التكوين ومجتزأة البرنامج، فاستهلكت السلطة زخمها، بينما أنظمة الحكم التقليدية تغرق في تخلفها مستمدة شرعيتها وإستمراريتها من عديم البديل الداخلي. لقد أصبح الرغبة في التغير عارمة، وهي تعبر عن نفسها في نزول الجماهير الهادرة إلى الشارع، ولكن المسافة بين جماهير الشارع وبين مواقع السلطة المحصنة شاسعة جداً. ورغم ذلك كسرت جماهير الشعب العربي حاجز الخوف واندفعت بمئات الألوف ترفع صوتها بمطالبها، تحتج على ظلم السلطة، وعند مواجهة عنف أجهزة أمن النظام، الذي تعدى العصا إلى الرصاص الحي زاد ثباتهم في الشارع، ثم تزايدت أعدادهم حتى غدت بحرًا تغرق فيه كل أدوات القمع التي أعدتها السلطة لحماية مواقعها. وهكذا بدأت المنطقة تشهد مقدمات سقوط عهود الظلم والظلام تباعاً.
إن هبات رياح الانتفاضات الجماهيرية التي تقتلع أنظمة القمع الظالمة، انطلقت لأول مرة في المنطقة العربية ـ الأفريقية من السودان في أكتوبر عام 1964 من القرن الماضي، وأعقبتها للمرة الثانية في أبريل سنة 1985، وأطاحت بالدكتاتوريات العسكرية الحاكمة آنذاك. ورغم ذلك لم يتعلم النظام الحاكم في البلاد من عبر الماضي ولا الثورات الجماهيرية العربية، ويرفض مطالب الشعب بالاعتراف بحقوقهم الإنسانية المشروعة في الحياة الحرة الكريمة. ويتمادى في إقامة دولة بوليسية وأمنية تستند إلى استخدام القمع والإرهاب على الشعب، بحرمان الحريات والتنكيل بالمعارضين، والأخطر سلوكه طريق تفكك مكونات السودان، وانفصال الإقليم الجنوبي خير شاهد (قبرت بذلك روعة الذكريات للمرحوم محمد عوض الكريم القرشي. الذاكرة ترجعنا لندوة المرحوم السفير عبدالهادي الصديق في عام 1982 بالخرطوم وتنبأ بتقسيم السودان إلى خمس دول، وهذا ما أكده محمد حسنين هيكل حديثا). نعم لو كان لدى هذا النظام أي إحساس بالمسؤولية، لطرح مشروع مصالحة حقيقية يعيد للمواطن السوداني كرامته وحريتة المسلوبة، ولكن هذا ليس من سمات المؤتمر الوطني الحاكم، ولن يدرك أنه استنفذ وقته، ونفدت وعوده.
لقد رفض المؤتمر الوطني في عام 2003 توصيات لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف لحل مشكلة دارفور، وفضل أسلوب المراوغة والنكوص بالاتفاقيات، بل تشبث وأصر على الحل العسكري، ليدخل الإقليم في الدمار الشامل(الاقتصادي، والاجتماعي، والأمني) والنزوح واللجوء عبر الحدود، بل أوصل السودان للدخول في إطار الفصل السابع للأمم المتحدة (قرار مجلس الأمن الأخير) بإتاحة استعمال القوة ٌ لليوناميد ٌ ليس على نطاق دارفور فحسب، بل في جميع ما تبقى من السودان كله.
إن الوضع اليوم في دارفور، تلك الدولة المستقلة حتى عام 1916 ، لا يطاق. أدت الحرب المشتعلة إلى تردي الحياة ، وأصبح موت الأطفال في مهد الولادة سمة تخيم على الإقليم، لانعدام القطاع الصحي، وتفشي الأمراض الفتاكة، وإعاقة منظمات الإغاثة في الوصول لمعسكرات النازحين. واضطرت ظروف النزوح وانعدام الأمن النساء للتسول ولتعرض أعراضهن للخطر والإهانة عند الخروج للبحث عن لقمة العيش الكريمة، والتي كانت متوفرة لهن قبل طردهن من حواكيرهن وإسكان المستوردين من خارج حدود الوطن أرضهن، يضاف لذلك العيش في الهلع والخوف من هدير الطيران الحربي المنخفض فوق المعسكرات وإطلاق الرصاص العشوائي الكثيف ليلاً من جهات مجهولة ومعروفة . وتلاشت جميع مقومات القطاع التعليمي لمرحلة الصفر، علما بأن دارفور كان يخرج منه أوائل الشهادة السودانية. نعم يهيمن على ولايات دارفور الثلاثة العطالة والبطالة لانعدام فرص العمل وتدهور القطاع الاقتصادي وبالتالي قطاع الخدمات، وسيطرت الجريمة المنظمة وغير المنظمة على جميع أرجاء الإقليم، لزوال الأمن.
ان أبوجا الجديدة الجيدة لا تساعد في حل مشكلة دارفور، بل تدخل الإقليم في مجموعة من دوامات العنف وتعقيد الأمور. ويرى المراقبون أن هذه الاتفاقية ولدت مشوهة، بل مصيرها القبر، لأن الطرف الموقع لا أرضية له يستند عليها، ويجري مجابهته بعدم القبول من أهل المصلحة، وخاصة جبهة الرفض حاملي السلاح، أصحاب الفصل في السلم والحرب، بل أن التصريحات المتعاقبة لأصحاب القرار وضعت الاتفاقية سلفاً في سلة المهملات . وسوف تنحصر مهمة ما يسمى بالسلطة الانتقالية الجديدة في توقيع وختم المقرر الذي ينفذ على أبناء جلدتهم، وبصفة خاصة سياسة التوطين القسري للنازحين.
واليوم اندلعت حرب أخرى في جنوب كردفان، ويطبق على الولاية نفس النظرية القاتلة بحذافيرها كما جرى ويجري في دارفور الكبرى. وكادت الحرب أن تضع أوزارها، ويعود الأمن والاستقرار لسكان الولاية، لكن صاحب القرار، أبطل مفعول المتفق عليه في أديس أبابا بين أطراف النزاع، وأشهر سيف الحجاج ، وأشعلت النيران لحصد أرواح أبناء الوطن الواحد. واليوم يلوح في أفق البلاد سحابة قاتمة قادمة من النيل الأزرق، والكل يعرف ماذا تحمل! والمجتمع الدولي يقف على عتبة الباب، في انتظار استخدام كرت الدخول، ويقترب السودان من ما تنبأ به المرحوم السفير عبدالهادي الصديق ومحمد حسنين هيكل.
لقد سلمت السلطة الحاكمة زمام المبادرات وحل أزمات السودان للمجتمع الدولي والإقليمي، وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة العصا الغليظة. نعم لم تتم حتى اليوم توقيع أي اتفاقية بين الأطراف الوطنية في داخل البلاد أو بمبادرة سودانية ـ سودانية، بل تجاهل أهل الحكم باستمرار القوى السياسية وأهل المصلحة الحقيقيين في اتخاذ القرار. إذا أستيقظ النظام، وأراد المحافظة على ما تبقى من السودان، والتخلي عن مفهوم الجمهورية الثانية، بل المشاركة الفعلية لأهل السودان بالديمقراطية الحقة، فعليه العمل بمفهوم الدولة القوية خلافا لمعناها القمعي: فهي الدولة التي تقود سياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية تصب في مصلحة الفئة الساحقة من الشعب، وهي الدولة التي تطبق القانون بالتساوي، هي التي تعترف بالحق في الاعتراض السياسي وإقامة التنظيمات السياسية وتضمن حرية الرأي والتعبير، هي التي تمنع التميز على أساس الجنس أو العرق أو الدين، وهي التي تقود سياسية خارجية تضع في أولياتها المصالح الوطنية والقومية والوطنية للبلد.
نقلا عن الصحافة بتاريخ 21.08.2011
Mohamed Adam [abu_suli@hotmail.com]