مقدمة السفير جمال محمد ابراهيم لكتاب: “الحاكم إذا استبد والشعب إذا انتفض” من تأليف الصحفي الكبير فؤاد مطر والذي صدر قبل ايام في لبنان متزامنا مع مليونية ٣٠ يونيو

 


 

 

 

عن فؤاد مطر السوداني اللبناني
جمال محمد ابراهيم*
أنا من ذلك الجيل الذي تفتّح على الصحافة اللبنانية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، فشكلتْ "النهار" و"الأنوار" وما رافقها من صحفٍ يومية ومجلات أسبوعية وأخرى شهرية، طفرات سامقة لكتابة حرّة ، كان للأستاذ فؤاد مطر سهمٌ لافـتٌ زيّن صفحاتها لسنين طوال. كان اللون اللبناني في الصحافة العربية ، غير ذلك اللون الذي عهدناه في صحافة مصر، فهي وإنْ عظمتْ بكتابات نجوم كبار، لأقلامهم بريقٌ لامعٌ مثل الهرم الرّاحل محمد حسنين هيكل، إلا أنَّ الميسَم الشمولي للـدولة المصرية، لم يفارق صحافتها، وإن ظلتْ هي الأكثر رسوخاً والأعلى صوتاً على المستوى العربي والمستوى الإقليمي عموما. يحدّث الأستاذ فؤاد بعميق الإمتنان عن سنواته القاهرية ، ويحمد ما ناله خلالها من كسبٍ ودربة. .

فؤاد مطر من كبار الكتّاب الصحفيين المخضرمين، والمخضرم هو من أدرك عهدين مطلقا، في زعم أكثر المعاجم ثبوتا، وإنه ليس صحفيّاً مُعلّماً فحسب ، بل هو أولاً ذلك الكاتب الأديب الذي ملك القدرات على الإفصاح بقلمٍ راسخٍ رصين ، مثلما هو ذلك الصحفي الذي يمسك بقياد مهنته إمساك الفارس بعنان جواده في حومة الوغى. والوغى عند أستاذنا فؤاد ، تمثله ميادين جولاته وتغطياته الصحفية واقتحاماته ساحات النشر، بإبداع إضافي في المقالة الصحفية الجاذبة. أما كتاباته التوثيقية ومشاهداته الشخصية، ولقاءاته ومساجلاته الصحفية مع صانعي الأحداث في الساحات الرسمية وغير الرسمية ، المدنية أوالشعبية أوالعسكرية، فهي مدرسة متفرّدة في العمل الصحفي الأدبي والمهنيّ المسئول. أما نحن في السودان فنراه الصحفي العربي الأول في الاهتمام بالشأن السوداني.
أما كونه مخضرماً فذلك يتصل بمسيرته الطويلة في عالم الصحافة الورقية التقليدية . هي صحافة ما قبل ثورة الاتصالات والتواصل الإلكتروني والرقمي. غير أن المعلم الصحفي فؤاد لم يقف عند خبراته التقليدية، بل أن نشاطه الصحفي مؤخراً ، إتسع ليجعل منه الكاتب الأديب الأوفر همّة والأكثر نشاطاً في استيعاب معطيات الصحافة الالكترونية التي تلاحق الأحداث بكلِّ أنواعها. يقف كتاب "الحاكم إذا استبدّ.. والشعب إذا انتفض" الذي بينَ يديك، مصداقاً أكيداً لما أحدّثُ عنهُ هنا.
الصحافة عند المعلّم فؤاد هيَ الصحافة المؤثّرة، والتي تتصل بالتحليل العميق، وبفهم طبيعة الوقائع والأحداث في تشابكاتها التاريخية: السياسية والإجتماعية والاقتصادية، يرصدها الصحافي بأساليب تقليدية، أو بما أتاحت له ثورة الاتصالات من أساليب مستحدثة . ثمّ هيَ الصحافة التي تسعى في عالمنا العربي لبسط رؤىً تستشرف آفاقاً مستقبلية،. وتسعى في جانبها المباشر إلى الإسهام في صياغة رأيٍّ عامٍ يخدم الإيجابي لا السلبي، كما تشكل في جانبها غير المباشر، ذلك الإسناد الذي يُعين صُنّاع القرار العربي، في عالم تشابكتْ أطرافه وتعقدت أحواله أيّما تعقيد . لكن يظل الأستاذ المُعلّم في كلِّ ذلك، مُمسكاً براية الحياد الموضوعي والمهنية الأمينة، فلا ينزلق قلمه إلى انحيازاتٍ تفقد شهادته قيمتها التاريخية، أو تخصم من حياده الرصين، أو تضعف من مقبوليته المهنية الراسخة .
ذلك ما لفت أنظارنا في السودان، نحن الجيل الذي تفتح على مطالعة كتابات أستاذنا فؤاد مطر عن أحوال بلادنا السودان ، الوطن الذي أحبّه فؤاد معنا ، فحمله في وجدانه وجرى مجرى الدم في شرايينه . وما أصدق تعبير عملاق السياسة السودانية الراحل محمد أحمد محجوب حين أوجز وصف الرجل ، بأنه ذلك اللبناني السوداني عاطفة وقلباً وعقلا، وإنّهُ لكذلـك .
كانت قمة لاءات الخرطم الثلاث عام 1967 ، هي محطته الأولى في علاقة المحبّة مع السودان البلد والشعب والإنسان. وما التقاطه الذكيّ لرمزية المشروب السوداني المميّز : "الحِلو.. مُـر" ، ليبصر عبره وبعمقٍ ذكي، "ثنائية التنافر" التي حكمتْ طبيعة ذلك البلد، ورسمتْ تاريخه كما رسمتْ جغرافيته، إلا شاهداً على وصف المحجوب لـ"سـودانية" فؤاد، وقد ملكتْ عليه العقل والقلب.
يلتقي نهر النيل الأزرق القادم باندفاعه من مرتفعات اثيوبيا، بنهر النيل الأبيض القادم في تمهّل كما يمشي الوجي الوحلُ من أعماق أفريقيا، فيصيران نهرا واحدا هو ذلك "النيل" المنحدر إلى مصر. هي ثنائية جغرافية بين طبيعة صاخبة وأخرى هادئة من نهرين يكوّنان نهر النيل. أما أقدار التاريخ، فقد جعلتْ من السودان بلداً تتحكّم في مصائره السياسية دولتان، وفق اتفاقية سمّوها اتفاقية "الحكم الثنائي". هي ثنائية التاريخ وتنافره ، تركت السودان ولأكثر من ستين عاماً، بين شـدٍّ وجذبٍ، طرفاه بريطانيا ومصر. لعلَّ هذه الثنائية المتنافرة هي التي حضتْ الصحفي الكبير الاستاذ فؤاد مطر ليرى تجليها في ثنائية المدني والعسكري في الحالة السودانية، وذلك ما سأحدثك عنه في آخر كتابتي هنا. .

لقد أبصر أستاذنا فؤاد إذن، تلـك الثنائية، فألهمته سلسلة التوثيق لمحبته لبلده الثاني السودان، عبر كتبٍ خطّها قلمُهُ البريع عن "حِلو. . مُـر السودان"، غطتْ أحداثه ووقائع تطوراته السياسية التي تأرجحتْ بين حكم مدني وحكم عسكري، ثم أخلاط بين الإثنين. .
لم يسبق قلمه أيّ قلم آخر في رصد الأحداث العاصفة التي وقعت في السودان عام 1971 ، وقادت إلى تصفية قيادات الحزب الشيوعي السوداني، الأنشط بين كلّ الأحزاب الشيوعية في العالم العربي ، فكان كتابه الأكثر مصداقية وقد تناول تلكم الأحداث بموضوعية خلتْ من الانحيازات والميول العاطفية. يعدّ كتابه :"الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر" إنجازاً فريداً في التوثبق الصحفي وفي تاريخ ما لن يهمله التاريخ .

ثمّ تتالتْ كتب الأستاذ فؤاد عن السودان . فكما كان شراب "الحِلو مُـر" عصيراً من حبوب الذُرة الرّطبة المخمّرة والمعجونة بالبهار ، خرجتْ كتاباته عصيراً فكرياً عن وقائع وأحداث، مازجت بين الشخصيّ والرسميّ في السودان وطبيعة تاريخه السياسي. نظر الأستاذ فؤاد بعمق لمختلف تطورات الحكم في السودان ، خاصة ثنائية التنافر بين المدني والعسكري، فكان كتابه عن المصالحة بين نظام مايو الشمولي الذي قاده نميري بعد انقلاب عسكري، وبين معارضيه من التيارات السياسية المدنية التي انقلب عليها، فكان كتابه : "المصالحة الوطنية الأولى في السودان : إنتكسوها أم انتكست ؟". ثم كتابه عن تجربة حكم جعفر نميري بعنوان: "سنوات نميري بحلوها ومُرّها". هذان كتابان صدرا ضمن سلسلة "حلو..مُر السودان: تاريخ ما لن يهملهُ التاريخ" . شكلتْ تلك الكتابات دُرراً تلألأت ببريقٍ مميّزٍ من بين كلّ الدّرر الأخرى التي استخرجها فؤاد من مَحار تجاريبه الصحفية بعد غوصٍ عميقٍ في بحر السياسة العربية.
ثم هاهو يبتـدر كتابته عن انتفاضة السودانيين الثالثة في ديسمبر عام 2018، متسلحاً بكامل ملكاته الصحفية التقليدية الغنية ، ومستصحباً هذه المرّة ما أتاحته ثورة الإتصالات من معينات وفرتها الشبكة العنكبوتية، ومن متابعات حاضرة على رأس الساعة أتاحتها شاشات الفضائيات . .
كانت تلك الانتفاضة ثورةً حققها شعبٌ صادق العزم بإرادة كاملة الجسارة، لكنها انفردتْ بمعطيات غاية في الجدّة، لم تكن حاضرة قبل ذلك في انتفاضتي السودان السابقتين، واللتين أسقطتا نظامين عسكريين ، الأولى في أكتوبر عام 1964، والثانية في عام 1985 . لقد تميّزت الألفية الثالثة برسوخ ثورة الاتصالات والتحوّل الرقمي الذي انتظم ظاهرة العولمة - بأقمارها الإصطناعية وشبكتها العنكبوتية- فاختزل زمانَ التاريخ وأمكنة الجغرافيا معا. ولقد إرتفعت عبرهذه المعطيات قدرات المجتمعات البشرية على التأثير والتاثر ، والفعل والتفاعل، ، فصار الكون ، بشراً وأمكنة وأزمنة، وعبر واقعٍ ملموس وآخر إفتراضي ، مختصراً في محض قرية أزالت تلك الحدود الفاصلة بين مكوّناته. لم تكن انتفاضة السودان الثالثة بعيدة عن كلّ هذه المعطيات المستجدة، بما سيقودك إليه ومعه، أستاذنا فؤاد في كتابه الذي بين يديك.
أسست المواثيق والاتفاقيات الدولية بعد الحرب الكونية الثانية ، بين عامي 1938 و 1945 ، أساساً لتعاونٍ دوليٍّ حقق الأمن والاستقرار في المجتمع الدولي فبلغ التعاون بين مكوّنات المجتمع الدولي مدىً نال من قدسية السيادة في مفهوم الدولة القطرية ، وزالت معه تلك المحاذير المتصلة بما تعارف عليه السياسيون بالتدخل في شئون الداخلية للبلدان الأخرى.
حلَّ في السودان عام 1989م، وعبر انقلابٍ أحدثه حزب إسلاموي مدني تدثّر بلباسٍ عسكريٍّ، نظامُ حكمٍ رفع راية إسلاموية مُموّهة، توسّلاً للعواطف الدينية ، فكسب ثلاثين عاماً أمضاها في حكم البلاد، تخبّط فيها بين إقصاءٍ وتهميشٍ وانفرادٍ بالسيطرة وفشل في الحفاظ على وحدة البلاد، بل أشعل الفتنة بين مكوّنات مجتمع السودان المتنوّع، فقصمتْ النزاعات الأهلية وسوء الإدارة والتوغّل في المفاسد، ظهر ذلك النظام ، بعد أن قصم ظهر البلاد إلى نصفين، فكان أن انفضّ من حوله شعب البلاد في انتفاضةٍ سمّاها الناس "أم الانتفاضات". نجحت تلك الانتفاضة بفعل استجابتها الذكية لتلك المعطيات التي جئنا على ذكرها ، فاتسع الحراك السوداني بما أتاحته ثورة الاتصالات والشبكة العنكبوتية من قنوات فضائية ووسائل ومعينات تواصل إجتماعي ، هي من إفرازات حالة "العولمة" ، فكان لمظاهرأربعة رأيتها الأكثر بروزاً في إنجاح تلك الانتفاضة، أوجزها لك فيما يلي من سطور:

المظهر الأول شكّله الشعبُ الذي ثار على النظام الإسلاموي الذي أسّسه وبناه زعيم الحركة الإسلامية في السودان الشيخ الترابي مع الجنرال العسكري عمر البشير، الذي بقي في الحكم ثلاثين عاما . فمثلما اتفق مدنيّ وعسكري على حكم البلاد ثلاثين عاما، فقد أسقطت ذلك النظام شراكة ثورية بين مكوّن مدني من ائتلاف مطاط بين قوى سياسية وأطراف في المجتمع المدني، شكلت ما يسمى بـ"قوى الحرية والتغيير"، ومكوّن عسكري من ضباط نظاميين وشبه نظاميين إنحازوا للحراك الشعبي ضد نظام "الإنقاذ" الإسلاموي الفاشي . ذلك طرفٌ من ثنائية التنافر بين "الحلو.. مُر" الذي لن يغيب عن نظر أستاذنا فؤاد مطر.
أما المظهر الثاني فقد تمثل في انطلاق الانتفاضة السودانية ، بعد تراكم حراكٍ معارضٍ لذلك النظام، تواصل في فترات سابقة في العاصمة الخرطوم ، إلا أن شرارة البداية لذلك الحراك الشعبي، بدأت في مدينة "عطبرة" شمالي العاصمة الخرطوم، ثم تصاعد بعد ذلك فشمل بقية المدن السودانية في غرب البلاد وفي شرقها وشمالها ووسطها. ما كان كلّ ذلك ممكناً لولا ما اتاحته ثورة الاتصالات من وسائل للتواصل الاجتماعي ومن إعلام تولته الفضائيات، ومن إمكانيات غير ذلك مما لم يكن متوفراً في انتفاضتي السودانيين في عام 1964 وفي عام 1985.
المظهر الثالث هو ما اتصل بتلك الإنتفاضة الشعبية، من تفاعل مع المجتمع الدولي، ومن تاثيرٍ وتاثرٍ، مباشرٍ وغير مباشر ، لم يتوفر أيضاً للإنتفاضتين السابقتين في السودان في سنوات ما قبل "العولمة"، إذا جاز الوصف. لقد عبَّرت شعوبٌ في مشارق الأرض ومغاربها، عن تأييدها لحراك السودانيين ، بل لاحظ كثيرٌ من المراقبين ما لحراك السودانيين من تأثير على انتفاضات اشتعلت بنسب متفاوتة في عواصم بلدان عديدة ، بعضها أقرب للسودان في مصر والجزائر وتونس والعراق ولبنان، ، وبعضها في عواصم بلدان أبعد، مثل حراك الشارع الفرنسي أو حراك الشعب في فينزويلا. لم يغب نظر الأستاذ فؤاد مطر عن كلّ ذلك، فتراه يحدثك بعمقٍ عن حراك السودانيين وعن حراك أهل فينزويلا .
أما المظهر الرابع الذي لفت الأنظار، فهو ما اتصل بالتعبير الشعبي المصاحب لذلك الحراك ، والذي اتخذ شكلا إبداعياً مُبتكَراً تجلّى في إبداعٍ مُصاحِب، مثلته شعارات ثورية ذات إيقاع ، وغنائيات وأشعار حماسية رافقت مظاهرات الحراك، وجداريات غطتْ شوارع وطرقات العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى . لقد كانت ثورة ثمنها دماء شهداء وجرحى ومفقودين، لكنها كانت ذات ضميرٍ حَي وقادر على التفاعل لإحداث التغيير، مثلما كانت ثورة لها قلمٌ ولسانٌ وفرشاةٌ .وصوتٌ مُبدع. .

أما القلم العبقري لأستاذنا فؤاد فسيحدثك في كتابه الذي بين يديك عن "الحاكم اذا استبد والشعب إذا انتفض"، بأكثر إحاطة حول كل ما كتبتُ أنا هنا مُختزلاً بعض مادة كتابه . وإنك ستجد في تلك الكتابة المعتقة عن "أم انتفاضات السودانيين"، ما يحضّك على الوقوف معي احتراماً وتقديراً، لرجل صادق الحسّ رصين الحجة إسمه فؤاد مطر. .

 

آراء