ملحوظات مختصرة حول مسودة الإتفاق السياسي
بورفيسور مهدي أمين التوم
29 March, 2023
29 March, 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن مسودة الإتفاق السياسي التي صدرت مؤخراً ،تمثل جهداً وطنياً كبيراً يستحق التقدير، لجرأة إبتداره تحت ظروف سياسية و مجتمعية معقدة وصلت لدرجة تخوين من تصدوا لجعله حقيقة في واقع صعب بكل المقاييس ، و في ظروف غريبة، بقي فيها حتى بعض الأصدقاء الثوريين يملؤهم الشك و تحيطهم الريبة ،دعك من الخصوم الذين جعلوا التخوين صفة ملازمة لمن تصدوا للمهمة جاعلين من أنفسهم رأس رمح لاختراق ما بدا حصناً عسكرياً غير قابل للإختراق ، تحفه مخاطر شخصية ، و تعيقه بوادر إنشقاقات حتى بين رفاق الأمس و الحاضر.. لكن بقيت العزيمة أقوى ، و الوطن أحق، فكانت النتيجة هذا العمل الضخم و المتوازن بدرجة كبيرة ،و الذي يجد فيه الثوريون المنطقيون مآربهم ، و يستشف فيه الفلول معالم هزيمتهم النهائية إن شاء الله.
و المسودة المقترحة كعمل إنساني لم يتم تحت ظروف مثالية ، ليس غريباً أن تشوبها بعض الهنات سواء من ناحية الشكل أو من نواحي الفلسفة و المضمون. و أظن أن بعض الأجزاء التي تسبق البروتوكولات في هذه الوثيقة في حاجة إلى ضبط من ناحية الصياغة القانونية و الدستورية ، منعاً لتعدد التفاسير ، ولكي لا تعطي العبارة الواحدة أكثر من معنى مما قد يؤدي لاحقاً الى اختلافات في التفسير . كذلك هناك حاجة إلى ضبط لغوي يليق بالوثائق الرسمية التاريخية ..
و عموماً ربما لا يكون مناسباً التدخل في ما ورد في البروتوكولات لأنها نبعت من ذوي الشأن مباشرة ، و لأنها تمثل في مجملها توازناً إرتضته المجموعات المتباينة التي شاركت بصدق في بلورة ما جاء في تلك البروتوكولات الخمسة التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من الإتفاق السياسي. لكن الحاجة للمراجعة اللغوية و لضبط الصياغة لا تنتفي ايضاً بالنسبة لهذا الجزء من الوثيقة قيد النظر.
و يحمد لكل المعنيين نشرهم لوثيقة الإتفاق السياسي ك (مسودة ) ، مما يعني دعوة الكل لإبداء ملاحظاتهم من أجل تمتين و تدقيق و ضبط الصيغة النهائية للإتفاق..
و كمساهمة سريعة و متواضعة أُبدي هنا بعض الملاحظات في شكل نقاط مختصرة :
١- الديباجة مناسبة.
٢- آخذ علي المبادئ العامة الإبقاء علي إتفاق جوبا بحذافيره كجزء لا يتجزأ من الدستور تسود بنوده حتى علي الدستور نفسه..أعتقد أنه إتفاق معطوب يستحق الإلغاء أو المراجعة الجذرية ، و كان من الأنسب الإشارة إلى هذه الإمكانية لأن الإشكاليات التي أحدثتها تلك الإتفاقية لا تخفى علي عيون المتابعين .
٣-كذلك آخذ علي المبادئ العامة في الوثيقة إشارتها الجهوية غير اللائقة في ما يتعلق بإدارة العاصمة الخرطوم. فتخصيص الحديث عن ضرورة إشراك كل أهل السودان في إدارة ولاية الخرطوم دون غيرها من ولايات السودان الأخرى، يمثل عندي تمييزاً غير حميد.و مَن هم سكان الخرطوم اصلاً اليسوا كلهم إقليميين في الأصل !! و لماذا لا يشترط مشاركة أهل الخرطوم في إدارة الولايات الأخرى لتكون المعاملة بالمثل في الوطن الواحد !!
٤- تبنت المسودة الهيكل الولائي القائم دون تعديل مفوتة فرصة تصحيح ما حدث من خلط في هيكل السلطة بعد اتفاقية جوبا التي جعلت من ولايات دار فور الخمس إقليماً واحداً له حاكم ،و أعطت جنوب كردفان و النيل الازرق أوضاعاً خاصة في شكل حكم ذاتي، بينما تركت بقية السودان في وضعه الولائي الذي أسبغته عليه الإنقاذ عنوة و بدون أسس علمية ..لقد كان الأفضل إنتهاز الفرصة لإقتراح إعادة تقسيم السودان إلى أقاليم أو وحدات إدارية كبرى بدل الإبقاء علي التشرذم الولائي الحالي غير المقنع علمياً و إدارياً، و غير المجدي إقتصادياً.
٥- البند الخاص بالمجلس التشريعي لم يحدد موعداً لتكوينه و هذه ثغرة كبيرة بخاصة إذا تذكرنا أن الدستور الإنتقالي بعد الثورة كان قد حدد تسعين يوماً لقيام المجلس التشريعي و ها قد مر ما يقرب من أربع سنوات و مباني المجلس خاوية علي عروشها !!! فكيف يكون الحال مع عدم التحديد الذي نراه في مسودة الإتفاق السياسي؟
٦-تتحدث المسودة عن عضوية تمثيلية في المجلس و تعطي أي جهة الحق في تغيير ممثليها متى شاءت و كيف شاءت..أظن أن هذا سيحدث فوضى و ربما تغييرات مستمرة في عضوية المجلس ستنعكس سلباً علي أداء المجلس.
٧- مؤسف جداً أن يكون الشرط التعليمي في عضوية المجلس التشريعي هو مجرد الإلمام بالقراءة و الكتابة .جاء ذلك في البند الرابع من شروط العضوية. أظن هذا لا يليق بدولة في القرن الحادي و العشرين..لماذا لا تكون الشهادة الثانوية هي الحد الادنى المطلوب لنرتفع بالأداء البرلماني خطوات فوق ما عهدنا طوال الستة عقود الماضية !!!
٨-عند الحديث عن فقدان عضوية المجلس التشريعي ألاحظ عدم تحديد فترة زمنية لملء المقعد الشاغر.
٩- الجزء الخاص بمجلس السيادة فيه عدة ثغرات فليس هناك تحديد لعدده ، و لا تحديد لكيفية إختيار أعضائه ،كما لا توجد إشارة لطبيعة رئاسته هل دائمة أم دورية ، و إن كانت دورية كيف ستنظم.
١٠- الجزء الخاص بإختصاصات مجلس السيادة فيه خلط شديد بين كلمتي ( تعيين ) و ( إعتماد ) و يحتاج مراجعة و ضبط داخل النص و لا تكفي جملة يبدو أضيفت علي عجل في نهاية الفصل الخاص بإختصاصات مجلس السيادة و التي تقول إن ( الإعتماد ) يعني ( التوقيع ).
١١-يبدو أن ثنائية الجيش و الدعم السريع باقية معنا حسب نصوص الاتفاقية و يبدو ذلك واضحاً في إختصاصات مجلس السيادة إذ هو حسب النصوص الواردة يمثل القائد الأعلى للجيش و القائد الأعلي للدعم السريع ، و هو الذي يعتمد و يعين قائد الجيش، و أيضا هو الذي يعتمد و يعين قائد قوات الدعم السريع..إنها ثنائية ما كان يجب أن تُثَبَّت في الوثيقة بهذا الشكل الذي يبقي علي وضع شاذ حتى قانون الدعم السريع لا يقره نظرياً.
١٢-الفقرة الخاصة بإختيار و إعتماد مدير الشرطة و المخابرات و المراجع العام تحتاج إلى ضبط لتأكيد سلطة رئيس الوزراء في هذا الشأن دون لبس أو غموض تأكيداً لمدنية الحكم.
١٣- أعتقد أن أخطر ما لاحظت في مسودة الإتفاق هو إختفاء كلمة ( مستقل ) من شروط تعيين رئيس الوزراء و الوزراء و الإكتفاء بتعبير ( كفاءات وطنية) مما سيفتح الباب لعودة رموز حزبية للجهاز التنفيذي تكراراً لتجربة دكتور عبدالله حمدوك في حكومته الثانية التي انتهت بما نحن فيه من تيه و بؤس.. أتمنى ان يتفرغ الحزبيون لشؤون ما بعد سنتي الإنتقال ففي المستقبل متسع لهم عبر تفويض شعبي مباشر و إنتخابات حرة لن تكون سهلة، و تتطلب بالضرورة جهوداً تنظيمية و سياسية يحتاج السياسيون الحزبيون للتفرغ لها تماماً خلال الفترة الإنتقالية.
و اخيراً أتمنى أن يتم ضبط الوثيقة علي ضوء ما يرد من ملحوظات، و أن يتم إقرارها و تنفيذها حسب التوقيت المرسوم في إستعادة مستحقة لحُكم مدني ديمقراطي سالت دماء عزيزة من أجله، و يتطلع أهل السودان جميعاً لتوطينه و إعادة بناء الوطن تحت ظلاله.
و الله و الوطن من وراء القصد.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
28 مارس 2023 م
mahditom1941@yahoo.com
لا شك أن مسودة الإتفاق السياسي التي صدرت مؤخراً ،تمثل جهداً وطنياً كبيراً يستحق التقدير، لجرأة إبتداره تحت ظروف سياسية و مجتمعية معقدة وصلت لدرجة تخوين من تصدوا لجعله حقيقة في واقع صعب بكل المقاييس ، و في ظروف غريبة، بقي فيها حتى بعض الأصدقاء الثوريين يملؤهم الشك و تحيطهم الريبة ،دعك من الخصوم الذين جعلوا التخوين صفة ملازمة لمن تصدوا للمهمة جاعلين من أنفسهم رأس رمح لاختراق ما بدا حصناً عسكرياً غير قابل للإختراق ، تحفه مخاطر شخصية ، و تعيقه بوادر إنشقاقات حتى بين رفاق الأمس و الحاضر.. لكن بقيت العزيمة أقوى ، و الوطن أحق، فكانت النتيجة هذا العمل الضخم و المتوازن بدرجة كبيرة ،و الذي يجد فيه الثوريون المنطقيون مآربهم ، و يستشف فيه الفلول معالم هزيمتهم النهائية إن شاء الله.
و المسودة المقترحة كعمل إنساني لم يتم تحت ظروف مثالية ، ليس غريباً أن تشوبها بعض الهنات سواء من ناحية الشكل أو من نواحي الفلسفة و المضمون. و أظن أن بعض الأجزاء التي تسبق البروتوكولات في هذه الوثيقة في حاجة إلى ضبط من ناحية الصياغة القانونية و الدستورية ، منعاً لتعدد التفاسير ، ولكي لا تعطي العبارة الواحدة أكثر من معنى مما قد يؤدي لاحقاً الى اختلافات في التفسير . كذلك هناك حاجة إلى ضبط لغوي يليق بالوثائق الرسمية التاريخية ..
و عموماً ربما لا يكون مناسباً التدخل في ما ورد في البروتوكولات لأنها نبعت من ذوي الشأن مباشرة ، و لأنها تمثل في مجملها توازناً إرتضته المجموعات المتباينة التي شاركت بصدق في بلورة ما جاء في تلك البروتوكولات الخمسة التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من الإتفاق السياسي. لكن الحاجة للمراجعة اللغوية و لضبط الصياغة لا تنتفي ايضاً بالنسبة لهذا الجزء من الوثيقة قيد النظر.
و يحمد لكل المعنيين نشرهم لوثيقة الإتفاق السياسي ك (مسودة ) ، مما يعني دعوة الكل لإبداء ملاحظاتهم من أجل تمتين و تدقيق و ضبط الصيغة النهائية للإتفاق..
و كمساهمة سريعة و متواضعة أُبدي هنا بعض الملاحظات في شكل نقاط مختصرة :
١- الديباجة مناسبة.
٢- آخذ علي المبادئ العامة الإبقاء علي إتفاق جوبا بحذافيره كجزء لا يتجزأ من الدستور تسود بنوده حتى علي الدستور نفسه..أعتقد أنه إتفاق معطوب يستحق الإلغاء أو المراجعة الجذرية ، و كان من الأنسب الإشارة إلى هذه الإمكانية لأن الإشكاليات التي أحدثتها تلك الإتفاقية لا تخفى علي عيون المتابعين .
٣-كذلك آخذ علي المبادئ العامة في الوثيقة إشارتها الجهوية غير اللائقة في ما يتعلق بإدارة العاصمة الخرطوم. فتخصيص الحديث عن ضرورة إشراك كل أهل السودان في إدارة ولاية الخرطوم دون غيرها من ولايات السودان الأخرى، يمثل عندي تمييزاً غير حميد.و مَن هم سكان الخرطوم اصلاً اليسوا كلهم إقليميين في الأصل !! و لماذا لا يشترط مشاركة أهل الخرطوم في إدارة الولايات الأخرى لتكون المعاملة بالمثل في الوطن الواحد !!
٤- تبنت المسودة الهيكل الولائي القائم دون تعديل مفوتة فرصة تصحيح ما حدث من خلط في هيكل السلطة بعد اتفاقية جوبا التي جعلت من ولايات دار فور الخمس إقليماً واحداً له حاكم ،و أعطت جنوب كردفان و النيل الازرق أوضاعاً خاصة في شكل حكم ذاتي، بينما تركت بقية السودان في وضعه الولائي الذي أسبغته عليه الإنقاذ عنوة و بدون أسس علمية ..لقد كان الأفضل إنتهاز الفرصة لإقتراح إعادة تقسيم السودان إلى أقاليم أو وحدات إدارية كبرى بدل الإبقاء علي التشرذم الولائي الحالي غير المقنع علمياً و إدارياً، و غير المجدي إقتصادياً.
٥- البند الخاص بالمجلس التشريعي لم يحدد موعداً لتكوينه و هذه ثغرة كبيرة بخاصة إذا تذكرنا أن الدستور الإنتقالي بعد الثورة كان قد حدد تسعين يوماً لقيام المجلس التشريعي و ها قد مر ما يقرب من أربع سنوات و مباني المجلس خاوية علي عروشها !!! فكيف يكون الحال مع عدم التحديد الذي نراه في مسودة الإتفاق السياسي؟
٦-تتحدث المسودة عن عضوية تمثيلية في المجلس و تعطي أي جهة الحق في تغيير ممثليها متى شاءت و كيف شاءت..أظن أن هذا سيحدث فوضى و ربما تغييرات مستمرة في عضوية المجلس ستنعكس سلباً علي أداء المجلس.
٧- مؤسف جداً أن يكون الشرط التعليمي في عضوية المجلس التشريعي هو مجرد الإلمام بالقراءة و الكتابة .جاء ذلك في البند الرابع من شروط العضوية. أظن هذا لا يليق بدولة في القرن الحادي و العشرين..لماذا لا تكون الشهادة الثانوية هي الحد الادنى المطلوب لنرتفع بالأداء البرلماني خطوات فوق ما عهدنا طوال الستة عقود الماضية !!!
٨-عند الحديث عن فقدان عضوية المجلس التشريعي ألاحظ عدم تحديد فترة زمنية لملء المقعد الشاغر.
٩- الجزء الخاص بمجلس السيادة فيه عدة ثغرات فليس هناك تحديد لعدده ، و لا تحديد لكيفية إختيار أعضائه ،كما لا توجد إشارة لطبيعة رئاسته هل دائمة أم دورية ، و إن كانت دورية كيف ستنظم.
١٠- الجزء الخاص بإختصاصات مجلس السيادة فيه خلط شديد بين كلمتي ( تعيين ) و ( إعتماد ) و يحتاج مراجعة و ضبط داخل النص و لا تكفي جملة يبدو أضيفت علي عجل في نهاية الفصل الخاص بإختصاصات مجلس السيادة و التي تقول إن ( الإعتماد ) يعني ( التوقيع ).
١١-يبدو أن ثنائية الجيش و الدعم السريع باقية معنا حسب نصوص الاتفاقية و يبدو ذلك واضحاً في إختصاصات مجلس السيادة إذ هو حسب النصوص الواردة يمثل القائد الأعلى للجيش و القائد الأعلي للدعم السريع ، و هو الذي يعتمد و يعين قائد الجيش، و أيضا هو الذي يعتمد و يعين قائد قوات الدعم السريع..إنها ثنائية ما كان يجب أن تُثَبَّت في الوثيقة بهذا الشكل الذي يبقي علي وضع شاذ حتى قانون الدعم السريع لا يقره نظرياً.
١٢-الفقرة الخاصة بإختيار و إعتماد مدير الشرطة و المخابرات و المراجع العام تحتاج إلى ضبط لتأكيد سلطة رئيس الوزراء في هذا الشأن دون لبس أو غموض تأكيداً لمدنية الحكم.
١٣- أعتقد أن أخطر ما لاحظت في مسودة الإتفاق هو إختفاء كلمة ( مستقل ) من شروط تعيين رئيس الوزراء و الوزراء و الإكتفاء بتعبير ( كفاءات وطنية) مما سيفتح الباب لعودة رموز حزبية للجهاز التنفيذي تكراراً لتجربة دكتور عبدالله حمدوك في حكومته الثانية التي انتهت بما نحن فيه من تيه و بؤس.. أتمنى ان يتفرغ الحزبيون لشؤون ما بعد سنتي الإنتقال ففي المستقبل متسع لهم عبر تفويض شعبي مباشر و إنتخابات حرة لن تكون سهلة، و تتطلب بالضرورة جهوداً تنظيمية و سياسية يحتاج السياسيون الحزبيون للتفرغ لها تماماً خلال الفترة الإنتقالية.
و اخيراً أتمنى أن يتم ضبط الوثيقة علي ضوء ما يرد من ملحوظات، و أن يتم إقرارها و تنفيذها حسب التوقيت المرسوم في إستعادة مستحقة لحُكم مدني ديمقراطي سالت دماء عزيزة من أجله، و يتطلع أهل السودان جميعاً لتوطينه و إعادة بناء الوطن تحت ظلاله.
و الله و الوطن من وراء القصد.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
28 مارس 2023 م
mahditom1941@yahoo.com