مناخ السودان المصري .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





مناخ السودان المصري

The Climate of the Egyptian Sudan

C. P. Stone سي بي استون

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لمقال تاريخي  قصير للبريطاني  سي بي استون نشر في العدد الخامس من الدورية العلمية الأمريكية الشهيرة "العلم  "Science والصادرة في الثالث من أبريل عام 1885م، وهي تستعرض في إيجاز مناخ  مديريات السودان المختلفة قبيل الغزو المصري البريطاني لـ "استعادة" السودان من الحكم المهدوي. المترجم
*****     *******
لا عجب أن كان مناخ بلد شاسع مترام الأطراف مثل السودان المصري يتسم بالتنوع الشديد، فهو يمتد إلى نحو 17 إلى 18 درجة من خطوط العرض، ومثلها في خطوط الطول، وتتفاوت في مختلف ارجائه الارتفاعات بأكثر من 6000 قدم في خط عرض واحد. ولا يمكن بالطبع مناقشة كل هذه الأنواع من المناخات في مقال صغير كهذا، بيد أن الجزء من السودان المصري الذي يشغل بال العالم هذه الأيام بسبب وجود جنود أوربيين فيه، والعمليات العسكرية التي يبدو أنهم سيقومون بها  جدير بالدراسة في جوانبه المناخية المتنوعة.
ويحتل الجنود البريطانيون موقعين في السودان المصري الآن هما مديرية دنقلا  الواقعة على النيل، ومدينة وميناء سواكن على ساحل البحر الأحمر.
وتحتل القوات الإيطالية ميناء مصوع على ساحل البحر الأحمر  وما حوله، وخليج عصب  والمناطق من حوله على نفس الساحل  بالقرب من باب المندب.
ومهما يكن من نوايا لدي الايطاليين من احتلالهم لهذه المناطق على ساحل البحر الأحمر، فإن نوايا الاحتلال البريطاني هي وبوضوح شديد تتلخص في  إعلان الحرب على المهدي، ولذا فإن دراسة مناخات مناطق السودان المصري التي تحتلها  قوات المهدي تكتسب أهمية عظيمة.
ويحتل المهدي الآن  ويتحكم في المناطق التالية: مديريات الخرطوم ودارفور وكردفان وسنار وبربر والقلابات والتاكا (عدا عاصمتها كسلا) والمناطق الصحراوية الشاسعة الواقعة بين النيل قرب بربر وساحل البحر الأحمر قرب سواكن وعقيق. ولهذا يجب معرفة مناخ هذه المديريات والمناطق المذكورة آنفا.
ويوجد الآن في المديرية الأولي التي تحتلها القوات البريطانية المستكشفة (مديرية دنقلا) نحو 9000 من الجنود البريطانيين بقيادة اللواء (لورد) ويلزيلي. ومعلوم أن هذه المديرية هي من أغنى مديريات السودان المصري انتاجا، وهي تمتد من وادي حلفا شمالا إلى حدود مديرية بربر على ضفاف النيل جنوبا.  ولقد جعلت الرسائل التي بعث بها أفراد من جيش اللورد ويلزيلي خلال الشهور الماضية  اسماء غالب قرى ودساكر هذا الجزء من البلاد معروفة للعالم حيثما وجدت صحف تقرأ.    
1. مديرية دنقلا: إن المناخ في في هذه  المديرية (والتي تقع الآن تحت سيطرة القوات البريطانية) ليس محتملا فحسب، بل هو في الواقع لطيف جدا في أربعة شهور من السنة هي نوفمبر وديسمبر ويناير وفبراير، رغم أن رياح الخماسين تهب أحيانا في فبراير فتضايق البريطانيين، وحتى السكان المحليين كذلك. ولا يكون الطقس عادة في شهور مارس وأبريل ومايو والنصف الأول من يونيو بالغ السوء وغير صحي (كما هو الحال في مناطق أخرى) ولكنه يضايق الجميع خلا السكان المحليين! وعادة ما تكون الحرارة في تلك الشهور عالية خلال النهار إذ تصل درجتها في الظل بين 95 – 110 فهرنهايت، وتهبط في الليل إلى 65 إلى 70 درجة مئوية. إن هذا الفرق الكبير بين درجات الحرارة ليلا ونهارا يوجب على المرء أن يجهد في المحافظة على صحته، ورغم الأخذ بكل الاحتياطات الواجبة فإن الاصابة بأمراض الحمى المتقطعة كثيرا ما تصيب سكان تلك المديرية، وإن أهمل علاجها قد تغدو حمى تايفويد. وتهب في تلك الشهور رياح متربة شديدة العنف وكثيرة الحدوث، وعلى الرغم من كونها مثيرة للضيق والمعاناة إلا أنني أعتقد أن لها دورا قاتلا للبكتريا  التي تسبب الحمى، وهي بهذا تحمي إلى حد ما الأوربيين الموجودين في تلك المنطقة في تلك الشهور الحارة من الموت (يجب تذكر أن هذا الزعم غير المسنود بدليل علمي قد كتب في عام 1885م. المترجم). تهب من شهر يونيو إلى سبتمبر رياح جنوبية وجنوبية غربية مشبعة بالرطوبة قليلا ما تتسبب في هطول الأمطار، وتريح الأوربيين من الهبوب المتربة، ولكنها في ذات الوقت قد تصيبهم بالحمى.
هذا هو المناخ المعادي الذي سيكابده الجنود البريطانيون في الشهور الخمسة القادمة قبل التقدم للقاء أعدائهم من الآدميين. ولا ريب أن بقاء هؤلاء الجنود البريطانيين تحت رحمة ذلك العدو الخفي، حتى في ظل توفر عناية طبية ممتازة، سيهلك عددا كبيرا منهم، وسيكون قائدهم محظوظا إن بقي 90 % من جنوده على قيد الحياة  عندما يحل شهر أكتوبر، وسيكون عدد آخر منهم (يبلغ نحو  10 %)  في حالة من الوهن الشديد بسبب الحمى المتكررة، وسيحتاجون لشهر إضافي من الراحة حتى يعتدل الجو قليلا ويستعيدوا بعضا من صحتهم  استعداد لما سيخوضونه من معارك شرسة.
2. مديرية سواكن:  لا يمكن للمرء أن يعتبر أن المناخ غير صحي في سواكن رغم أنه مفرط الحرارة في غالب شهور العام عدا شهور ديسمبر ويناير وفبراير. وتمتد الصحراء في هذه المنطقة إلى شاطيء البحر الأحمر، وهوائها حارق لا يمكن للأوربي الذي لم يزر المنطقة من قبل أن يتخيل مقدار حرارته، لكنه ليس ضارا بالصحة. ومن المؤكد أن تعرض الأوربي لمثل تلك الحرارة العالية دون أخذ الاحتياطات الواجبة سيعرضه دون ريب لضربة شمس وإحتقان دموي. وتبلغ درجة الحرارة في شهر إبريل في الظل 100 إلى 105 فهرنهايت، وبمثل هذه الحرارة يتأثر الجنود المشاة بحرارة أشعة الشمس المباشرة، والصهد والحرارة المنعكسة على الصخور أكثر من الجنود الذين يمتطون الخيول أو الإبل.
لا يختلف المناخ في سواكن عنه في المنطقة بين سواكن وبربر، وهذا يؤكد استحالة أن يسير البريطانيون جنودا مشاة على أقدامهم في الطريق من سواكن لبربر خلال شهور الربيع والصيف، إلا إذا اقتصر سيرهم على ساعات الليل والفجر الباكر.
3. مديرية بربر: لا يختلف المناخ في بربر عنه في دنقلا، ولكن ونسبة لتأثير مياه نهر أتبرا، فقد نجد أن الحمى أكثر انتشارا في بعض المناطق في شهور الصيف بأكثر مما هو موجود في دنقلا.
4. مديرية التاكا: عادة ما يكون المناخ في التاكا ومناطق القلابات من يونيو إلى أكتوبر قاتلا للأوربيين. وفي تلك الشهور تهطل الأمطار بغزارة، ويختلط مائها بماء الفيضانات القادمة من مرتفعات الحبشة فتغدو التربة الغنية مثل الأسفنجة المشبعة بالماء، وتنمو الحشائش عاليا، ويغدو الهواء الصادر من بين ذرات تلك التربة مسموما. ويهجر كثير عائلات السكان المحليين قراهم في موسم الأمطار مصطحبين معهم بهائمهم  هربا من وباء الحمى التي تنتشر في ذلك الفصل، ومن لسعات الحشرات التي تضر بصحتهم وبصحة بهائمهم كذلك، ويصوبون وجهتهم شمالا نحو الصحراء، ويبقون بها حتى آواخر شهر أكتوبر. وبعد ذلك يعودون لقراهم حيث يجدونها خضراء زاهية، والجو فيها صحي لطيف.  وتظل الأحوال الجوية هكذا خلال فترة الشتاء وحتى شهر إبريل.
5. مديرية الخرطوم: الطقس في الخرطوم في شهور إبريل إلى أكتوبر حار ورطب وغير صحي. وأما فصل الشتاء فالمناخ فيه ليس سيئا جدا، رغم أنه لا يعتبر صحيا. ولعل السبب في سوء مناخ الخرطوم هو وقوعها في مقرن النيلين الأبيض والأزرق، وعدم مراعاة الشروط الصحية عند إنشاء الطرق والمباني. لقد شهدت العشرين عاما الماضية بعض التحسن والعناية بالمباني السكنية في الخرطوم، وأدى ذلك لتحسن الأحوال فيها.
6. مديرية كردفان: تقل الأمطار في كردفان عنها في الخرطوم أو التاكا. وفي فصل الشتاء (من أواخر أكتوبر وحتى  بداية مارس) يغدو الجو لطيفا وصحيا، وتهب الرياح على المنطقة من الشمال.  ولا ترتفع الحرارة كثيرا عن 80 – 88  درجة فهرنهايت، ويكون الهواء منعشا ومنشطا، والليالي باردة لطيفة. وفي المقابل تكون شهور مارس وأبريل ومايو شديدة الحرارة ويصعب إحتمالها.  وفي يونيو يبدأ فصل الأمطار ويستمر حتى نهايات سبتمبر وبدايات أكتوبر. وتتحول في تلك الشهور الرياح إلى رياح جنوبية وجنوبية غربية. وتصب الأمطار بشكل يومي وتهطل أحيانا كل يومين أو ثلاثة. ويكون الجو في ذلك الفصل وخيما يسبب الحمى المتقطعة التي تصيب الأجانب خاصة، بيد أن السكان المحليين قلما يتأثرون بها.
وعلى الرغم من أخذ كل الاحتياطات الممكنة، فإن الأمراض المفضية للموت في أوساط الجنود في ذلك الفصل المطير أمر يستحيل تحاشيه. وقد علمت من تجربة شخصية بعثت فيها بحملة استكشافية لتلك المنطقة وهي مزودة بكل ما يلزم من أدوية ومعدات طبية أن نحو 6 % من الجنود لقوا حتفهم في الشهور الأربعة الأولي لهطول الأمطار، بينما  لم نفقد إلا عددا يسيرا جدا منهم في بقية شهور العام.
7. مديرية دارفور: يشابه مناخ دارفور المناخ في كردفان إذ تهطل الأمطار في المديريتين في ذات الشهور، وتتشابه الظروف الصحية فيهما في موسم الأمطار. ولكن – وبحسب ما جاء في تقارير المفتشين الطبيين في دارفور- فإن الحمى في دارفور أشد تأثيرا مما هو مشاهد  في كردفان.    


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء