منصور خالد لورد من أمدرمان (2 ـ 4)
مقالات صحافية تميزت بخاصية تدوين التاريخ نموذج لكاتب مثابر يعكف على نصه بصبر وإناة
أفكار مهمة على مائدة الحوار حول الدستور
لا رؤية ثقافية للأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال
حسير الطرف أمشي في مهب الريح
أشل الساق أعدو في وجه النار ممتشقا من التبريح
ذراعي أخرس في اليم لا يقوى على التلويح
أعلق همتي في غيمة شهلاء
أسامة تاج السر
abusamira85@gmail.com
لا تقف الممارسة الصحفية عند أساليب المهنة الرائدة، بل تدخل في صراع الأحداث وتكون جزءا من مسيرة الأوضاع، وتلك خاصية تنقل المقال الصحافي إلى تدوين التاريخ. وقياسا لا يمكن تجاوز كل من شارك وكتب عند مراجعة سجل العلاقة بين الصحافة والتاريخ. ولعل القارئ لكتاب الدكتور منصور خالد (حوار مع الصفوة) يستوقفه أن الكاتب اختار لحظة تاريخية حاسمة من تاريخ السودان، وتحديدا عقب ثورة أكتوبر 1964، كي يطرح أفكارا يتجاوز بها نمط التفكير السائد واللغة التقليدية في إطار قراءة موسوعية للمتغيرات العالمية وإدراك عميق للتطور الإنساني بمنهجية صارمة ميزت الكتاب.
وجاءت خريطة تبوبيب الكتاب في ثلاثة أبواب غطت ثلاثة محاور متصلة سياسيا وتاريخيا بموقف الكاتب من الحدث والوصول إلى المعلومات التي تعد سيفه الباتر في طرح القضايا ومحاورة الأطراف، وهنا تصبح مرجعية الحوار والكتابة (المعلومات).
غير أن المعلومات عند الدكتور منصور خالد لا تقف غايتها عند حدود الدليل، بل تصبح جزءا من الذاكرة التي قد تقود الكاتب إلى صدامات مع روؤى وأفكار ومراكز قوى ومشاريع في الداخل والخارج.
كما تشكل ثقافته السياسية والتاريخية مراكز قوته في الكتابة، بل يكشف مؤلفه عن قدراته الكبيرة في تحليل الحدث والاعتماد على المعلومات في توضيح الأبعاد والمفارقات المصاحبة لدور الكاتب في تمتين النص.
ولعل الاعتماد على المعلومات قد جعل من كتابات الدكتور منصور خالد في مستوى قراءة التاريخ، وربما قادته إلى مواجهات عاصفة على أصعدة مختلفة، وتلك صلة بين الصحافة والسياسة تحددها الأسباب في فترات من الزمان قلما تتكرر. وقد ظل الدكتور منصور خالد سنوات طويلة في هذه المجال، بات على يقين راسخ أن مراحل المواجهة لا تكون ترسانة الدفاع والهجوم فيها سوى المعلومة التاريخية التي تصف الحدث دون أن تنقص أو تزد.
القضية المؤجلة
ملامح المجتمع الجديد هو عنوان الفصل الأول من كتاب (حوار مع الصفوة) يحتوي على 9 مقالات جاءت في 96 صفحة، تحمل بين صفحاتها أول بعد في شخصية الدكتور منصور خالد من جهة أنه نموذج حي للكاتب المثابر الذي يعكف على نصه الخاص بصبر وإناة غير ملتفت للنصوص التي يدونها فحول وأفذاذ الكتابة.
والبعد الثاني الذي يقدمه الدكتور منصور خالد في هذا الفصل أن الجهد المبذول في الكتابة يتعين أن يكون في طريق المساعدة في بناء الوطن. ولذلك اهتم بتأكيد أن يقدم الكاتب بقدر المستطاع بدائل عندما ينتقد الأوضاع، وأن يرتبط برؤية إستراتيجية وأن لا يشغل نفسه بمسائل ذاتية، ويبدو هذا ظاهرا في مقالاته عن الخدمة المدنية والدبلوماسية السودانية والتخطيط التربوي والثقافي للشخصية السودانية.
ابتدر الدكتور منصور خالد، مقالاته بموضوع الدستور في السودان، واستفاض في المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها الكيان الدستوري والماهية الشرعية له مهتديا بتجارب أمم تشابه ظروفها السياسية والاجتماعية ظروف السودان.
ورغم أن الدستور يعد أشهر قضية مؤجلة في السودان منذ استقلاله في يناير 1956، حيث تؤجله كل حكومة إلى الحكومة التي ستأتي بعدها، إلا أن الدكتور منصور خالد قد أثبت أنه رجل قادر على وضع أفكار مهمة على مائدة الحوار حول الدستور الذي ينبغي أن يسود في بلد مثل السودان.
وصحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أن المفارقة تكمن في أن الأفكار التي دونها الدكتور منصور خالد في جريدة (الأيام) بتاريخ 28 فبراير 1965، هي ذات الأفكار التي أذاعها جمال محمود وزير الدولة بمجلس الوزراء السوداني بتاريخ 28 يوليو 2015 حول (اتفاق الأجهزة العدلية في السودان على 14 موجها إعداد دستور دائم يتوافق حوله المجتمع وتلتف حوله القوى السياسية مكوناتها).
الليلة والبارحة
ما أثاره الدكتور منصور خالد من أفكار حول الخدمة المدنية قبل 50 عاما، كان فرصة للحوار حول مستقبل التنمية في السودان، خاصة أن الخدمة المدنية دوما تجد نفسها في مساحة ليست من اختصاصها الأصيل وهو التعبير السياسي عما يحدث وليس تقديم ما ينفع الناس في معاشهم وحياتهم، والذى هو دورها الأصيل ومهمتها الرئيسية. وسواء اتفقت أو اختلفت معه، فإنك تجد نفسك مدفوعا للاستماع إلى ما يقول، خاصة حين يقرر أن الخدمة المدنية لكي تكون (خدمة عامة سليمة تتطلب غرس قيم المسؤولية الشخصية واحترام الملك العام والمواطنة الصالحة).
ومع ذلك لا يحسبن القارئ أن الخدمة المدنية قد أعطيت كل الفرص، بل على العكس قد تكون الخدمة المدنية هي الضحية الأولى لكل التقلبات السياسية أو الانقلابات العسكرية في السودان، إذ يفقد منسوبيها وظائفهم تارة بسيف التطهير وأخرى بمسدس الإحالة للصالح العام.
واقع الحال أن الخدمة المدنية تفعل ذلك لشغل الفراغ الذي خلقه موت السياسة عند الأحزاب السودانية بمختلف مسمياتها وإيدلوجياتها ومراحل تأسيسها أو تشرذمها.
على أن القضية الأهم التي طرحها الدكتور منصور خالد، في هذا المجال قبل 50 عاما، تتعلق بـ (تخطيط القوى العاملة تخطيطا يشمل إعادة النظر في متطلبات الوظائف وجمع وتحليل احصائيات القوى العاملة في الميادين وإنتاج المعاهد التعليمية وأسس البعثات التعليمية للخارج).
وقد لا تشبه الليلة البارحة، فدافع هذا الاستطراد أن مؤتمرا بدأ الإعداد في مطلع هذا العام، وضم 1200 من قيادات الخدمة المدنية التقوا في 30 يوليو 2015 بمقر مجلس الوزراء السوداني برئاسة الفريق أول بكري حسن صالح النائب الأول للرئيس السوداني، انتهى إلى (إصلاح الخدمة المدنية وتنمية مواردها البشرية، تحقيقا لمبدأ العدالة والمساواة ومراجعة تشريعاتها وآلياتها).
إثارة الدهشة
يمكن النظر إلى الدكتور منصور خالد في المقال المعنون (الشخصية السودانية والتخطيط التربوي والثقافي)، على أنه أكثر الكتاب السودانيين قدرة على إثارة الدهشة عبر الجملة القصيرة المتزنة، وعبر قيمة متحركة من قيم الوطن ونبضه، تكاد تراه في سطوره يتحرك على قدمين مثل عامل كادح يحمل ألته داخله، وإن لم يحملها على كتفيه، ليملأ الحياة بالبساطة والتفاؤل.
ورغم أن رحم السودان ظل ينجب المفكرين وأصحاب الرؤى دون انقطاع، إلا أن أزمات النخبة المتفاقمة جعلت أصوات هؤلاء المفكرين تذهب إدراج الرياح. وعلى الرغم من نصاعة أفكارهم وعمق رؤاهم، إلا أنهم يحملون تناقضات وأزمات التحول من المجتمع التقليدي إلى ما يعرف بالمجتمع الحديث الذي ما هو إلا اندماج في الثقافة المهيمنة. كما أنهم صناع وحملة ملامح ورموز وقيم الثقافة الغالبة. فعلى سبيل المثال عندما يتحدث مفكر في قامة الدكتور منصور خالد عن الدور الذي تلعبه الثقافة والتربية في (تأكيد الشخصية القومية وخلق الفكر الوطني الجديد الأصيل). وذلك ما يطرح بإلحاح السؤال عن مسؤولية الصفوة في أزمة الهوية التي تعصف بالسودان، والتي وصلت في وقتنا هذا إلى حد التصادم. وكان واضحا أن الغزو الثقافي وتزايد الاختلاط بالخارج سيفضي إلى تآكل القيم وأنماط السلوك لصالح أنماط واردة أهمها المزاج الاستهلاكي والتفاخري.
ويعزز كل ذلك الاعتقاد بأن الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ الاستقلال لم تنطلق من رؤية ثقافية ولا مشروع مجتمعي يستند إلى منظومة قيم بعينها. وحتى المثقفين الذين اجتذبتهم الأنظمة السياسية المختلفة خدموا تلك الأنظمة أكثر مما خدموا أفكارهم ومشاريعهم المجتمعية.
وعلى الرغم من مضي وقت طويل على كتابة المقال، فما زالت الآراء التي طرحها الدكتور منصور خالد محتفظة بصلاحيتها وملاءمتها لأوضاعنا الحالية، خاصة حديثه عن التثقيف الشعبي كعنصر مكمل للتربية والتعليم.
الخطر الداهم
عندما تقرأ مقال (يوم أكل الثور الأبيض الشيوعية وخطرها الداهم) تدرك تماما انك لم تكن أمام مقال صحفي عابر، وإنما أمام مجهود سبقته رؤية محددة ونباهة واضحة.
كان عمر الدكتور منصور خالد حين نشر هذا المقال بالضبط 34 عاما و10 أشهر و15 يوما، فإذا ظن قارئ المقال أنه كان يحمل في عمره هذا قنديلا متوهجا من المعرفة، فظنه صحيح، بل يمكن أن نضيف إليه أنه كان يمارس دوره التنويري في حياتنا الثقافية السودانية، ولعله كان يسلك طريقا جديدا ينقلنا إلى القواعد الخلقية التي يجب أن يرعاها الناس في العمل السياسي.
الشاهد أن الدكتور منصور خالد كشف أن اهتمامه بالوطن ليس اهتمام أهل السياسة الذين يجمعون الأخبار للتندر على الحكومة في أخر الليل. ومن هنا أحس بالمسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه ما يجري وتجاه الحقيقة التي من خلالها ينبثق الشعور بالحرية، لأن الحس التاريخي يجبر الإنسان علي الكتابة، لا ضمن تقاليد جيله بالذات فحسب، بل وبوعي متزايد واستشراف اللحظة والوقوف في مهب الآتي.
ويبادر إلى التأكيد أن لا انفصام بين الدين والأخلاق، ويتحدث عن (الدين كعقيدة شاملة تخطط العلائق بين البشر وترسم لهم السلوك الاجتماعي وتحدد مسؤولياتهم تجاه الكون الكبير). كما يقرر أن النقد الموجه إلى الشيوعيين هو (قضية فكر لا قضية أخلاق).
تمثل تجربة الكتابة عند الدكتور منصور خالد في مجال الدين والأخلاق، مرجعية تاريخية ـ سياسية ـ اجتماعية، قد مضى وقت طويل دون أن تدرس، لكي يتمكن القارئ من التواصل مع واقع الكاتب الذي يمثله، ومدي تأثير النص المكتوب فيه. ومع ذلك، فقد تمكن الدكتور منصور خالد أن يؤرخ للحظة (حقبة استثنائية فريدة) في تاريخ السودان الحالي، متكئة علي الذكريات المغمسة بالدم، والحاضر المغمس بالتحدي، والآتي المغمس بالترقب.