من بعض آثار التحرير الاقتصادي
تهدف سياسة التحرير الاقتصادي لزيادة الرفاهية الاقتصادية وذلك بتحرير القطاع الخاص من تدخل الدولة فى أسواق المال، بالإضافة إلى تقليل حجم القطاع العام عن طريق الخصخصة، والأخيرة هذه هي مجموعة من الإجراءات الإقتصادية الموصي بها من قبل صندوق النقد الدولى والبنك الدولي والتي تهدف إلى الوصول بالاقتصاد إلى حالة الإستقرار من خلال معالجة الاختلالات المالية النقدية التى تعانى منها كثير من الاقتصاديات مع تحقيق نمو مستمر خلال تعديل الهيكل الاقتصادي. بالإضافة لذلك تعد الدعوة إلى تحرير الاقتصاد والخصخصة أحد الأدوات الأساسية للعولمة. يدخل في باب "التحرير الاقتصادي" تعهد كثير من الدول المدينة للصندوق بإجراء حزم من السياسات الاقتصادية، تتم على مراحل مبرمجه لجدولة مديوناتها الخارجية بغض النظر عن تأثير هذه البرامج على المستقبل الإقتصادى للدولة المدينة أو على مستوى دخل الفرد فيها من خلال تحقيق نمو اقتصادى متوازن.
لا ريب أن تطبيق هذه السياسات له كثير من الآثار السالبة والموجبة أيضا، ورغما عن تجارب كثير من الدول في سياسة التحرير الاقتصادي إلا أن صندوق النقد الدولى والبنك الدولي يصران على سلامة سياسة التكييف من الناحية الفكرية والنظرية لسياسة التحرير، وأن الفشل الذي لازم هذه السياسة في جوانب منها يعود لعدم الالتزام من قبل الدولة المتبنية لهذه السياسات بتطبيقها بصورة تضمن فعالياتها، إضافة لعوامل خارجية وأخرى داخلية.
إن ظاهرة العولمة الإقتصادية هي ظاهرة حديثة نسبيآ (لم تبدأ إلا فى سبعينيات القرن الماضي) وبدا الأمر وكأنه واقع حتمي حيث تدفق النفط في تلك السنوات في كثير من الدول في الشرق الاوسط ، دفع بتدفقات نقدية واستثمارية ذات رؤوس أموال ضخمة، وهو ما يعتبره مؤيدو فكرة التحرير الاقتصادي بأنها "حاجة أساسية" للدول النامية، متناسين حدوث إنخفاض موازي لمفهوم الادخار، ورغم ذلك دائمآ ما يدفع بأسباب فشل كثير من الحكومات إلي سوء تصرفها في الأموال وتبذيرها المفرط، غير أنه وفي ذات الوقت لم يثبت أن الدول التى حررت اقتصادها قد شهدت تدفقات رؤوس الأموال إليها، أو حدث فيها نموآ إقتصاديا مستداما نتيجة لذلك التحرير، بل ثبت أن العديد من الأسواق الناشئة قد شهدت انحدارآ بينا في معدلات الاستثمار. كذلك يلاحظ أن تحرير تدفقات رؤوس الاموال لم يسفر عن استقرار الاستهلاك في تلك الأسواق. وفي هذا الصدد تعتبر دولة ( الصين) مثالا جيدا فى مجال النمو الاقتصادي على مستوى العالم ، وهي – في ذات الوقت- الأقل في الاعتماد علي التمويل الخارجي .
وفي رأي كثير من الاقتصاديين أن البحث عن مشكلة الآثار السالبة لتحرير الاقتصاد يكمن في تغيير النمط السائد في الأسواق، وذلك بتحرير تدفقات رؤوس الأموال دون قيود على الاستثمارات الوارده من الخارج غير بعض القيود التي تفرض على أنماط الاستثمار. فعلى سبيل المثال يجد المرء في السودان آن جل الاستثمارات تتركز في مجال التجارة ، وفي ظل العولمة تركز الاستمارات المتمثلة في في القطاع التجارى على السلع والخدمات المصنفة ك "رفاهية"، وهي سلع وخدمات لا يحتاجها غير مجتمعات ذات دخول مرتفعة أو لها مقاييس حضارية وبيئية مختلفة عن غالب ما هو مألوف عند عامة الناس (ويشمل ذلك نوعية الاثاث المنزلي والمكتبي والكثير من الأدوات الكهربائية المتقدمة) فلا يستقيم مثلا الاستثمار في سلع وخدمات "الرفاهية" تلك في مجتمع يرمى النفايات المنزلية في الشارع العام أو حتى يحرقها في مخالفة واضحة لجميع قواعد صحة البيئة.
إذن لابد من تصحيح مسار اتجاه الاستثمارات الداخلة بالقطاعات الانتاجية مثل الصناعة والزراعة لتحقيق فائض في الدخل القومي وتحقق تنمية اقتصادية واضحة مع توفير فرص عمل لشريحة واسعة من العاملين، وحتى لا يتعرض الاقتصاد إلى الانهيار الذي لايبدو واضحا إلا بعد أن تتغير التركيبة الاقتصادية المالية للمجتمع بتحوله من منتج إلى مستهلك مع انحسار الادخار وغياب مفهومه وتغيير عادات وسلوك المستهلكين في الموازنة بين الدخل والمنصرف الى مستهلكين بما يفوق الدخل الحقيقي وظهور كثير من الاقتصاديات الهامشية والخفية، فيتحول المجتمع الاقتصادي الي بيئة مواتية للاختراقات الاقتصادية غير قانونية (مثل غسل الأموال). إن هذا السلوك لاينحصر في الأفراد بل ينتقل إلى أجهزة الدوله لتدخل في دائرة العجز وهذا ليس فقط بسبب سوء استغلال الموارد فقط، بل لتنامى العادات البذخية في الصرف الحكومي (البذخي) المتمثل في المباني والسيارات وغيرها في ظل موارد تدرجها لا يسير فى صالح الدخل القومي.
إن من مظاهر ظهور علامات الاقتصاد الخفي ("الاقتصاد المشوه" إن جاز التعبير) زيادة السيولة المحلية بشكل لايتناسب مع الزيادة في الانتاج في السلع والخدمات، وفي ذات الوقت حدوث ضغوط تضخمية وتدهور في القوة الشرائية للنقود مما يؤدي إلي ظهور طبقات التمايز الاجتماعي الذي يخلق أثارا يمكن أن تتمثل في زعزعة القيم الفاضلة والايجابية لتحل محلها أثار إقتصادية محطمة (ولاأخلاقية أحيانا) مثل الإعلان عن الكسب السريع بغض النظر عن مصدره متزامنا مع عدم الشعور بالمسئولية الاجتماعية علي حساب قيم العمل والعلم والانتماء للوطن. وهذا الاحساس في المقابل يخلق ضعفا في الولاء والانتماء عند بعض الشرائح الاجتماعية خاصة في أوساط الشباب.
لا شك إن ذلك الوضع قد يؤدي لخلق نوع من التغريب والتهميش مما يضعف النسق الاجتماعي والتماسك المجتمعي ويثبط الحافز علي العمل والابتكار، بل قد يخلق ضغائن إجتماعية بين طبقات المجتمع مما يؤدي إلي عدم توافر الاستقرار الاجتماعي الذي يعتبر أحد أهم مقومات مناخ الاستثمار الداخل الي الدولة، وهو الضالة المنشودة.
nazikelhashmi@hotmail.com