من بعض ما ورد في كتاب “نظريات المرض وسوء الطالع عند بجا الهدندوة” (2/2). عرض: بدر الدين الهاشمي
Theories of sickness and misfortune amongst the Hadandowa Beja (2/2)
Frode F. Jacobsen فرودة ف. جيكوبسون
عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا هو الجزء الثاني من عرض موجز لبعض ما أورده البروفيسور النرويجي فرودة ف. جيكوبسون عن بعض نظريات المرض وسوء الطالع عند بجا الهدندوة في كتاب صدر عي عام 1998م عن دار نشر كيجان بول العالمية (لندن – نيويورك). يبحث الكتاب في المعرفة الثقافية وتعلمها ونقلها وحفظها عند أفراد قبيلة البجا، وهي من القبائل التي تتمتع بذخيرة باذخة الغنى والتنوع في مجالات التقاليد الثقافية الشفهية. كان هذا الكتاب ثمرة لبحث قام بتمويله مجلس الأبحاث النيرويجي وجامعة بيرجن، أقام أثناء انجازه المؤلف في مدينتي سنكات وبورتسودان. في الجزء الأول من المقال عرضنا باختصار للسيرة الذاتية للمؤلف ولما ورد في الفصول الثلاثة الأولى للكتاب.
في الفصل الرابع قدم المؤلف عرضا أوليا للوضع الصحي وأكثر الأمراض انتشارا في منطقة تلال البحر الأحمر معتمدا على ما يعتقده الأهالي الهدندوة وليس بحسب ما يرد في التقارير الطبية والصحية التي يعدها الأطباء بناء على "أبحاث" و"دراسات علمية". لا يعير المؤلف فيما يبدو كبير تصديق لتقارير وأرقام السلطات الطبية والصحية الرسمية (وربما كان محقا في ذلك!). أورد المؤلف قائمة بأكثر الأمراض والحالات شيوعا في منطقة البحر الأحمر زوده بها دكتور محمد أبو آمنة في بورتسودان، ويتصدر تلك القائمة النقص الغذائي (خاصة في البروتين والفيتامينات) وفقر الدم (الأنيميا)، ربما لعدم تناول البجا للخضروات والفواكه في طعامهم. أورد الكاتب أن سبب الأنيميا عند البجا سببه هو شربهم لألبان المعز لعدم توفر لبن الأبقار والتي زعم أنها مصدر غني للحديد، وهذا ليس بصحيح فمعلوم أن ألبان الحيوانات على وجه العموم فقيرة في الحديد، ومن هنا جاءت المقولة "المشهورة" من أن اللبن كان سيعد غذاءا كاملا لولا افتقاره للحديد. وفي هذا الصدد نذكر أنه قد نشر في عام 2011م مقال علمي عنوانه: "تناول لبن البقر سبب من أسباب فقر الدم عند الأطفال
Consumption of cow's milk as a cause of iron deficiency in infants and toddlers.
شملت القائمة أيضا أمراض الجهاز الهضمي خاصة الاسهالات، ثم أمراض الجهاز التنفسي البكتيرية والسعال الديكي والحصبة والسل (في الصدر والعظام والجلد) والالتهابات الصدرية والكزاز (التتننس). ذلك ما يقوله الأطباء. أما الهدندوة فلهم رأي آخر رغم إدراكهم – على وجه العموم- لارتباط التغذية بالصحة. عبر عن ذلك العمدة العجوز “أبو عاشة" بقوله: " لقد زاد المرض الآن. في الماضي كان المرض نادرا. في الماضي إذا جرح واحد منا كنا نعالجه هنا بوضع سمن على الجرح ولا نأخذه للمستشفى. الآن يموت الإنسان من أقل خدش! إن أعطيت مريضا لحما وسمنا فإنك ستضره. الآن ازداد المرض. قد يكون السبب هو السعوط والقهوة التي يستخدمها الناس بأكثر مما في السابق. الآن الناس يأكلون اللحم والسمن بأقل مما كانوا يفعلون في الماضي...". يبدو أن الهدندوة يربطون بين نقص الغذاء والأطعمة الجديدة التي دخلت على مجتمعهم وكثرة الأمراض التي "نزلت" عليهم في السنوات الأخيرة. يقسم البجا الأمراض (تماما كما يفعلون في كثير من بلاد الشرق الأوسط) إلى أمراض "حارة" وأمراض "باردة". يعزو البجا الأمراض "الباردة" إلى برودة الجو أو الماء أو غير ذلك، بينما يردون الأمراض "الحارة" إلى الأطعمة الحارة أو الحريفة. يعالج البجا الأمراض "الحارة" بعكسها (أي بتناول الأشياء الباردة) والأمراض "الباردة" بتناول الأشياء الحارة.
أورد المؤلف قائمة مطولة بالأمراض كما يسميها البجا وشرح لمعانيها، وفي هذا الجزء استعنت بالأستاذ محمد عثمان إبراهيم فأمدني بالترجمات التالية لأسماء بعض الأمراض والحالات التي ذكرها المؤلف. يجب ملاحظة أن بعض الأمراض المختلفة قد تشترك في ذات الاسم، فكلمة "كوليت" مثلا ترجمها المؤلف بمرض السيلان، وهي الكلمة البجاوية المقابلة لمرض الزهري (يسميه القاموس الطبي الموحد "الافرنجي")، وعند البجا فإن السيلان هو البجل. وتعدد الترجمات العربية للمرض الواحد معهود في القواميس الطبية في مختلف الدول العربية.
Kosult كسولت فقر الدم
Hemineit همينايت زيادة الحموضة
Gurda توردة والتهاب المفاصل الحمى
Koleit كليت السيلان/ السكري
Taflam/ Afram تأفلم العصبي القولون
Watab واتاب فقدان الشهية
Herar هيرار يرقان
Haf هاف مرض الكبد
Sirr سر الإرهاق
Mirquay ميركواي المرضي/ الخوف الرهاب
Haale هاليى الجنون
أفرد المؤلف صفحتين كاملتين لمهنة نسوية صرفة هي مهنة الوداعية (وهي سيدة تتنبأ بما سيحدث لمن يطلب منها معرفة المستقبل). تستخدم "وداعية" سنكات (مثل عيشة المرأة المسنة من الحمداب) 7 قواقع/ ودعات معكوفة ترميها على الأرض وتحلل المواقع التي تقع عليها تلك الودعات وعلى أي جانب تستقر وتستنج منها ما تريده أو تظنه. يؤمل المريض أو الطالب أن تتعرف الوداعية على تشخيص مرضه أو طريقة علاجه أو أفضل المعالجين لعلته. أخبرت عيشة الوداعية المؤلف بأنها ورثت مهنتها عن والدتها وأن الزبائن يتقاطرون عليها يوميا في الحي الذي تقطنه في سنكات (لعل اسمه ديناييت؟) وأيضا من كل أحياء سنكات وما حولها من القرى. أخبرته أيضا أن زوراها في تزايد مضطرد دوما. أورد المؤلف في هذا الفصل أيضا طرفا من سيرة آمنة وهي امرأة طيبة متدينة كثيرة الكلام تقوم الآن بدور "الفكي" للنساء بعد أن هجرت مهنتها القديمة كوداعية. حكت للمؤلف أنها كانت قبل أن تعمل في رمي الودع امرأة فقيرة معدمة. ازدادت حالتها سوءا بعد طلاقها فقررت أخذ قرض (لم تحدد مصدره) مقداره خمسين جنيها استخدمته في تجارة البيض، وكان تنوي رد ذلك الدين من أرباح تجارتها بيد أنها أصيبت بملاريا أقعدتها عن العمل. في أيام مرضها أتاها في المنام حلم رأت فيه طائرا كبيرا يحمل بين منقاره ورقة نقدية من فئة الخمسين جنيها. قال لها ذلك الطائر: "خذي هذه الورقة النقدية وسلميها لمن استدنت منه، وبعد ذلك اعملي كوداعية". وبالفعل فعلت ذلك رغم معارضة إخوانها وزوجها (الثاني). بعد نجاحها الداوي كوداعية "صادقة لا تتواني عن إخبار زبونها بحقيقة ما تراه" تحولت للعمل كفقيرة تعالج بالمحايات والأعشاب الطبية وبالآيات القرآنية، وتمارس أيضا مهنة "البصارة". لاحظ المؤلف أن ما قالته تلك "الفقيرة" يتكرر عند كثير ممن قابلهم. يرددون دوما أن "رؤيا منامية" معينة هي ما ساقتهم للعمل ك "فقير" أو "فقيرة". من الممارسات التي يقوم بها الفقير (أو الفقيرة) ما يلي:
.وصل: هي آيات قرآنية مكتوبة على ورقة تحرق بالنار ويخلط رمادها مع الماء وتعطى 1 للمريض ليشربها.
2. محاية: سبعة آيات من القرآن تكتب بالحبر على ورقة أو قطعة من الخشب ثم تغسل بالماء، ويجمع ذلك الماء ويعطي للمريض ليشربه.
3. حجاب: قصاصة ورقة مكتوب عليها آيات قرآنية ملفوفة في "حجاب" (في الأصل تميمة) تستخدم في الحماية ضد الأرواح الشريرة. يستخدم الحجاب والمحاية بصورة واسعة في كل أرجاء السودان وكثير من أنحاء العالم الإسلامي الأخرى.
4. تلاوة القرآن: يتلو الفقير (أو الفقيرة) آيات من القرآن وهو يضع يده اليمنى على رأس المريض، وقد يبصق على الأرض بعد تلاوة كل كلمة، أو يبصق على وجه المريض مباشرة.
لاحظ المؤلف أن "البصير" يختلف عن "الفقير" في أن الأول عادة ما يكون أميا، بينما يكون "الفقير" متعلما أو على الأقل ملما باللغة العربية كتابة ومخاطبة.
يلجأ البجا لـ "الفقير" في حالات الاصابة بأمراض نفسية أو عقلية تعزى دوما للجن ، ويلجأون لـ"البصير" في غير ذلك من الأمراض، غير أن لهذه القاعدة استثناءا واحدة هي حالة البصير الذي يعالج "التفألم" وهو مرض القولون العصبي، والذين يؤمنون بأنه قادر على التعامل مع "الجن غير المسلم" الذي يعتقدون بأنه يسبب التفألم. يختص "بصير التأفلم" بعلاج بأمراض الجهاز الهضمي مستخدما أعشابا طبية أو بالكي في منطقة البطن أو بتلاوة بعض الآيات القرآنية أثناء المسح على البطن. كذلك يعالج هذا البصير نوعا من اصابات الثدي يسميها البجا "توديه “Toodih يعتقدون أن سببها هو ذلك "الجن غير المسلم". يعالج البصير هذا المرض بالهمس في ثدي أو أذن المريضة بآيات قرآنية "محذرة" للجن أو بكي المنطقة حول الثدي بالنار. لاحظ المؤلف أن هذه الممارسات تشابه ممارسات المعالجيين الشعبيين في اثيوبيا والصومال.
تطرق المؤلف إلى استخدام "الزار" وشيخاته وذكر أن حفلات الزار في سنكات تنقسم إلى نوعين:
1/ حفلات الجالوكة (لعل المقصود الدلوكة"؟!) وهي ترمز للآلة الموسيقية المستخدمة في الحفل والذي قد يستمر من 3 إلى 7 أيام ويذبح فيه كبش ضخم في اليوم الأول ويتواصل فيه تقديم الوجبات الغذائية لكل الحضور طوال أيام الحفل. يلزم في هذا الزار أن يتم تزيين المريضة (والكبش أيضا) بالحناء، ويطلق على المريضة لقب "العروسة" والتي تزف إلى عريسها "روح/ جن الزار". تعطى المريضة / العروس كمية من دم الكبش المذبوح لتتجرعها. يعقب ذلك غناء صاخب ورقص شديد الانفعال على قرع الدلوكة المتعالي، مع شعور عام بالانتشاء يصاحبه معرفة "الجان" المسبب للمرض وطلباته، والذي تكون الاستجابة لها هي سبب الشفاء. يتقمص الجان المسبب للمرض شخصيات متباينة، فقد يكون عقيدا في الجيش البريطاني أو مومس اثيوبية، وتختلف طلبات الجن المتلبس للمريضة بحسب الشخصية التي يتقمصها ذلك الجان.
2/ الطيب Tayyab: هو حفل أصغر ليس فيه قرع لأي نوع من الطبول، وهو على نوعين: نوع يمارس في المدينة وآخر (أكثر بساطة) يمارس في القرية. في "الطيب" قد يكون العلاج ببساطة هو شراء بعض أشياء خاصة للمريض/ المريضة. يعالج هذا النوع من الزار من يعاني من سوء طالع في أي أمر من الأمور.
توسع المؤلف في بقية فصول الكتاب في نظريات أنثروبولوجية وفلسفية ونفسية متقدمة عن نظرة البجا للأمراض ومسبباتها وطرق التداوي منها، وحللها تحليلا اكاديميا معمقا مقارنا إياها بما هو منشور في الأدبيات العالمية عن مناطق أخرى من العالم معتمدا على افادات ما قابلهم من عينات من أفراد مجتمع البجا في سنكات وبورتسودان، وكذلك على دراسات حالات case studies. فعلي سبيل المثال لخصت امرأة أمية بجاوية هي "حواء علي" نظرة البجا إلى الأعشاب الطبية والتداوي بها فقالت: "يجب علي المرء الحرص عند حصد الأعشاب الطبية، فهذه الأعشاب قد تكون مفيدة بطريق واحد، بينما تكون مضرة بتسعة طرق أخرى"، وهذا باب في "حكمة الشعب الفطرية" توسع فيها المؤلف في جوانب أخرى من بقية فصول كتابه.
ختم المؤلف كتابه بسبعة ملاحق كان أولها ثبت الأسماء العربية (السودانية) للكلمات المهمة الواردة في بحثه. أورد في الملحق الثاني معاني الكلمات البجاوية الواردة في الكتاب. ما لم أجد له مسوغا هو ما أورده المؤلف عن طائفة الختمية في الملحق الثالث. فما أورده الكاتب هو سرد تاريخي بالغ التبسيط لنشأة وتطور تلك الطريقة الصوفية في السودان وصراعها مع المهدية والتطورات التي حدثت فيها في القرن العشرين والحكومات (الديمقراطية) التي تآلف فيها الختمية مع الأنصار (حزب الأمة)! كل ذلك دون أن يبذل المؤلف جهدا يذكر في الربط بين الأسس العقدية والفكرية لتلك الطائفة الدينية (والتي يتبعها كل أو غالب البجا من شملهم بالدراسة في منطقتي سنكات وبورتسودان) وتعاليمها وممارساتها وبين اعتقاداتهم وممارساتهم في أمور المرض والتداوي. من أكثر المعلومات اثارة للصدمة ما أورده المؤلف من نسب وفيات الأطفال والتي تحصل عليها من الاستبيانات التي أجراها في غضون السنوات الثلاث التي قضاها في شرق السودان في أوساط ثلاثين عائلة بجاوية. ذكر المؤلف أنه من بين 284 طفلا ولدوا في خلال السنوات الماضية ( 128 ولدا و84 بنتا) عاش منهم 212 وتوفي 72 (أي أن أكثر من ربع المواليد فقدوا حياتهم بعد الولادة). تبين للمؤلف أن تلك الوفيات حدثت في الغالب في سنوات الجفاف الذي ضرب المنطقة في عامي 1984م و1991م. أورد المؤلف أيضا ما ذكره أحد الخبراء من أن احتمال موت المولود في السودان على وجه العموم هو 17%، وأن هذه النسبة تنخفض في الخرطوم إلى 12% بينما ترتفع في منطقة البحر الأحمر إلى أكثر من 25%.
رغم الملاحظات العابرة وغير المتخصصة التي أوردناها عن هذا الكتاب فلا شك أنه يمثل إضافة حقيقية للدراسات الأكاديمية (المحدودة) عن عرقيات السودان المختلفة، والتي قام ويقوم بها علماء من العالم الغربي في غالب الأحوال، مما يشير إلى أن "عبء الرجل الأبيض" ربما لا يزال ماثلا ينتظر من يقوم به! قد يجد المتخصصون في الجوانب التي تطرق إليها المؤلف (وهي عديدة متنوعة) في هذا الكتاب مجالا خصبا للتمحيص والمراجعة والنقد، بيد أن الجوانب العامة التي لمسنا طرفا يسيرا منها في هذا المقال تؤكد أن الكتاب – على الأقل في بعض فصوله وملاحقه- لا يخلو من بعض الفائدة (وربما المتعة أيضا) حتى لغير القارئ المتخصص، ففيه بعضا من قصص البجا وحكاياتهم الفلكلورية المثيرة للدهشة ومقدرتهم على التكيف مع العيش في بيئة بالغة القساوة وكما قيل فإن "كل امرئ في عيشه ثاقب العقل".
أختم بتعليق سريع على غلافي الكتاب الخارجيين. ففي الغلاف الأمامي تجد صورة معبرة ومؤثرة (بالأبيض والأسود) لثلاثة أولاد وسيمي الطلعة ما تعدت أعمارهم الخامسة إلى السابعة يجلسون في مكان صَخِرٌ مجدب على سفح تل مقفر، وأجسادهم الناحلة ونظراتهم تذكرك بمقولة النميري في نهايات ستينيات القرن الماضي عن "الحزانى في الشمال والجوعى في الشرق الخ"، وفي الغلاف الخلفي صورة (بالأبيض والأسود أيضا) لبيت من السعف وأسرة من عشرة أفراد لعلهم تجمعوا لأخذ تلك الصورة، وتلك الصورة تلخص في مرارة بالغة حالهم الذي يغني عن كل سؤال. كان ذلك قبل نحو عقد من الزمان...فهل تغير الحال يا ترى؟
alibadreldin@yahoo.com