من حكايات الضرا في رمضان وغيره
د. خالد محمد فرح
7 April, 2022
7 April, 2022
Khaldoon90@hotmail.com
الضّرا لغةً بضاد مشددة مفتوحة وفتح الراء في عربية أهل السودان ، هو الساتر أو الجانب الواقي من أي معلم شاخص ، كجدار او شجرة او سياج أو نحوه ، فكأنه مشتق من الفعل الفصيح: دارَى يُداري بمعنى ستر يستر وخبأ يخبىء. ولكنه يأتي في عربية غرب السودان بصفة خاصةً كمصطلح يقصد به المكان الذي يجتمع فيه الناس لتناول الطعام جماعة وللانس والسمر ، وبحث سائر الامور الاجتماعية بالحي أو القرية. ويكون الضرا عادة في ساحة او عرصة من العرصات التي تتوسط القرية او الحي ، ويتعهدها فتية المنطقة وصبيانها بالنظافة والتسوية ، وفرش البسط ، وتحضير ماء الشرب والوضوء، واواني غسل الايدي الخ.
والضرا هو بكل تأكيد ، مدرسة ومنبر عفوي لبث المعارف والثقافة ، والقيم التربوية والاخلاقية ونقلها من جيل الى الجيل الذي يليه. وهو يمثل نفسه مختبرا حقيقيا للعيش الجماعي والديموقراطية الشعبية ، وتبادل الافكار والاراء بكل حرية ، وكذلك محكا للتعايش ، وأطر النفس وحملها على التقيد بسلوك الجماعة والتحلي بالتجرد وبالايثار ، والبعد عن الانانية. ولذلك جاء في احد امثال اهلنا في دارفور وهم قوم ذوو حكمة: اللقمة الكبيرة بتفرتق الضرا. اي ان اظهار الطمع في الاستئثار بكل شيء من دون الجماعة ، حري بان يؤدي بها الى انفراط العقد والتفرق.
هذا ، ومن أمتع الضريات وأحفلها بكل ما ذكرنا آنفاً من الخصائص والميزات الاجتماعية والثقافية والسلوكية والبروتوكولية الخ ، ضريات شهر رمضان المعظم. فهو مثلا معرض مفتوح لمدة شهر في تنوع اصناف الاطعمة والاشربة التي تتفنن ربات البيوت في اعدادها ، حيث يجرى تبادل ومقاصة حقيقية بين تلك الالوان المختلفة من الطعام والشراب. ولئن كانت " ملحات " الخرطوم ووسط السودان عموما ، التي تؤدم بها اطباق العصيدة والقراصة الشهيرين في رمضان يكادان ينحصران في التقلية والنعيمية ، فان ملحات غرب السودان توشك ان تجل عن الحصر. فهنالك التقلية ،والنعيمية ، وملاح الشرموط الابيض بالكول ، وملاح الروب الابيض ، وملاح اللوبا ، وملاح الكمبو ، وملاح المرس ، وملاح اللبن او الويكاب " مطيعينة " ، وملاح ام بُقبُق او البامية المفروكة ، والخُضرة المفروكة ايضا ، وخصوصا اذا كانت خضرة خلوية " بروسية " ، هذا الى جانب تلك الملحات التفلة والساذجة التي ذكرها الاستاذ الفاضل الجبوري في بعض تسجيلاته الظريفة مؤخراً ، اعني ملحات: ام شعيفة ، وام بُلُط ، وام تلاتة، وأبأسها هذا الأخير. وكل مشارك في الضرا ، يحرص على ان يصيب اكبر عدد ممكن من رفاقه من صينيته هو ، وفي فراغ آنية صينيته، فخر واي فخر لامراته ، لان فيه اعترافا بانها طاهية جيدة ، وأنها " ميرَم وشيخة " ويدها طاعمة.
أما عن الاطباق الثانوية والاشربة ، فحدث ولا حرج عن ثرائها وتنوعها. فهنالك الى جانب الآبريه الاحمر والابيض ( لا يكاد الناس في كردفان يستخدمون الاسم حلو مر الا نادرا جدا ) ، وانواع النشا ، واعلاهن مرتبة نشاة القضيم ، ثم انواع البلائل التي توشك ان تنحصر في العاصمة في صنفي العدسية والحمصيّة فقط ، أي المصنوعة من " الكبكبيه " ، فهنالك بليلة المليل اي فريك الذرة الرفيعة وفوقها بلحات وخيط من سمن دار الريح الاصلي ، وبليلة اللوبا ، وبليلة الدخن ، ونوع آخر من البليلة متنوعة الحبوب والبقول ولذيذة جدا تسمى " ونو ونو " اشتهر بصناعتها اهل جبال النوبة. وهنالك ايضا طبق ام جنقر اللذيذ الذي بدا يغزو العاصمة خلال العقود الاخيرة. اما السلطات والمشهيات ، فمنها سلطة البصل الاخضر بعجينة الفول السوداني او الدكوة ، وكذلك سلطة العفوس اي براعم اوراق شجرة التبلدي الرخصة بالدكوة ايضا ، وكذلك سلطة الموليتة وغيرها.
ومن الطرائف الكلاسيكية المرتبطة بضرا رمضان التي تحكى دائما ، انهم زعموا ان رجلا يعيش مع امراته الصناع والماهرة في صنع الطبائخ الشهية ، فكان اهل الضرا ينقضّون على قصعته فياتون على ما فيها في لمح البصر. قالوا ، فضاق بهم ذرعاً ، واراد ان يحتال عليهم بحيلة لكي يفارق بها مجلسهم. واتفق انهم كانوا في موعد افطار اول يوم او ثاني يوم من رمضان .. فقال لهم: هاهو ذاك الهلال لقد ابصرته ، فجعل الجميع يحدقون في الافق وينظرون الى الهلال ، فرأوه واشادوا بالرجل وحدة بصره. وبعد برهة قال لهم: " تاني داك واحد ".. فصاحوا فيه مستنكرين قائلين: يا زول انت مجنون ، فيه هلال بهل في محلين ؟ قالوا فرد عليهم: خلاص لو انا مجنون تاني كل زول ياكل في بيتو !!
وليست ظاهرة الضرا على الرغم من ارتباطها على نحو اكبر بالقرى والارياف ، وقلة وتيرتها في المدن لاسباب عملية غالباً ، الا انها ليست قاصرة مع ذلك على المدن والحواضر وحدها ، إذ لا يندر ان تشاهد تجمعات الافطارات العمومية في الطرقات والساحات حتى في بعض احياء العاصمة الخرطوم نفسها.
ومما اذكره في هذا المضمار ، انني شهدت افطارا بالضرا بحي المايقوما بشرق الخرطوم بحري قبل سنوات ، وكان من المفارقات الطريفة فيه ، والمفرحة أيضاً لجهة دلالتها الايجابية على الصعيد الاجتماعي ، بوصفها مظهراً حميداً من مظاهر التسامح والاخاء الودود في اطار المواطنة ، انه كانت هنالك مجموعة من الشباب العزاب من ابناء جنوب السودان ، الذين كانوا يقطنون الى جوار الاسرة التي افطرت معها ، وقد احضر اولئك الشباب صينية افطارهم وجلسوا مع سائر الجيران وشاركوهم الطعام والشراب والانس ، رغم انهم لم يكونوا مسلمين.
ومن ابرز خصائص الضريات الرمضانية انها منبر حر لتلقي المعارف الدينية عموماً ، وفي فقه الصيام خاصة. وكانت هنالك آبدة لا يمل اهل ضرا حينا من تكرارها والاخذ والرد بشانها وهي: هل يجوز ان تفطر مع اول سماعك الاذان ، ام من الافضل أن تنتظر حتى يفرغ منه ؟ وكان هنالك بعض المتنطعين والمتشددين الذين يقولون بوجوب الانتظار حتى فراغ المؤذن من رفع نداء صلاة المغرب ، وعادة ما ينبري احدهم فيقول في كل مرة: الاذان نفسه بحلل الصيام اول حتى يأذّن !
ومرةً غاب امامنا الراتب فطلبنا من احد أعمامنا
ان يصلي بنا المغرب ، وانما قدمناه لكبر سنه. فصلى بنا فقرأ في الركعة الاولى بالفاتحة وسورة الاخلاص ، ولكنه أخطأ في نطق إحدى كلماتها، فاستهجن بعض الناس ذلك ، وضحك بعض الشباب المطاميس وغمغموا مستنكرين فور انفلاتهم من الصلاة. وفي اليوم التالي طلبنا من عمٍ لنا آخر أسنّ من الاول ان يصلي بنا ، وكان رجلاً واقعياً وحصيفاً ، وذا ذكاء اجتماعي فطري ، وفطنة وروح مرحة ، فرد علينا قائلا وقد شهد " دراما " الامسية السابقة: هو يا وليدات هوي حودوا غادي: أنا لا منصلّي بى زول ، ولا من الله خلقني صليت لي بى زول ، ولا منسوّي لي كلامات !! فانفجر الضرا ضحكا .. وانما عنى بقوله: كلامات ، عبارات الهزء والسخرية التي طالت صاحبه من قبل ، وخشيته من تؤثر عليه زلة يتداولها الناس من بعده دهرا. رحمهما الله جميعا ببركة هذا الشهر الفضيل.
الضّرا لغةً بضاد مشددة مفتوحة وفتح الراء في عربية أهل السودان ، هو الساتر أو الجانب الواقي من أي معلم شاخص ، كجدار او شجرة او سياج أو نحوه ، فكأنه مشتق من الفعل الفصيح: دارَى يُداري بمعنى ستر يستر وخبأ يخبىء. ولكنه يأتي في عربية غرب السودان بصفة خاصةً كمصطلح يقصد به المكان الذي يجتمع فيه الناس لتناول الطعام جماعة وللانس والسمر ، وبحث سائر الامور الاجتماعية بالحي أو القرية. ويكون الضرا عادة في ساحة او عرصة من العرصات التي تتوسط القرية او الحي ، ويتعهدها فتية المنطقة وصبيانها بالنظافة والتسوية ، وفرش البسط ، وتحضير ماء الشرب والوضوء، واواني غسل الايدي الخ.
والضرا هو بكل تأكيد ، مدرسة ومنبر عفوي لبث المعارف والثقافة ، والقيم التربوية والاخلاقية ونقلها من جيل الى الجيل الذي يليه. وهو يمثل نفسه مختبرا حقيقيا للعيش الجماعي والديموقراطية الشعبية ، وتبادل الافكار والاراء بكل حرية ، وكذلك محكا للتعايش ، وأطر النفس وحملها على التقيد بسلوك الجماعة والتحلي بالتجرد وبالايثار ، والبعد عن الانانية. ولذلك جاء في احد امثال اهلنا في دارفور وهم قوم ذوو حكمة: اللقمة الكبيرة بتفرتق الضرا. اي ان اظهار الطمع في الاستئثار بكل شيء من دون الجماعة ، حري بان يؤدي بها الى انفراط العقد والتفرق.
هذا ، ومن أمتع الضريات وأحفلها بكل ما ذكرنا آنفاً من الخصائص والميزات الاجتماعية والثقافية والسلوكية والبروتوكولية الخ ، ضريات شهر رمضان المعظم. فهو مثلا معرض مفتوح لمدة شهر في تنوع اصناف الاطعمة والاشربة التي تتفنن ربات البيوت في اعدادها ، حيث يجرى تبادل ومقاصة حقيقية بين تلك الالوان المختلفة من الطعام والشراب. ولئن كانت " ملحات " الخرطوم ووسط السودان عموما ، التي تؤدم بها اطباق العصيدة والقراصة الشهيرين في رمضان يكادان ينحصران في التقلية والنعيمية ، فان ملحات غرب السودان توشك ان تجل عن الحصر. فهنالك التقلية ،والنعيمية ، وملاح الشرموط الابيض بالكول ، وملاح الروب الابيض ، وملاح اللوبا ، وملاح الكمبو ، وملاح المرس ، وملاح اللبن او الويكاب " مطيعينة " ، وملاح ام بُقبُق او البامية المفروكة ، والخُضرة المفروكة ايضا ، وخصوصا اذا كانت خضرة خلوية " بروسية " ، هذا الى جانب تلك الملحات التفلة والساذجة التي ذكرها الاستاذ الفاضل الجبوري في بعض تسجيلاته الظريفة مؤخراً ، اعني ملحات: ام شعيفة ، وام بُلُط ، وام تلاتة، وأبأسها هذا الأخير. وكل مشارك في الضرا ، يحرص على ان يصيب اكبر عدد ممكن من رفاقه من صينيته هو ، وفي فراغ آنية صينيته، فخر واي فخر لامراته ، لان فيه اعترافا بانها طاهية جيدة ، وأنها " ميرَم وشيخة " ويدها طاعمة.
أما عن الاطباق الثانوية والاشربة ، فحدث ولا حرج عن ثرائها وتنوعها. فهنالك الى جانب الآبريه الاحمر والابيض ( لا يكاد الناس في كردفان يستخدمون الاسم حلو مر الا نادرا جدا ) ، وانواع النشا ، واعلاهن مرتبة نشاة القضيم ، ثم انواع البلائل التي توشك ان تنحصر في العاصمة في صنفي العدسية والحمصيّة فقط ، أي المصنوعة من " الكبكبيه " ، فهنالك بليلة المليل اي فريك الذرة الرفيعة وفوقها بلحات وخيط من سمن دار الريح الاصلي ، وبليلة اللوبا ، وبليلة الدخن ، ونوع آخر من البليلة متنوعة الحبوب والبقول ولذيذة جدا تسمى " ونو ونو " اشتهر بصناعتها اهل جبال النوبة. وهنالك ايضا طبق ام جنقر اللذيذ الذي بدا يغزو العاصمة خلال العقود الاخيرة. اما السلطات والمشهيات ، فمنها سلطة البصل الاخضر بعجينة الفول السوداني او الدكوة ، وكذلك سلطة العفوس اي براعم اوراق شجرة التبلدي الرخصة بالدكوة ايضا ، وكذلك سلطة الموليتة وغيرها.
ومن الطرائف الكلاسيكية المرتبطة بضرا رمضان التي تحكى دائما ، انهم زعموا ان رجلا يعيش مع امراته الصناع والماهرة في صنع الطبائخ الشهية ، فكان اهل الضرا ينقضّون على قصعته فياتون على ما فيها في لمح البصر. قالوا ، فضاق بهم ذرعاً ، واراد ان يحتال عليهم بحيلة لكي يفارق بها مجلسهم. واتفق انهم كانوا في موعد افطار اول يوم او ثاني يوم من رمضان .. فقال لهم: هاهو ذاك الهلال لقد ابصرته ، فجعل الجميع يحدقون في الافق وينظرون الى الهلال ، فرأوه واشادوا بالرجل وحدة بصره. وبعد برهة قال لهم: " تاني داك واحد ".. فصاحوا فيه مستنكرين قائلين: يا زول انت مجنون ، فيه هلال بهل في محلين ؟ قالوا فرد عليهم: خلاص لو انا مجنون تاني كل زول ياكل في بيتو !!
وليست ظاهرة الضرا على الرغم من ارتباطها على نحو اكبر بالقرى والارياف ، وقلة وتيرتها في المدن لاسباب عملية غالباً ، الا انها ليست قاصرة مع ذلك على المدن والحواضر وحدها ، إذ لا يندر ان تشاهد تجمعات الافطارات العمومية في الطرقات والساحات حتى في بعض احياء العاصمة الخرطوم نفسها.
ومما اذكره في هذا المضمار ، انني شهدت افطارا بالضرا بحي المايقوما بشرق الخرطوم بحري قبل سنوات ، وكان من المفارقات الطريفة فيه ، والمفرحة أيضاً لجهة دلالتها الايجابية على الصعيد الاجتماعي ، بوصفها مظهراً حميداً من مظاهر التسامح والاخاء الودود في اطار المواطنة ، انه كانت هنالك مجموعة من الشباب العزاب من ابناء جنوب السودان ، الذين كانوا يقطنون الى جوار الاسرة التي افطرت معها ، وقد احضر اولئك الشباب صينية افطارهم وجلسوا مع سائر الجيران وشاركوهم الطعام والشراب والانس ، رغم انهم لم يكونوا مسلمين.
ومن ابرز خصائص الضريات الرمضانية انها منبر حر لتلقي المعارف الدينية عموماً ، وفي فقه الصيام خاصة. وكانت هنالك آبدة لا يمل اهل ضرا حينا من تكرارها والاخذ والرد بشانها وهي: هل يجوز ان تفطر مع اول سماعك الاذان ، ام من الافضل أن تنتظر حتى يفرغ منه ؟ وكان هنالك بعض المتنطعين والمتشددين الذين يقولون بوجوب الانتظار حتى فراغ المؤذن من رفع نداء صلاة المغرب ، وعادة ما ينبري احدهم فيقول في كل مرة: الاذان نفسه بحلل الصيام اول حتى يأذّن !
ومرةً غاب امامنا الراتب فطلبنا من احد أعمامنا
ان يصلي بنا المغرب ، وانما قدمناه لكبر سنه. فصلى بنا فقرأ في الركعة الاولى بالفاتحة وسورة الاخلاص ، ولكنه أخطأ في نطق إحدى كلماتها، فاستهجن بعض الناس ذلك ، وضحك بعض الشباب المطاميس وغمغموا مستنكرين فور انفلاتهم من الصلاة. وفي اليوم التالي طلبنا من عمٍ لنا آخر أسنّ من الاول ان يصلي بنا ، وكان رجلاً واقعياً وحصيفاً ، وذا ذكاء اجتماعي فطري ، وفطنة وروح مرحة ، فرد علينا قائلا وقد شهد " دراما " الامسية السابقة: هو يا وليدات هوي حودوا غادي: أنا لا منصلّي بى زول ، ولا من الله خلقني صليت لي بى زول ، ولا منسوّي لي كلامات !! فانفجر الضرا ضحكا .. وانما عنى بقوله: كلامات ، عبارات الهزء والسخرية التي طالت صاحبه من قبل ، وخشيته من تؤثر عليه زلة يتداولها الناس من بعده دهرا. رحمهما الله جميعا ببركة هذا الشهر الفضيل.