مهرجان “الأجنق” … خطوة في الاتجاه الصحيح
كانت ظروف تطور السودان منذ قيام السلطنة الزرقاء في مطلع القرن السادس عشر ، وربما قبل ذلك ، قد أعطت منطقة الوسط ثقلاً سياسياً واقتصادياً وميزة نسبية على غيرها من أقاليم البلاد الأخرى. تأكدت هذه الميزة مع تعاقب العصور الحديثة بعدانتقال العاصمة للخرطوم على يد ما عرف بالحكم التركي ومؤسسه محمد علي باشا.كما تضاعفت أهمية الوسط مع انتصار الثورة المهدية وقيام أول دولة قومية سودانية في العصر الحديث ، وذلك عندما اختار الأمام المهدي وخليفته مدينة أم درمان عاصمة للدولة الجديدة. ومع خضوع السودان للحكم الإنجليزي المصري عادت الخرطوم أو العاصمة المثلثة مركزاً للحكم الجديد مما ضاعف من الأهمية السياسية للمنطقة ، وجاء قيام مشروع الجزيرة كأهم استثمار تنموي في البلاد ليؤكد كذلك الأهمية الاقتصادية للوسط. لم تفكر أي من الحكومات الوطنية منذ الاستقلال في عام 1956بإعادة النظر في هذه الأوضاع فظل الوسط كما هو مركزاً للثقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كان ذلك أحد الأسباب في أن تسود ثقافة الوسط العربية الإسلامية على المستويات الإدارية والسياسية والثقافية مما انعكس بصورة أو أخرىعلى الهوية العامة للبلاد. تضافرت بعد ذلك عوامل أخرى مثل عدم إعطاء المكون الأفريقي في الشخصية السودانية وزنه المستحق ، والتنمية الاقتصادية والاجتماعيةغير المتوازنة لتشهد البلاد حالة من عدم الاستقرار لازمتها منذ منتصف القرن الماضيولا زالت بالرغم من انفصال الجنوب.
في مطلع الألفية جمعتني الظروف بوالي إحدى ولاياتنا الحدودية الشرقية ، وكنتأحاول عبثاً إقناع الرجل بضرورة زيادة مساحة الإرسال باللغات المحلية في إذاعةولايته ، خاصة وأن هناك العديد من القبائل المشتركة على الجانب الآخر من الحدودحيث كانت إذاعة الولاية المذكورة تسمع بوضوح. وحتى أستميل السيد الوالي لموقفي أشرت إلى أن اللغات المحلية تمثل الوسيلة الأفضل لنقل الرسالة التي يرجو هو شخصياً وحكومته أن تصل للمواطن على الجانب الآخر من الحدود مباشرة دون وسيط. غير أن مستمعي لم يكن متحمساً وكان مع الرأي الذي يقول أن الإرسال باللغات المحلية في أقاليم السودان المختلفة يهدد اللغة العربية التي يرى فيها أحد ممسكات الوحدة الوطنية. لم تجد محاولاتي نحو طمأنة الرجل بأنه لا خوف على اللغة العربية والثقافة الإسلامية في السودان. مما لا شك فيه أنه وبالرغم من ازدياد الوعي السياسي في الأقاليم الطرفية بمسألة الهوية المحلية أو الأفريقية ، إلا أن الدعوة بعروبة السودان وربط ذلك بالإسلام لا زالت تشكل تياراً مهماً لا يمكن تجاهله. وقد كانت الجوانب السالبة لهذه الازدواجية الثقافية بالإضافة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية غير المتوازنة وراء العديد من المشاكل السياسية التي شهدتها وتشهدهاالبلاد خاصة في الأقاليم البعيدة عن المركز.
كانت سعادتي ، لذلك ، بالغة عندما قرأت في عدد الأربعاء العشرين من الشهرالماضي من صحيفة "إيلاف" تقريراً مختصراً عن مهرجان "الأجنق" وهي مجموعات سكانية تتحدث اللغات النوبية وتقيم في ولايات كردفان ودارفور على حد قول التقرير. ويشير التقرير إلى أن من بين أهداف المهرجان الذي أقيم تحت شعار "العودة إلى الجذور" ، بث الوعي وسط أبناء مجموعة الأجنق بأهمية الحفاظ على اللغة والثقافة الخاصة بالقبيلة "واستدراك الوضع المتردي". وربما كان المقصود بالجملة الأخيرة هو العمل على انقاذ لغة وثقافة الأجنق من الانقراض كما حدث للعديد من اللغاتوالثقافات المحلية في السودان وفي أنحاء مختلفة من العالم. والذي يضاعف من سعادتي بهذا المهرجان المهم هو أن التنوع العرقي والثقافي أصبح من عوامل القوةوليس من أسباب الوهن في الدولة الحديثة بعد أن ذهبت إلى غير رجعة النظريات السياسية بشأن بناء الأمم والتي كانت ترى في التنوع العرقي والثقافي تهديداً للدولة القومية كما تخيلها منظروها الأوائل. ولعل تجربتنا الخاصة في السودان تؤكد خطل النظرية القديمة ، فالسياسات الخاطئة التي اتبعتها الحكومات الوطنية المتعاقبة في سعيها نحو ضمان سيادة ثقافة أحادية كانت من أسباب عدم الاستقرار الذي ظلت تعاني منه البلاد منذ استقلالها في عام 1956. كما أنه لا يخفى على المراقبالحصيف أن عدم الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والتنوع الثقافي في البلاد كان وراء ذهاب الجنوب كما أنه قد يقود ، لا قدر الله ، إلى ذهاب أجزاء أخرى عزيزة من الوطن. وقد انعكس ذلك الإهمال بصورة جلية على علاقاتنا بالقارة الأم وأحبط أحلامنا بأن تكون بلادنا البوتقة التي تنصهر فيها الثقافات الأفريقية والعربية مما يرفع كثيراً من قدرها كدولة رائدة وقائدة على المستوى الإقليمي ويساهم في تحسين وضعها على الساحتنين الإقليمية والدولية. وبالرغم من أن عدداً من دول شمال أفريقيا ومنطقة السهل الأفريقي تشارك السودان بعض السمات التي أشرنا لها أعلاه ، إلا أن البروفيسور علي مزروعي ــ عليه الرحمة ــ يقول صادقا: "وحده السودان هو الذي يعطي العروبة بعدها الأفريقي".
لا شك أن اللغة تمثا أحد أهم العوامل التي تساعد على حفظ الثقافة ، ويصدق هذا القول على اللغات المكتوبة والشفهية. إلا أن اللغات الشفهية تعتبر أضعف حلقاتالمقاومة للغزو الثقافي أياً كان مصدره ، لذلك فإن الحفاظ على اللغة وكتابتها يعتبر من أهم الوسائل للمحافظة على الثقافة التي تعبر عنها وضمان استمراريتها وتطورها.ولعل إحصائيات اليونسكو تلقي بالكثير من الضوء على ضرورة الاهتمام باللغات المحلية التي تعتبر الأكثر تعرضاً لخطر الانقراض بسبب التباين بينها وبين الثقافة الغالبة. تقول هذه الإحصائيات أن ما بين 60% إلى 90% من لغات العالم الحاليةوالتي يتراوح عددها بين ستة وسبعة آلاف لغة مهددة بالانقراض بحلول عام 2100 إذا لم تبذل جهود جادة للمحافظة عليها. وتبدو الصورة أكثر إحباطاً إذا ما علمنا أن 50% من جملة سكان العالم اليوم يتحدثون 20 لغة فقط بينما لا يزيد عدد المتحدثين بكل لغة من آلاف اللغات الأخرى عن عشرة ألاف شخص ، مما يعني أن هناك مفارقات واضحة في عدد المتحدثين باللغات في مختلف أنحاء العالم. بل إن هناك لغة لم يعد يتحدثها سوى شخص واحد فقط في العالم كما سنرى أدناه.
لا يعني انقراض اللغة أو اختفائها من خارطة اللغات المتداولة مجرد غيابها كلغة للتخاطب بين أفراد المجموعة التي تتحدثها ، بل إن ذلك قد يعني في الكثير من الأحيان غياب ثقافة كاملة بغناها وتنوعها. فاللغة كما هو معلوم تمثل الوسيلة الأهم للحفاظ على الثقافات المختلفة وتساهم بالتالي في التنوع الثقافي الكبير الذي يعيشهالعالم حالياً. كما أن الحفاظ على اللغة قد يعني الحفاظ على تاريخ مجموعة بعينها خاصة وان آلاف اللغات التي تتحدثها المجموعات القبلية غير مكتوبة ، ولا شك ان القارة الأفريقية تمثل أكبر مخزون للغات المحلية على مستوى العالم. ولعل ذلك يحسب من محاسن انضمام القارة الأفريقية المتأخر لركب التقدم الاقتصادي والاجتماعي إن كان لذلك محاسن ، فالدول الأفريقية ومن بينها بلادنا تتوفر الآن على فرصة نادرةلخدمة العالم بالحفاظ على لغاتها وثقافاتها المحلية. وتأكيداً على الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه اللغات المحلية يجدر الإشارة إلى أن بعض قبائل البجة في شرق تحتفظ بسجل كامل لتاريخ القبيلة عبر ديوان الشعر الخاص بالقبيلة والمتداول شفاهة ، اباً عن جد. ولا شك أن ضياع مثل هذه اللغة يعني فقدان تاريخ القبيلة وما يرتبط بذلك من الشخصية الثقافية والحضارية لأفرادها. أدركت الدول المتقدمة أهمية الأمر ، فأقامت المؤسسات المتخصصة للمحافظة على اللغات المحلية التي يعتقد أنها في طريقها للإنقراض ، وقد شاهدت قبل عدة أسابيع على قناة الجزيرة "أمريكا" لقاء مع شخص تقول القناة أنه آخر الأحياء ممن يتحدثون اللغة المنقرضة لإحدى القبائل الهندية.ويعتبر أفراد هذه القبائل السكان الأصليون للولايات المتحدة ، وقد ورد خلال البرنامج أن عدداً من المتخصصين يعملون الآن من أجل إعادة إحياء بعض اللغات الهندية التي لم يعد يتحدث بها الناس في هذا الزمان. ولعل الأوضاع المزرية التي يعيشها الهنود الأمريكان والمشاكل العديدة التي يعانون منها تؤكد أن فقدان اللغة لا يعني فقط فقدان وسيلة التواصل بين أفراد المجموعة ، بل إن ذلك يمكن أن ينعكس بصورة واضحة على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وربما النفسية.
كما أشرت في مطلع هذا المقال فقد كانت سعادتي بالغة بمهرجان الأجنق وهي المرة الأولى التي يعقد فيها مثل هذا المهرجان بالخرطوم حسبما فهمت من تقرير الصحيفة. ولا شك أن هذه الخطوة تجد كل الترحيب باعتبارها مساهمة مقدرة نحو تعميق معرفتنا بجذورنا الثقافية وإدراكنا للثقافات التي ساهمت في خلق الشخصية السودانية. كما أن هذه الخطوة تخرج بالحديث عن التنوع الثقافي والعرقي في بلادنا من اعتباره مادة للتفاخر أو الفكاهة في مجالس الأنس إلى المجال الاجتماعي الأرحب مما يساعد على تحقيق ما ظل يدعو له الحادبون من ضرورة "الوحدة في التنوع". وليتنا نرى في المستقبل المزيد من المهرجانات للمجموعات الاثنية العديدة التي تغني تاريخ وحضارة هذا البلد بثقافاتها المحلية. كما أرجو أن تكون هذه المهرجانات فاتحة خير لجهد حقيقي من أجل الحفاظ على التنوع الثقافي والاجتماعي للسودان ، خاصة وأن هناك مجموعات نشطة ممن أسميناهم في مقال سابق "الاندماجيون الجدد" الذين يرون في ذهاب الجنوب فرصة سانحة لذوبان ما تبقى من السودان في كيانات أكبر بدعوى وحدة الأصول الثقافية. وليت الحكومة تتبنى مبادرة صادقة للحفاظ على لغات وثقافة الأقليات في مختلف أنحاء السودان فتسدي بذلك خدمة ليس للمجتمع السوداني وحسب ، بل وللمجتمع الدولي ككل. كما أننا نرجو أن نرى في إطار الصحوة التي يشهدها مجال العمل الطوعي في بلادنا والمتمثل فيما تقوم به مشكورة منظمات المجتمع المدني من يولي هذا الأمر المهم اهتمامه بالتعاون مع مراكز التعليم العالي بالسعي نحو الحفاظ على لغاتنا وثقافاتنا المهددة بالانقراض.
mahjoub.basha@gmail.com