“مهمة عسيرة تتطلب صبرا لا حدود له”: تأسيس النقابات العمالية وصراعات التنمية بالسودان (1946 – 1952م) (2/2) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

"مهمة عسيرة تتطلب صبرا لا حدود له"
تأسيس النقابات العمالية وصراعات التنمية بالسودان (1946 – 1952م) 2/2
An Uphill Job Demanding Limitless Patience. “The Establishment of Trade Unions and the Conflicts of Development in Sudan, 1946 -1952.
Elena Vezzadini الينا فيزاديني
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني والأخير من بعض ما ورد في مقال للدكتور الينا فيزاديني نُشر عام 2017م بالعدد الثامن من دورية "سياسة التنمية الدولية International Development Policy" . وتعمل كاتبة المقال أستاذة بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تمت ترجمتها للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م".
أوردت الكاتبة في مقالها الكثير من المصادر السودانية والأجنبية عن تاريخ الحركة النقابية السودانية منها على سبيل المثال كتاب لسعد الدين فوزي (1957م) ومحمد عمر بشير (1974م) وأحمد سيكنجا (1996م).
المترجم
********** ***************
"لا مفاوضات مع المخدم ولا استثناءات من الإضرابات"
وردت هذه الجملة: "لا مفاوضات مع المخدم ولا استثناءات من الإضرابات" ضمن وثائق مخابرات القسم السياسي (المحفوظ في الأرشيف القومي البريطاني) بتاريخ ديسمبر من عام 1951م.
وعلى الرغم من أن قيادة "هيئة شؤون العمال" كانت قد أدركت أن بيدها قوة فعالة وسلاحا ماضيا هو "الإضراب"، وصارت تتحدث بلغة أكثر تحديا في عام 1949م مما كانت تتحدث به في عام 1946م، إلا أنها ظلت تقصر حديثها ونقاشاتها على العمال ومطالبهم المعيشية دون الخوض في السياسة. ومع حلول عام 1949م بدأت النقابات في الانتشار بصورة واسعة في أوساط العمال الأُجَراء لأسباب لا تزال غامضة. وبدأت عمليات تسجيل تلك النقابات عقب إصدار قانون النقابات في نهاية عام 1948م، وارتفع عددها من 5 في 1949م إلى 42 بنهاية عام 1950م، وإلى99 في عام 1952م.
وفي مارس من عام 1948م انقسمت "هيئة شؤون العمال" لمنظمتين منفصلتين: نقابة عمال السكة حديد، والتي كانت تضم في عام 1951م نحو 19,000 عضوا، وغدت أكبر وأهم نقابة عمالية بالبلاد، واتحاد نقابات عمال السودان، وهي مظلة جامعة لكل النقابات العمالية بالبلاد. ورغم أن الحكومة لم تعترف باتحاد عمال السودان رسميا، إلا أن البريطانيين كانوا يعدون ذلك الاتحاد أكثر اعتدالا من "هيئة شؤون العمال"، وأسهل منها في التفاوض. وفي نهاية 1950م كانوا يرون أن اتحاد نقابات عمال السودان قد أثبت في عديد المرات أن يمثل الصوت الحكيم والمتعقل والكابح للتطرف. ولما عُقدت أول انتخاب لقيادة اتحاد العمال لم يتقدم بعض قياديي "هيئة شؤون العمال" مثل سليمان موسى والطيب حسن الطيب للترشيح (وكانا على أبوب المعاش على كل حال)، ولم يفز في تلك الانتخابات سوى 4 من 15 من قيادات "هيئة شؤون العمال" الأصلية. وكان إنشاء اتحاد جامع لكل نقابات عمال السودان له قيادة تدربت على الدفاع عن مصالح نقابات عمالية صغيرة أمرا مهما وبالغ الحيوية من أجل نشر المفاهيم النقابية (unionism). وبالفعل كانت نسبة عدد العمال المنضوين في نقابات بالسودان (نحو 70,000 إلى 120,000) مقارنة مع عدد العمال الكلي بالبلاد (150,000 – 200,000) نسبة كبيرة بل مذهلة، خاصة إن قورنت بالأرقام المسجلة في مصر عام 1944م. فقد كانت بمصر آنئذ 350 نقابة مسجلة تضم 120,000 عاملا، مع ملاحظة أن سكان مصر كانوا أكثر من ضعف عدد سكان السودان، والصناعة فيها أكثر توسعا وانتشارا.
وشملت نقابات عمال السودان المسجلة عمال القطاعين العام والخاص، ومعلمي المدارس الأولية، والعاملين بمصلحة البريد والبرق وعمال المخابز والخياطين وخدم المنازل، وعمال بعض الشركات الخاصة مثل شل وجلاتلي هانكي (أكبر شركة شحن بحري في بورتسودان).
وعلى الرغم من أن المستعمرين كانوا يرون أن اتحاد عمال السودان كان أكثر "تعقلا" من هيئة شؤون العمال، إلا أن أعداد الإضرابات وأيام العمل الضائعة ازدادت عما كان عليه من قبل. وطالب اتحاد عمال السودان الحكومة في يناير 1950م بزيادة قدرها 75% في الرواتب الأساسية. ولم يجد السكرتير الإداري روبرتسون وصفا لذلك الطلب سوى أنه "طلب رائع جدا!" ورفض الطلب. ودعا ذلك الرفض لإعلان اتحاد عمال السكة حديد عن إضراب بين يومي 5 – 7 مارس. وشارك غالب العمال في ذلك الإضراب (بنسبة بلغت 100% في الخرطوم). وقامت أيضا بعض النقابات الصغيرة بإضرابات في ذات الأيام. وفي يوم 23 أبريل قامت نقابة المُضمِّدين (medical dressers) بإضراب لتحقيق مطلبهم بتحديد يوم العمل بثمان ساعات لا تزيد. وفي نفس اليوم أضرب أفراد نقابة عمال شركة النور والطاقة. وفي أكتوبر من ذات العام أعلنت نقابة المُضمِّدين عن أضراب آخر. ويجب أن نذكر أن كل النقابات كانت قد أعلنت عن إضراباتها تلك ونفذتها قبل أن تحاول الدخول في مفاوضات مع أصحاب العمل. وقام العمال بإضراب عام آخر في 5 إلى 8 أغسطس 1950م احتجاجا على مشروع قرار أصدرته في شهر مايو الجمعية التشريعية لزيادة المرتبات وعلاوة غلاء المعيشة (الجمعية التشريعية هي أول مؤسسة تشريعية في السودان بالمفهوم الحديث للمؤسسات التشريعية أقامها المستعمر في عام 1948م لتمهد الطريق لتقرير المصير للسودانيين). وعد العمال تلك الزيادة غير كافية. غير أن السكرتير الإداري روبرتسون في نوفمبر من ذات العام قلل من شأن ذلك الاضراب وصرح بأن تلك قيام الإضرابات هو خطوة ضرورية في طريق التعلم لإجراء مفاوضات عمل "صحيحة".
وأقيمت بين يومي 15 و21 نوفمبر انتخابات جديدة لقيادة اتحاد العمال قام فيها 160 مندوبا يمثلون 48 نقابة بانتخاب عاملين كانا يُعدان من أصحاب الاتجاهات الراديكالية وهما محمد السيد سلام والشفيع أحمد الشيخ، كرئيس وسكرتير للاتحاد، على التوالي. ووصف السكرتير الإداري روبرتسون العضوين المنتخبين في رسالة منه إلى أحد البريطانيين (اسمه الن) بأنهما "من الثوريين الذين يستخدمون تعابير شيوعية". وسبق للشفيع أن كان عضوا في اللجنة التمهيدية لـ "هيئة شؤون العمال"، وسكرتير عاما لنقابة عمال السكة حديد.
وقام اتحاد العمال بنقل رئاسته من أتبرا للخرطوم، وغير اسمه إلى "اتحاد نقابات عمال السودان". وتغيرت مع ذلك لغة ذلك الاتحاد وصارت هي نفس اللغة التي كان العمال يعبرون فيها عن توجهاتهم المعارضة للاستعمار، والمؤيدة لمصر أو للشيوعية. وكان ذلك ما دعا الخبير البريطاني اودسيلي (الذي كان يدافع عن النقابات في كثير من المواقف) للتعبير عن سخطه عن تغير اتجاه اتحاد نقابات عمال السودان ووصفه بأنه "تطور ينذر بشر قادم"، وعزاه لميول قادة الاتحاد الديكتاتورية والراديكالية الشيوعية، ولظنهم أن بمقدورهم أن يفعلوا ما يحلو لهم. ومن الأمثلة على ذلك أن قيادة اتحاد العمال الجديدة هددت بالقيام بإضراب عام إلا إذا تراجعت الحكومة عما أصدرته من قانون اسمه "قانون الدفاع عن السودان defence of the Sudan ordinance" كان يتضمن مرسوما مضادا للشيوعية. وكان قادة الاتحاد يرون أن ذلك المرسوم قد فُصل تحديدا لاستهداف قادة اتحادهم، وبعض طلاب مدرسة خور طقت الثانوية (وكان طلاب تلك المدرسة قد تظاهروا بسبب سوء أحوالهم في المدرسة في بداية عام 1951م. وفصل 76 من طلاب المدرسة البالغ عددهم 119 طالبا، وتم إرجاعهم لاحقا. وكانت الحكومة تؤمن بأن المدرسين الشيوعيين بخور طقت هم من دفعوا أولئك الطلاب للاحتجاج). وفي نهايات عام 1950م، وبينما كانت المفاوضات مستمرة – دون نتيجة – بين الحكومة واتحاد نقابات العمال، أعلن رجال مطافئ السكة حديد عن إضراب مفتوح احتجاجا على سوء ظروف عملهم. وكان صبر مسؤولي الحكومة الاستعمارية وقتها قد كاد أن ينفد من تلك السلسلة الطويلة من الإضرابات المتوالية التي كانت تصاحبها تهديدات. وقامت الحكومة بـ "التعامل الحازم مع تلك التهديدات"، وتلخص ذلك "التعامل الحازم" في اعتقال قادة الاتحاد مرة أخرى. وفي نهاية شهر ديسمبر وجهت الحكومة تهمة القذف والتشهير (defamation) للشفيع أحمد الشيخ مع خمسة من أعضاء نقابة عمال السكة حديد، وقدموا للمحاكمة وادينوا بما اتهموا به. وفي يوم إعلان الحكم أعلنت نقابة عمال السكة حديد فجأة عن إضراب عام لمدة ثلاثة أيام (بين 27 – 30 ديسمبر)، على الرغم من أن اتحاد عمال السودان لم يؤيد قيام ذلك الاضراب لعدم احترامه لقاعدة إعطاء المخدم إنذارا مدته 15 يوما قبل البدء في أي إضراب. وقامت الشرطة في ذلك الاثناء باعتقال 52 من عمال السكة حديد، غير أنها سرعان ما أطلقت سراحهم.
وفي تلك الأيام بدأت عدد من النقابات المنضوية تحت مظلة اتحاد نقابات العمال تتضايق من الاستراتيجية التي كانت تنتهجها قيادة اتحادهم. فقد كان ذلك الاتحاد قد أعلن عن إضرابين في غضون ثلاثة أشهر (في 17 فبراير و23 إبريل 1951م) مطالبا بزيادة المرتبات بنسبة 75%. وقال البريطانيون إن الإضراب الأول لم يجد استجابة كبيرة من العمال، إذ أن كثيرا من النقابات كانت تعارضه. أما الإضراب الثاني فقد عارضته بصورة قاطعة 20 نقابة من بين 43 نقابة تشكل الاتحاد. وكان هذا مما ضاعف من آمال الحكومة في أن تُفقد "استراتيجية العناد" هذه اتحاد العمال نفوذه في أوساط القوى العمالية المعتدلة.
وفي خلال الشهور التالية تكرر نفس نمط الأحداث السابقة. وقامت الحكومة باستخدام القوة، ليس مع جميع النقابات، بل مع أفرادٍ بعينهم فيها، وكانت "حازمة" مع قادة بعض النقابات، و"حليمة" مع بقية أعضائها. بيد أن ذلك السلوك والتوجه (الانتقائي) لم يفض إلا لزيادة الاحتجاجات الشعبية. ودفع التضامن الشعبي العام الذي لقيه اتحاد العمال قادته نحو مزيد من الراديكالية، دون أن يعوا تماما أن أعضائه لم يكونوا على استعداد للسير خلفه في تسيسه لقضاياهم (الحياتية).
وفي يونيو من عام 1951م قامت الشرطة بإضراب (وصفته الحكومة بالتمرد). ووجدت الحكومة في ذلك الاضراب ذريعة لاعتقال "الشيوعيين" من قادة اتحاد العمال (وهما محمد السيد سلام والشفيع أحمد الشيخ) على الرغم من أنه لم يكن لهما دور في تقرير ذلك الإضراب أو تنفيذه. وأزكى الحكم بالسجن على الرجلين بتهم مشكوك في صحتها من حدة موجة احتجاجات شعبية جديدة. وأعلن الاتحاد عن إضراب جديد (أيام 26 إلى 29 أغسطس) شارك فيه نحو ثلثي النقابات بالبلاد. وسار عمال الخرطوم في مسيرة صامتة وهم يحملون لافتات كتب عليها: "عاش كفاح العمال". وتعد تلك مسيرة مهمة تاريخيا نسبة لمشاركة النساء فيها. وأوردت وثيقة محفوظة بمقر الارشيف الوطني البريطاني تفاصيل مشاركة ممرضات مستشفى الخرطوم في تلك المسيرة الصامتة، وذلك في برقية بريطانية أشارت إلى أن تلك "كانت هي المرة الأولى في تاريخ السودان التي تشارك فيها النساء السودانيات في مظاهرات عامة".
وفي ديسمبر من عام 1951م بلغت الراديكالية والتطرف السياسي في أوساط اتحاد العمال مداها. ففي الانتخابات التي أجريت بين يومي 16 و21 ديسمبر تمت إعادة انتخاب القائدين العماليين المسجونين غيابيا، وتم أيضا تغيير بعض مواد دستور الاتحاد بعد موافقة غالب الأعضاء. وتضمن ذلك التعديل "السماح للاتحاد بالنشاط السياسي، والاعلان عن برنامج لإنهاء كل أشكال الاستعمار (الإمبريالية) بالسودان، والاحتفاظ بحق تقرير المصير. ويتمثل الطريق لتحقيق ذلك بعدم التعاون مع أي شكل من أشكال الاستعمار (الإمبريالية)، وتكوين جبهة مشتركة تضم كل المنظمات السياسية التي تحمل ذات الأهداف ...". وأعاد الاتحاد مطلبه بزيادة كل المرتبات بنسبة 75%، وقرر القيام بعدة إضرابات (لمدة 3 و4 و5 أيام، على التوالي) يفصل بين كل واحد منها أسبوعان.
وكانت تلك التعديلات تخالف القانون الذي يحكم عمل اتحاد نقابات عمال السودان، خاصة فيما يتعلق بالنشاط السياسي، إذ أنه كان يعني أن مجال عمل الاتحاد قد غدا الآن هو النضال ضد "الإمبريالية" عن طريق الإضرابات. ولخصت إحدى شعارات الاتحاد الجديدة ذلك الموقف: "لا مفاوضات والإضراب هو السلاح الوحيد". وعند ذلك المنعطف جسد اتحاد العمال أسوأ سيناريو محتمل للبريطانيين، فقد كان نقيضا لما يقولونه عن أنفسهم، من أنهم "أدوات تقدم وتنمية تهدف لترقية المجتمع بتعليم وتدريب عماله على كيفية الدفاع عن مصالحهم، وأن يغدوا منتجين جيدين". وعوضا عن ذلك "وقعت النقابات في أيدي عُصْبَة تعادي الاستعمار، وتسير خلف ركاب الشيوعيين، وترى في التقدم والتنمية محض حيلة امبريالية".
وفي بدايات عام 1952م شرع اتحاد نقابات العمال في تطبيق استراتيجيته (الجديدة) التي تقضي بالمواجهة المباشرة، وأعلن عن عدد من الإضرابات القصيرة المتوالية، كان أولها بين 20 – 23 يناير، وثانيها في يوم 23 مارس، واستجابت للإضرابين كل النقابات بصورة كاملة، رغم أن التأييد الشعبي للإضراب الثاني كان أقل مما لقيه الإضراب الأول. غير أن الأمر تغير عند الإعلان الثالث. فقد كان القائد النقابي محمد السيد سلام قد خرج من السجن في الثالث من أبريل. إلا أنه سرعان ما أُعتقل مجددا بتهمة إلقاء خطاب "مهيج" ضد الاستعمار. وإثر ذلك أعلن اتحاد العمال عن إضراب عام مفتوح ابتداءً من الثالث من إبريل. ولم توافق نقابة عمال السكة حديد (أكبر نقابة بالبلاد) على المشاركة في ذلك الإضراب لأنه لم يلتزم بتقديم إنذار للمخدم قبل 15 يوما من بدء الاضراب كما هو منصوص عليه في القانون. ورد اتحاد العمال بأنه غير ملزم بالانصياع لقانون استعماري. ولم يجد ذلك التبرير موافقة من غالب النقابات الأخرى. وبدا أن اتحاد نقابات العمال قد بدأ في فقدان تأييد العمال. فقد كان الاتحاد قد دعا لذلك الاضراب قُبَيل يوم صرف المرتبات، ولم يكن لدى العمال من المال ما يجعلهم يصمدون في إضراب مفتوح لا يدرون متى سيُرفع. إضافة لذلك لم يكن قادة كثير من النقابات راضين عن الطريقة التي أعلن بها اتحاد العمال عن إضراب مفتوح عام دون أخذ مشورتهم، وزاد ذلك التجاهل من شعورهم بالغبن تجاه المنحى الديكتاتوري عند قيادة اتحاد العمال. وعملت الحكومة – بدهاء – على تشجيع تلك الشكوك في أذهان قادة تلك النقابات، واستغلت راديكالية اتحاد العمال، والفترة التي قضاها القائد النقابي (بنقابة عمال السكة حديد) محمد السيد سلام في السجن لفتح الطريق لترشيح وانتخاب عبد الله بشير، المعروف بعداءه للشيوعية وقلة تعاطفه مع الاتحاد.
ورغم كل ما لقيه الاضراب من معارضة من جهات نقابية مختلفة، إلا أن الاتحاد أصر على القيام به. وردت الشرطة على الفور باعتقال 12 فردا من أعضاء الاتحاد، وقامت بحملات تفتيشية على منازلهم وزعمت أنها وجدت بها بعض المكاتيب الشيوعية. وأعلنت الحكومة أنها ستقوم بفصل أي عامل لا يباشر عمله المعتاد في الأول من مايو (وفي هذا رمزية لا تخفى، فهذا اليوم هو يوم "عيد العمال"). وتم رفع الاضراب في الثلاثين من أبريل. وفي الحادي عشر من مايو اعتقلت السلطات 17 عضوا آخر من أعضاء اتحاد العمال، وحُكم على 11 منهم بالسجن لعام كامل. وأدى فشل ذلك الاضراب لظهور قوى معتدلة في أوساط النقابات، والعودة إلى نهج المفاوضات (من أجل حل النزاعات العمالية). وأهم من ذلك، فقد بدا أن السودان كان في طريقه لنيل حريته، بعد أن قام محمد نجيب بانقلابه في مصر عام 1952م. وطالب الساسة السودانيون الذين كانوا يقومون بالتحضير لقيام حكومة تحرر وطني العمال بالتعاون معهم وذلك بتعليق الإضرابات. وهذا ما حدث بالفعل، إذ لم يقع أي إضراب في الفترة بين عامي 1953 و1956م.
وأود في الختام أن أحلل في إيجاز مسألة "شيوعية اتحاد العمال". فهنالك كما هو واضح الكثير من الخلط بين حركة العمال وبين الشيوعية، إلا أن الآراء حول ذلك ليست على اتفاق. ونشر محمد نوري الأمين الكثير من الأوراق الاكاديمية حول تأثير الشيوعية على المثقفين وطلاب المدارس الثانوية بالسودان (نُشرت تلك الأوراق بين عامي 1986 و1999م في دوريات غربية مثل Middle Eastern Studies و International Journal of Middle Eastern Studies وغيرها. المترجم). غير أن تلك الشريحة (المتعلمة) من السكان كانت مختلفة جدا عن العمال اليدويين الأجراء. لا يعتمد أساس ذلك الاختلاف بالضرورة على مستوى التعليم (أو الأمية)، فقد كان العمال المهرة (من خريجي مدرسة الصنايع) يكتبون ويقرأون، ولكن كان ذلك الاختلاف يعتمد على هويات الكيان المهني ؟ corporate identities والفئات المهنية - الاجتماعية socio professional categories التي ينتمون إليها. ومعلوم أن مؤسسي وقادة أول المنظمات الشيوعية بالسودان (مثل الحركة السودانية للتحرر الوطني، حستو) كانوا من الصفوة المتعلمة وليسوا من الأعضاء العاديين في اتحاد عمال السودان.
وفي إبريل من عام 1951م تمت أول محاكمة للأفراد المتهمين بالشيوعية (تحت قانون دفاع السودان)، ووجهت التهمة لـ 21 شخصا، بينما أطلق سراح ستة أشخاص كان من بينهم محمد السيد سلام رئيس اتحاد نقابات العمال وذلك لتعذر إثبات أنه عضو بالحزب الشيوعي السوداني، بينما لم ينكر قاسم أمين والشفيع أحمد الشيخ ما نُسب إليهما من انتماء حزبي. وكانا قد اتجها نحو الشيوعية لأنهما في المقام الأول كانا يناضلان ويعاديان الاستعمار بأكثر من إيمانهما بالأيديلوجية الشيوعية. وقد وجدا في ذلك الحزب إطارا فيه من الراديكالية والثبات على المبدأ ما يكفي ليناسب آرائهما.
وننقل هنا عن وثيقة محفوظة بمقر الارشيف الوطني البريطاني لبعض ما ذكره السكرتير الاداري روبرتسون عام 1951م، وذاك لإلقاء المزيد من الضوء على الفهم الذي غدا به قادة اتحاد عمال السودان من الشيوعيين:
(يبدو أننا لسنا سعداء بالخلط الحادث عندنا في معنى "الشيوعية". هنالك نوعان من الشيوعية (والشيوعيين) في السودان: النوع الأول هم الذي يؤمن بها من ناحية نظرية وايديلوجية، وهؤلاء من خريجي المدارس العليا؛ والنوع الثاني هم الجهلاء المصابين بعقدة النقص التي نبعت من مشاعر "الكره والخوف التي تجتاح بسرعة أفريقيا حاليا". وأفضل أن أسمي هؤلاء بـ "الثوريين". فالنوع الأول هم شيوعيون حقيقيون، ونعرفهم ونقابلهم في كل مناحي الحياة، خاصة المدرسين منهم في مدارسنا... وعلى سبيل الخطأ نطلق هنا دوما على "الثوريين" صفة "شيوعيين"، ولكني لا أرى أي رابطة بينهما إلا إذا ثبت أن هنالك ما يربطهما فعلا في أمور مثل التمويل أو البيانات المشتركة ...).
لقد كان من السهل بالفعل الوقوع في الخطأ والخلط بين "نوعي الشيوعية" المذكورة في تعليق السكرتير الإداري أعلاه، الذي يُعد التصريح به أمرا نادرا (في السودان). ولعل مرد سهولة ارتكاب ذلك الخطأ يرجع للغة التي كان يستخدمها اتحاد نقابات عمال السودان (حتى في دستوره ولوائحه)، إذ أن أسلوبها يبدو راديكاليا متطرفا جدا، ويشبه (بل هو مأخوذ) من أدبيات الشيوعيين. غير أن الرابطة والعلاقة الحقيقية بين نخبة السياسيين الشيوعيين والعمال (الأجراء) لم تكن سهلة البتة، على الأقل في سنوات الخمسينيات الباكرة. ففي عام 1952م سعى قادة اتحاد العمال للتواصل السياسي مع (حستو). غير أن الأدبيات التي نُشرت عن ذلك الأمر أوضحت أن ذلك التواصل كان خطأً استراتيجيا، إذ أن غالب العمال لم يكونوا من المتعاطفين مع ذلك الحزب. وسنحتاج لمزيد من البحث لنفهم أسباب استخدام العمال للغة راديكالية متطرفة في مفاوضاتهم مع أصحاب العمل، بينما هم يصوتون دوما للأحزاب التقليدية في الانتخابات. ولكن يمكن الآن الزعم بأن العمال كانوا ينصتون باهْتِمامٍ بالِغٍ للغة ذات الصبغة الشيوعية عندما يتعلق الأمر بالعمل. وكان كثير من العمال يعملون في خدمة بريطانيين أو أوربيين، وكانوا يكابدون شظف العيش بسبب اقتصاد عالمي تتحكم فيه القوى الاستعمارية، ويسكنون في أحياء فقيرة بائسة تنعدم فيها الخدمات تماما. غير أن من كان يعبر عن كل تلك المشاكل الحياتية اليومية هو "المتعلم النخبوي" الذي لا صلة له بحياة أولئك العمال. ولعل هذا ما يجعل من الصعوبة على العمال الثقة في تلك النخبة.
الخلاصة
1. هدفت هذه الورقة لرسم صورة للخطوات التي أدت إلى مولد الحركة العمالية بالسودان.
2. وضح أنه كانت هنالك خلافات بين حكومات حزب العمال ببريطانيا وحكومة السودان فيما يتعلق بحماية حقوق العمال والتنمية والتطور بالسودان. وأثبتت الأحداث لاحقا أن تخوف حكومة السودان من تحول الحركة العمالية إلى حركة راديكالية تطالب بإنهاء الاستعمار بأعجل ما تيسر كان صحيحا.
3. كان من أسس الحركة العمالية السودانية هم مجموعة (عمالية) معتدلة كانت خبراتهم التنظيمية لا تتعدّى تنظيم الأنشطة الثقافية في الأَنْدِيَة الاجتماعية.
4. كانت استراتيجية نقابات العمال السودانية هي المواجهة والتصادم مع المخدم وليس المفاوضات (حول الأجور وظروف العمل الخ)، وهي نفس الاستراتيجية التي تبنتها قبلهم النقابات المصرية. وهذا ما حول العمال لنشطاء سياسيين شرعيين لأول مرة في تاريخ السودان. وجلب تعامل الحكومة العنيف مع قادة الحركة العمالية لها نتائج لم تكن تتوقعها. وكان المسؤولون بالحكومة يرون أنهم قد مدوا حبال الصبر طويلا لقادة الحركة النقابية، وحاولوا تعليمهم وتدريبهم على كيفية إدارة نقاباتهم إدارة جيدة، وكانوا يعجبون من أن جهودهم تلك لم تقابل إلا بالمزيد من الاحتجاجات العمالية. وهذا ما ألجأهم لاستراتيجيات أتت بغير المراد منها (مثل محاكمات قادة النقابات).
5. أوضحت الوثائق المحفوظة في مقر الارشيف الوطني البريطاني (في كيو Kew ) الكثير من المعلومات عن تاريخ قيام الحركة العمالية بالسودان، التي كان المستعمرون يحرصون على إبقائها سريةً خشية إظهار قلة خبرة الإداريين البريطانيين في التعامل مع ما واجههم (في غضون سنوات الصدام مع نقابات العمال بالسودان).
6. أخيرا، شملت التطورات غير المتوقعة في تاريخ الحركة العمالية استنفاد استراتيجية العمال القتالية، خاصة بعد وقوع قادة بعض النقابات في أخطاء فادحة (أهمها أن مشاكل العمال واحتياجاتهم لم تعد قضيتهم المركزية).

 

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء