مهنة في محنة (1): الصحافة السودانية وعصر الكَبَدْ
ما أشبه ليلة الصحافة ببارحتها الاستعمارية..
العنف الرسمي تجاه الصحافة والصحفيين بذرته الإدارة البريطانية، ومضت عليهالسلطة الوطنية..
لجنة "الكومينيكيشن أوفيس" هي الأصل، ومجالس الصحافة المتوالية هي الحفيد..
الرضى عن الصحافة الموالية، والتولي عن المعارِضة مبدأ استعمار مضى عليه الآخرون
قانون 30‘ هو الأصل ومنه نسخت الحكومات مواد المنع في كل قوانين الصحافة
"رخصة الصحافة" بدعة مستعمر لمنع الوطنيين غير الموسرين امتلاك الصحف
واقع الكبد الذي تعيشه صحافتنا اليوم له جذور..
فنبتة العنف الرسمي تجاه الصحافة والصحفيين بذرت بذرتها الإدارة البريطانية، ومضت على دربها السلطات الوطنية المتوالية من بعدها..
ولن يسهل فهم الواقع الذي تعيشه صحافة اليوم إلا بالعودة إلى ماضي التكوين الأول.. وقراءة تاريخ الصحافة قراءة صحيحة. وفي صحيح القراءة للتاريخ، لا ينبغي أن تستوقفنا تلك العموميات المجترة عن "دنقلا نيوز" ، وأدوار حسن صبحي، ومقولات حسين شريف الشهيرة حول " شعب بلا صحيفة أمة بلا لسان"؛إذ لابد للقارئ الحصيف من قراءة أعمق لتفكيك واقع العلاقة بين السلطة والصحافة،والتي كانت آلام مخاضها قد بدأت في الاهتزاز في رحم الأمة،بعد أن نزل خريجو غردون الرواد ساحات العمل، فوجدوا أنفسهم مسوقين بدوافع الانتماء تجاه ساحة السياسة..
فما إن جلسالرواد الخريجون في مقاعد (السي إس)، حتى امتدت أيديهم نحو الاقلام يسودون صفحات الصحف –الوثيقة العلاقة بالإدارة البريطانية- بالأقوال الوطنية الغرض ..والمطالب المتطلعة إلى "التمكين".. لكل الوطن وكل مواطنيه بالطبع..
ولما كانت تلك "شنشنة" وطنية تعرفها السلطة الإدارية البريطانية منذ أناخت على العالم العربي، فقد كان سبيلها الأوحد هو وضع الكوابح أمام اندفاع الوطنيين الذي كانت تدرك الإدارة أنه لا ريب قادم...فما كان من أمرها إلا السعي نحو تسييج المهنة التي تعرف بحكم حقيقتها قوةًامبريالية، أن الوطنيين سيركبونها سبيلاً للتنوير والتبصير ومن ثم ...المناجزة. فابتدعت السلطة من يومها، شتى الأساليب المساعدة على شكم الصحافة ولجمها..
***
"السودان" (الصحيفة) هي ولا شك الخيط الأول في نسيج العلاقة الموثقة بين السلطة والدولة في السودان.. فقد نشأت صحيفة الفرسان (غير السودانيين) الثلاثة في كنف الدولة واستظلت بجناحها، واعلنت مطلق ولائها للدولة، فنالت منها الأعطيات: إعلانات كثر وبعض مال مباشر... ولم تتردد الإدارة البريطانية – التي تنتمي بالاصالة لبلد لا يعترف بصحافة تملكها الدولة الصحافة - أن تعلن في خطاباتها الرسمية، تلك الصحيفة باعتبارها انجازاً حكومياً يقرظ أفعالها ويخذل عنها معارضيها.
أما "السودان ستار".. فإنها صحيفة لم تستحِ الإدارة البريطانية في تأكيد الصلة بها، فهي تصدر من "الكومينيكيشن أوفيس" لتصل الحاكم بالمحكوم وتخاطب بإنجازات الإدارة،الناطقين بغير العربية..
وكانت تلك "النجمة" ومعها "السودان " هما علامة التخلق الأول لعلاقة الصحافة بالسلطة في السودان...
لقد ولدت "السودان" العربية، وشقيقتها غريبة اللسان "النجمة"، من رحم الدولة ورضعا من ثدييها. صحيح أن الصحيفة العربية (السودان) كانت موسومة بوسم مصري نتيجة ذلك الوضع الاستثنائي الذي بدت فيه مصر وكأن لها في حكم البلاد باع، إلا إنها –ولذات السبب- ظلت موضع ريبة وشك من المستعمر الأصيل، فباعد بينه وبينها حتى انذوت...
أما "الاستار"، فقد قويت وازدهرت بحكم انتمائها الصلب للمكتب الأقوى (الكومينيكشن أوفيس) والذي كان إدوارد عطية – المخابراتي الأول- من كبار إدارييه. وكان من بين صحفيي "الاستار"، إثنان من شباب السودان الواعد بالتمكن الصحفي، بشير محمد سعيد ومحجوب محمد صالح، لعلهما كانا شاهدين بالأصالة على تخلق الصحافة السودانية في خلايا جسد السلطان، ولعلهما أيضاً عايشا أثر القبضة الرسمية السالب على الصحافة المطلوب منها أن تكون العين واللسان. فقد انسحب الإثنان بعد زمان قصير إثر خلافٍ مع المكتب الإعلامي وقيادته المنسوبة إلى الإدارة البريطانية.
فما اشبه الليلة بالبارحة
***
"شيخ" عبد الرحمن أحمد، معلم (حلفاوي) غردوني التعليم، عشق الصحافة ومارسها رغم انشغاله بمسئولياته التعليمية، رأي في نفسه كفاية دعته للسعي نحو امتلاك صحيفة في عشرينيات ذلك الزمان الذي بدأت تربة الوطن فيه تنبت حبات صحفٍ هنا وهناك..
ولكن عين الإدارة الأنجليزية لم تكن كليلة عن عيوبذلك الحلفاوي: فهو يساري النزعة، مصري الهوى.. وهو بالقطع لن يبقى على خط الأدب كما ذكر في طلب التصديق له بالصحيفة..
ويصلح "شيخ"عبد الرحمن أحمد نموذجاً لما بدأت – وظلت من بعد ذلك- عليه علاقة السياسة بالصحافة في بلادنا..
فقد تقلب طلب شيخ عبد الرحمن أحمد على جمر المماطلة والتسويف لسبع سنوات.
تداولت أعلى السلطات السياسية أمر صحيفته: الحاكم العام، والسكرتير الإداري ومدير المخابرات
اشترط عليه –إن تم التصديق له- أن يخضع كل مقال مكتوب للرقابة الرسمية
رفض له أن يكون رئيساً للتحرير لكونه لساناً سليقاً للانجليز
ثم رد طلبه لكونه لا يملك القدرة المالية لإصدار الصحيفة (مائة جنيه رخصة الإصدار)..
ثم رفض طلبه باعتباره ممارسة لوظيفة فوق وظيفة
سبع سنوات من الصبر الجميل لشيخ عبد الرحمن أحمد، ومن التسويف والتردد ووضع المتاريس من الإدارة البريطانية... بعدها نالت صحيفة السودان رخصتها ..
فما أشبه الليلة بالبارحة...
***
ماذا جنت صحافة المصادمة للإدارة البريطانية الحاكمة في سنوات التكوين الأول؟..
من الرأئد،إلى الفجر، وحتى صحافة الأحزاب الوليدة، كانت العلاقة بين الدولة والصحافة علاقة دقَّتْعطرَها ،على الدوام، منشمٌ...
فقد طُرد صبحي من البلاد لاصطفافه في صف التطلع الوطني بحكم الإخوة التاريخية واللسان المشترك..
وحين تسنم الريادة في الرائد حسين شريف، لم تنس الإدارة البرطانية أن الرجل بانتمائه وأصوله، لن يكون صوتاً مسانداً لها، فحوصرت الرائد، وخُنقت حتى انتهت بالاستسلام ونعي الذات، بما صار صيحة أطلقها رئيسها الشريف بدعوة السودانيين إلى امتلاك اللسان.
وحين بزغ نجم الحضارة، في استجابة وطنية رائعة لصيحة شريف، كانت هيبة الثلاثة الكبار – الميرغني والمهدي والهندي- هي الأساس في تبادل الرضى بين الإدارة والصحافة. فصارت الحضارة في وقت وجيز، نصف لسان الإدارة، وكل بلاتفورمها الناطق بالعربية.
وكان الرضى الرسمي المثخن بالمكافآت للحضارة المنافحة عن الموقف الرسمي، يقابله عبسٌ وتولٍ عن "الرائد" المعادية للإدارة باللسان والموقف.. فتضخمت الحضارة حتى تمكنت، وضمرت الرائد حتى لم تعد.
اما "الفجر" ، التي كانت فجراً انبثق بعد أن بقي صوت المنافحين عن الإدارة وحده في الساحة، فقد جاءت وبينها والسلطة كثير شك وريبة، فقد كان المثقفون والمستنيرون من السودانيين هم لحمة الفجر وسداها، تسود اقلامهم الصحيفة على الدوام . وحينما كشفت الفجر عن حقيقة توجهها السياسي، بعد أن كانت قد أعلنته ثقافة وآداباً. صارت أعمدة الصحيفة أعمدة من لهب، تهاجم الطائفية والعشائرية ( ومساندها الأساس، الإدارة البريطانية) بشراسة، وتنافح عن حق الوطن والوطنيين المستنيرين في تقرير مصير بلادهم بقوة. وبقيت الفجر صوتاً يناهض بالكلمة المستعمر والمدافعين عنهم.وكان لسانها السليط، سبباً من أسباب الإسراع بقانون الصحافة الأول في ثلاثينيات القرن الماضي، ليكون ذلك القانون علامة فارقة ، بها خطت بلادنا أول الخطى على درب كبح الصحافة بالقوانين واللوائح والعقوبات.
فما أشبه ليلة القوانين ببارحتها..
***
لما أخذ لسان الصحافة الوطنية في سلق الواقع المعاش- سياسة واجتماعا- تحت كنف المستعمر، لم تجد الإدارة البريطانية بدا ً من التنازل عن مبدإٍ من مبادئ الدولة العظمى التي ظلت بها تبشر: الحريات الأوسع للناس في كل البلدان تحت شمسها، ومن ثم أخرجت من جعبتها الترياق الموائم لكبح جماح الصحافة السودانية: قانوناً لتقييد الصحافة،هو قانون 1930، وهو القانون الذي صار الأب، بل والأم، لكل القوانينالتي تلته، مع بعض تعديل هنا وهناك ، بعد كل مرحلة...
ولو أردنا تلمس صلة القانون الأب (قانون 30) بالقوانين السودانية التي جاءت من بعده، فلن نضل كثيراً..
القانون الأصل، أعطى حق رفض الترخيص وتعليق الترخيص وسحب الترخيص (للجنة الاتصال العام )، كما فعلت من بعده القوانين بعد تعديل الجهة صاحبة الحق حسب مقتضى الحال..
القانون الأصل ، أعطى الدولة حق مصادرة المكاتب والمطابع، كما فعلت من بعده القوانين.
القانون الأصل، حدد 100 جنيها ثمناً للرخصة، ثم رفعها 500 جنيها (في تعديل 1946)، كما فعلت من بعده القوانين بما يتناسب وواقع الزمان.
القانون الأصل (في تعديل 1946) أعطى الدولة حق الرقابة القبلية، كما فعلت من بعده القوانين.
القانون الأصل استوجب الإفصاح عن المصادر أو التعرض للعقاب، كما فعلت من بعده بعض القوانين.
القانون الأصل منع نشر الموضوعات المناهضة للحكم،كما فعلت من بعده القوانين.
القانون الأصل منع نشر إثارة الكراهية للإدارة البريطانية للسودان، كما فعلت من بعده القوانين بعد استبدال "الإدارة البريطانية" بما يناسب واقع كل حال.
لم يسكت الصحفيون الرواد على القانون يوم صدر عام 1930، فقد كتبوا وأعلنوا سخطهم وطالبوا بتعديل مواد المنع بما لا يعيق دور الصحافة في الرقابة...
وطالب الصحفيون بأن يكون لهم قول أو بعض قول فيما يتعلق بصلة الصحافة بالدولة..
فلم تستمع الإدارة البريطانية إليهم إلا قليلاً..
فما أشبه الليلة بالبارحة..
***
ما أشبه ليلة الصحافة السودانية ببارحتها..
"الكومينيكيشن أوفيس" ولجنة الصحافة تحت الإدارة البريطانية هو في منظومة السودان اليوم خليط من وزارات الإعلام، ومجالس الصحافة والمطبوعات، ولجنة الصحافة بوزارة الداخلية، وأقسام الصحافة بأجهزة أمن الدولة المختلفة..
ترخيص الصحافة ، بمقاصد تصاعد المطلوبات الماليةفيها، التزام بالمواربة بمبدأ إبعاد غير المقتدرين عن طريق النشر.
قائمة العقوبات والمعاقبة في قانون 2009 ، وما قبله من قوانين، بل وقانون 20111 الذي ما زال ينتظر، كلها تعود أصولها إلى قانون 30‘ ، ثم تزيد عليه بما يوفره التطور الطبيعي لأساليب منع الكلمة وقمعها في العالم.
تقريب المُوالي وإبعاد المعارض، بالمباشرة أو المواربة، لا يزال هو السلوك المستحب الذي سار فيه المستعمر، فمضى عليه من بعده المتعاقبون...
فما أشبه ليلة الصحافة ببارحتها.
mahmoudgalander@yahoo.com
////////