مهنة … في محنة (12): الإنقاذ والصحافة .. بدايات مضطربة

 


 

 

الإنقاذ والصحافة .. بدايات مضطربة

كونت الإنقاذ لجنتها الإعلامية وحلتها خلال أيام

جاءت صحافة الإنقاذ الأولى منسوخة من المايوية

خشيت ارتداد السهام، فرفضت عودة الصحافة الحرة والخاصة

عاشت الإنقاذ ولا تزال حالة "رهاب الصحافة المستقلة"

د. محمود قلندر

بعد أسبوع من سقوط الديمقراطية الثالثة باستيلاء الجيش على السلطة في يونيو 89، كانت الساحة الوطنية تضج بالقول عن التدبير الإسلامي لانقلاب الثلاثين من يونيو. وفي الوقت الذي كان الإسلاميون يحاذرون الجهر بانتماء الانقلاب لهم، كانت الشواهد والدلائل تترى حول هوية الانقلاب والمنقلبين على الديمقراطية.

وخلال الأسابيع الأولى من  تلك الأيام الشواهد، كونت الإنقاذ ما عرف يومها "باللجان" والتي بدت يومها وكأنها بدائل مؤقتة تملأ فراغ غياب المؤسسات والقيادات التنفيذية (الوزارات والوزراء). وكانت اللجان الأربعة هي لجنة الامن التي أوكلت رئاستها للعميد الزبير محمد صالح ، واللجنة السياسية التي أوكلت رئاستها للعميد عثمان محمد الحسن، واللجنة الاقتصادية برئاسة العقيد (وقتها) صلاح كرار، واللجنة الإعلامية برئاسة العقيد (وقتها أيضاً) سليمان محمد سليمان.

إن اللجنة التي تهمنا من هذه اللجان هي بالطبع اللجنة الإعلامية وملابسات تكوينها ثم حلها ثم تكوينها مرة أخرى. ففي الوقت الذي كان المجلس قد أعلن أسماء كافة أعضاء اللجان الأخرى مع بيان تكوين تلكك اللجان، لم يورد القرار في أسماء عضوية اللجنة الإعلامية إلا اسم رئيسها، وعضوا واحداً هو كاتب هذه الحلقات، العقيد (وقتها) محمود قلندر.

ويمكنني التكهن -فحسب- بأن خلو اللجنة من أعضاء آخرين، وراؤه سببان: أولهما غياب التشاور حول عضويتها بين مجلس الثورة العسكري، وبين تلك اللجنة السرية التي – وضح فيما بعد- أنها كانت تتولى إدارة الانقلاب من منزلٍ ما في حي المغتربين بالخرطوم بحري. أما السبب الآخر، فهو في التقدير عدم إحساس تلك اللجنة بأهمية موضوع اللجنة (مقارنا بالأمن أو السياسة أو الاقتصاد). ومهما كان من أمر الأسباب، بعد أن لم يتم تسمية أعضاء اللجنة ليومين، تقدم  العضو الوحيد في اللجنة بقائمة مقترحة، مبرراً ذلك بأهمية أن يدير العمل الإعلامي في البلاد المهنيون الذين ظلوا يتحملون المسئوليات فيها المؤسسات الإعلامية. بناء على ذلك حوت القائمة التي تقدم بها العضو الوحيد أسماء كل من:

محمد سليمان

عبد الله جلاب

المقدم أحمد طه

وصدر قرار مجلس الثورة باعتماد عضوية المذكورين أعضاء في اللجنة، التي عقدت لنفسها اجتماعاً يتيماً لم تستطع تكراره. والسبب في ذلك أن مجلس ثورة الانقاذ قام بحلها خلال ذات الاسبوع الذي أصدر قرار فيه تكوينها. ويمكن الآن القول بأن أسباب حل اللجنة تعود إلى اعتراضات وردت –من خارج السودان وداخله- للجنة التي كانت تسير الانقلاب على بعض الأسماء التي حوتها القائمة. ومن ثم فقد تم حل لجنة الإعلام الأولى، وتكونت الثانية من ضباطٍ وسيطي الرتب، لم يكن لهم كثير معرفة أو خبرة بالعمل الإعلامي الكلي.

لماذا نروي هذه الواقعة؟

إن الشاهد في هذه الواقعة، هو أنها الدليل على التردد الذي اكتنف موقف الإنقاذ،منذ أيامها الأولى، من الإعلام بشقيه: الالكتروني الذي كانت تسيطر عليه الدولة، والمطبوع الذي كان حتى صبح الإنقاذ حراً وخاصاً. فالتوجس المبكر حول لجنة الإعلام من مهندسي الإنقلاب ومؤيديه من خارج الحدود، دليل على مدى الانشغال بأمر الإعلام والصحافة باعتبارهما مفاتيح النجاح للبقاء أو الزوال. وسنرى كيف أن التردد والتوجس لم يتركز على عضوية اللجنة، بل وفي قضايا الإعلام وحرياته، والصحافة وأشكالها.

***

لقد كان أمر الصحافة المستقلة الحرة والخاصة التي سادت حتى ليلة انقلاب الإنقاذ، واحداً من مجالات التردد البين في المواقف للنظام الجديد. ولعل الذين عاشوا وقائع تلك الأيام، يذكرون تصريحات مختلفة للمسئولين عن الصحافة:

رئيس مجلس الثورة قال في لقاءاته المنفردة بالصحفيين، وفي مؤتمراته الصحفية، إن النظام سيعمل على أن تصدر الصحف  كما كان حالها قبل التغيير، ولكن ببعض الشروط. وقال ان قانونآ للـصحـافة والـمطبوعات سيـصدر، وسيتطلب بعده التقدم للـحصول علي تراخيـص جـديدة. وقال اننا نريد صحافة مستقلة وحرة في حـدود التوجه القومي.

رئيس اللجنة الإعلامية قال بذات القول ، ليؤكد أن حرية الصحافة ستكفل.

ثم لما  أعلنت الإنقاذ  وزارتها الأولى، وتمت تسمية على شمو وزيراً للإعلام، لم يتردد وزير الإعلام الجديد في التأكيد للصحافة العربية والعالمية، بأن الصحف المستقلة ستعاود الصدور ولكن بعد حين، وفي إطار مقتضيات جديدة تتيح تجاوز مساوئ العهد السابق.

في واحد من أيام تلك الأسابيع الضاجة بالأحداث، جاء رئيس اللجنة الإعلامية إلى وزير الإعلام حاملاً إليه خبراً ، فزع فيه الوزير-حين سمعه- بنفسه إلى الكذب. فقد نقل له العميد رئيس اللجنة، أن مجلس الثورة قد قرر أن لا تصدر صحف خاصة ومستقلة.  وقال له أن الثورة ستصدر صحيفتين: هما "الإنقاذ" "والسودان الجديد" .

وهكذا بضربة واحدة ضربت الإنقاذ آمال وتطلعات الحادبين على أمر الصحافة في البلاد. فما هي الأسباب التي قادت إلى ذلك القرار، ومن كان وراءه؟

***

لماذا تخبطت الانقاذ في شهورها الأولى في مواقفها من عودة الصحافة المستقلة؟

ولماذا كان بعض قادتها صوت بشير بعودة الصحافة الحرة، ثم صاروا بعد قليل، صوت النعي لها؟

لآ أملك بالطبع دلائل موثقة أستدل بها على الأسباب التي جعلت الإنقاذ تتخبط في تعاملها مع قضايا الإعلام والصحافة خلال أسابيعها الأولى على النحو الذي رأينا، ولكني استدعي بعض التحليل، وقليل من المصادر الشحيحة،  لأقول إن الامر ولا شك لا صلة له بمجلس الثورة الذي لم يكن دوره – في كل الذي جرى- إلا التنفيذ فحسب.

كان الأمر يتعلق "بالمخططين الكامنين" في مكان ما، والذين كانت قراراتهم تترى على المجلس عبر الشخصيات العسكرية السيارة التي كانت تذرع  المسافة بين القيادة والخرطوم بحري، ناقلة القرارات الجديدة. فالمجلس المخطط، كانت همومه في تلك الأسابيع الأولى تتجاوز بكثير قضايا الصحافة والصحفيين، إذ كان همهم الشاغل وقضيتهم الأولى هو الأمن والتأمين والثبات. ولهذا لم يعر المخططون مسألة الصحافة وعودتها ، أو شكلها الذي ستكون عليه اهتماماً كبيراً في تلك الأيام المشحونة.

يمكن القول إذن، إن تصريحات العسكريين- رئيس مجلس الثورة ورئيس اللجنة الإعلامية-  حول الصحافة المستقلة وإمكان صدورها، والتي تواترت في الأسابيع الأولى لم تستند على مرجعية " المخططين الكامنين"، بل كانت اجتهاداً فردياً من رئيس المجلس –في تقديري- سار به رئيس اللجنة الإعلامية، ومن ثم وزير الإعلام الجديد.

بعد أن دانت لها الامور، واستوثق المخططون الكامنون أن الأمن والأمان قد اكتمل، التفتوا إلى القضايا الأخرى، فأخذت تترى قرارات من شاكلة تعيين مديري المؤسسات والهيئات، وتعيين السفراء، وإقالة المعروفين بالتزامهم الحزبي واستبدالهم بآخرين. وكان من بين الاهتمامات التي برزت أمامهم، النظر في أمر المؤسسات التي ستناط بها قيادة الفعل التنفيذي على امتداد البلاد.

وكما تقول بعض مذكرات وكتابات الإسلاميين، فقد انصبت هموم المدبرين –في تلك الفترة الحرجة- في محاولات إلباس التغيير السياسي، لباساً قومياً يبعد ما امكن، شبهة الإسلامية التي كانت قد سارت بها الركبان.

لهذا فقد اختارت الانقاذ لقيادة بعض الوزارات والمؤسسات، شخصيات تستطيع عبرها أن تثير الشكوك في تلك الشبهة.  وهكذا وجد المدبرون الكامنون أسماء تصلح لذلك الغرض، فاختارت شخصيات من مثل على سحلول وزير الخارجية، وسيد على زكي للمالية ، وأبو زيد محمد صالح مديرا للهيئة  الموانئ البحرية. وكان الاختيار يقوم في بعض الحالات على أفرادٍ يمكن الجزم بأنهم لم يكونوا يوماً من أعضاء الحركة الإسلامية، أو – على الأقل- أن تاريخ انتمائهم الوظيفي العملي، لا يدل على مثل ذلك الانتماء.

بالرغم من أن أمر الصحافة كان أمراً ثانوياً للمخططين الكامنين، إلا أنه كان مهماً أن ينطبق عليه ذاتالمبدأ الذي تم تطبيقه في الاختيار للوظائف التنفيذية العليا. ولهذا فقد أتبعت الإنقاذ قرارها القاضي بتجاوز مبدأ الصحافة الحرة التي كان رئيس المجلس قد أعلنه، بقرارات تتعلق بمن يتولى أمر الصحيفتين اللتين ستصدرهما الإنقاذ..

***

ما أشبه ليلة صحافة الانقاذ ببارحتها المايوية...

صحيفتان حكوميتان في مايو، وصحيفتان حكوميتان في الانقاذ..

دار الايام هناك، ودار الإعلام هنا..

دار الرأي العام هناك، ودار السودان الجديد هنا..

القوات المسلحة هنا، والقوات المسلحة هناك..

أما عن الإدارة والتحرير في الدارين الجديدتين، فقد سعت الإنقاذ ما استطاعت، لكي تطبق عليها منهج  التمويه بالشخصيات القومية كما فعلت في الوزارات والمصالح. فاختارت من الشخصيات ما أدار رؤوس المنشغلين بتأكيد هوية الانقلاب الإسلامية يومها، إذ صعب عليهم الربط بين المختارين وبين الحركة الإسلامية ..

اختارت الانقاذ لرئاسة مجلس إدارة السودان الجديد (السودان الحديث لاحقاً)، شخصية رأت فيها استغراقاً في البعد عن التهمة بالانتماء الإسلامي. فقد اختير الأستاذ محمد سعيد معروف، بما عرف به من تاريخه النضالي على يسار الحركة السياسة السودانية. وكان الأستاذ معروف في سنوات الديمقراطية الثالثة السابقة على الإنقاذ، قد تولى منصباً تحريرياً في صحيفة الأضواء التي تشارك في إصدارها مع رفيقه الصحفي اليساري السابق، والمناضل العمالي محمد الحسن أحمد.

واختارت الإنقاذ في أول الأمر شخصية إعلامية أخرى، لم تكن معروف عنها خلال سنواتها العملية، بالانتماء السياسي للإسلاميين، ولكنها كانت شديدة التمسك بالمثل والخلق الإدارية الرفيعة، هو الدكتور حسن الزين، الوكيل الأسبق للإعلام ، في سبعينيات الحكم المايوي. وبالرغم من أن الدكتور حسن الزين كان وقتها، أستاذاً للإعلام في جامعة أمدرمان الإسلامية، إلا أنه اعتذر عن المنصب، وآثر أن يناى بنفسه عن الصحافة الحكومية الرسمية.

وكانت الشخصية الثالثة التي اختارتها الانقاذ، هو محي الدي تيتاوي، والذي كان في تاريخه الصحفي المايوي، ما هو كافٍ ليستدل المنشغلون بتأكيد هوية الانقلاب الإسلامية على "سدانته" أكثر من انتمائه للحركة الإسلامية. وبالرغم من وقوع صحيفته "الأسبوع" المتشاركة مع زميله أحمد البلال الطيب، في خانة "الصحف الأقمار" الإسلامية، إلا أن السياسة التحريرية للصحيفة مالت أكثر نحو الحيادية، إلا في بعض حالات المقالات والافتتاحيات التي لا يؤاخذ كاتبوها على التعبير عن الموقف والآراء.

***

الجبهة الإسلامية القومية، حزب سياسي  قامت خياراته على باقة من المبادئ من بينها الحرية والعدالة. ولكنها حين استلمت  الحكم عنوة، التزمت بمقتضيات مبادئ فقه الضرورة التي أباحت بها المحظورات.

لقد التزمت الانقاذ هذا المبدأ الميكافيللي خلال سنواتها الخمس وعشرين في تعاملها مع الصحافة، فرغم كل القوانين الصحفية التي أجازتها والتي تبدو في ظاهرها وكأنها رحمة، فإن باطنها تضييق وخنق...

فما هو السبب في ذلك؟

لا سبب عندنا لهذا الموقف الشديد التوجس من الصحافة الحرة، إلا الدور السالب الذي لعبته الصحافة الحرة في الزمن السابق على الانقاذ. وهو دور صاغت وقائعه وقادت خطاه الصحافة الإسلامية، كواكب وأقمار...

و رغم أننا نعيد القول بأن الأعمال الصحفية، لا يمكن أن تكون هي وحدها الصانع او المحطم للأنظمة السياسية، نعيد أيضاً القول أن الرأي العام – موقف الجمهور من النظام السياسي- إنما ركن بنائه الأساسي هي وسائل الإعلام، وفي مقدمتها الصحافة.

وعلى هذا القول، يمكن تحليل سلوك الإنقاذيين تجاه الصحافة الحرة المستقلة بعد أن دانت لهم السلطة، منعكساً على ماضيهم خلال السنوات الثلاث للديمقراطية. فإذا كانت صحافة الإسلاميين في تلك الفترة هي "حصان طروادة" الذي امتطته إلى قلب المدينة، وفتحت –بليل- أبوابها للغزاة، فإن نجاح الصحافة الأقمار في تهيئة البيئة المزاجية والنفسية الملائمة للانقضاض على الديمقراطية، هو الذي ظل ولا يزال- في تقديرنا- يصنع المواقف ويصوغ سياسات الانقاذيين تجاه الصحافة الحرة المستقلة..

إن الأمر – في تقديرنا- أقرب ما يكون إلى حالة الرهاب النفسي...

لقد أصاب الانقاذيين رهاب تكرار ما أحدثوه في النظام الديمقراطي عليهم. فقد برعوا في صنع البيئة النفسية والاجتماعية المهيئة ليأس الجماهير من النظام الديمقراطي، والدافعة إلى ضعف الإيمان الجماهيري بها،  والمؤدية –في المنتهى- إلى سقوط الديمقراطية المدوي بلا وجيع... لقد خشي رماة السهام أن ترتد عليهم السهام.

ولازال ذلك الرهاب هو الذي يشكل المواقف والسياسات الرسمية تجاه الصحافة حتى اليوم،

فهو الذي يصوغ القوانين واللوائح القابضة المانعة..

وهو الذي يمنع الإعلان ممن يهاب، ويمنحه لمن أناب وتاب..

وهو الذي يمنع الكتاب من الكتابة..

وهو الذي يطرد رؤساء التحرير من المناصب..

وهو الذي يبيح شراء الدور من وراء ستر وحجب

وهو الذي يبرر الولوج الحكومي إلى عالم الطبع  والمطابع ..

galander747@gmail.com

///////////

 

آراء